الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاشتملت هذه الكلماتُ على أنه معطي الموجودات كلِّها بجميع أقسامها؛ فإنَّ الوجودَ
(1)
له مراتبُ أربع
(2)
:
إحداها: مرتبتُها الخارجية، المدلولُ عليها بقوله:{خَلَقَ} .
المرتبة الثانية: الذِّهنية، المدلولُ عليها بقوله:{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
المرتبة الثالثة والرابعة: اللفظية والخطِّيَّة، فالخطِّيَّة مصرَّحٌ بها في قوله:{عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ، واللفظيةُ من لوازم التعليم بالقلم؛ فإنَّ الكتابةَ فرعُ النطق، والنطقُ فرعُ التصوُّر.
فاشتملت هذه الكلماتُ على مراتب الوجود كلِّها، وأنه سبحانه هو معطيها بخلقه وتعليمه، فهو الخالقُ المعلِّم؛ فكلُّ شيءٍ في الخارج فبخَلْقِه وُجِد، وكلُّ علمٍ في الذِّهن فبتعليمه حَصَل، وكلُّ لفظٍ في اللِّسان أو خطٍّ في البنان فبإقداره وخلقه وتعليمه. وهذا من آيات قدرته، وبراهين حكمته، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
والمقصودُ أنه سبحانه تعرَّف إلى عباده بما علَّمهم إياه ــ بحكمته ــ من الخطِّ واللفظ والمعنى؛ فكان العلمُ أحدَ الأدلَّة الدَّالَّة عليه، بل من أعظمها وأظهرها، وكفى بهذا شرفًا وفضلًا له.
الوجه التاسع والثلاثون: أنه سبحانه سمَّى الحُجَّة العلميةَ سلطانًا
، قال ابن عباس رضي الله عنهما:«كلُّ سلطانٍ في القرآن فهو حجَّة»
(3)
، وهذا
(1)
(د، ت، ق): «الموجود» .
(2)
(ق، د، ن): «أربعة» .
(3)
علقه البخاري في «الصحيح» (6/ 104)، ووصله ابن عيينة في «تفسيره» ، ومن طريقه ابن أبي حاتم ــ كما في «تفسير ابن كثير» (3/ 1041) ــ، والخطيب في «التاريخ» (10/ 151)، وإسناده على شرط الصحيح، كما قال ابن حجر في «الفتح» (8/ 391). وصححه ابن كثير.
ورُوِي من وجهٍ آخر عند الطبري (19/ 444)، والفريابي - كما في «تغليق التعليق» (4/ 239) -.
كقوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يونس: 68]، يعني: ما عندكم مِن حجَّةٍ بما قلتم، إنْ هو إلا قولٌ على الله بلا علم.
وقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23]، يعني: ما أنزل الله بها حجَّةً ولا برهانًا، بل هي من تلقاء أنفسكم وآبائكم.
وقال تعالى: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات: 156 - 157]، يعني: حجَّةً واضحة، فأتوا بها إن كنتم صادقين في دعواكم.
إلا موضعًا واحدًا اختُلِفَ فيه، وهو قولُه:{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29]، فقيل: المرادُ به القدرةُ والمُلك، أي: ذهبَ عني مالي ومُلكي
(1)
، فلا مال لي ولا سلطان. وقيل: هو على بابه
(2)
، أي:
(1)
(ت): «سلطاني ومالي» .
(2)
(ح، ن): «من بابه» .
انقطعت حُجَّتي وبطلَت، فلا حجة لي.
والمقصودُ أنَّ الله سبحانه سمَّى علم الحجَّة: سلطانًا؛ لأنها تُوجِبُ تسلُّطَ صاحبها واقتدارَه، فله بها سلطانٌ على الجاهلين.
بل سلطانُ العلم أعظمُ من سلطان اليد، ولهذا ينقادُ الناسُ للحجَّة ما لا ينقادونَ لليد؛ فإنَّ الحجَّةَ تنقادُ لها القلوب، وأما اليدُ فإنما ينقادُ لها البدن، فالحجَّةُ تأسِرُ القلبَ وتَقُودُه، وتُذِلُّ المخالف، وإن أظهرَ العنادَ والمكابرة فقلبُه خاضعٌ لها، ذليلٌ مقهورٌ تحت سلطانها، بل سلطانُ الجاه إن لم يكن معه علمٌ يُساسُ به فهو بمنزلة سلطان السِّباع والأُسود ونحوها، قدرةٌ بلا علمٍ ولا رحمة، بخلاف سلطان الحجَّة، فإنه قدرةٌ بعلمٍ ورحمةٍ وحكمة، ومن لم يكن له اقتدارٌ في علمه فهو إمَّا لضعفٍ حجَّته وسلطانه، وإمَّا لقهر سلطان اليد والسَّيف له، وإلا فالحجَّةُ ناصرةٌ نفسَها، ظاهرةٌ على الباطل قاهرةٌ له.
الوجه الأربعون: أنَّ الله سبحانه وتعالى وصفَ أهلَ النار بالجهل، وأخبرَ أنه سَدَّ عليهم طرقَ العلم، فقال تعالى حكايةً عنهم:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10 - 11]، فأخبروا
(1)
أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون. والسمعُ والعقلُ هما أصلُ العلم، وبهما يُنال.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، فأخبرَ سبحانه أنهم لم يحصُل
(1)
(ت، ح): «فأخبر» .
لهم علمٌ من جهةٍ من جهات العلم الثلاث، وهي العقلُ والسمعُ والبصر، كما قال في موضعٍ آخر:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171].
وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26].
فقد وصفَ أهلَ الشقاء ــ كما ترى ــ بعدم العلم، وشبَّههم تارةً بالأنعام، وتارةً بالحمار الذي يحملُ الأسفار، وتارةً جعلهم أضلَّ من الأنعام، وتارةً جعلهم شرَّ الدوابِّ عنده، وتارةً جعلهم أمواتًا غير أحياء، وتارةً أخبرَ أنهم في ظلمات الجهل والضلال، وتارةً أخبرَ أنَّ على قلوبهم أكنَّة
(1)
، وفي آذانهم وقرًا، وعلى أبصارهم غشاوة.
وهذا كلُّه يدلُّ على قبح الجهل، وذمِّه أهلَه
(2)
، وبغضه لهم، كما أنه يُحِبُّ أهلَ العلم ويمدحُهم ويثني عليهم، كما تقدَّم، والله المستعان.
الوجه الحادي والأربعون: ما في «الصحيحين» من حديث معاوية رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يُرِد الله به خيرًا يُفَقِّهه في الدِّين»
(3)
، وهذا يدلُّ على أنَّ من لم يفقِّهه في دينه لم يُرِد به خيرًا، كما أنَّ
من أرادَ به خيرًا فقَّهه في دينه، ومن فقَّهه في دينه فقد أراد به خيرًا= إذا أريدَ بالفقه العلمُ المستلزمُ للعمل.
وأمَّا إن أريدَ به مجردُ العلم فلا يدلُّ على أنَّ من فَقُهَ في الدِّين فقد أُرِيدَ به خيرًا؛ فإنَّ الفقه حينئذٍ يكونُ شرطًا لإرادة الخير، وعلى الأول يكونُ موجِبًا، والله أعلم.
الوجه الثاني والأربعون: ما في «الصحيحين» أيضًا من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مَثَل ما بعثني اللهُ به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضًا، فكانت منها طائفةٌ طيِّبةٌ قَبِلَت الماء، فأنبتت الكلأ والعشبَ الكثير، وكان منها أجادبُ أمسكت الماء، فنفعَ اللهُ بها الناس، فشربوا منها وسَقوا وزرَعوا، وأصاب طائفةً منها أخرى إنما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنبِتُ كلأً؛ فذلك مثَلُ من فَقُهَ في دين الله ونفعه بما بعثني الله به، فعَلِمَ وعلَّم، ومثَلُ من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به»
(1)
.
شبَّهَ صلى الله عليه وسلم العلمَ والهدى الذي جاء به بالغيث؛ لِمَا يحصلُ بكلِّ واحدٍ منهما من الحياة والمنافع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد، فإنها بالعلم والمطر.
وشبَّه القلوبَ بالأراضي التي تقعُ عليها المطر؛ لأنها المحلُّ الذي يمسكُ الماء، فينبتُ سائر أنواع النبات النافع، كما أنَّ القلوبَ تعي العلمَ فيثمرُ فيها ويزكو، وتظهرُ بركتُه
(2)
وثمرتُه.
(1)
«صحيح البخاري» (79)، و «صحيح مسلم» (2282).
