الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم»
(1)
، أي: يجيبكم.
والمقصودُ أنَّ الإنسانَ إذا لم يكن له علمٌ بما يُصْلِحُه في معاشه ومعاده كان الحيوانُ البهيمُ خيرًا منه؛ لسلامته في المعاد مما يُهْلِكُه، دون الإنسان الجاهل.
الوجه السادس والستون: أنَّ العلمَ حاكمٌ على ما سواه، ولا يَحْكُم عليه شيء
، فكلُّ شيءٍ اختُلِفَ في وجوده وعدمه، وصحَّته وفساده، ومنفعته ومضرَّته، ورجحانه ونقصانه، وكماله ونقصه، ومدحه وذمِّه، ومرتبته في الخير، وجودته ورداءته، وقُرْبه وبُعْده، وإفضائه إلى مطلوب كذا وعدم إفضائه، وحصول المقصود به وعدم حصوله، إلى سائر جهات المعلومات= فإنَّ العلمَ حاكمٌ على ذلك كلِّه، فإذا حكمَ العلمُ انقطعَ النِّزاعُ ووجبَ الاتِّباع.
وهو الحاكمُ على الممالك والسِّياسات، والأموال والأقلام، فمُلكٌ لا يتأيَّدُ بعلمٍ لا يقوم، وسيفٌ بلا علمٍ مِخْراقُ لاعِب
(2)
، وقلمٌ بلا علمٍ حركةُ عابث، والعلمُ مسلَّطٌ حاكمٌ على ذلك كلِّه، ولا يحكُم شيءٌ من ذلك على العلم.
وقد اختُلِفَ في تفضيل مداد العلماء على دم الشهداء وعكسه، وذُكِرَ لكلِّ قولٍ وجوهٌ من التراجيح والأدلَّة
(3)
، ونفسُ هذا النزاع دليلٌ على تفضيل
(1)
أخرجه مسلم (404) من حديث أبي موسى الأشعري.
(2)
تحرفت في (ت). والمخراق: منديلٌ يلوى فيُضرَب به أو يُلفُّ فيفزَّع به، لعبةٌ يلعب بها الصبيان. ووصف السيف به مشهورٌ في كلام العرب. انظر:«اللسان» (خرق)، و «شرح الحماسة» للمرزوقي (1601).
(3)
انظر: «العلل المتناهية» (1/ 71)، و «كشف الخفاء» (2/ 262، 543)، و «فيض القدير» (6/ 469، 603)، و «إتحاف السادة المتقين» (1/ 111، 119، 137). ولشيخ الإسلام ابن تيمية في المسألة قاعدةٌ مفردة. انظر: «أسماء مؤلفاته» لابن رُشَيِّق (308 - الجامع لسيرة شيخ الإسلام).
العلم ومرتبته؛ فإنَّ الحاكمَ في هذه المسألة هو العلم، فبه
(1)
وإليه وعنده يقعُ التحاكم والتخاصم، والمُفَضَّلُ منهما من حَكَمَ له بالفضل.
فإن قيل: فكيف يُقْبَلُ حكمُه لنفسه؟!
قيل: وهذا أيضًا دليلٌ على تفضيله وعلوِّ مرتبته وشرفه؛ فإنَّ الحاكمَ إنما لم يَسُغْ أن يحكمَ لنفسه لأجل مَظِنَّة التُّهمة، والعلمُ لا تلحقُه تهمةٌ في حكمه لنفسه؛ فإنه إذا حكمَ حكمَ بما تشهدُ العقولُ والفِطر
(2)
بصحَّته، وتتلقَّاه بالقبول.
ويستحيلُ حكمُه لتهمة؛ فإنه إذا حَكمَ بها انعزل عن مرتبته، وانحطَّ عن درجته، فهو الشاهدُ المُزكَّى المُعَدَّل، والحاكمُ الذي لا يجورُ ولا يُعْزَل.
فإن قيل: فماذا حكمُه في هذه المسألة التي ذكرتموها؟
قيل: هذه المسألةُ كثُر فيها الجدال، واتسع المجال، وأدلى كلٌّ منهما بحجَّته، واستعلى بمرتبته، والذي يفصلُ النزاع، ويعيدُ المسألة إلى مواقع الإجماع: الكلامُ في أنواع مراتب الكمال، وذِكْرُ الأفضل منها، والنظرُ في أيِّ هذين الأمرين أولى به وأقرب إليه؛ فهذه الأصولُ الثلاثةُ تبيِّن الصواب، ويقعُ بها فصلُ الخطاب.
