الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المبحث الأول مفهوم السرف]
[أولا التعريف بالسرف]
المبحث الأول
مفهوم السرف من أجل الوصول إلى الحكم على الشيء ينبغي فهم حقيقته ومعناه، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
ونتعرف هنا على مفهوم لفظة السرف، وكذلك الألفاظ ذوات الصلة بها.
أولا: التعريف بالسرف: قال ابن فارس (ت 395 هـ) : " السين والراء والفاء أصل واحد يدل على تعدي الحد، والإغفال أيضا للشيء، تقول: في الأمر سرف أي مجاوزة القدر "(1) وجاء في تاج العروس: " السرف محركة: ضد القصد. . . وقيل: هو تجاوز ما حد لك " والإسراف في النفقة: التبذير ومجاوزة القصد. وقيل: أكل ما لا يحل أكله، وبه فسر قوله تعالى:. . وَلَا تُسْرِفُوا. . . وقيل: الإسراف: وضع الشيء في غير موضعه، أو هو ما أنفق في غير طاعة الله عز وجل.
وأسرف في الكلام: أفرط، والإسراف أيضا: الإكثار من الذنوب والخطايا (2) ".
ذلك تعريف السرف لدى علماء اللغة.
فهو: تجاوز حد الاعتدال، ووضع الشيء في غير موضعه.
وقد أدرج في التعريف اللغوي معان شرعية تؤول إلى المعنى اللغوي، مثل التعريف بأكل ما لا يحل أكله، والإنفاق في غير طاعة الله.
لذا ننتقل إلى المعنى الشرعي للسرف.
(1) معجم مقاييس اللغة 3 / 152.
(2)
تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي: 23 / 428 - 433.
قال الراغب الأصفهاني (ت 502 هـ) : " السرف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] (1) . . . {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] (2) ويقال تارة اعتبارا بالقدر، وتارة بالكيفية، ولهذا قال سفيان: " ما أنفقت في غير طاعة الله فهو سرف وإن كان قليلا، قال الله تعالى:{وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141](3){وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43](4) أي المتجاوزين الحد في أمورهم " (5) .
وقريب من هذا قول الحافظ ابن حجر (ت 852 هـ) في تعريف الإسراف بأنه: " مجاوزة الحد في كل فعل أو قول وهو في الإنفاق أشهر "(6) .
ويعرفه بعضهم: " بأنه صرف الشيء فيما لا ينبغي زائدا على ما ينبغي "(7) .
وجاء في منال الطالب في شرح طوال الغرائب: " السرف: التبذير، ووضع العطاء في غير أهله، وقد أسرف يسرف إسرافا، والسرف: الاسم.
قال بعض السلف: كل ما أنفقته في طاعة الله فليس بسرف وإن كثر، وما أنفقته في غير طاعته فهو سرف وإن قل " (8) . وقال الإمام الطبري (ت 310 هـ) :" أصل الإسراف تجاوز الحد المباح إلى ما لم يبح، وربما كان ذلك في الإفراط وربما كان في التقصير "(9) .
(1) الفرقان: 67.
(2)
النساء: 6.
(3)
الأنعام: 141 والأعراف: 31.
(4)
غافر: 43.
(5)
المفردات في غريب القرآن ص230 - تحقيق محمد سيد الكيلاني.
(6)
فتح الباري 10 / 253.
(7)
الكليات للكفوي ص113.
(8)
منال الطالب لابن الأثير ص322 تحقيق الدكتور محمود الطناحي.
(9)
تفسير الطبري: 7 / 579 تحقيق محمود شاكر، وقد عد الإمام الطبري التقصير من جملة الإسراف - كما تلحظ - ولم أجد من تابعه على ذلك.
ومجمل ما تقدم:
1 -
أن السرف هو مجاوزة القصد وحد الاعتدال وهذا نفسه المعنى اللغوي.
غير أن هنا تفسيراً بمعناه العام وهو تجاوز القصد في كل قول أو فعل. وهو في هذا البحث مقيد بالجانب المالي أو الاقتصادي.
2 -
ثم إن الإسراف في هذا الجانب يقال تارة باعتبار القدر أو الكم وتارة بالكيفية، حسب إشارة الأصفهاني السابقة.
3 -
وأن ما أنفق في غير طاعة الله فهو سرف بإطلاق قل أو كثر، وهذا يدخل في الإسراف في الكيف.
4 -
وما أنفق في المباحات فما تجاوز القصد فهو سرف، وهذا سرف في الكم.
5 -
وأما ما أنفق في طاعة الله ففي الإسراف فيه نظر، وستأتي له إشارة.
