الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المطلب الثاني مجالات السرف]
المطلب الثاني: مجالات السرف مجالات الإنفاق كثيرة جدا لا تكاد تنحصر، حيث تشمل كل شئون الحياة الدينية والدنيوية، ومن ثم تدخلها الأحكام التكليفية الخمسة كلها: الوجوب، والندب، والإباحة، والتحريم، والكراهة.
وفي هذا المطلب نركز على أهم المجالات التي يدخلها السرف، في مصروفاتنا اليومية أو الشهرية أو السنوية.
ولعل من أهم المجالات:
1 -
المأكل والمشرب.
2 -
الملبس.
3 -
المسكن (السكنى) .
4 -
المركب.
5 -
الأفراح والمآتم.
6 -
التسلية والترفيه.
وهي في جملتها تدخل في قسم المباح، عدا المآتم.
(1)
أما الأكل والشرب فهما قوام بدن كل حيوان، ومنه الإنسان، والحياة الإنسانية تقوم في طبيعتها على عناصر يأتي في مقدمتها الغذاء والهواء.
وتكاد تتفق الديانات والشرائع - تبعا للعقل - على هذه الحقيقة، إلا أن بعضا من الديانات الوضعية تضيق مجال الأكل والشرب على الإنسان بما يشق عليه، كما هو ملحوظ عند بعض الديانات الهندية، والرهبانية النصرانية، وغيرهما (1) .
(1) ينظر الملل والنحل للشهرستاني 2 / 263 دار المعرفة - بيروت - الطبعة الثانية.
بل مما يفعله بعض رجال الدين - من الأحبار وغيرهم، من التدخل في التحليل والتحريم وفق الهوى.
هذا إلى أن أكثر البشر يتعاملون مع شهواتهم ورغباتهم وفقا لما تطلبه أنفسهم بلا قيود.
أما الإسلام فإنه أعدل الديانات وأقومها وأكثرها واقعية، فإنه بنظرته الصحيحة للإنسان أحل له الطيبات وحرم عليه الخبائث.
يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172](1) .
ومن هنا شرع الإسلام طلب الرزق، وأحل المكاسب الخالية من الضرر والغرر.
يقول سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10](3) .
ويقول: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15](4) ويقول: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10](5) .
(1) البقرة: 172.
(2)
الأعراف: 32 - 33.
(3)
الجمعة: 10.
(4)
الملك: 15.
(5)
الأعراف / 10.
قال ابن عطية (ت 542 هـ) عند هذه الآية: " الخطاب لجميع الناس، والمراد أن النوع بجملته ممكن في الأرض، والمعايش جمع معيشة، وهي لفظة تعم المأكول الذي يعايش به، والتحرف الذي يؤدي إليه "(1) .
وفي منظومة الاعتدال والوسطية في الإسلام يأتي الأكل والشرب في مقدمتها.
يقول الحق سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31](2) .
قال أبو بكر الجصاص (ت 370 هـ) : " ظاهر الآية يوجب الأكل والشرب من غير إسراف، وقد أريد به الإباحة في بعض الأحوال، والإيجاب في بعضها، فالحال التي يجب فيها الأكل والشرب هي الحال التي يخاف أن يلحقه ضرر كأن يكون ترك الأكل والشرب يتلف نفسه أو بعض أعضائه أو يضعفه عن أداء الواجبات، فواجب عليه في هذه الحال أن يأكل ما يزول معه خوف الضرر، والحال التي هما مباحان فيها هي الحال التي لا يخاف فيها ضررا بتركهما، وظاهره يقتضي جواز أكل سائر المأكولات وشرب سائر الأشربة مما لا يحظره دليل بعد أن لا يكون مسرفا فيما يأتيه من ذلك؛ لأنه أطلق الأكل والشرب على شريطة أن لا يكون مسرفا فيهما، والإسراف مجاوزة حد الاستواء، فتارة يكون بمجاوزة الحلال إلى الحرام وتارة يكون بمجاوزة الحد في الإنفاق فيكون ممن قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] (3) والإسراف وضده من الإقتار مذمومان، والاستواء هو التوسط، ولذلك قيل: دين الله بين المقصر والغالي. . . . . وقد يكون الإسراف في الأكل أن يأكل فوق الشبع حتى يؤديه إلى الضرر فذلك محرم أيضا "(4) .
(1) المحرر الوجيز 7 / 15.
(2)
الأعراف: 31.
(3)
الإسراء: 27.
(4)
أحكام القرآن للجصاص 3 / 33 دار الكتاب العربي - بيروت، بتصرف يسير.
قلت: وهذا الكلام من الإمام الجصاص تفصيل ما منه بد سواء من حيث حكم الأكل والشرب في الأصل، وأنه قد يكون واجبا وقد يكون مباحا.
أو من حيث حكم الإسراف فيهما، وأنه قد يكون أكلا للحرام وقد يكون بالإفراط في الإنفاق، وقد يكون بأكل ما زاد عن الحاجة فما أحسنه من تفصيل!! .
فلنتوقف عند أنواع الإسراف تلك.
أما الإسراف بأكل الحرام وشربه، فهذا سرف وطغيان وشهوانية حيوانية لا تنضبط بعقل ولا شرع.
فأكل الربا مثلا والميسر والرشوة، والغش التجاري والتحايل على أموال الغير، كل ذلك أكل لأموال الناس بالباطل وهو إسراف دون شك.
وكذلك أكل الخنزير والميتة وسباع البهائم والطيور والخمر ونحو ذلك كله إسراف وتجاوز لحدود الله.
واغتصاب أموال الغير وأملاكهم والتعدي عليها بأي لون من ألوان التعدي والاحتيالات كله إسراف.
وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188](1) .
وأما الإسراف في الإنفاق فهو كما أسلفنا إما أن يكون في معصية أو طاعة أو مباح، ووقفنا على شيء من تفصيلها.
لكن تهمنا الإشارة هنا إلى ما يتعلق بالأكل والشرب، إذ مما يلحظ أن كثيرا من الناس يسرف في الإنفاق في شراء المواد الغذائية بطريقة غير معقولة ولا مقبولة، مما لا يحتاجه ولا يمكن أن يستهلكه على المدى البعيد، الأمر الذي يعرضها للفساد، أو يتسبب في حصول الملل منها وعزوف النفس، فيتخلص
(1) البقرة: 188.
منها بطرق غير صحيحة، قد يكون أسهلها رميها في القمامة.
وتبرز هذه الظاهرة بصورة أشد عند المواسم والمناسبات، ففي رمضان مثلا يتجه الناس أو أكثرهم إلى شراء المواد الغذائية وتخزينها بكميات ضخمة جدا تستلفت الأنظار.