(2)
(ت): «تزكيته» .
ثمَّ قسَّم الناس إلى ثلاثة أقسام
(1)
، بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه، وفهم معانيه، واستنباط أحكامه، واستخراج حِكَمه وفوائده:
أحدها: أهلُ الحفظ والفهم، الذين حَفِظُوه وعَقَلوه، وفهموا معانيه، واستنبطوا وجوهَ الأحكام والحِكَم والفوائد منه؛ فهؤلاء بمنزلة الأرض التي قَبِلَت الماء، وهذا بمنزلة الحفظ. فأنبتت الكلأ والعشبَ الكثير، وهذا هو الفهمُ فيه والمعرفةُ والاستنباط؛ فإنه بمنزلة إنبات الكلأ والعشب بالماء.
فهذا مثَلُ الحفَّاظ الفقهاء، أهل الرواية والدراية.
القسم الثاني: أهلُ الحفظ، الذين رُزِقوا حفظَه ونقلَه وضبطَه، ولم يُرزقوا تفقُّهًا في معانيه، ولا استنباطًا ولا استخراجًا لوجوه الحِكَم والفوائد منه؛ فهم بمنزلة من يقرأ القرآنَ ويحفظُه، ويراعي حروفَه وإعرابَه، ولم يُرْزَق فيه فهمًا خاصًّا عن الله، كما قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه:«إلا فهمًا يؤتيه اللهُ عبدًا في كتابه»
(2)
.
والناسُ متفاوتون في الفهم عن الله ورسوله أعظمَ تفاوت، فرُبَّ شخصٍ يفهمُ من النصِّ حكمًا أو حكمين، ويفهمُ منه الآخرُ مئةً أو مئتين.
فهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماءَ للناس، فانتفعوا به؛ هذا يشربُ منه، وهذا يسقي، وهذا يزرع.
فهؤلاء القسمان هم السُّعداء، والأولون أرفعُ درجةً وأعلى قدرًا، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
(1)
انظر: «الوابل الصيب» (135 - 141) والتعليق عليه.
(2)
أخرجه البخاري (111).
القسم الثالث: الذين لا نصيبَ لهم منه؛ لا حفظًا ولا فهمًا، ولا روايةً ولا دراية، بل هم بمنزلة الأرض التي هي قيعانٌ لا تنبتُ ولا تمسكُ الماء، وهؤلاء هم الأشقياء.
والقسمان الأولان اشتركا في العلم والتعليم، كلٌّ بحسب ما قَبِلَه ووصلَ إليه؛ فهذا يعلِّمُ ألفاظَ القرآن ويحفظُها، وهذا يعلِّمُ معانيه وأحكامَه وعلومَه. والقسمُ الثالث لا علمَ ولا تعليم؛ فهم الذين لم يرفعوا بهدى الله رأسًا، ولم يقبلوه، وهؤلاء شرٌّ من الأنعام، وهم وقودُ النار.
فقد اشتملَ هذا الحديثُ الشريفُ العظيمُ على التنبيه على شرف العلم والتعليم، وعِظَم موقعه، وشقاء من ليس من أهله، وذكر أقسام بني آدم بالنسبة فيه إلى شقيِّهم وسعيدهم، وتقسيم سعيدهم إلى سابقٍ مُقَرَّبٍ وصاحبِ يمينٍ مُقْتَصِد.
وفيه دلالةٌ على أنَّ حاجةَ العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر، بل أعظم، وأنهم إذا فقدوا العلمَ فهم بمنزلة الأرض التي فقدت الغيث.
(1)
.
وقد قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ
(1)
انظر: «مسائل حرب» (343)، و «طبقات الحنابلة» (1/ 390)، و «الآداب الشرعية» (2/ 44).
وَالْبَاطِلَ} [الرعد: 17]؛ شبَّه سبحانه العلمَ الذي أنزله على رسوله بالماء الذي أنزله من السماء؛ لِمَا يحصُل بكلِّ واحدٍ منهما من الحياة ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم.
ثمَّ شبَّه القلوبَ بالأودية؛ فقلبٌ كبيرٌ يسع علمًا كثيرًا، كوادٍ عظيمٍ يسعُ ماءً كثيرًا، وقلبٌ صغيرٌ إنما يسعُ علمًا قليلًا، كوادٍ صغيرٍ إنما يسعُ ماءً قليلًا؛ فقال:{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} .
{فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} : هذا مثلٌ ضربه الله تعالى للعلم حين تخالِطُ القلوبَ بشاشتُه؛ فإنه يستخرجُ منها زَبَدَ الشُّبهات الباطلة، فيطفو
(1)
على وجه القلب، كما يستخرجُ السَّيلُ من الوادي زَبَدًا يعلو فوق الماء.
وأخبرَ سبحانه أنه رابٍ، أي: يطفو ويعلو على الماء، لا يستقرُّ في أرض الوادي، كذلك الشُّبهاتُ الباطلةُ إذا أخرجها العلمُ رَبَتْ فوق القلب وطَفَتْ، فلا تستقرُّ فيه، بل تُجفى وتُرمى، ويستقرُّ في القلب ما ينفعُ صاحبَه والناسَ من الهدى ودين الحقِّ، كما يستقرُّ في الوادي الماءُ الصافي، ويذهبُ الزَّبدُ جفاءً، وما يعقِلُ عن الله أمثالَه إلا العالِمون
(2)
.
ثمَّ ضربَ سبحانه لذلك مثلًا آخر، فقال:{وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} يعني: أنَّ مما يُوقِدُ عليه بنو آدم من الذهب والفضَّة والنحاس والحديد يخرجُ منه خَبَثُه، وهو الزَّبدُ الذي تلقيه النارُ وتُخْرِجُه
(1)
(ت): «فتطفوا» .
(2)
انظر لهذا المثل المائيِّ، والمثل الناريِّ الذي بعده:«الوابل الصيب» (133 - 134، 143).
من ذلك الجوهر بسبب مخالطتها، فإنه يُقْذَفُ ويلقى به، ويستقرُّ الجوهرُ الخالصُ وحده.
وضربَ سبحانه مثلًا بالماء؛ لما فيه من الحياة والتبريد والمنفعة، ومثلًا بالنار؛ لما فيها من الإضاءة والإشراق والإحراق، فآياتُ القرآن تحيي القلوبَ كما تحيى الأرضُ بالماء، وتُحْرِقُ خبثَها وشبهاتها وشهواتها وسخائمَها كما تُحْرِقُ النارُ ما يلقى فيها، وتميِّزُ زَبَدَها من زُبَدِها
(1)
كما تميِّزُ النارُ الخبثَ من الذهب والفضَّة والنحاس ونحوه منه.
فهذا بعض ما في المثل العظيم من العبرة والعلم، قال الله تعالى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]. الوجه الثالث والأربعون: ما في «الصحيحين» أيضًا من حديث سهل بن سعدٍ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعليٍّ رضي الله عنه: «لأنْ يهديَ بك اللهُ رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم»
(2)
.
وهذا يدلُّ على فضل العلم والتعليم، وشرف منزلة أهله، بحيث إذا اهتدى رجلٌ واحدٌ بالعالِم كان ذلك خيرًا له من حُمْرِ النَّعَم ــ وهي خيارُها وأشرفُها عند أهلها ــ، فما الظَّنُّ بمن يهتدي به كلَّ يومٍ طوائفُ من الناس؟!
الوجه الرابع والأربعون: ما روى مسلمٌ في «صحيحه» من حديث أبي
(1)
كذا في الأصول. مضبوطة في (د، ح). و «الزُّبَد» جمعُ زُبدة، وهي الخالصُ من الشيء. وأصلُها ما خَلَص من اللبن إذا مُخِض.
(2)
«صحيح البخاري» (2942)، و «صحيح مسلم» (2406).
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه، لا ينقصُ ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثلُ آثام من تبعه، لا ينقصُ ذلك من آثامهم شيئًا»
(1)
.
أخبرَ صلى الله عليه وسلم أنَّ المتسبِّبَ إلى الهدى بدعوته له مثلُ أجر من اهتدى به، والمتسبِّبَ إلى الضلالة بدعوته عليه مثلُ إثم من ضلَّ به؛ لأنَّ هذا بذلَ قدرتَه في هداية الناس، وهذا بذلَ قدرتَه في ضلالهم، فنُزِّل كلُّ واحدٍ منهما بمنزلة الفاعل التَّام.
وهذه قاعدةُ الشريعة، كما هو مذكورٌ في غير هذا الموضع
(2)
؛ قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25]، وقال تعالى:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13].
