المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوجه الثاني والثلاثون: أن العلم حياة ونور، والجهل موت وظلمة - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الوجه الثاني عشر: أنه سبحانه جعلَ أهلَ الجهل بمنزلة العُميان الذين لا يبصرون

- ‌الوجه الرابع عشر: أنه سبحانه أمرَ بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم

- ‌الوجه الثامن عشر: أنه سبحانه أمرَ نبيَّه أن يسأله مزيدَ العلم

- ‌الوجه التاسع عشر: أنه سبحانه أخبرَ عن رِفْعة درجات أهل العلم والإيمان خاصَّة

- ‌الوجه العشرون: أنه سبحانه استشهَد بأهل العلم والإيمان يومَ القيامة على بطلان قول الكفار

- ‌الوجه الحادي والثلاثون: أنه سبحانه ذمَّ أهلَ الجهل في مواضع كثيرةٍ من كتابه:

- ‌الوجه الثاني والثلاثون: أنَّ العلمَ حياةٌ ونور، والجهلَ موتٌ وظُلمَة

- ‌الوجه التاسع والثلاثون: أنه سبحانه سمَّى الحُجَّة العلميةَ سلطانًا

- ‌الوجه الثاني والخمسون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع كلامَه ووعاه وبلَّغه بالنَّضرة

- ‌الوجه الثالث والخمسون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ بتبليغ العلم عنه

- ‌الوجه الخامس والستون: أنَّ الإنسانَ إنما يُمَيَّزُ على غيره من الحيوانات بفضيلة العلم والبيان

- ‌الوجه السادس والستون: أنَّ العلمَ حاكمٌ على ما سواه، ولا يَحْكُم عليه شيء

- ‌الوجه الثامن والستون: أنَّ صفات الكمال كلَّها ترجعُ إلى العلم والقدرة والإرادة، والإرادةُ فرعُ العلم

- ‌الوجه الحادي والسبعون: أنَّ حاجةَ العباد إلى العلم ضروريَّةٌ فوق حاجة الجسم إلى الغذاء

- ‌الوجه الثاني والسبعون: أنَّ صاحبَ العلم أقلُّ تعبًا وعملًا، وأكثرُ أجرًا

- ‌الوجه الثالث والسبعون: أنَّ العلمَ إمامُ العمل وقائدٌ له، والعملُ تابعٌ له ومؤتمٌّ به

- ‌الوجه الرابع والسبعون: أنَّ العاملَ بلا علمٍ كالسائر بلا دليل

- ‌الوجه التاسع والسبعون: أنَّ اللذَّة بالمحبوب تَضْعُفُ وتقوى بحسب قوَّة الحبِّ وضعفه

- ‌الوجه الحادي والثمانون: أنَّ فضيلةَ الشيء تُعْرَفُ بضدِّه

- ‌الوجه الثالث والثمانون: أنَّ أشرفَ ما في الإنسان محلُّ العلم منه، وهو قلبُه وسمعُه وبصرُه

- ‌الوجه التسعون: أنَّ كلَّ صفةٍ مدحَ الله بها العبدَ في القرآن فهي ثمرةُ العلم ونتيجتُه

- ‌الوجه الثامن والمئة: أنَّ كثيرًا من الأئمة صرَّحوا بأنَّ أفضلَ الأعمال بعد الفرائض طلبُ العلم

- ‌لا شيء أنفعُ للقلب من قراءة القرآن بالتدبُّر والتفكُّر

الفصل: ‌الوجه الثاني والثلاثون: أن العلم حياة ونور، والجهل موت وظلمة

‌الوجه الثاني والثلاثون: أنَّ العلمَ حياةٌ ونور، والجهلَ موتٌ وظُلمَة

، والشرُّ كلُّه سببه عدمُ الحياة والنور، والخيرُ كلُّه سببه النورُ والحياة؛ فإنَّ النورَ يكشفُ عن حقائق الأشياء، ويبيِّنُ مراتبها، والحياةُ هي المصحِّحةُ لصفات الكمال، المُوجِبةُ لتسديد الأقوال والأعمال.