ففي مجلة الدعوة السعودية (1) عملت إحدى الفاضلات تحقيقا حول (النساء والموائد في رمضان) وكان مما جاء في التحقيق:
1 -
تقول امرأة إنها كانت تنفق في رمضان عشرة آلاف ريال على شراء الأغراض التي تحتاجها لإعداد الأكلات المتنوعة.
2 -
وتقول أخرى: إنها اشترت ثلاثة كتب (طبخ) منوعة في رمضان، ومعروف أن ثمن الكتاب الواحد يتجاوز مائة ريال في الغالب.
3 -
وتقول ثالثة: إنها تتابع الصحف والمجلات والتلفاز باستمرار للتعرف على طبخات جديدة.
قلت: وكل ذلك - وشبهه - مما يحول هذا الموسم الجليل - شهر رمضان - إلى موسم موائد، وتقاليد شعبية تذهب بهاء العبادة وقدسيتها، وذلك هو الخسران المبين.
أما المناسبات كالأعياد والزواج ونحوهما فلهما مساحة عريضة للإسراف.
وسيأتي الحديث عنها.
" وخلاصة المسألة أن التدافع لشراء الحاجات لشهر رمضان يعد محظورا إذا كان يؤدي إلى الإسراف في الأكل والشرب لما في ذلك من الضرر للنفس، ناهيك عما فيه من مخالفة لما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من نهي عن الإسراف، أما القول بأن البعض قد يستهين بالزائد من الطعام والشراب فهو أيضا محرم بل شديد التحريم لما في ذلك من عدم شكر الله، ولما فيه من الكفر
(1) العدد 1575 - 30 شعبان 1417هـ - ص46 فما بعدها.
بنعمه، والاستهانة بها " (1) .
ذلك عما يتعلقّ بالإسراف في أكل الحرام وشربه، وفي الإنفاق على المواد الغذائية.
أما الإسراف بأكل ما زاد عن الحاجة وشربه فهو داخل في النهي في قوله تعالى:. . {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]
يقول القرطبي (ت 671 هـ) : " قال ابن عباس: أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة.
فأما ما تدعو الحاجة إليه وهو ما سد الجوعة، وسكن الظمأ فمندوب إليه عقلا وشرعا، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس، ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال؛ لأنه يضعف الجسد ويميت النفس ويضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع ويدفعه العقل. . . . . وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين: فقيل حرام، وقيل مكروه، قال ابن العربي: وهو الصحيح فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطعمان " (2) .
وقد تقدم (3) قبل قليل نحو من هذا الكلام وأوسع منه عن أبي بكر الجصاص.
والإسراف هذا له أضرار بدنية ظاهرة.
ولهذا فإن الآية الكريمةَ المتقدمة. . . {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] جاءت بنظام دقيق محكم بشأن الأكل والشرب، زاده إيضاحا الحديث الصحيح:«ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» (4) .
(1) عن مجلة البحوث الفقهية المعاصرة. العدد 28، رجب - شعبان - رمضان 1416 هـ ص 230.
(2)
الجامع لأحكام القرآن 7 / 191. بتصرف يسير.
(3)
في ص59.
(4)
رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (سنن الترمذي، ك: الزهد الباب 47) .
يقول القرطبي: " قال علماؤنا: لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة، ويذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا، فقال له: ما هي؟ قال قوله عز وجل:. . {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] فقال النصراني ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً "(1) .
ونرجئ الحديث عن الأضرار البدنية للإسراف في الطعام والشراب إلى مبحث الآثار السلبية للسرف.
على أنه لا تفوتنا الإشارة هنا إلى أنواع الإسراف في الطعام والشراب، فدونك أهمها:
1 -
إسراف من جهة الكم، بحيث يأكل الإنسان إلى حد الامتلاء، ومن ثم يتحول إلى عادة وذلك شره حيواني، يمقته العقلاء.
فعن ابن عمر قال: «تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " كُفَّ عنا جُشاءك فإن أكثرهم شبعا في الدنيا أطْوَلُهم جوعا يوم القيامة» (2) .
2 -
إسراف من جهة النوع.
كالمداومة على نوع من أنواع الأغذية، وترك الأنواع الأخرى كمن يداوم على النشويات مثلاً، أو السكريات، أو اللحوم وهذا فيه أضرار صحية بالغة.
3 -
إسراف في التكثير من ألوان الأغذية في كل وجبة، وصرف الأموال
(1) الجامع لأحكام القرآن 7 / 192، على أنه يوجد ضمن النص أثر نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو (المعدة بيت الأدواء والحمية رأس كل دواء وأعط كل جسد ما عودته) وكان ذلك ضمن جواب علي بن الحسين، والحق أنه من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب (انظر: كشف الخفا ومزيل الإلباس، الحديث رقم 2320) لذا حذفته من النص، وينظر أيضا: الإسراف دراسة فقهية مقارنة للدكتور عبد الله بن محمد الطريقي ص 158 الحاشية رقم (4) .
(2)
رواه الترمذي في السنن. ك: صفة القيامة الباب 37 وقال: حديث غريب. ورواه ابن ماجه في سننه. ك: الأطعمة - الباب 50. قال الشيخ الألباني: سنده حسن (صحيح سنن ابن ماجه 2 / 237) .
الباهظة في تحصيلها.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " كفى بالمرء إسرافا أن يأكل كل ما اشتهى "(1) .
4 -
طلب الأغذية المحرمة كالخنزير والخمر، واستبدالها بالمباحات (2) .
(2)
وأما اللباس فهو من أعظم نعم الله على عباده.
قال ابن كثير (ت 774 هـ) : " يمتن الله على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش، فاللباس ستر العورات وهي السوءات، والرياش والريش ما يتجمل به ظاهرا، فالأول من الضروريات والريش من التكملات والزيادات، قال ابن جرير: الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب "(4) .
ثم خرج ابن كثير من مسند الإمام أحمد قوله صلى الله عليه وسلم: «من استجد ثوبا فلبسه فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به، كان في ذمة الله وفي جوار الله وفي كنف الله حيا وميتا» (5) .
وتسري الأحكام التكليفية الخمسة المعروفة - الوجوب والندب والإباحة
(1) أخرجه أحمد في كتاب الزهد ص153.
(2)
يراجع في هذا: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، مقال للدكتور محمود ناظم نسيمي في مجلة حضارة الإسلام رجب 1394 ص53، والطعام والشراب بين الاعتدال والإسراف للأستاذ محيي الدين مستو ص45 الطبعة الأولى 1414هـ.