وهذا يدلُّ على أنَّ من دعا الأمَّة إلى غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عدوُّه حقًّا؛ لأنه قَطَعَ وصولَ أجر من اهتدى بسنَّته إليه
(3)
، وهذا من أعظم معاداته، نعوذُ بالله من الخذلان. الوجه الخامس والأربعون: ما خرَّجا في «الصحيحين» من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا حسدَ إلا في اثنتين: رجل
(1)
«صحيح مسلم» (2674).
(2)
انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 724)، و «طريق الهجرتين» (785).
(3)
(ح، ن): «بسببه» . (ت): «بسنة الله» .
آتاه اللهُ مالًا فسلَّطه على هَلَكَتِه في الحقِّ، ورجل آتاه اللهُ الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها»
(1)
.
فأخبرَ صلى الله عليه وسلم أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يحسدَ أحدًا ــ يعني: حسدَ غِبْطة ــ ويتمنَّى مثلَ حاله من غير أن يتمنَّى زوال نعمة الله عنه= إلا في واحدةٍ من هاتين الخصلتين، وهي الإحسانُ إلى الناس بعلمه، أو بماله. وما عدا هذين فلا ينبغي غبطتُه ولا تمنِّي مثل حاله؛ لقلَّة منفعة الناس به.
الوجه السادس والأربعون: قال الترمذي: «حدثنا محمد بن عبد الأعلى: حدثنا سلمةُ بن رجاء: حدثنا الوليدُ بن جميل: حدثنا القاسم، عن أبي أمامة الباهليِّ قال: ذُكِرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، أحدُهما عابد، والآخرُ عالم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «فضلُ العالم على العابد كفضلي على أدناكم» ، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ اللهَ وملائكتَه وأهلَ السموات والأرض، حتى النملة في جُحْرها، وحتى الحوتَ في بَحْره، ليصلُّون على معلِّم الناس الخير»
(2)
.
قال الترمذي: «وهذا حديثٌ حسنٌ غريب، سمعتُ أبا عمار الحسين بن
(1)
«صحيح البخاري» (73)، و «صحيح مسلم» (816).
(2)
أخرجه الترمذي (2685)، والطبراني في «الكبير» (8/ 233)، وغيرهما بإسنادٍ فيه ضعف.
وفي نسخة الكروخي (ق 177/أ) و «تحفة الأشراف» (4/ 177): «حسن غريب صحيح» . وفي المطبوعة: «حسن غريب» .
ولأول الحديث شاهدٌ من مرسل مكحول والحسن عند الدارمي (294، 346)، ولآخره شاهد من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وسيأتي.
حُرَيْثٍ الخزاعي، قال: سمعتُ الفضيلَ بن عياضٍ يقول: عالمٌ عاملٌ معلِّمٌ يُدْعى كبيرًا في ملكوت السموات».
وهذا مرويٌّ عن الصحابة؛ قال ابن عباس: «علماءُ هذه الأمَّة رجلان، فرجلٌ أعطاه الله علمًا، فبذَله للناس ولم يأخذ عليه صَفَدًا
(1)
، ولم يَشْتَر به ثمنًا، أولئك يصلِّي عليهم طيرُ السماء، وحيتانُ البحر، ودوابُّ الأرض، والكرامُ الكاتبون، ورجلٌ آتاه الله علمًا فضنَّ به عن عباده، وأخذ به صَفَدًا، واشترى به ثمنًا؛ فذلك يأتي يوم القيامة مُلْجَمًا بلجامٍ من نار». ذكره ابن عبد البرِّ مرفوعًا، وفي رفعه نظر
(2)
.
وقولُه: «إنَّ اللهَ وملائكتَه وأهلَ السموات والأرض يصلُّون على معلِّم الناس الخير» ؛ لمَّا كان تعليمُه الناسَ الخيرَ سببًا لنجاتهم وسعادتهم وزكاة نفوسهم، جازاه الله من جنس عمله، بأنْ جعَل عليه مِن صلاته وصلاة ملائكته وأهل الأرض ما يكونُ سببًا لنجاته وسعادته وفلاحه.
وأيضًا؛ فإنَّ معلِّمَ الناس الخيرَ لمَّا كان مُظْهِرًا لدين الربِّ وأحكامه، ومعرِّفًا لهم بأسمائه وصفاته، جعَل الله مِن صلاته وصلاة أهل سماواته وأرضه عليه ما يكونُ تنويهًا به، وتشريفًا له، وإظهارًا للثناء عليه بين أهل السماء والأرض.
(1)
يعني: عطاءً. وفي «الأوسط» ، و «الترغيب والترهيب» للمنذري (1/ 129، 157)، و «مجمع الزوائد»:«طمعًا» . وفي «جامع بيان العلم» : «صفرًا» .
(2)
أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 172)، والطبراني في «الأوسط» (7187) من طريقين ضعيفين عن ابن عباس به مرفوعًا.
وضعَّف العراقيُّ في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 39) إسناد الطبراني.
وانظر: «مجمع الزوائد» (1/ 124).
الوجه السابع والأربعون: ما رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلكَ طريقًا يبتغي فيه علمًا سلكَ اللهُ به طريقًا إلى الجنة، وإنَّ الملائكة لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالب العلم، وإنَّ العالِم ليستغفرُ له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتانُ في الماء، وفضلُ العالِم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، إنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم؛ فمن أخذه أخذَ بحظٍّ وافر»
(1)
.
وقد رواه الوليدُ بن مسلم، عن خالد بن يزيد، عن عثمان بن أيمن، عن أبي الدرداء، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من غدا لعلمٍ يتعلَّمُه فتح الله له به طريقًا إلى الجنة، وفرشت له الملائكةُ أكنافَها، وصلَّت عليه ملائكةُ السماء وحيتانُ البحر، وللعالم من الفضل على العابد كفضل القمر ليلةَ البدر على سائر الكواكب، والعلماءُ ورثةُ الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم؛ فمن أخذَ بالعلم أخذَ بحظٍّ وافر، وموتُ العالم مصيبةٌ لا تُجْبَر، وثُلمةٌ لا تُسَدُّ، ونجمٌ طُمِس، وموتُ قبيلةٍ أيسرُ من موت
(1)
أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (5/ 196)، وغيرهم.
وفي إسناده اضطرابٌ، وجهالة. ورُوِيَ من أوجهٍ أخر غير محفوظة.
انظر: «العلل» للدارقطني (6/ 216)، و «جامع الترمذي» (5/ 48) عقب الحديث، و «جامع بيان العلم» (1/ 162)، و «تحفة الأشراف» (8/ 230)، و «الميزان» (2/ 4).
وصححه ابن حبان (88)، وقال ابن حجر في «الفتح» (1/ 193):«له شواهد يتقوى بها» .
عالِم»، وهذا حديثٌ حسن
(1)
.
والطريقُ التي يسلُكها إلى الجنة جزاءٌ على سلوكه في الدنيا طريقَ العلم الموصلة إلى رضا ربِّه.
ووَضعُ الملائكة أجنحتها له تواضعًا وتوقيرًا وإكرامًا لما يحملُه من ميراث النبوَّة ويطلبُه، وهو يدلُّ على المحبة والتعظيم، فمن محبة الملائكة له وتعظيمه تضعُ أجنحتها له؛ لأنه طالبٌ لما به حياةُ العالَم ونجاتُه، ففيه شبهٌ من الملائكة، وبينه وبينهم تناسُب، فإنَّ الملائكةَ أنصحُ خلق الله وأنفعُهم لبني آدم، وعلى أيديهم حصلَ لهم كلُّ سعادةٍ وعلمٍ وهدى.
ومِنْ نفعهم لبني آدم ونُصْحِهم أنهم يستغفرون لمسيئهم، ويُثَبِّتون
(2)
مؤمنيهم، ويعينونهم على أعدائهم من الشياطين، ويحرصون على مصالح العبد أضعافَ حرصه على مصلحة نفسه، بل يريدون له من خير الدنيا والآخرة ما لا يريدُ العبدُ ولا يخطرُ له ببال؛ كما قال بعض التابعين: «وجدنا
(1)
أخرجه أبو يعلى في «مسنده الكبير» ، كما في «المطالب العالية» (3/ 332)، و «إتحاف الخيرة» (1/ 210)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 331)، ومن طريقه الرافعي في «التدوين» (3/ 461).