وكلُّ ما تصرَّف من الحياة فهو خيرٌ كلُّه؛ كالحياء الذي سببه كمالُ حياة القلب، وتصوُّرُه حقيقةَ القبح ونفرتُه منه، وضدُّه الوقاحةُ والفُحش، وسببه موتُ القلب وعدمُ نفرته من القبيح. وكالحَيَا الذي هو المطرُ الذي به حياةُ كلِّ شيء.

قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، كان ميتًا بالجهل

(1)

فأحياه بالعلم، وجعل له من الإيمان نورًا يمشي به في الناس.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 28 - 29].

وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257].

(1)

(ح، ن): «بالجهل قلبه» .

ص: 145

وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]؛ فأخبرَ أنه روحٌ تحصلُ به الحياة، ونورٌ تحصلُ به الإضاءة والإشراق؛ فجمع بين الأصلَين: الحياة، والنور.

وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16].

وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن: 8].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174].

وقال تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق: 10 - 11].

وقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]؛ فضربَ سبحانه مثلًا لنوره الذي قَذَفَه في قلب المؤمن، كما قال أبيُّ بن كعبٍ رضي الله عنه:

ص: 146

«مثلُ نوره في قلب عبده المؤمن»

(1)

،

وهو نورُ القرآن والإيمان الذي أعطاه إياه، كما قال في آخر الآية:{نُورٌ عَلَى نُورٍ} يعني: نورَ الإيمان على نور القرآن، كما قال بعضُ السلف:«يكادُ المؤمنُ ينطقُ بالحكمة وإن لم يسمع فيها بالأثر، فإذا سمعَ فيها بالأثر كان نورًا على نور»

(2)

.

وقد جمعَ اللهُ سبحانه بين ذكر هذين النُّورَين ــ وهما: الكتابُ، والإيمان ــ في غير موضعٍ من كتابه، كقوله:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].

وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، ففضلُ الله: الإيمان، ورحمتُه: القرآن.

وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122].

وقد تقدَّمت هذه الآيات.

وقال في آية النور: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} ، وهو نورُ القرآن على نور الإيمان

(3)

.

وفي حديث النوَّاس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله

(1)

لم أقف عليه مسندًا. ونقله ابن تيمية في «الجواب الصحيح» (3/ 145، 368، 4/ 322)، والقرطبي في تفسيره (12/ 260)، وغيرهما.

وانظر: «الوابل الصيب» (119) والتعليق عليه.

(2)

ورد بمعناه عن ابن عباس عند الطبري في «التفسير» (19/ 182)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (1/ 201) من رواية علي بن أبي طلحة عنه.

(3)

(ق): «وهو نور الإيمان على نور القرآن» .

ص: 147

ضرب مثلًا، صراطًا مستقيمًا، وعلى كَنَفَي الصِّراط

(1)

سُوران لهما أبوابٌ مفتَّحة، وعلى الأبواب سُتور، وداعٍ يدعو على الصِّراط، وداعٍ يدعو فوقه، {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، والأبوابُ التي على كَنَفَي الصِّراط حدودُ الله، فلا يقعُ أحدٌ في حدود الله حتى يكشفَ السِّتر، والذي يدعو من فوقه واعظُ ربِّه».

رواه الترمذيُّ ــ وهذا لفظُه ــ، والإمامُ أحمد ولفظُه: «

والدَّاعي على رأس الصِّراط كتابُ الله، والداعي فوق الصِّراط واعظُ الله في قلب كلِّ مؤمن»

(2)

.

فذكرَ الأصلين؛ وهما: داعي القرآن، وداعي الإيمان.