(3)
الأعراف: 26.
(4)
تفسير ابن كثير 2 / 216.
(5)
مسند الإمام أحمد: 1 / 44، ورواه الترمذي في السنن، ك اللباس الباب 2.
والتحريم والكراهة - على اللباس (1) .
فإنه يجب منه ما يستر العورة لكل من الرجل والمرأة، بشرط ألا يكون من المحظورات، كالمواد النجسة، أو الحرير والذهب بالنسبة للرجل، أو يكون فيه تشبه بالكفرة والفجرة، أو تشبه الرجل بالمرأة أو العكس.
ويندب منه أخذ الزينة والتجمل عند أداء الصلاة وقراءة القرآن والأعياد ونحو ذلك.
ويكره إذا كان فيه إسراف يسير في المباح.
ويحرم إذا كان للفخر والخيلاء أو كان محرما في ذاته كالحرير والذهب بالنسبة للرجل. ويباح منه ما عدا ذلك.
والإسلام يدعو إلى التوسط في اللباس وينهى عن الإفراط أو التفريط فيه.
والقاعدة هنا ما جاء في الحديث: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة» (2) .
وقول ابن عباس: " كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة "(3) .
وإذا كان التقصير والتفريط مذموما هنا كما يفعل كثير من العباد المتصوفة، وأهل الشح والبخل، فإن الإسراف والإفراط في اللباس مذموم أيضا.
ويتجلى الإسراف هنا في صور عديدة، من أبرزها:
1 -
لبس ما يحرم لذاته، كالحرير والذهب بالنسبة للرجل.
2 -
مجاوزة الحد المشروع في اللباس، كجر الثوب، ولبس ثوب الشهرة.
3 -
مجاوزة الحد المعقول، والمألوف في اللباس المباح.
(1) يراجع: اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية للدكتور محمد عبد العزيز عمرو ص211، والإسراف دراسة فقهية مقارنة للدكتور الطريقي ص162، مرجع سابق.
(2)
تقدم تخريجه في التمهيد: ص 8.
(3)
صحيح البخاري، ك: اللباس الباب 1.
4 -
إهمال الملابس وتعريضها للتلف.
وعصرنا هذا قد أصبح معتركا للتنافس والتباهي في مجال اللباس، حيث ظهور الأزياء المتجددة، والموديلات المنوعة، والموضات والصرعات.
وأبرزت هذه المظاهر تحت أسماء غريبة ولامعة، حتى انساق وراءها ودخل معتركها كثير من الشباب المسلم وأكثر النساء المسلمات، بلا وعي ولا بصيرة، فأخذوا ينفقون فيها النفقات الباهظة، ويظهرون بمظاهر تثير العجب، محاكاة لمن يسمون بالمشاهير، من فئات مختلفة في مجالات: الفن والتمثيل والرقص والرياضة وعارضات الأزياء. . وهلم جرا.
وقد ترى فيهم من التلون في المظاهر والمخابر ما يشككك في عقولهم بل وفي إنسانيتهم، وربما أوقعتك الحيرة بين الضحك والبكا.
ولكنه ضحك كالبكا
(3)
وأما المسكن فإنه من نعم الله تعالى على عباده أيضا.
قال عز وجل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل: 80](1) .
يقول القرطبي (ت 671 هـ) : " قوله (جعل لكم) معناه صير وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء، وكل ما أقلك فهو أرض، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت، وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت، فذكر أولا بيوت المدن، وهي التي للإقامة الطويلة، وقوله (سكنا) أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة، وقد تتحرك فيه وتسكن في غيره إلا أن القول خرج على الغالب وعد هذا في جملة
(1) النحل: 80.
النعم. . . . ثم ذكر تعالى بيوت النقلة والرحلة. . . . فقال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا} [النحل: 80] أي من الأنطاع والأدم بيوتا يعني الخيام والقباب يخف عليكم حملها في الأسفار. " (1) .
لذا كان من طبع الإنسان أن ينشئ البيوت ويسكن إليها وفيها، رغبة في القرار والاستتار والاحتماء.
ونظرا لهذه الأهمية جعل الإسلام لها حرمة عظيمة، بحيث لا يدخلها غير صاحبها إلا بإذن.
وغني عن البيان أن الإسلام - وهو دين الوسطية - يندب إلى اتخاذ البيوت المعتدلة قوة واتساعا، ومظهرا.
فإذا كان من غير المقبول عقلا أن يعيش الإنسان في مكان لا يحقق غرضه بسبب ضيقه أو فساده أو قذارته، فكذلك لا يستحسن شرعا أن يتباهى الناس في البنيان ويتطاولوا فيه، وينفقوا فيه أموالهم التي يحتاجونها في أمور ضرورية أخرى.
وقد وردت آثار نبوية تحذر من ذلك.
ومنها ما جاء عن عبد الله بن عمرو قال: «مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطا لي أنا وأبي، فقال: " ما هذا يا عبد الله؟ " فقلت يا رسول الله، شيء أصلحه، فقال " الأمر أسرع من ذاك» (2) ".
غير أن البناء المعتدل وإن كان واسعا فإنه من المباحات. فقد قال عليه الصلاة والسلام: «من سعادة المرء، الجار الصالح، والمركب الهني، والمسكن الواسع» (3) .
(1) الجامع لأحكام القرآن 10 / 152.
(2)
رواه أبو داود في سننه، ك: الأدب باب ما جاء في البناء - ح / 5235.
(3)
رواه الإمام أحمد في المسند: 3 / 407. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8 / 163) : رجاله رجال الصحيح. قلت: وله شواهد عديدة. انظر: مجمع الزوائد 4 / 272، وصحيح الأدب المفرد للبخاري ص175.
وليس ذلك من الإسراف في شيء (1) .
قال ابن مفلح المقدسي (ت 763 هـ) : " اعلم أن المسكن لا بد للإنسان منه في الجملة، فيجب تحصيله لنفسه ولمن تلزمه نفقته، ومثل هذا يعاقب على تركه ويثاب على فعله، وموته عنه كبقية ماله المخلف عنه لورثته يثاب عليه. . . وأما الزيادة على ذلك فإن كانت يسيرة لا تعد في العادة والعرف إسرافا واعتداء ومجاوزة للحد فلا بأس بها ولا تكره، وهل يثاب عليها؟ يحتمل وجهين "(2) .
