الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المطلب الثالث الآثار الاجتماعية]
المطلب الثالث: الآثار الاجتماعية أشرنا من قبل إلى أن الإسراف منه ما هو تصرفات فردية، ومنه ما هو تصرفات جماعية، ولكل منهما آثاره السلبية على المجتمع؛ لأنه من الآثام والجرائم التي تتعدى إلى المجتمع مهما كانت فردية.
فمن هذه الآثار:
1 -
كسر قلوب الفقراء والمساكين والبؤساء الذين لا يكادون يحصلون على ما يسد حاجاتهم إلا بمشقة.
فإنهم عندما يرون هذه الأموال المبذرة المصروفة في غير وجوهها المشروعة، تنقبض نفوسهم، وتضيق صدورهم، وتنكسر قلوبهم.
وهذا خلاف مقاصد الشارع الحكيم، الذي يأمر بمواساتهم وجبر قلوبهم، قال عز وجل {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ - وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 9 - 10] (1) .
وفي الحديث: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه» (2) .
وفي الحديث الآخر: «من قضى لأحد من أمتي حاجة يريد أن يسره بها فقد سرني، ومن سرني فقد سر الله ومن سر الله أدخله الله الجنة» (3) .
أجل. . فالإسراف وإدخال السرور على المسلم قلما يجتمعان.
2 -
حرمان المستحقين من هذا المال الفائض الذي يبذر ويهدر في غير ما
(1) الضحى: 9، 10.
(2)
رواه ابن ماجه في سننه، ك: الأدب الباب 6، وفيه ضعف (انظر: مصباح الزجاجة 4 / 103 بتحقيق محمد الكشناوي) .
(3)
قال في مشكاة المصابيح 3 / 1392: رواه البيهقي في شعب الإيمان.
حاجة أو مصلحة.
والمستحقون للمواساة والمعونات موجودون في كل زمان ومكان، وإن تفاوتت نسبتهم، ومقدار حاجاتهم من مجتمع إلى آخر.
فالله تعالى قد فاضل بين الناس فأغنى وأفقر {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: 71](1) .
يعيش الفتى بالفقر يوما وبالغنى
…
وكل كأن لم يلقه حين يذهب
ويأتي حرمان المستحقين من فئتين:
إحداهما: أهل التبذير والإسراف، المضيعون لأموالهم.
الثانية: أهل الشح والبخل.
وهذان طرفان، وخير الأمور ما كان بينهما.
3 -
أن الإسراف فيه إذكاء للبغضاء والشحناء بين طبقات المجتمع (الأغنياء والفقراء) .
فالفقير إذا رأى غنيا ذا أنانية، يبدد ماله في طرق غير مشروعة كبناء القصور الشاهقة والمزخرفة، وتجديد أثاث البيت كل عام، وتبديل سيارته الفارهة بين عام وآخر، أو صرفه في المحرمات، أو اللعب به في نوادي القمار والميسر، أو التبرع لجهات مشبوهة، هذا في الوقت الذي يَحرم منه أهله المستحقين. . . .
هذا الفقير وهو يعايش هذه المشاهد ونظائرها ينزرع في قلبه بغض تلك الطبقة ويحقد عليها ويحسدها على هذه النعمة.
وربما جاء من يستغل هذه الممارسات والمواقف ليؤصل الطبقية الاجتماعية، ويولد الفرقة بين فئات المجتمع، كما فعله ويفعله دعاة الاشتراكية في العصر الحديث.
(1) النحل: 71.
وكم من ثورة قام بها أراذل البشر وأوباشهم باسم الفقراء أو العمال فأكلت الأخضر واليابس، وأحلت الخوف محل الأمن، والفقر محل الغنى.
فيا ليت قومي يعلمون!! .
4 -
أن الإسراف والبذخ طريقان إلى الترف.
والترف يؤدي لا محالة إلى زوال الأمة. كما قال الحق: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16](1) .
وقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ - فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ - لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 11 - 13](2) .
وذلك أن " الترف - كما يقول ابن خلدون - مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر والسفسفة وعوائدها. . . . فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك ودليلا عليه، ويتصفون بما يناقضها من خلال الشر، فيكون علامة على الإدبار والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته، وتأخذ الدولة مبادئ العطب وتتضعضع أحوالها وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها "(3) .
حقا إن الترف - كما تقول مجلة لواء الإسلام (4)" يؤدي إلى انحلال النفوس وتحكم الشهوات، وسيطرة الأنانية، وهذا كله فساد يؤدي إلى هلاك الأمة ".
(1) الإسراء: 16.
(2)
الأنبياء: 11 - 13.
(3)
المقدمة ص 169. وانظر ص140.
(4)
الصادرة في شهر صفر 1382 هـ ص 389 وقد عقدت المجلة ندوة بعنوان (علاقة الترف بانحلال الأخلاق في نظر الدين) شارك فيها عدد من العلماء، منهم: محمد أبو زهرة، ومحمد البنا، وعيسى عبده، وطه الساكت، وأحمد حمزة.
ولقد يكون الفرد - بإسرافه وإفراطه - سببا لفساد أمة. ولذلك يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " لا يذهب أمر هذه الأمة إلا على رجل واسع السُّرْم، ضخم البلعوم "(1) .
قال ابن الأثير (ت 606 هـ) : (السُّرْم: الدبر، والبلعوم: الحلق، يريد رجلا عظيما شديدا. . . ويجوز أن يريد به أنه كثير التبذير والإسراف في الأموال والدماء فوصفه بسعة المدخل والمخرج " (2) .
(1) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2 / 362.
(2)
المرجع نفسه.