وكأن التعريفات السابقة لا تفرق بين لفظتي السرف والإسراف، وهو الظاهر.
غير أن بعض أهل العلم يفرق بينهما فيجعل الإسراف: " ما لم يقدر على رده إلى الصلاح، والسرف: ما يقدر على رده إلى الصلاح "(1) ويرى الطبري أن الإسراف هو الإفراط، والسرف هو التقصير (2) ولم يظهر لي هذا التفريق، لذا فلن ألتزم به في البحث.
وفي سياق إبراز حقيقة السرف يرد السؤال التالي: هل الإسراف في الإنفاق في طاعة الله يعد إسرافا مذموما؟ .
لقد سبق قول بعض السلف: " ما أنفقته في طاعة الله فليس بسرف وإن كثر ".
وفي هذا المعنى قيل لحاتم الطائي: " لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير "(3) .
ويذهب بعض العلماء إلى عدم مشروعية السرف في هذا لقوله تعالى:. . {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141](4) فقد
(1) تفسير الطبري 7 / 111.
(2)
ينظر: تفسير الطبري 7 / 579.
(3)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن 7 / 110.
(4)
الأنعام: 141.
ورد في سبب نزول الآية أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا فنزلت. . . {وَلَا تُسْرِفُوا} [الأنعام: 141](1) .
قال الإمام الطبري: بعد أن ساق الخلاف في معنى الآية الكريمة:
" والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله - تعالى ذكرُه - نهى بقوله:. . {وَلَا تُسْرِفُوا} [الأنعام: 141] عن جميع معاني الإسراف ولم يخصص منها معنى دون معنى، وإذا كان ذلك كذلك، وكان الإسراف في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحق في العطية، إما بتجاوز حده في الزيادة وإما بتقصير عن حده الواجب - كان المفرق ماله والباذله للناس حتى أجحفت به عطيته مسرفاً بتجاوزه حد الله إلى ما ليس له، وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه، وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصدقة إذا وجبت فيه أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها، وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه، كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون "(2) .
والذي يظهر أن الإسراف مذموم حتى وإن كان في الخير، هذا هو الأصل، لكن بشرط أن يترتب على هذا الإسراف نوع إجحاف على المسرف في نفسه أو من يعول. أما إذا لم يترتب عليه شيء من ذلك فليس بسرف (3) .
قال البخاري (ت 256 هـ) في صحيحه: " باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومن تصدق وهو محتاج أو أهله محتاج أو عليه دين، فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو رد عليه ليس له أن يتلف أموال الناس، وقال
(1) انظر: تفسير الطبري 12 / 174. الطبعة المحققة.
(2)
تفسير الطبري 12 / 167، وتلحظ هنا أن الطبري جعل منع حق المال إسرافا وفي هذا تجوز من الطبري رحمه الله.
(3)
يراجع: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي الشافعي 4 / 351.
النبي صلى الله عليه وسلم: «من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله» إلا أن يكون معروفا بالصبر فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة كفعل أبي بكر رضي الله عنه حين تصدق بماله، وكذلك آثر الأنصار المهاجرين، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، فليس له أن يضيع أموال الناس بعلة الصدقة " (1) .
ونقل الحافظ ابن حجر (ت 852 هـ) هنا عن الطبري قوله: " قال الجمهور: من تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله حيث لا دين عليه، وكان صبورا على الإضاقة ولا عيال له، أو له عيال يصبرون أيضا فهو جائز، فإن فقد شيء من هذه الشروط كره، وقال بعضهم: هو مردود "(2) .
ومما يدل على صحة النفقة بكل المال إذا لم يكن في ذلك إضرار قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق. . .» (3) الحديث. قال ابن المنير (ت 683 هـ) فيما نقله عنه ابن حجر: " في هذا الحديث حجة على جواز إنفاق جميع المال وبذله في الصحة والخروج عنه بالكلية في وجوه البر، ما لم يؤد إلى حرمان الوارث ونحو ذلك مما منع منه الشرع "(4) .
ضابط السرف: ومن متممات مفهوم السرف وحقيقته معرفة تطبيق ذلك على واقع الحال.
فإن مما هو معروف أن الناس متفاوتون في الغنى والفقر وفي طبيعة المتطلبات. فهذا غني وذاك فقير، وبينهما درجات.
وهذا يعيش منفردا بنفسه، وآخر يعيش معه أسرة صغيرة، وثالث معه أسرة
(1) صحيح البخاري، ك: الزكاة - الباب 18.
(2)
فتح الباري 3 / 295.
(3)
رواه البخاري في صحيحه، ك: الزكاة الباب 5.
(4)
فتح الباري 3 / 277.