والمتأمل في واقع الحضارات العالمية - قديمها وحديثها - يلحظ من خلال ما يراه ويدركه من العمران الحي أو ما بقيت آثاره وأطلاله، أن البشر - ومنهم المسلمون - كانوا يتنافسون في البنيان والعمران إشادة وزخرفة، وأن ذلك كان من مظاهر الترف عندهم، لكن المسلمون كما يقول ابن خلدون (3) (ت 808 هـ) :" كان الدين أول الأمر مانعا من المغالاة في البنيان والإسراف فيه في غير القصد. . . فلما بعد العهد بالدين والتحرج في أمثال هذه المقاصد وغلبت طبيعة الملل والترف واستخدم العرب أمة الفرس وأخذوا عنهم الصنائع والمباني ودعتهم إليها أحوال الدعة والترف فحينئذ شيدوا المباني والمصانع، وكان عهد ذلك قريبا بانقراض الدولة ولم ينفسح الأمر لكثرة البناء واختطاط المدن والأمصار إلا قليلا، وليس كذلك غيرهم من الأمم، فالفرس طالت مدتهم آلافا من السنين وكذلك القبط والنبط. . . طالت آمادهم ورسخت الصنائع فيهم ".
والمجتمعات المسلمة في عهدها الحاضر يعصف بها تياران متعارضان، أحدهما: تيار الفقر والخوف والاضطهاد، كما هو ملحوظ في بعض البلدان التي
(1) انظر: أحكام القرآن لابن العربي 3 / 1167 - 1168.
(2)
الآداب الشرعية 3 / 409، وينظر كتاب مراتب الإجماع لابن حزم ص155.
(3)
المقدمة ص358.
انخرم فيها زمام الأمن وتسلط عليها العدو وتسلق عليها أقزام البشر (1) .
وهؤلاء يعيش كثير منهم بلا مأوى ولا استقرار.
التيار الثاني: تيار الغنى والترف، وهو ملحوظ في البلاد الغنية بالثروات الطبيعية، وهنا تلحظ تنافساً في البناء سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات.
بحيث ينفق في تشييدها الملايين من الريالات، وقد تكون هذه النفقات ديونا في ذمة صاحب البناء. الأمر الذي يثقل كاهله، ويحمله من الهموم والغموم ما ينغص حياته وحياة أسرته، (ولا أفدح من دين) كما تقول العرب.
ولعل هذا ما يومئ إليه خباب بن الأرت رضي الله عنه (ت 37 هـ) في قوله: " إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في التراب "(2) .
(4)
وأما المركب - وهو ما يركب عليه في البر والبحر والجو - فإنه من أجل نعم الله على الناس.
وقال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8](4) .
يقول الشيخ الشنقيطي (ت 1393 هـ) عند قوله تعالى:. . {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] " ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يخلق ما لا يعلم
(1) يلحظ هذا في كثير من دول أفريقيا المسلمة، ودول وسط آسيا التي انفصلت عن الاتحاد السوفيتي، وكذلك في كشمير والفلبين وأفغانستان، وغيرها.
(2)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (صحيح الأدب المفرد. للألباني ص 172) . وقد صححه الشيخ الألباني.
(3)
الزخرف: 12 - 14.
(4)
النحل: 8.
المخاطبون وقت نزولها، وأبهم ذلك الذي يخلقه لتعبيره عنه بالموصول ولم يصرح هنا بشيء منه، ولكن قرينة ذكر ذلك في معرض الامتنان بالمركوبات تدل على أن منه ما هو من المركوبات، وقد شوهد ذلك في إنعام الله على عباده بمركوبات لم تكن معلومة وقت نزول الآية كالطائرات والقطارات والسيارات " (1) .
أجل. . منذ بدء القرن العشرين لميلاد المسيح عليه السلام ظهرت وسائل جديدة للمواصلات لم تكن معروفة من قبل، وبانتشارها وتكاثرها هجرت وسائل الركوب الحيوانية في معظم المجتمعات الإنسانية، وحلت محلها تلك الوسائل الحديثة.
تم أخذت بالتطور والتحديث حتى صارت مجالا للتنافس بين الشركات المنتجة والمصنعة، ومن ثم التنافس بين المستهلكين، وعلى رغم غلاء أسعار كثير منها إلا أن ذلك لم يقف حائلا دون التباهي والمفاخرة من لدن كثير من الأفراد الشباب والمؤسسات المختلفة في وسيلة السيارات بوجه خاص.
وتبرز صور الإسراف هنا في:
1 -
اختيار النوع الفاره والفاخر من السيارات، مما لا يطيقه المستهلك، بل قد لا يطيق معشاره.
2 -
الاستكثار من السيارات مما لا يدعو إليه حاجة.
3 -
تجديد الوسيلة (السيارة) في كل سنة أو سنتين مع كونها جديدة قوية، دون سبب معقول، اللهم إلا الركض وراء كل جديد والتفاخر به أمام الأقران.
4 -
عدم العناية بها وإهمال صيانتها، بحيث يسرع إليها الخراب.
ولا سيما إذا كانت السيارة ليست ملكا له، بل تابعة لمؤسسة خاصة أو حكومية.
وهذا فوق كونه إسرافا فإنه خيانة للأمانة التي عهدت إليه، وهي قيادة
(1) أضواء البيان 3 / 218.
السيارة، أو صيانتها.
5 -
التكلف في مظهر السيارة، مما يدخل تحت اسم (زينة السيارات) حتى لقد يوازي ذلك قيمة السيارة ذاتها.
6 -
عدم استعمالها على الوجه الصحيح، بل بطرق عشوائية جنونية لا تلتزم بقواعد السير وأنظمته.
ومن ذلك ما يعرف بالتفحيط، الذي أصبح ظاهرة عند كثير من الشباب الذي يملك السيارة من قبل الغير، ولم يدفع في شرائها شيئا يحسب له حسابه.
ومن هنا، وفي ضوء تلك المظاهر المؤلمة، أصبحت هذه الوسيلة (السيارة) مصدر خطر على الأفراد والجماعات، حيث كثرت الحوادث المرورية داخل المدن وخارجها، وأنتجت خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات.
(5)
والمجال الخامس يتعلق بالمآتم، وهي جمع المأتم وهو: كل مجتمع في حزن أو فرح (1) .
وجاء في المعجم الوسيط: (2)" المأتم: الجماعة من الناس في حزن أو فرح، وغلب استعماله في الأحزان ".
" والحزن: خشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم، ويضاده الفرح "(3) .
ومن حكمة الإسلام ووسطيته وواقعيته أنه يقر إظهار الفرح والسرور، والحزن والأسف عند وجود سبب كل منها.