(1)
(ق، ت، ن): «فيه» ، بالياء آخر الحروف.
(2)
(ت، ق): «والنظر» .
فأمَّا مراتبُ الكمال فأربع: النبوَّة، والصِّدِّيقيَّة، والشَّهادة، والوَلاية، وقد ذكرها الله سبحانه في قوله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69 - 70].
وذَكَر تعالى هؤلاء الأربع في سورة الحديد؛ فذكر تعالى الإيمانَ به وبرسوله، ثمَّ نَدَبَ المؤمنين إلى أن تخشعَ قلوبُهم لكتابه ووحيه، ثمَّ ذكر مراتبَ الخلائق شقيِّهم وسعيدهم؛ فقال:{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد: 18 - 19]، وذَكَر المنافقين قبل ذلك؛ فاستوعبت هذه الآيةُ أقسامَ العباد شقيِّهم وسعيدهم، والمقصودُ أنه ذَكَر فيها المراتبَ الأربعة: الرسالة، والصِّدِّيقيَّة، والشَّهادة، والوَلاية.
فأعلى هذه المراتب: النبوَّةُ والرسالة.
ويليها: الصِّدِّيقيَّة؛ فالصِّدِّيقون هم أئمَّة أتباع الرسل، ودرجتُهم أعلى الدرجات بعد النبوَّة
(1)
.
فإن جرى قلمُ العالِم بالصدِّيقيَّة وسال مدادُه بها كان أفضلَ من دم الشَّهيد الذي لم يلحقه في رتبة الصِّدِّيقيَّة، وإن سال دمُ الشَّهيد بالصِّدِّيقيَّة وقَطَرَ عليها كان أفضلَ من مداد العالِم الذي قصَّرَ عنها، فأفضلُهما
(1)
انظر: «منهاج السنة» (7/ 385)، و «جواب الاعتراضات المصرية» (79)، و «طريق الهجرتين» (764، 765، 768)، و «زاد المعاد» (3/ 221، 4/ 275).
صِدِّيقُهما، فإن استويا في الصِّدِّيقيَّة استويا في المرتبة، والله أعلم.
والصِّدِّيقيَّة: هي كمالُ الإيمان بما جاء به الرسول، علمًا وتصديقًا وقيامًا به
(1)
؛ فهي راجعةٌ إلى نفس العلم، فكلُّ من كان أعلمَ بما جاء به الرسولُ وأكملَ تصديقًا له كان أتمَّ صدِّيقيَّة؛ فالصِّدِّيقيَّةُ شجرةٌ أصولها العلم، وفروعُها التصديق، وثمرتها العمل.
فهذه كلماتٌ جامعةٌ في مسألة العالم والشهيد، وأيهما أفضل
(2)
.
الوجه السابع والستون: أنَّ النصوصَ النبويَّة قد تواترت بأنَّ أفضلَ الأعمال إيمانٌ بالله
(3)
، فهو رأسُ الأمر، والأعمالُ بعده على مراتبها ومنازلها.
والإيمان له ركنان:
أحدُهما: معرفةُ ما جاء به الرسول، والعلمُ به.
والثاني: تصديقُه بالقول والعمل.
والتصديقُ بدون العلم والمعرفة مُحَال؛ فإنه فرعُ العلم بالشيء
(1)
انظر: «مدارج السالكين» (1/ 41، 226، 443، 2/ 148، 270، 273، 397، 3/ 421)، و «الوابل الصيب» (167)، و «جامع المسائل» (4/ 53).
(2)
نقل الزبيدي في «الإتحاف» (1/ 137) هذا المبحث كله دون عزو. وهكذا في مواضع أخرى، كما أشرت إلى ذلك في المقدمة.
(3)
أخرج منها البخاري (26، 2518)، ومسلم (83، 84) حديثَي أبي هريرة وأبي ذر. وفي الباب عن جماعةٍ من الصحابة. انظر: «مجمع الزوائد» (1/ 59، 3/ 207، 8/ 151).