وقال حذيفة: «حدثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الأمانة نزلت في جَذْرِ قلوب الرِّجال، ثمَّ نزل القرآن، فعَلِمُوا من الإيمان، ثمَّ عَلِمُوا من القرآن»

(3)

.

وفي «الصحيحين» من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن

(1)

الكنف: الجانب والناحية. «النهاية» (كنف). وفي (ت) وبعض مصادر الحديث: «كتفَي» بالتاء، وهي بمعنى المثبت.

(2)

أخرجه أحمد (4/ 182، 183)، والترمذي (2958)، والنسائي في «التفسير» من «الكبرى» (11169)، وغيرهم من طرق.

قال الترمذي ــ كما في «تحفة الأشراف» (9/ 61) ــ: «حسن غريب» ، وقال ابن كثير في «التفسير» (1/ 161):«هذا إسناد حسن صحيح» ، وقال الحاكم (1/ 73) عن أحد طرقه:«هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه» . ولم يتعقبه الذهبي.

(3)

أخرجه البخاري (6496)، ومسلم (143).

ص: 148

النبي صلى الله عليه وسلم: «مثلُ المؤمن الذي يقرأ القرآنَ كمثل الأُترُجَّة، طعمُها طيِّبٌ وريحُها طيِّب، ومثلُ المؤمن الذي لا يقرأ القرآنَ كمثل التمرة، طعمُها طيِّب ولا ريحَ لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحُها طيِّبٌ وطعمُها مُرٌّ، ومثلُ المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمُها مرٌّ ولا ريحَ لها»

(1)

.

فجعل الناسَ أربعةَ أقسام:

الأول: أهلُ الإيمان والقرآن؛ وهم خيارُ الناس.

والثاني: أهلُ الإيمان الذين لا يقرؤونَ القرآن؛ وهم دونهم.

فهؤلاء هم السعداء.

والأشقياء قسمان:

أحدهما: من أوتي قرآنًا بلا إيمان، فهو منافق.

والثاني: من لا أوتي قرآنًا ولا إيمانًا.

والمقصود: أنَّ القرآنَ والإيمانَ هما نورٌ يجعلُه الله في قلب من يشاءُ من عباده، وأنهما أصلُ كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة، وعلمُهما أجلُّ العلوم

(2)

وأفضلُها، بل لا علمَ في الحقيقة ينفعُ صاحبه إلا علمُهما، والله يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيم.

الوجه الثالث والثلاثون: أنَّ الله سبحانه جعَل صيدَ الكلب الجاهل ميتةً يحرمُ أكلُها، وأباحَ صيدَ الكلب المعلَّم.

(1)

«صحيح البخاري» (5020)، و «صحيح مسلم» (797).

(2)

(د، ق): «أصل العلوم» .

ص: 149

وهذا أيضًا من شرف العلم: أنه لا يباحُ إلا صيدُ الكلب العالِم، وأما الكلبُ الجاهلُ فلا يحلُّ أكلُ صيده؛ فدلَّ على شرف العلم وفضله، قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة: 4]، ولولا مزيَّةُ العلم والتعليم وشرفُهما كان صيدُ الكلب المعلَّم والجاهل سواءً.

الوجه الرابع والثلاثون: أنَّ الله سبحانه أخبرنا عن صفيِّه وكليمه الذي كتبَ له التوراة بيده وكلَّمه منه إليه، أنه رَحَل إلى رجلٍ عالمٍ يتعلَّمُ منه، ويزدادُ علمًا إلى علمه، وقال لفتاه:{لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}

(1)

؛ حرصًا منه على لقاء هذا العالم، وعلى التعلُّم منه، فلما لقيه سلكَ معه مسلكَ المتعلِّم مع معلِّمه، وقال له:{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}

(2)

، فبدأه بعد السلام بالاستئذان على متابعته، وأنه لا يتَّبعُه إلا بإذنه

(3)

، وقال:{عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} ، فلم يجاء مُسْتَمْحِنًا ولا متعنِّتًا، وإنما جاء متعلِّمًا مستزيدًا علمًا إلى علمه.