إذ الإنسان قد طبع على ذلك وجبل عليه، فإنه يفرح بما يسره ويحزن لما يسوؤه.
(1) القاموس المحيط باب الميم فصل الهمزة ص 1388.
(2)
ص4 مادة أتم.
(3)
مفردات غريب القرآن ص 115.
بيد أن الإسلام قد نظم ذلك كله ولم يتركه للأهواء والأعراف والتقاليد.
ففي ما يتعلق بالأفراح فإن مجالها رحب واسع، فالمسلم يفرح بكل نعمة أنعمها الله عليه، كالشفاء من مرض، ورزق ولد، ومال، بل وبأدائه لطاعة من الطاعات وتوبته من معصية وغير ذلك. ففي الحديث:«من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن» (1) .
وقد تكون مظاهر الفرح فردية شخصية أو عائلية أو اجتماعية، وهكذا بالنسبة لمظاهر الحزن.
ومن أسباب الفرح الجماعي: انتصار المسلمين وهزيمة الكافرين، وكذا انتصار من فيه نصرة للمسلمين، وهزيمة من كان في هزيمته خذلان للعدو.
قال عز وجل: {الم - غُلِبَتِ الرُّومُ - فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ - فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ - بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 1 - 5](2) .
ويوم بدر تبع النبي صلى الله عليه وسلم رجل من المشركين كان له قوة وجلد ففرح بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) .
ومن المناسبات العامة لدى المسلمين الأعياد، وقد حددها الشارع في عيدين اثنين كل عام، هما: عيد الفطر، وعيد الأضحى، بالإضافة إلى عيد الأسبوع: يوم الجمعة.
فليس - إذاً - لأحد أن يشرع أعياداً غيرها، فإن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه:{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67](4) .
(1) رواه الترمذي في سننه وقال: حسن صحيح. ك: الفتن باب 7ح / 2165.
(2)
سورة الروم: 1 - 5.
(3)
رواه الإمام أحمد في المسند 6 / 149.
(4)
الحج: 67.
" وهي من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر "(1) .
وللمسلم أن يظهر معالم الفرح والسعادة في الأعياد - ومثلها أفراح الزواج ونحوها - بشرط ألا يدخل حوزة المحظورات، " فله الحق في التمتع بالملابس الجديدة والمآكل الطيبة، واللهو البريء، الذي لا يخدش عرضا ولا يقتحم كرامة، ولا يمس حرمة، اقتضاء لحق الطبيعة البشرية في ترويض البدن والترويح عن النفس "(2) .
ذلك ما يتعلق بالأفراح، أما الأحزان فمجالها في الإسلام ضيق لأن الأصل عدمه، وهو طارئ على الإنسان لأمر يهمه ويقلقه ويدخل في قلبه الغم والكآبة (3) .
ولذا جاء النهي عنه في آيات عديدة من كلام الله.
كقوله تعالى:. . {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40](4) .
وقوله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139](5) .
وفي الحديث: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن. . .» (6) .
لكنه واقع لا محالة، فعن عبد الله بن عمر قال: «اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي
(1) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص471 تحقيق الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل.
(2)
من توجيهات الإسلام للشيخ محمود شلتوت ص501.
(3)
وبناء على ذلك فإنه يكون من غير الجائز أن تخصص أماكن أو قصور - على غرار قصور الأفراح - لإقامة المآتم والأحزان. (انظر في هذا ما كتبه الشيخ عبد الرحمن آل فريان ردا على من يطالب بإقامتها في مجلة الدعوة السعودية ص12 العدد 1153) .
(4)
التوبة: 40.
(5)
آل عمران: 139.
(6)
رواه البخاري في صحيحه، ك: الجهاد الباب 74.
وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله فقال: أقد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكوا، فقال: " ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم» (1) .
وهكذا نرى أن الفرح والحزن ينتابان الإنسان، وأن الأول أكثر من الثاني.
غير أن لكل منهما شروطا لا يسوغ التفريط بها، من أهمها:
1 -
ألا يتحول الفرح إلى أشر وبطر وغرور.
كما قال تعالى في سياق قصة قارون:. . {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76](2) .
وهكذا الحزن لا يتحول إلى مأتم يجدد الأحزان ويذكر بها ويوهن النفوس ويزيدها كآبة.
2 -
ألا يترتب على أي منها مفسدة دينية أو دنيوية كالاختلاط بين الجنسين، وشرب الخمور والمخدرات والمفترات، أو النياحة والنعي، ونحو هذا.
3 -
ألا يصاحب الأفراح إسراف في النفقات.
أما الأحزان فالبذل فيها إسراف مهما قل.
والمتأمل في واقع المجتمعات المسلمة لا ينتهي به العجب حين يرى الإسراف في هذا المجال (الأفراح والمآتم) فإن ما ينفق عليها يشكل نسبة كبيرة من جملة النفقات سواء من قبل الأفراد أو الجماعات.
وإذا كانت المآتم تشكل عبئاً ثقيلا في النفقات، وتعقيدا في إجراءات المراسم (والبروتوكولات!!) في كثير من المجتمعات المسلمة، فإن الأمر في منطقة الخليج العربي على وجه الخصوص ربما برز فيه العبء الأكبر في جانب الأفراح، نظرا
(1) متفق عليه (صحيح البخاري، ك: الجنائز - الباب 45، وصحيح مسلم، ك: الجنائز - ح / 12) .
(2)
القصص: 76.
لعدم الاهتمام فيها بجانب الأحزان والمآتم - وتلك محمدة ومكرمة - أما الأفراح في هذه المنطقة ولا سيما الأعياد والزواجات فحدث عن الإسراف فيها ولا حرج.
ومن صور الإسراف هنا:
المغالاة في المهور، ودفع الأموال الباهظة للمرأة وأهلها، بصورة تثير الدهشة.
فهذا يدفع مليون ريال، وذاك يدفع نصفه، وثالث يعطي كيلا من الذهب وعشرا من السيارات، وقصرا مشيدا وهكذا.
ويزيد الأمر نكاية إعلان ذلك في وسائل الإعلام.
وهذا يذكرنا بزواج المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل الذي أنفق فيه من الأموال ما يصعب حصره على أهل الإحصاء (1) .
المبالغة في الولائم من الأغنام والجمال وغيرها، في الزواج الواحد بما يكفي الزواجات المتعددة.
وكم نشاهد ذلك في جل مناسبات الزواجات، حتى أصبح ذلك معروفا عند أكثر الناس.
وكان من آخر ما رأيته، أن أحد هذه الأعراس قدم فيها خمس وثلاثون رأسا من الغنم لجملة الحاضرين الذين لم يتجاوزوا المائة.