وخالد بن يزيد ضعيف، واتهمه بعضهم. انظر:«التهذيب» (3/ 127). وعثمانُ بن أيمن لم أر من وثقه، وترجمه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (38/ 318) وخرَّج له هذا الحديث، ولم يَحْكِ فيه جرحًا ولا تعديلًا. وانظر:«مجمع الزوائد» (1/ 202). والوليدُ مشهورٌ بالتدليس ولم يصرِّح بالتحديث. ولعل المصنف أراد بتحسين الحديث حُسْنَ معناه وسياقته.
(2)
(ق): «ويثنون على» .
الملائكةَ أنصحَ خلق الله لعباده، ووجدنا الشياطين أغشَّ الخلق للعباد»
(1)
.
فأيُّ نصحٍ للعباد مثلُ هذا إلا نصح الأنبياء!
فإذا طلبَ العبدُ العلمَ فقد سعى في أعظم ما ينصحُ به عبادَ الله؛ فلذلك تحبُّه الملائكة وتعظِّمُه، حتى تضعَ أجنحتَها له رضًا ومحبةً وتعظيمًا.
وقال أبو حاتم الرازي: سمعتُ ابن أبي أويس يقول: سمعتُ مالك بن أنس يقول: معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تضعُ أجنحتها» يعني: تبسُطها بالدُّعاء لطالب العلم، بدلًا من الأيدي
(2)
.
وقال أحمدُ بن مروان المالكي في كتاب «المجالسة» له: حدثنا زكريا بن عبد الرحمن البصري، قال: سمعتُ أحمد بن شعيب يقول: كنَّا عند بعض المحدِّثين بالبصرة، فحدَّثنا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الملائكة لتضعُ أجنحتَها لطالب العلم» ، وفي المجلس معنا رجلٌ من المعتزلة، فجعل
(1)
أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (2/ 178)، والطبري (21/ 357)، وغيرهما عن مطرف بن عبد الله بن الشخير.
(2)
انظر: «التمهيد» (19/ 43).
يستهزاءُ بالحديث، فقال: والله لأقْطُرَنَّ غدًا نعلي
(1)
، فأطأُ بها أجنحةَ الملائكة. ففعَل، ومشى في النَّعلين؛ فجفَّت رجلاه جميعًا، ووقعَت في رِجْلَيْه الآكِلَة»
(2)
.
وقال الطبراني: سمعتُ أبا يحيى زكريا بن يحيى السَّاجي قال: كنَّا نمشي في بعض أزقَّة البصرة إلى باب بعض المحدِّثين، فأسرعنا المشي، وكان معنا رجلٌ ماجنٌ متَّهمٌ في دينه، فقال:«ارفعوا أرجلَكم عن أجنحة الملائكة، لا تكسروها» ، كالمستهزاء؛ فما زال من موضعه حتى جفَّت رجلاه وسَقَط
(3)
.
وفي «السنن» و «المسانيد» من حديث صفوان بن عسَّال، قال: قلت: يا رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ، إني جئتُ أطلبُ العلم، قال:«مرحبًا بطالب العلم؛ إنَّ طالبَ العلم لتَحُفُّ به الملائكةُ وتُظِلُّه بأجنحتها، فيركبُ بعضُها بعضًا حتى تبلغَ السماء الدنيا، مِنْ حبِّهم لما يطلب» ، وذكر حديثَ المسح على
(1)
كذا في الأصول، و «المجالسة». لعله مِن: قَطَرْت البعيرَ، إذا طَلَيته بالقَطِران. «الصحاح» (قطر). وفي (ح):«لأقطرن نعلي بمسامير» ، وفي طُرَّتها إشارةٌ إلى أن في نسخة:«لأطرقن» ، ووردت بمعناها في بعض المصادر.
(2)
«المجالسة» (2154). والخبر في «الطيوريات» (198)، و «بستان العارفين» للنووي (112)، و «مشيخة ابن الحطاب الرازي» (9)، وفي حاشية الأخير مزيد تخريج.
(3)
أخرجه الطبراني في كتاب «السُّنَّة» ، كما ذكر شيخ الإسلام في «الفتاوى» (4/ 539)، ومن طريقه الخطيب في «الرحلة» (8)، والهروي في «ذم الكلام» (4/ 369)، والنووي في «بستان العارفين» (111).
وقال الحافظ عبد القادر الرهاوي: «إسناد هذه الحكاية كالأخذ باليدين، أو كرأي العين؛ لأن رواتها أعلام، وراويها إمام» . انظر: «فيض القدير» (2/ 393).
الخفَّين
(1)
.
قال أبو عبد الله الحاكم: إسناده صحيح. وقال ابن عبد البر: هو حديثٌ صحيحٌ حسنٌ ثابتٌ محفوظٌ مرفوع، ومثلُه لا يقالُ بالرأي.
ففي هذا الحديث حَفُّ الملائكة له بأجنحتها إلى السماء، وفي الأول وضعُها أجنحتَها له؛ فالوضعُ تواضعٌ وتوقيرٌ وتبجيل، والحَفُّ بالأجنحة حفظٌ وحمايةٌ وصيانة. فتضمَّنَ الحديثان تعظيمَ الملائكة له، وحبَّها إياه، وحياطتَه وحفظَه؛ فلو لم يكن لطالب العلم إلا هذا الحظُّ الجزيلُ لكفى به شرفًا وفضلًا.
وقولُه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العالم ليستغفرُ له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتانُ في الماء» ؛ فإنه لمَّا كان العالِمُ سببًا في حصول العلم الذي به نجاةُ النفوس من أنواع الهَلَكات، وكان سعيُه مقصورًا على هذا، وكانت نجاةُ العباد على يديه= جُوزِيَ من جنس عمله، وجُعِل من في السموات والأرض ساعيًا في نجاته من أسباب الهَلَكات، باستغفارهم له؛ وإذا كانت الملائكةُ تستغفرُ للمؤمنين، فكيف لا تستغفرُ لخاصَّتهم وخُلاصتهم؟!
وقد قيل: إنَّ «من في السموات ومن في الأرض» المستغفرين للعالِم
(1)
أخرجه الترمذي (3535، 3536)، والنسائي (158)، وابن ماجه (226)، وأحمد (4/ 239)، والطيالسي (1262)، وغيرهم.
قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» . وصححه ابن خزيمة (17، 193)، وابن حبان (85، 1100، 1319)، والحاكم (1/ 101)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 159) ــ ونقل المصنفُ عبارته ــ، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (23، 30).
عامٌّ في الحيوانات، ناطقِها وبهيمِها، طيرِها وغيره. ويؤكِّدُ هذا قولُه:«حتى الحيتان في الماء، وحتى النملةُ في جُحْرها» .
فقيل: سببُ هذا الاستغفار أنَّ العالِمَ يعلِّمُ الخلقَ مراعاةَ هذه الحيوانات، ويعرِّفُهم ما يحلُّ منها وما يحرُم، ويعرِّفُهم كيفيةَ تناولها، واستخدامها، وركوبها، والانتفاع بها، وكيفيةَ ذبحها على أحسن الوجوه وأرفقها بالحيوان، والعالِمُ أشفقُ الناس على الحيوان، وأقومُهم ببيان ما خُلِقَ له
(1)
.
وبالجملة؛ فالرحمةُ والإحسانُ التي خُلِقَ بهما ولهما الحيوان، وكُتِبَ لهما حظُّهما منه، إنما يُعْرَفُ بالعلم، فالعالِمُ مُعرِّفٌ لذلك؛ فاستحقَّ أن تستغفر له البهائم، والله أعلم.
وقولُه: «وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب» تشبيهٌ مُطابِقٌ لحال القمر والكواكب؛ فإنَّ القمرَ يضيءُ الآفاق، ويمتدُّ نورُه في أقطارِ العالَم
(2)
، وهذه حالُ العالِم. وأما الكوكبُ فنورُه لا يجاوزُ نفسَه، أو ما قَرُبَ منه، وهذه حالُ العابد الذي يضيءُ نورُ عبادته عليه دون غيره، وإن جاوز نورُ عبادته غيرَه فإنما يجاوزُه غير بعيد، كما يجاوزُ ضوءُ الكوكب له مجاوزةً يسيرة.
ومن هذا الأثرُ المرويُّ: «إذا كان يومُ القيامة يقولُ الله للعابد: ادخل الجنة، فإنما كانت منفعتُك لنفسك، ويقالُ للعالِم: اشفَع تُشَفَّع، فإنما كانت
(1)
انظر: «الكاشف عن حقائق السنن» للطِّيبي (1/ 372)، و «الميسَّر» للتوربشتي (1/ 104)، و «تذكرة السامع والمتكلم» لابن جماعة (31).
(2)
(ت، ح): «في العالم» .
منفعتُك للناس»
(1)
.