وكفى بهذا فضلًا وشرفًا للعلم؛ فإنَّ نبيَّ الله وكليمَه سافر ورحل حتى لقي النَّصَب من سفره في تعلُّم ثلاث مسائل من رجلٍ عالم، ولمَّا سمعَ به لم يقرَّ له قرارٌ حتى لقيه وطلب منه متابعتَه وتعليمَه.

(1)

كما في سورة الكهف: 60.

(2)

سورة الكهف: 66.

(3)

(ح، ن): «بإذنه وأمره» .

ص: 150

وفي قصَّتهما عبرٌ وآياتٌ وحِكَمٌ ليس هذا موضع ذكرها

(1)

.

الوجه الخامس والثلاثون: قولُه تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، وندبَ تعالى المؤمنين إلى التفقُّه في الدِّين ــ وهو تعلُّمه ــ، وإنذار قومهم إذا رجعوا إليهم ــ وهو التعليم ــ.

وقد اختُلِف في الآية

(2)

:

فقيل: المعنى: أنَّ المؤمنين لم يكونوا لينفروا كلُّهم للتفقُّه والتعلُّم، بل ينبغي أن ينفر من كلِّ فرقةٍ منهم طائفة، تتفقَّه تلك الطائفةُ ثم ترجع تعلِّم القاعدين؛ فيكونُ النفيرُ على هذا نفيرَ تعلُّم، والطائفةُ تقالُ على الواحد فما زاد.

قالوا: فهو دليلٌ على قبول خبر الواحد.

وعلى هذا حمَلها الشافعيُّ وجماعة

(3)

.

وقالت طائفةٌ أخرى: المعنى: وما كان المؤمنون لينفروا إلى الجهاد كلُّهم، بل ينبغي أن تنفرَ طائفةٌ للجهاد، وفرقةٌ تقعدُ تتفقَّه في الدِّين، فإذا جاءت الطائفةُ التي نفرت فقَّهَتها القاعدةُ وعلَّمتها ما أنزل من الدِّين والحلال والحرام.

(1)

انظر لها فصلًا ماتعًا في «تيسير الكريم الرحمن» للسعدي (483 - 485).

(2)

انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 252)، و «بدائع الفوائد» (1636).

(3)

انظر: «الفقيه والمتفقه» (1/ 279)، و «الواضح» لابن عقيل (4/ 367)، و «الفصول» للجصاص (3/ 75، 94، 147).

والمنقول عن الشافعي الاستدلال بالآية على قبول خبر الواحد، مع اعتبار النفير على بابه نفيرَ جهاد. انظر:«المجموع» (4/ 305)، و «فتح الباري» (13/ 244)، و «الرسالة» (988)، و «الأم» (5/ 368، 384).

ص: 151

وعلى هذا، فيكونُ قوله:{لِيَتَفَقَّهُوا} و {وَلِيُنْذِرُوا} للفرقة التي نفرت منها طائفة.

وهذا قولُ الأكثرين

(1)

.

وعلى هذا، فالنفيرُ نفيرُ جهادٍ ــ على أصله ــ؛ فإنه حيثُ استُعمِل إنما يُفْهَمُ منه الجهاد، قال الله تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 41]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّة، وإذا استُنفِرتُم فانفروا»

(2)

، وهذا هو المعروفُ من هذه اللفظة.

وعلى القولين، فهو ترغيبٌ في التفقُّه في الدِّين، وتعلُّمه، وتعليمه؛ وأنَّ ذلك

(3)

يعدلُ الجهاد، بل ربما يكونُ أفضلَ منه، كما سيأتي تقريره في الوجه الثامن والمئة إن شاء الله تعالى.

الوجه السادسُ والثلاثون: قولُه تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ، قال الشافعي رضي الله عنه:«لو فكَّر الناسُ كلُّهم في هذه السورة لكفتهم»

(4)

.