ما يصاحب العرس والفرح من الأغاني والموسيقى والرقص مما لا تقره الشريعة.
هذا بالإضافة إلى المنكرات السافرة التي تختلط بالفرح، ومن أهمها: الاختلاط بين الجنسين، وتبرج النساء وسفورهن، والتصوير، وشرب المخدرات والمفترات، وظهور العروسين وهما بأبهى زينة - أمام الجمهور من الرجال أو
(1) ينظر: مقدمة ابن خلدون ص173.
النساء وتقبيل الزوج لزوجته أمامهم، والصفير المزعج من الشباب والنساء.
وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر (1) .
وقد صدر من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية قراران بشأن غلاء المهور في هذه البلاد الكريمة: أولهما بتاريخ 4 / 4 / 1397 هـ. والثاني بتاريخ 6 / 11 / 1402 هـ ونظرا لأهميتهما أثبتهما هنا، عسى أن يتخذ منهما قراء هذا البحث نبراسا للاقتداء والعمل.
قرار رقم52 وتاريخ 4 / 4 / 1397 هـ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء قد اطلع في دورته العاشرة المعقودة في مدينة الرياض فيما بين يوم 21 / 3 / 1397 هـ و4 / 4 / 1397 هـ على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة في هيئة كبار العلماء في موضوع تحديد مهور النساء بناء على ما قضى به أمر سمو نائب رئيس مجلس الوزراء من عرض هذا الموضوع على هيئة كبار العلماء لإفادة سموه بما يتقرر وجرى استعراض بعض ما رفع للجهات المسئولة عن تمادي الناس في المغالاة في المهور والتسابق في إظهار البذخ والإسراف في حفلات الزواج وبتجاوز الحد في الولائم وما يصحبها من إضاءات عظيمة خارجة عن حد الاعتدال ولهو وغناء بآلات طرب محرمة بأصوات عالية قد تستمر طول الليل حتى تعلو في بعض الأحيان على أصوات المؤذنين في صلاة الصبح وما يسبق ذلك من ولائم الخطوبة وولائم عقد القران كما استعرض بعض ما ورد في الحث على تخفيف المهور والاعتدال في النفقات والبعد عن الإسراف والتبذير فمن ذلك قول الله تعالى: (. . . {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا - إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26 - 27] ومن السنة ما رواه
(1) ينظر: أفراحنا ما لها وما عليها. للأستاذ أحمد السلمي. والكتاب بجملته يحكي الصور السلبية المصاحبة للأفراح.
مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: «سألت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا. قالت: أتدري ما النشا؟ قلت: لا. قالت: نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم» . وقال عمر رضي الله عنه: «ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج امرأة رجلا بما معه من القرآن» .
وروى الترمذي وصححه: «أن عمر رضي الله عنه قال: لا تغلوا في صداق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون عداوة في نفسه وحتى يقول كلفت لك على القربة» . والأحاديث والآثار في الحض على الاعتدال في النفقات والنهي عن تجاوز الحاجة كثيرة معلومة، وبناء على ذلك ولما يسببه هذا التمادي في المغالاة في المهور والمسابقة في التوسع في الولائم بتجاوز الحدود المعقولة وتعدادها قبل الزواج وبعده، وما صاحب ذلك من أمور محرمة تدعو إلى تفسخ الأخلاق من غناء واختلاط الرجال بالنساء في بعض الأحيان، ومباشرة الرجال لخدمة النساء في الفنادق إذا أقيمت فيها مما يعد من أفحش المنكرات، ولما يسببه الانزلاق في هذا الميدان من عجز الكثير من الناس عن نفقات الزواج فيجرهم ذلك إلى الزواج من مجتمع لا يتفق في أخلاقه وتقاليده مع مجتمعنا فيكثر الانحراف في العقيدة والأخلاق، بل قد يجر هذا التوسع الفاحش إلى انحراف الشباب من بنين وبنات، ولذلك كله فإن مجلس هيئة كبار العلماء يرى ضرورة معالجة هذا الوضع معالجة جادة وحازمة بما يلي:
1 -
يرى المجلس منع الغناء الذي أحدث في حفلات الزواج بما يصحبه من
آلات اللهو وما يستأجر له من مغنين ومغنيات وبآلات تكبير الصوت؛ لأن ذلك منكر محرم يجب منعه ومعاقبة فاعله.
2 -
منع اختلاط الرجال بالنساء في حفلات الزواج وغيرها ومنع دخول الزوج على زوجته بين النساء السافرات ومعاقبة من يحصل عندهم ذلك من زوج وأولياء الزوجة معاقبة تزجر عن مثل هذا المنكر.
3 -
منع الإسراف وتجاوز الحد في ولائم الزواج وتحذير الناس من ذلك بواسطة مأذوني عقود الأنكحة وفي وسائل الإعلام، وأن يرغب الناس في تخفيف المهور ويذم لهم الإسراف في ذلك على منابر المساجد وفي مجالس العلم وفي برامج التوعية التي تبث في أجهزة الإعلام.
4 -
يرى المجلس بالأكثرية معاقبة من أسرف في ولائم الأعراس إسرافا بينا، وأن يحال بواسطة أهل الحسبة إلى المحاكم لتعزر من يثبت مجاوزته الحد بما يراه الحاكم الشرعي من عقوبة رادعة زاجرة تكبح جماح الناس عن هذا الميدان المخيف؛ لأن من الناس من لا يمتنع إلا بعقوبة، وولي الأمر وفقه الله عليه أن يعالج مشاكل الأمة بما يصلحها ويقضي على أسباب انحرافها، وأن يوقع على كل مخالف من العقوبة ما يكفي لكفه.
5 -
يرى المجلس الحث على تقليل المهور والترغيب في ذلك على منابر المساجد وفي وسائل الإعلام، وذكر الأمثلة التي تكون قدوة في تسهيل الزواج إذا وجد من الناس من يرد بعض ما يدفع إليه من مهر أو اقتصر على حفلة متواضعة لما في القدوة من التأثير.