وروى ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما:«إذا كان يومُ القيامة يؤتى بالعابد والفقيه، فيقال للعابد: ادخُل الجنة، ويقال للفقيه: اشفَع»
(2)
.
وفي التشبيه المذكور لطيفةٌ أخرى: وهو أنَّ الجهلَ كالليل في ظلمته وحِنْدِسِه، والعلماءُ والعُبَّادُ بمنزلة القمر والكواكب الطَّالعة في تلك الظُّلمة، وفضلُ نور العالِم فيها على نور العابد كفضل نور القمر على الكواكب.
وأيضًا؛ فالدِّينُ قِوامُه وزينتُه وأمَنَتُه بعلمائه وعُبَّاده؛ فإذا ذهبَ علماؤه وعُبَّاده ذهب الدِّين، كما أنَّ السماءَ أمَنَتُها وزينتُها بقمرها وكواكبها؛ فإذا خَسَفَ قمرُها وانتثرت كواكبُها أتاها ما تُوعَد، وفضلُ علماء الدِّين على العُبَّاد كفضل ما بين القمر والكواكب.
فإن قيل: فكيف وقعَ تشبيهُ العالم بالقمر دون الشمس، وهي أعظمُ نورًا؟
(1)
أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 111) من حديث أنسٍ مرفوعًا بإسنادٍ شديد الضعف.
وبنحوه أخرجه ابنُ عدي في «الكامل» (2/ 412، 6/ 438)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 346)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 108) عن جابرٍ مرفوعًا بإسنادين شديدَي الضعف.
(2)
أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 112) بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا.
وأخرجه أبو القاسم التيمي في «الترغيب والترهيب» (2157) من حديث أبي أمامة مرفوعًا بإسنادٍ ضعيف.
قيل: فيه فائدتان
(1)
:
إحداهما: أنَّ نور القمر لما كان مستفادًا من غيره كان تشبيهُ العالِم الذي نورُه مستفادٌ من شمس الرسالة بالقمر أولى من تشبيهه بالشمس.
الثانية: أنَّ الشمسَ لا يختلفُ حالها في نورها، ولا يلحقُها محاقٌ
(2)
ولا تفاوتٌ في الإضاءة، وأمَّا القمرُ فإنه يقلُّ نوره ويكثُر ويمتلاءُ وينقصُ؛ كما أنَّ العلماءَ في العلم على مراتبهم من كثرته وقلَّته، فيفضَّلُ كلٌّ منهم في علمه بحسب كثرته وقلَّته، وظهوره وخفائه، كما يكونُ القمرُ كذلك، فعالِمٌ كالبدر ليلة تِمِّه
(3)
، وآخرُ دونه بليلةٍ ثانيةٍ وثالثةٍ وما بعدها إلى آخر مراتبه، وهم درجاتٌ عند الله.
فإن قيل: تشبيهُ العلماء بالنجوم أمرٌ معلوم، كقوله صلى الله عليه وسلم:«أصحابي كالنجوم»
(4)
، ولهذا هي في تعبير الرؤيا عبارةٌ عن العلماء
(5)
، فكيف وقعَ
(1)
انظر: «الذخيرة» للقرافي (1/ 43).
(2)
مثلَّثة الميم. أي: نقصانُ ضوء. والمحاق: آخرُ الشهر إذا انمحقَ الهلالُ فلم يُرَ، سُمِّي بذلك لأنه طلع مع الشمس فمَحَقَته. «اللسان» (محق).
(3)
أي: اكتماله وتمامه. وهذا التركيب كثيرُ الورود في الشِّعر.
(4)
جاء من حديث جماعةٍ من الصحابة بألفاظٍ مختلفة. ولا يصحُّ منها شيء. وقد حكم بردِّه الإمام أحمد، والبزار، وغيرُ واحدٍ من المتأخرين.
انظر: «المنتخب من العلل للخلال» (143)، و «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 923)، و «تحفة الطالب» لابن كثير (166)، و «موافقة الخُبْر الخَبر» (1/ 145)، و «التلخيص الحبير» (4/ 190)، و «السلسلة الضعيفة» (58).
(5)
انظر: «تعبير الرؤيا» لابن قتيبة (112)، و «البدر المنير» للشهاب العابر المقدسي (217)، و «حلية الأولياء» (2/ 277).
تشبيهُهم هنا بالقمر؟
قيل: أما تشبيهُ العلماء بالنجوم؛ فلأنَّ النجومَ يهتدى بها في ظلمات البرِّ والبحر، وكذلك العلماء.
والنجومُ زينةٌ للسماء، وكذلك العلماءُ زينةٌ للأرض.
وهي رجومٌ للشياطين حائلةٌ بينهم وبين استراق السَّمع؛ لئلا يَلبِسوا
(1)
بما يَسْتَرِقُونه من
(2)
الوحي الوارد إلى الرسل من الله على أيدي ملائكته، وكذلك العلماءُ رجومٌ لشياطين الإنس
(3)
الذين يوحي بعضُهم إلى بعضٍ زخرفَ القول غرورًا؛ فالعلماءُ رجومٌ لهذا الصِّنف من الشياطين، ولولاهم لطُمِسَت معالمُ الدِّين بتلبيس المضلِّين، ولكنَّ الله سبحانه أقامهم حُرَّاسًا وحَفَظةً لدينه، ورجومًا لأعدائه وأعداء رسله.
فهذا وجهُ تشبيههم بالنجوم.
وأمَّا تشبيهُهم بالقمر؛ فذلك إنما كان في مقام تفضيلهم على أهل العبادة المجرَّدة، وموازنة ما بينهما من الفضل. والمعنى: أنهم يَفْضُلونَ العُبَّادَ الذين ليسوا بعلماء، كما يَفْضُلُ القمرُ سائرَ الكواكب.
فكلٌّ من التشبيهين لائقٌ بموضعه، والحمدُ لله.
وقولُه: «إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء» ، هذا من أعظم المناقب لأهل العلم؛ فإنَّ الأنبياءَ خيرُ خلق الله، فورثتُهم خيرُ الخلق بعدهم، ولما كان كلُّ
(1)
(ت): «يشتبه» .
(2)
«من» ليست في (ح، ن).
(3)
(ق): «الإنس والجن» . وهو خطأ وسبق قلم.
موروثٍ
(1)
ينتقلُ ميراثُه إلى ورثته؛ إذ هم الذين يقومون مقامَه من بعده، ولم يكن بعد الرسل من يقومُ مقامَهم في تبليغ ما أُرسِلوا به إلا العلماء= كانوا أحقَّ الناس بميراثهم.
وفي هذا تنبيهٌ على أنهم أقربُ الناس إليهم؛ فإنَّ الميراثَ إنما يكونُ لأقرب الناس إلى الموروث، وهذا كما أنه ثابتٌ في ميراث الدِّينار والدِّرهم، فكذلك هو في ميراث النبوَّة، والله يختصُّ برحمته من يشاء.
وفيه ــ أيضًا ــ إرشادٌ وأمرٌ للأمَّة بطاعتهم واحترامهم وتعزيرهم وتوقيرهم وإجلالهم؛ فإنهم ورثةُ مَنْ هذه بعضُ حقوقهم على الأمَّة، وخلفاؤهم فيهم.
وفيه تنبيهٌ على أنَّ محبَّتهم من الدِّين، وبغضَهم منافٍ للدِّين، كما هو ثابتٌ لموروثهم
(2)
. وكذلك معاداتُهم ومحاربتُهم معاداةٌ ومحاربةٌ لله كما هو في موروثهم.
قال عليٌّ رضي الله عنه: «محبةُ العلماء دينٌ يُدانُ اللهُ به»
(3)
.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه عز وجل: «من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة»
(4)
، وورثةُ الأنبياء ساداتُ أولياء الله عز وجل.
(1)
(ت): «مورث» . وكلاهما صحيح.
(2)
(ت): «لمورثهم» . والوجهان صحيحان كما سبق.
(3)
جزءٌ من وصيَّته لكُمَيْل بن زياد. وسيأتي تخريجها عند سياق المصنف لها (ص: 348). ووردت الجملة في بعض المصادر: «محبة العلم
…
».
(4)
أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة.
وفيه تنبيهٌ للعلماء على سلوك هدي الأنبياء وطريقتهم في التبليغ؛ من الصَّبر، والاحتمال، ومقابلة إساءة الناس إليهم بالإحسان، والرِّفق بهم، واستجلابهم إلى الله بأحسن الطُّرق، وبذل ما يمكنُ من النصيحة لهم؛ فإنه بذلك يحصلُ لهم نصيبُهم من هذا الميراث العظيم قدرُه، الجليل خَطَرُه.