وبيانُ ذلك: أنَّ المراتب أربعة

(5)

، وباستكمالها يحصلُ للشخص غايةُ كماله:

(1)

انظر: «زاد المسير» (3/ 517)، و «تفسير القرطبي» (8/ 294).

(2)

أخرجه البخاري (1834)، ومسلم (1864) عن ابن عباس.

(3)

(ق): «فإن ذلك» .

(4)

انظر: «تفسير ابن كثير» (8/ 3852).

(5)

كذا في الأصول، في الموضعين، من باب الحمل على المعنى.

ص: 152

أحدها: معرفةُ الحقِّ.

الثانية: عملُه به.

الثالثة: تعليمُه من لا يحسنُه.

الرابعة: صبرُه على تعلُّمه، والعمل به، وتعليمه.

فذكر تعالى المراتبَ الأربعة في هذه السورة:

* فأقسمَ سبحانه بالعصر أنَّ كلَّ أحدٍ في خُسْرٍ {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ، وهم الذين عرفوا الحقَّ وصدَّقوا به. فهذه مرتبة.

* {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، وهم الذين عملوا بما علموا من الحقِّ. فهذه مرتبةٌ أخرى.

* {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} وصَّى به بعضُهم بعضًا؛ تعليمًا وإرشادًا. فهذه مرتبةٌ ثالثة.

* {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} صبروا على الحقِّ، ووصَّى بعضُهم بعضًا بالصبر عليه والثبات. فهذه مرتبةٌ رابعة.

وهذا نهايةُ الكمال؛ فإنَّ الكمال أن يكون الشخصُ كاملًا في نفسه، مكمِّلًا لغيره، وكمالُه بإصلاح قُوَّتيه العلمية والعملية، فصلاحُ القوة العلمية بالإيمان، وصلاحُ القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميلُه غيرَه بتعليمه إيَّاه، وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل.

فهذه السورةُ ــ على اختصارها ــ هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره، والحمدُ لله الذي جعل كتابه كافيًا من كلِّ ما سواه، شافيًا من كلِّ

ص: 153

داء، هاديًا إلى كلِّ خير.

الوجه السابع والثلاثون: أنه سبحانه ذكر فضله ومِنَّته على أنبيائه ورسله وأوليائه وعباده، بما آتاهم من العلم.

فذكر نعمتَه على خاتم أنبيائه ورسله بقوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، وقد تقدَّمت هذه الآية.

وقال في يوسف: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22].

وقال في كليمه موسى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14].

ولمَّا كان الذي آتاه موسى من ذلك أمرًا عظيمًا خصَّه به على غيره، ولا يثبتُ له إلا الأقوياءُ أولو العزم= هيَّأه له بعد أن بلغَ أشدَّه واستوى، يعني: تمَّ وكَمُلَت قوَّته.

وقال في حقِّ المسيح: {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 110].

وقال في حقِّه: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 48]، فجَعَل تعليمَه مما بشَّر به أمَّه، وأقرَّ عينها به.

وقال في حقِّ داود: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20].

ص: 154

وقال في حقِّ الخَضِر صاحب موسى وفتاه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]؛ فذكر مِن نعمه عليه تعليمَه، وما آتاه من رحمته.

وقال تعالى يذكرُ نعمتَه على داود وسليمان: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79]، فذكَر النبيَّين الكريمَين، وأثنى عليهما بالحُكم والعلم، وخَصَّ بفهم القضيَّة أحدَهما.

وقد ذكرتُ الحُكمَين الداووديَّ والسُّليمانيَّ، ووجهَيهما

(1)

، ومن صار من الأئمَّة إلى هذا ومن صار إلى هذا، وترجيحَ الحكم السُّليمانيِّ من عدَّة وجوه، وموافقتَه للقياس وقواعد الشرع، في كتاب «الاجتهاد والتقليد»

(2)

.