6 -
يرى المجلس أن من أنجح الوسائل في القضاء على السرف والإسراف أن يبدأ بذلك قادة الناس من الأمراء والعلماء وغيرهم من وجهاء الناس وأعيانهم وما لم يمتنع هؤلاء من الإسراف وإظهار البذخ والتبذير فإن عامة الناس لا يمتنعون من ذلك؛ لأنهم تبع لرؤسائهم وأعيان مجتمعهم فعلى ولاة الأمر أن يبدأوا في
ذلك بأنفسهم ويأمروا به ذوي خاصتهم قبل غيرهم، ويؤكدوا على ذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم واحتياطا لمجتمعهم لئلا تتفشى فيه العزوبة التي ينتج عنها انحراف الأخلاق وشيوع الفساد، وولاة الأمر مسؤولون أمام الله عن هذه الأمة، وواجب عليهم كفهم عن السوء ومنع أسبابه عنهم، وعليهم تقصي الأسباب التي تثبط الشباب عن الزواج ليعالجوها بما يقضي على هذه الظاهرة، والحكومة أعانها الله ووفقها قادرة بما أعطاها الله من إمكانات متوافرة ورغبة أكيدة في الإصلاح أن تقضي على كل ما يضر بهذا المجتمع أو يوجد فيه أي انحراف، وفقها الله لنصرة دينه وإعلاء كلمته وإصلاح عباده وأثابها أجزل الثواب في الدنيا والآخرة، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
قرار رقم 94 وتاريخ 6 / 11 / 1402 هـ الحمد لله والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد: -
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته العشرين المنعقدة بمدينة الطائف ابتداء من الخامس والعشرين من شهر شوال حتى السادس من شهر ذي القعدة عام 1402هـ، نظر في ظاهرة غلاء المهور وما ينبغي أن يتخذ بشأنها بناء على كتاب صاحب السمو الملكي نائب رئيس مجلس الوزراء الموجه لسماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم 16947 وتاريخ 16 / 7 / 1402 هـ المتضمن رغبة سموه في إحالة الموضوع إلى مجلس هيئة كبار العلماء لدراسته وإصدار توصية بشأنه، وذلك بعد اطلاع المجلس على نتائج الأعمال والدراسة التي تقدمت بها اللجنة المشكلة بالأمر السامي رقم 9042
وتاريخ 14 / 4 / 1402 هـ، واطلع على كتاب معالي وزير العدل برقم 3056 / 5 / خ وتاريخ 6 / 10 / 1402 هـ والأوراق المرافقة له المتضمنة بعض الدراسات والمقترحات الصادرة من جهات متعددة من الجامعات وغيرها، كما اطلع على الكتاب الوارد من صاحب السمو الملكي نائب وزير الداخلية برقم 17 / 6606 وتاريخ 11 / 2 / 1402 هـ، وكتاب سموه رقم 17 / 23984 وتاريخ 25 / 5 / 1402 هـ، واطلع على كتاب معالي وزير العدل برقم 1000وتاريخ 2 / 9 / 1402 هـ، وكتاب سمو نائب أمير مكة المكرمة رقم 3936 / 5 / 4 وتاريخ 13 / 10 / 1402 هـ المشفوع بكل واحد منها اتفاق لبعض القبائل على تحديد المهور فيها حسب ما رأته كل قبيلة، ثم رجع المجلس إلى قراره رقم 52 وتاريخ 4 / 4 / 1397 هـ واستعرض المقترحات والحلول التي جاءت فيه، وبعد الدراسة وتداول الآراء في الموضوع رأى المجلس ما يلي: -
أولا: يؤكد المجلس ما أصدره بقراره رقم 52 في الأمور التالية: -
أ - منع الغناء الذي أحدث في حفلات الزواج بما يصحبه من آلات اللهو وما يستأجر له من مغنين ومغنيات وبآلات تكبير الصوت؛ لأن ذلك منكر محرم يجب منعه ومعاقبة فاعله.
2 -
منع اختلاط الرجال بالنساء في حفلات الزواج وغيرها، ومنع دخول الزوج على زوجته بين النساء السافرات، ومعاقبة من يحصل عندهم ذلك من زوج وأولياء الزوجة معاقبة تزجر عن مثل هذا المنكر.
3 -
منع الإسراف وتجاوز الحد في ولائم الزواج وتحذير الناس من ذلك بواسطة مأذوني عقود الأنكحة وفي وسائل الإعلام. وأن يرغب الناس في تخفيف المهور، ويذم لهم الإسراف فيها على منابر المساجد وفي مجالس العلم وفي برامج التوعية التي تبث في أجهزة الإعلام.
4 -
يرى المجلس الحث على تقليل المهور والترغيب في ذلك على منابر
المساجد وفي وسائل الإعلام وذكر الأمثلة التي تكون قدوة حسنة في تسهيل الزواج إذا وجد من الناس من يرد بعض ما يدفع إليه من مهر، واقتصر على حفلة متواضعة لما في القدوة الحسنة من التأثير.
5 -
يرى المجلس أن من أنجح الوسائل في القضاء على السرف والإسراف أن يبدأ بذلك قادة الناس من الأمراء والعلماء وغيرهم من وجهاء الناس وأعيانهم وذوي الثراء فيهم، وما لم يمتنع هؤلاء من الإسراف وإظهار البذخ والتبذير فإن عامة الناس لا يمتنعون؛ لأنهم تبع لرؤسائهم وأعيان مجتمعهم.
ثانيا: يرى المجلس بالإضافة إلى ما سبق أن تمنع الدولة وفقها الله إقامة حفلات الزواج في الفنادق ودور الأفراح لما يحصل في كثير منها من المنكرات ولما في إقامتها فيها من السرف وإنفاق الأموال الطائلة التي تزيد على المهور نفسها في بعض الأحيان، ولما لها من الأثر الكبير في ارتفاع تكاليف الزواج. ويؤكد المجلس مرة أخرى دعوته للقادة والعلماء والوجهاء أن يسهم كل منهم بنصيبه في حل هذه المشكلة، ويكون قدوة حسنة في أمور الزواج، وليعلموا أن لهم من الله أجرا عظيما إذا هم صدقوا في ذلك وسنوا سنة حسنة في عباده كما أن عليهم الإثم والعقاب إذا خالفوا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
ثالثا: أما ما يتعلق باتفاق بعض القبائل على مهور محددة وطرائق معينة، فإن المجلس ما عدا واحدا من أعضائه رأى ما يلي: -
أ - الموافقة على ما تتراضى عليه كل قبيلة في تحديد المهور على أن يكون ما تتفق عليه مناسبا لحال تلك القبيلة بأن لا يكون فيه مغالاة وأن يكون ما تم الاتفاق عليه ساريا على أفراد تلك القبيلة.
ب - يعتبر ما تراضى عليه كل قبيلة حدا أعلى للمهر بالنسبة لتلك القبيلة
فمن أراد ممن تراضوا أن يزوج موليته بأقل من هذا برضاها فله ذلك بل يشكر عليه.