وفيه ــ أيضًا ــ تنبيهٌ لأهل العلم على تربية الأمَّة كما يربِّي الوالدُ وَلَدَه؛ فيربُّونهم بالتدريج والترقِّي من صغار العلم إلى كباره، وتحميلهم منه ما يطيقون، كما يفعلُ الأبُ بولده الطفل في إيصال
(1)
الغذاءَ إليه؛ فإنَّ أرواحَ البشر بالنسبة إلى الأنبياء والرسل كالأطفال بالنسبة إلى آبائهم، بل دون هذه النسبة بكثير، ولهذا كلُّ روحٍ لم يربِّها الرسولُ
(2)
لم تُفْلِح ولم تَصْلُح لصالحة؛ كما قيل:
ومن لا يُرَبِّيه الرسولُ ويَسْقِهِ
…
لِبانَ هُدًى
(3)
قد دَرَّ مِنْ ثَدْيِ قُدْسِهِ
فذاكَ لَقِيطٌ ما له نِسْبةُ الوَلَا
…
ولا يتعدَّى طَوْرَ أبناءِ جِنْسِه
وقولُه: «إنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم» ، هذا من كمال الأنبياء وعِظَم نصحهم للأمم، وتمام نعمة الله عليهم وعلى أممهم؛ أنْ أزاحَ جميعَ العلل، وحسَم جميعَ الموادِّ التي تُوهِمُ بعض النفوس أنَّ الأنبياء من جنس الملوك الذين يريدون الدنيا ومُلْكَها؛ فحماهم سبحانه وتعالى من ذلك أتمَّ الحماية.
(1)
(ن، ح): «إيصاله» .
(2)
(ن): «تربها الرسل» .
(3)
(ح، ن): «لبانًا له» . والبيتان لم أعثر عليهما في مصدرٍ آخر.
ثمَّ لما كان الغالبُ على الناس أنَّ أحدهم يريد الدنيا لولده من بعده، ويسعى ويتعبُ ويَحْرِمُ نفسَه لولده= سدَّ هذه الذَّريعة عن أنبيائه ورسله، وقطعَ هذا الوهمَ الذي عساه أن يخالط كثيرًا من النفوس التي تقول: فلعله إن لم
(1)
يطلب الدنيا [لنفسه] فهو يحصِّلها
(2)
لولده= فقال صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشرَ الأنبياء لا نُورَث، ما تركنا فهو صدقة»
(3)
.
فلم تُورِّث الأنبياءُ دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم.
وأما قولُه تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} فهو ميراثُ العلم والنبوَّة، لا غير، وهذا باتفاق أهل العلم من المفسِّرين وغيرهم
(4)
، وهذا لأنَّ داود عليه السلام كان له أولادٌ كثيرٌ سوى سليمان، فلو كان الموروثُ هو المال لم يكن سليمان يختصُّ به
(5)
.
وأيضًا؛ فإنَّ كلامَ الله يصانُ عن الإخبار بمثل هذا؛ فإنه بمنزلة أن يقال: «مات فلانٌ وورثه ابنُه» ، ومن المعلوم أنَّ كلَّ أحدٍ يرثُه ابنُه، وليس في الإخبار بمثل هذا فائدة.
وأيضًا؛ فإنَّ ما قبل الآية وما بعدها يبيِّنُ أنَّ المرادَ بهذه الوِراثة وراثةُ العلم والنبوَّة، لا وراثةُ مال، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا
(1)
(ت، د، ق): «فلعله لم» .
(2)
(ت): «تحصيله» . وما بين المعكوفين يقتضيه السياق، وليس في الأصول.
(3)
أخرجه البخاري (3093، 6726)، ومسلم (1757 - 1759).
(4)
انظر: «تأويل مختلف الحديث» (188)، و «شرح مشكل الآثار» (3/ 12)، و «التمهيد» (8/ 174)، و «فتح الباري» (12/ 10)، و «روح المعاني» (10/ 166).
(5)
(ق): «مختصا به» .
وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 15 - 16]، وإنما سِيقَ هذا لبيان
(1)
فضل سليمان وما خصَّه الله به من كرامته وميراثه ما كان لأبيه من أعلى المواهب، وهو العلم والنبوَّة، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16].
وكذلك قولُ زكريا صلى الله عليه وسلم: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَاءِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5 - 6]، فهذا ميراثُ العلم والنبوَّة والدعوة إلى الله، وإلا فلا يُظَنُّ بنبيٍّ كريمٍ أنه يخافُ عصبتَه أن يرثوه مالَه، فيسألُ الله العظيمَ ولدًا يمنعهم ميراثه
(2)
، ويكونُ أحقَّ به منهم. وقد نزَّه الله أنبياءه ورسله عن هذا وأمثاله. فبُعْدًا لمن حرَّف كتاب الله وردَّ على رسوله كلامَه، ونسبَ الأنبياءَ إلى ما هم أبرياءُ منزَّهون عنه، والحمدُ لله على توفيقه وهدايته.
ويُذْكرُ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مرَّ بالسوق، فوجدهم في تجاراتهم وبِيَاعاتهم
(3)
، فقال: أنتم هاهنا فيما أنتم فيه وميراثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسَّمُ في مسجده! فقاموا سِراعًا إلى المسجد، فلم يجدوا فيه إلا القرآن والذِّكر ومجالس العلم، فقالوا: أين ما قلتَ يا أبا هريرة؟ فقال: هذا ميراثُ محمَّد صلى الله عليه وسلم يقسَّمُ بين ورثته، وليس بمواريثكم ودنياكم
(4)
. أو كما قال.
(1)
(ت): «سبق هذا البيان» .
(2)
(ت): «يرثهم ميراثهم» .
(3)
البِيَاعات: الأشياء التي يُتبايَع بها في التجارة. «اللسان» (بيع).
(4)
أخرجه الطبراني في «الأوسط» (1429) بإسنادٍ فيه من لا يُعْرَف. وحسَّنه المنذري في «الترغيب» (1/ 134)، والهيثمي في «المجمع» (1/ 124).
وقولُه: «فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر» ، أعظمُ الحظوظ وأجداها ما نفَع العبدَ ودام نفعُه له، وليس هذا إلا حظَّه من العلم والدِّين؛ فهو الحظُّ الدائمُ النافعُ الذي إذا انقطعت الحظوظُ لأربابها فهو موصولٌ له أبد الآبدين؛ وذلك لأنه موصولٌ بالحيِّ الذي لا يموت، فلذلك لا ينقطعُ ولا يفوت، وسائرُ الحظوظ تُعْدَم وتتلاشى بتلاشي متعلَّقاتها، كما قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]؛ فإنَّ الغايةَ لما كانت منقطعةً زائلةً تبعتها أعمالهم، فانقطعت عنهم أحوجَ ما يكونُ العاملُ إلى عمله. وهذه هي المصيبةُ التي لا تُجْبَر، عياذًا بالله، واستعانةً به، وافتقارًا إليه، وتوكُّلًا عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقولُه: «موتُ العالم مصيبةٌ لا تُجْبَر، وثُلْمةٌ لا تُسَدُّ، ونجمٌ طُمِس، وموتُ قبيلةٍ أيسرُ من موت عالم» ، لمَّا كان صلاحُ الوجود بالعلماء، ولولاهم كان الناسُ كالبهائم، بل أسوأ حالًا؛ كان موتُ العالم مصيبةً لا يَجْبُرها إلا خلفُ غيره له.
وأيضًا؛ فإنَّ العلماءَ هم الذين يَسُوسونَ العبادَ والبلادَ والممالك، فموتُهم فسادٌ لنظام العالم؛ ولهذا لا يزالُ الله يغرسُ في هذا الدِّين منهم خالفًا عن سالف، يحفظُ بهم دينَه وكتابَه وعبادَه.
وتأمَّل: إذا كان في الوجود رجلٌ قد فاقَ العالَم في الغنى والكرم، وحاجتُهم إلى ما عنده شديدة، وهو محسنٌ إليهم بكلِّ ممكن، ثمَّ مات وانقطعت عنهم تلك المادَّة؛ فموتُ العالم أعظمُ مصيبةً من موت مثل هذا بكثير، ومثلُ هذا يموتُ بموته أممٌ وخلائق، كما قيل:
تَعَلَّمْ ما الرَّزِيَّةُ فَقْدُ مالٍ
…
ولا شاةٌ تموتُ ولا بعيرُ
ولكنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ حُرٍّ
…
يموتُ بموته بشرٌ كثيرُ
(1)
وقال آخر:
فما كان قيسٌ هُلْكُه هُلْكُ واحدٍ
…
ولكنَّه بنيانُ قومٍ تَهَدَّما
(2)
الوجه الثامن والأربعون: ما روى الترمذيُّ من حديث الوليد بن مسلم حدثنا رَوْحُ بن جناح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «فقيهٌ
(3)
أشدُّ على الشيطان من ألف عابد»
(4)
.