وقال تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ}

(3)

، يعني: الذي أنزله.

جعَل سبحانه تعليمَهم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم دليلًا على صحة

(4)

(1)

(د، ت، ق، ن): «ووجههما» .

(2)

لم يذكره مترجمو المصنف ضمن كتبه، وأشار هو إليه في «تهذيب السنن» (6/ 341). انظر:«ابن القيم» للشيخ بكر (200). وفي «إعلام الموقعين» (1/ 326 - 330) بحثٌ حول الحُكمَين المذكورَين.

(3)

سورة الأنعام [الآية: 91].

(4)

(ت): «حجة» ، في الموضعين.

ص: 155

النبوَّة والرسالة؛ إذ لا يُنالُ هذا العلمُ إلا من جهة الرسل، فكيف يقولون: ما أنزل اللهُ على بشرٍ من شيء؟! وهذا مِن فضل العلم وشرفه، أنه دليلٌ على صحة النبوَّة والرسالة، والله الموفِّق للرشاد.

وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4]، يعني: وبَعَثَ في آخرين منهم لمَّا يلحقوا بهم.

وقد اختُلِفَ في هذا اللَّحاق المنفيِّ؛ فقيل: هو اللَّحاقُ في الزمان، أي: يتأخَّر زمانهم عنهم. وقيل: هو اللَّحاقُ في الفضل والسَّبق.

وعلى التقديرين، فامتنَّ عليهم سبحانه بأنْ علَّمهم بعد الجهل، وهداهم بعد الضلالة، ويا لها من منَّةٍ عظيمةٍ فاتت المِنَن، وجلَّت أن يقدرَ العبادُ لها على ثمن.

الوجه الثامن والثلاثون: أنَّ أول سورةٍ أنزلها الله في كتابه سورة القلم

(1)

؛ فذكر فيها ما مَنَّ به على الإنسان من تعليمه ما لم يعلم، فذكر فيها

(1)

كذا في الأصول. وهو من أسماء سورة العلق. انظر: «زاد المسير» (9/ 175)، و «الدر المصون» (11/ 54).

ص: 156

فضلَه بتعليمه، وتفضيلَه الإنسانَ بما علَّمه إياه، وذلك يدلُّ على شرف التعليم والعلم.

فقال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5].

فافتتحَ السورة بالأمر بالقراءة الناشئة عن العلم.

وذَكَر خلقَه خصوصًا وعمومًا، فقال:{الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} ، وخصَّ الإنسان من بين المخلوقات؛ لِمَا أودعه من عجائبه وآياته الدَّالَّة على ربوبيَّته وقدرته وعلمه وحكمته وكمال رحمته، وأنه لا إله غيره ولا ربَّ سواه. وذكر هنا مبدأ خلقه من علقٍ لكون العلقة مبدأ الأطوار التي انتقلت إليها النُّطفة، فهي مبدأ تعلُّق التخليق

(1)

.

ثمَّ أعادَ الأمرَ بالقراءة، مخبرًا عن نفسه بأنه الأكرم، وهو الأفعل

(2)

من الكرم، وهو كثرةُ الخير، ولا أحد أولى بذلك منه سبحانه؛ فإنَّ الخيرَ كلَّه بيديه، والخيرُ كلُّه منه، والنِّعمُ كلُّها فهو وليُّها، والكمالُ كلُّه والمجدُ كلُّه له؛ فهو الأكرمُ حقًّا.

ثمَّ ذكر تعليمَه عمومًا وخصوصًا، فقال:{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ، فهذا يدخلُ فيه تعليم الملائكة والناس.

ثمَّ ذكر تعليمَ الإنسان خصوصًا، فقال:{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .

(1)

(د، ت، ق): «تعليق الخلق» . وانظر: «تهذيب السنن» (12/ 313).

(2)

أي أن «الأكرم» على صيغة «أفعل» ، التي هي من صيغ المبالغة.

ص: 157