ج - من زاد عن الحد الذي تراضى عليه مع قبيلته نظر فضيلة القاضي في جهته في الدواعي التي حملته على ذلك، فإن رأى إمضاء الزيادة أمضاها وإن رأى ردها ألزمه بردها بناء على ما يقتضيه نظره في ذلك.
هذا وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى الله وصحابته أجمعين.
هيئة كبار العلماء
(6)
أما المجال السادس فهو: مجال التسلية والترفيه.
والتسلية: جلب السلوة والسلوى، وهو كل ما يسلي، أي ما يذهب الهم ويكشفه (1) .
والترفيه: جلب الرفاهة أو الرفاهية في العيش.
ويقال: رفه عنه: إذا نفس عنه الكرب (2) .
والإنسان بجبلته ميال إلى اللهو والدعة.
ولذا نجد الإسلام لا ينكر هذه الجبلة الطبيعية فيه، بل يوجهها توجيها سديدا.
«ولما شكى حنظلة بن الربيع (الكاتب) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجده في نفسه من ميل إلى الراحة ومعافسة النساء والأولاد والضيعات، قال له عليه الصلاة
(1) ينظر: القاموس المحيط باب الواو والياء فصل السين ص1671، والمعجم الوسيط ص446 مادة: سلى.
(2)
ينظر: معجم مقاييس اللغة 2 / 419.
والسلام: والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة، ثلاث مرات» (1) .
وورد عن أنس مرفوعا: «روحوا القلوب ساعة فساعة» (2) .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " أجموا هذه القلوب، فإنها تمل كما تمل الأبدان "(3) .
ومجال التسلية بحر لا ساحل له، نظرا لتعدد وسائله.
فمن وسائله:
السمع: كالاستماع إلى القصص والأخبار والحكايات والشعر، وهكذا وسائل الإعلام المسموعة بصفة عامة.
النظر: ويدخل في مقدمة ذلك القراءة لكتب الأدب والشعر والقصة والصحف والمجلات ذات الطابع المنوع والهزلي.
وكذلك النظر في جمال الطبيعة والكون، والفنون التشكيلية.
والنظر في وسائل الإعلام المرئية من تلفاز وحاسوب (كمبيوتر) ونحوهما.
التفكر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض، وما فيه من بديع الصنعة وجمالها وكمالها.
ممارسة الفروسية والألعاب الرياضية المختلفة.
مجالسة الأهل والأولاد والأصدقاء وتبادل الأحاديث بينهم.
السفر والسياحة في الأرض.
على حد قول الشاعر:
(1) رواه مسلم في صحيحه، ك: التوبة ح / 12.
(2)
قال في كشف الخفا: ح / 1400: " رواه الديلمي وأبو نعيم والقضاعي ".
(3)
كشف الخفا. المرجع السابق.
تغرب عن الأوطان في طلب العلا
…
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة
…
وعلم وآداب وصحبة ماجد
وهذه الصور وأشباهها وغيرها تعتريها الأحكام الخمسة: الوجوب والندب والكراهة والتحريم والإباحة.
فإن منها ما يكون واجبا - وهو قليل جدا - إذا كان مباحا في ذاته، ووسيلة إلى واجب، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كالنظر في ملكوت السماوات والأرض.
وربما كان شبه ذلك مندوبا.
ويكون حراما، إذا كان في نفسه حراما، كممارسة الألعاب المحرمة كالميسر والشطرنج، وعمل التماثيل والصور من ذوات الأرواح، ومثل: تزجية الوقت بالغيبة والنميمة والترويج للباطل، والسحر والشعوذة.
أو كان وسيلة إلى حرام، أو شغله عن واجب أهم (1) وما عدا ذلك فإنه يتراوح بين الإباحة والكراهة والندب، بحسب الأشخاص والأحوال والملابسات.
وإذا ما أجلنا النظر في واقع المسلمين الاجتماعي والثقافي والرياضي والسياحي والإعلامي ونحوها، فإننا نلحظ أن للتسلية والترفيه نصيبا كبيرا في حياتهم، ربما يفوق نصيب الجد عند كثير منهم.
وقد ساعد على ذلك إفرازات الحضارة الغربية التي ركزت على مجال الترفيه، وأصّلته في نفوس أكثر البشر فانساق وراءها الشباب والكهول والشيوخ والنساء فضلا عن الأطفال.
ومن هنا أصبحت تلك محلا للتنافس بين الناس، والركض وراء سرابها، فضاعت بسببها الأعمار، وأهدرت الأوقات، وصرفت إليها الاهتمامات، وصرفت من أجلها الأموال الطائلة.
(1) ينظر: حجة الله البالغة للدهلوي 2 / 520.
ومن صور السرف هنا:
ما يصرف من أجل السياحة والنزهة.
فقد أصبح السفر والسياحة جزءا أساسا في حياة كثير من الناس، وبالأخص في الإجازات والعطل الصيفية.
وتختلف جهات السياحة من شخص إلى آخر، لكن حصة الدول الأوربية وأمريكا ربما فاقت غيرها من الدول.
وتشير إحصاءات متأخرة إلى أن " دول الخليج تصرف (1) في بريطانيا وحدها ما يقرب من ملياري دولار، وفي سويسرا (75) مليون دولار، وفي فرنسا مليارا ونصفا، ليصل الإجمالي ما يقرب من خمسة مليارات دولار تقريبا، وهو رقم ضخم جدا قياسا بما يتم صرفه في الدول العربية "(2) .
ما يصرف في شراء المجلات والصحف والكتب ذات الطابع الهزلي.
فمن الملحوظ أن السوق تطفح بالمطبوعات المختلفة، ذات المضمون الجيد، والمضمون الرديء، سواء من المجلات أو الصحف أو القصص والروايات. . . إلخ.
ولا لوم على الإنسان في اقتناء الجيد المفيد.
لكن ما يلام عليه الإنسان كل اللوم أن يبحث عن تلك المطبوعات السيئة فيشتريها ولو بأغلى الأثمان.
وها أنت ترى أن كثيرا من المجلات الماجنة - التي تروج لنفسها عن طريق الصور النسائية الفاضحة والعارية - تباع بأسعار باهظة، تضاهي أسعار الكتب النفيسة.
وعلى رغم غلائها فسوقها رائجة بين صفوف الشباب والفتيات وتلقى إقبالا منقطع النظير.
فيا لله أين العقول؟ وأين القلوب؟ وأين الحمية العربية!!
(1) أي في مجال السفر والسياحة.
(2)
مجلة الاقتصاد الإسلامي الصادرة عن بنك دبي الإسلامي العدد 208 ربيع الأول 1419هـ ص27.