(1)
البيتان لأعرابية في «أمالي القالي» (1/ 272). ولمُلَيْل بن الدهقانة التغلبي في «معجم الشعراء» للمرزباني (445)، و «الحماسة البصرية» (2/ 634). ودون نسبة في «الزهرة» (527).
وفي (ت): «يموت لموته خلق كثير» . وهو كذلك في بعض المصادر.
(2)
البيت لعَبْدة بن الطبيب، من أبياتٍ ثلاثة يرثي فيها سيد أهل الوبر قيس بن عاصم المِنقري، في «الحماسة» بشرح المرزوقي (790)، و «الشعر والشعراء» (2/ 728)، وغيرهما، وهي في «شعره» المجموع (12).
وقال أبو عمرو بن العلاء: «هذا أرثى بيتٍ قالته العرب» . «ديوان المعاني» (3/ 966).
(3)
في رواية ابن ماجه والطبراني وابن المنذر: «فقيه واحد» .
(4)
أخرجه الترمذي (2681)، وابن ماجه (222)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 308)، وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 135)، والطبراني في «المعجم الكبير» (11/ 78)، وغيرهم.
ورَوْحُ بن جناح ضعيف، وقد استنكر حديثه هذا ابنُ عدي في «الكامل» (3/ 145)، وابن حبان في «المجروحين» (1/ 300) واستدلَّ به على ضعفه. وقال الساجي ــ كما في «التهذيب» (3/ 293) ــ:«هو حديث منكر» .
قال الترمذي: «غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الوليد بن مسلم» .
قلت: قد رواه أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي اليقطيني: حدثنا عمر بن سعيد بن سنان: حدثنا هشام بن عمار: حدثنا الوليدُ بن مسلم: حدثنا رَوْحُ بن جناح، عن الزهري، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
قال الخطيب
(2)
(3)
، وحديثُ ابن عباس، [فيُشْبِهُ أن يكونا]
(4)
كانا في كتاب ابن
(1)
أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 122). وهو وهمٌ، كما بيَّنه الدارقطنيُّ في «العلل» (9/ 132)، وزاد إيضاحه الخطيب، ونقل المصنفُ كلام الأخير.
(2)
(د، ت، ق): «الدارقطني» . والنصُّ - بتصرُّف - في كتاب الخطيب.
(3)
أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (2/ 59)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 144)، وغيرهما بطوله.
وقد استنكر الأئمةُ على رَوْحٍ هذا الحديث، وحكم بعضُهم بوضعه.
انظر: «أحوال الرجال» للجوزجاني (271)، و «الموضوعات» لابن الجوزي (1/ 219)، و «تاريخ دمشق» (18/ 232)، وتعليق المعلمي على «الفوائد المجموعة» (465).
(4)
زيادة يقتضيها السياق، وهي في كتاب الخطيب.
سنانٍ عن هشام يتلو أحدَهما الآخر؛ فكتبَ أبو جعفر إسنادَ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ثمَّ عارضه سهوٌ أو زاغ نظرُه، فنزل إلى متن حديث ابن عباس، فركَّبَ متنَ هذا على إسناد هذا، وكلُّ واحدٍ منهما ثقةٌ مأمون، بريءٌ من تعمُّد الغلط».
وقد رواه أبو أحمد بن عدي عن محمد بن سعيد بن مهران: حدثنا شيبان: حدثنا أبو الربيع السَّمَّان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكلِّ شيءٍ دِعامة، ودِعامةُ الإسلام الفقهُ في الدِّين، والفقيهُ أشدُّ على الشيطان من ألف عابد»
(1)
.
ولهذا الحديث علَّة؛ وهو أنه رُوِي من كلام أبي هريرة، وهو أشبه:
رواه هاناء بن يحيى: حدثنا يزيدُ به عياض: حدثنا صفوانُ بن سليم، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عبد اللهُ بشيءٍ أفضلَ من فقهٍ في الدِّين» .
قال: وقال أبو هريرة: «لأَنْ أَفْقَهَ ساعةً أحبُّ إليَّ من أن أُحْيِيَ ليلةً أصلِّيها حتى أُصْبِح، والفقيهُ أشدُّ على الشيطان من ألف عابد، ولكلِّ شيءٍ دِعامة، ودِعامةُ الدِّين الفقه»
(2)
.
(1)
أخرجه ابن عدي في «الكامل» (1/ 377) في ترجمة أبي الربيع، وعَدَّه مِن أنكر ما حدَّث به.
(2)
أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 123)، و «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (2/ 151)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 192) من طريق هاناء بن يحيى، عن يزيد بن عياض، به.
وأخرجه الدارقطني في «السنن» (3/ 79)، والطبراني في «الأوسط» (6166)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 342)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1/ 150) من طريق يزيد بن هارون، عن يزيد بن عياض، به، وجعله جميعَه مرفوعًا.
وعلى الوجهين، فيزيد بن عياض منكر الحديث.
وقد رُوِي بإسنادٍ فيه من لا يحتجُّ به من حديث عاصم بن أبي النَّجود، عن زِرِّ بن حُبيش، عن عمر بن الخطاب يرفعُه:«إنَّ الفقيهَ أشدُّ على الشيطان من ألف وَرِع، وألف مجتهد، وألف متعبِّد»
(1)
.
وقال المزني: «رُوِي عن ابن عباس أنه قال: إنَّ الشياطين قالوا لإبليس: يا سيِّدنا، ما لنا نراكَ تفرحُ بموت العالِم ما لا تفرحُ بموت العابد والعالِمُ لا نُصِيبُ منه والعابدُ نُصِيبُ منه؟!
(2)
، قال: انطلقوا. فانطلقوا إلى عابد، فأتوه في عبادته فقالوا: إنَّا نريدُ أن نسألك. فانصرَف. فقال إبليس: هل يقدرُ ربُّك أن يجعلَ الدنيا في جوف بيضة؟ فقال: لا أدري. فقال: أترونه كَفَر في ساعة؟!
ثمَّ جاؤوا إلى عالِمٍ في حَلْقته يُضاحِكُ أصحابَه ويحدِّثهم، فقالوا: إنَّا نريدُ أن نسألك. فقال: سَلُوا. فقالوا: هل يقدرُ ربُّك أن يجعل الدنيا في جوف بيضة؟ قال: نعم. قالوا: كيف؟ قال: يقول: كُن فيكون؛ فقال: أترونَ ذلك لا يَعْدُو نفسَه، وهذا يُفسِدُ عليَّ عالَمًا كثيرًا؟!»
(3)
.
(1)
أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 124). وهو كما قال المصنف.
(2)
في طرَّة (ح): «لعله: العالم نصيب منه، والعابد لا نصيب منه» .
(3)
أخرجها الخطيبُ في «الفقيه والمتفقه» (1/ 124). وبين المزنيِّ وابنِ عباسٍ مفاوز. وعلَّقه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 129).
ورواها ابن أبي الدنيا عن بعض البصريين. انظر: «آكام المرجان» (206).
وقد رُوِيَت هذه الحكايةُ على وجهٍ آخر، وأنهم سألوا العابد فقالوا: هل يقدرُ ربُّك أن يخلقَ مثل نفسه؟ فقال: لا أدري. فقال: أترونه لم تنفعه عبادتُه مع جهله؟!
وسألوا العالِمَ عن ذلك، فقال: هذه المسألةُ مُحال؛ لأنه لو كان مثله لم يكن مخلوقًا، فكونُه مخلوقًا وهو مثلُ نفسه مستحيل، فإذا كان مخلوقًا لم يكن مثلَه، بل كان عبدًا من عبيده، وخلقًا من خلقه. فقال: أترونَ هذا يهدمُ في ساعةٍ ما أبنيه في سنين؟! أو كما قال.
ورُوِي عن عبد الله بن عمر
(1)
: «فضلُ العالم على العابد سبعين درجة، بين كلِّ درجتين حُضْرُ الفَرَس
(2)
سبعين عامًا؛ وذلك أنَّ الشيطان يضعُ البدعة، فيبصرُها العالِمُ فينهى عنها، والعابدُ مقبلٌ على عبادة ربِّه لا يتوجَّهُ لها ولا يعرفُها»
(3)
.
(1)
(د، ق، ح، ن) ومطبوعة «المغني» للعراقي: «عمرو» . والمثبت من (ت) ومطبوعتي «الترغيب والترهيب» للأصبهاني والمنذري.
(2)
وهو ارتفاعُه في عَدْوِه. «اللسان» (حضر).
(3)
أخرجه أبو القاسم التيمي الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (2143) عن ابن عمر مرفوعًا بإسنادٍ شديد الضعف، وضعَّفه العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 15).
وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 133): «وعَجُزُ الحديث يُشْبِهُ المُدْرَج» .
قلت: وهو كما قال، وقد ورد بدونه من حديث أبي هريرة مرفوعًا عند ابن عدي في «الكامل» (4/ 134)، والخطيب في «الموضح» (2/ 196)، وقال ابن عدي:«وهذا بهذا الإسناد منكر» .
ورُوِي من وجهٍ آخر مرسلًا، قال الدارقطني في «العلل» (9/ 267):«والمرسل أصح» .
وهذا معناه صحيح؛ فإنَّ العالِمَ يُفْسِدُ على الشيطان ما يسعى فيه، ويهدمُ ما يبنيه، فكلما أراد إحياءَ بدعةٍ وإماتةَ سُنَّةٍ حالَ العالِمُ بينه وبين ذلك، فلا شيء أشدُّ عليه من بقاء العالِم بين ظهراني الأمَّة، ولا شيء أحبُّ إليه من زواله من بين أظهرهم؛ ليتمكَّن من إفساد الدِّين وإغواء الأمَّة، وأما العابدُ فغايته أن يجاهدَه ليسلَم منه في خاصَّة نفسه، وهيهات له ذلك.
الوجه التاسع والأربعون: ما روى الترمذيُّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الدنيا ملعونة، ملعونٌ ما فيها، إلا ذكرُ الله وما والاه وعالمٌ ومتعلِّم»
(1)
.
قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسن»
(2)
.
ولمَّا كانت الدنيا حقيرةً عند الله لا تساوي لديه جناح بعوضة، كانت ــ وما فيها ــ في غاية البعد منه، وهذا هو حقيقةُ اللَّعنة.
(1)
أخرجه الترمذي (2322)، وابن ماجه (4112)، وغيرهما من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن عطاء بن قرة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة.
وعبد الرحمن فيه ضعف، وقال العقيلي في «الضعفاء» (2/ 326):«لا يتابعه إلا من هو دونه أو مثله» وانظر: «العلل المتناهية» (2/ 796).
وأخرجه البغويُّ في «شرح السنة» (14/ 229) مرسلًا، وهو أصحُّ.
ورُوِي من أوجهٍ أخرى معلولة.
انظر: «مسند البزار» (5/ 145)، و «علل الدارقطني» (5/ 89)، و «علل ابن أبي حاتم» (2/ 124)، و «جامع العلوم والحكم» (559).
(2)
وفي «تحفة الأشراف» (10/ 137)، و «تهذيب الكمال» (20/ 110):«حسن غريب» .
وهو سبحانه إنما خلقها مزرعةً للآخرة ومَعْبَرًا إليها يتزوَّدُ منها عبادُه إليه، فلم يكن يُقَرِّبُ منها إلا ما كان متضمِّنًا لإقامة ذكره ومُفْضِيًا إلى محابِّه، وهو العلمُ الذي به يُعْرَفُ اللهُ ويُعْبَد، ويُذْكَرُ ويُثنى عليه به ويُمَجَّدُ.
ولهذا خلقها وخلق أهلها؛ كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، فتضمَّنت هاتان الآيتان أنه سبحانه إنما خلق السموات والأرض وما بينهما ليُعْرَفَ بأسمائه وصفاته، وليُعْبَد.
فهذا المطلوبُ
(1)
وما كان طريقًا إليه من العلم والتعليم فهو المستثنى من اللَّعنة، واللَّعنةُ واقعةٌ على ما عداه؛ إذ هو بعيدٌ عن الله وعن محابِّه وعن دينه، وهذا هو متعلَّق العقاب في الآخرة؛ فإنه كما كان متعلَّقَ اللَّعنة التي تتضمَّن الذَّمَّ والبغضَ فهو متعلَّقُ العقاب، والله سبحانه إنما يحبُّ من عباده ذكرَه وعبادتَه، ومعرفتَه ومحبَّته، ولوازمَ ذلك وما أفضى إليه، وما عداه فهو مبغوضٌ له، مذمومٌ عنده.
الوجه الخمسون: ما رواه الترمذي من حديث أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع»
(2)
. قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسنٌ غريب،
(1)
(ت): «فهذا هو المطلوب» .
(2)
أخرجه الترمذي (2647)، والطبراني في «الصغير» (1/ 234)، وغيرهما بإسنادٍ ضعيف. وأشار الترمذيُّ إلى إعلاله، ونقل المصنفُ عبارته.
وانظر: «الضعفاء» للعقيلي (2/ 17)، و «الميزان» (1/ 648)، و «المختارة» للضياء (2119 - 2121).
رواه بعضُهم فلم يرفعه».
وإنما جُعِلَ طلبُ العلم من سبيل الله لأنَّ به قِوامَ الإسلام، كما أنَّ قِوامَه بالجهاد، فقِوامُ الدِّين بالعلم والجهاد.
ولهذا كان الجهادُ نوعين:
* جهادٌ باليد والسِّنان، وهذا المشاركُ فيه كثير.
* وجهادٌ بالحجَّة والبيان، وهذا جهادُ الخاصَّة من أتباع الرسل، وهو جهادُ الأئمَّة، وهو أفضلُ الجهادَين؛ لعظم منفعته، وشدَّة مؤنته، وكثرة أعدائه.
قال تعالى في سورة الفرقان ــ وهي مكيَّة ــ: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} ، فهذا جهادٌ لهم بالقرآن، وهو أكبرُ الجهادَين
(1)
، وهو جهادُ المنافقين أيضًا؛ فإنَّ المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظَّاهر، وربَّما كانوا يقاتلون عدوَّهم معهم، ومع هذا فقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73، التحريم: 9]، ومعلومٌ أن جهادَ المنافقين بالحجَّة والقرآن.
والمقصودُ أنَّ سبيلَ الله هي الجهادُ وطلبُ العلم ودعوةُ الخلق به إلى الله، ولهذا قال معاذٌ رضي الله عنه: «عليكم بطلب العلم؛ فإنَّ تعلُّمَه لله خشية،
(1)
(ت): «وهو أكبر الجهادين مؤنة» .
ومدارستَه عبادة، ومذاكرتَه تسبيح، والبحثَ عنه جهاد»
(1)
.
ولهذا يَقْرِنُ سبحانه بين الكتاب المنزَّل والحديد النَّاصر، كما قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]، فذكرَ الكتابَ والحديد إذ بهما قِوامُ الدِّين
(2)
، كما قيل:
فما هو إلا الوحيُ أو حَدُّ مُرْهَفٍ
…
تُمِيلُ ظُباهُ أخْدَعَيْ كلِّ مائلِ
فهذا شفاءُ الدَّاء من كلِّ عاقلٍ
…
وهذا دواءُ الدَّاء من كلِّ جاهلِ
(3)
ولمَّا كان كلٌّ من الجهاد بالسيف والحجَّة يسمَّى: «سبيل الله» ، فَسَّرَ الصحابةُ رضي الله عنهم قولَه:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] بالأمراء والعلماء
(4)
؛ فإنهم المجاهدون في سبيل الله، هؤلاء بأيديهم وهؤلاء بألسنتهم.
(1)
يأتي تخريجه (ص: 337) حيث ساقه المصنف بتمامه.
(2)
انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 13، 18/ 158، 28/ 232، 396)، و «جامع المسائل» (6/ 314)، و «منهاج السنة» (1/ 531)، و «بدائع الفوائد» (415)، و «هداية الحيارى» (21)، و «طريق الهجرتين» (643)، و «أحكام أهل الذمة» (1305).
(3)
البيتان لأبي تمام في «ديوانه» بشرح التبريزي (3/ 86).
(4)
انظر: تفسير القرآن من «الجامع» لابن وهب (1/ 100)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (12/ 212 - 215)، و «تفسير الطبري» (8/ 497 - 500)، و «السنة» للخلال (1/ 106)، و «مستدرك الحاكم» (1/ 123)، وغيرهما. وهذا التفسير يؤخذُ من مجموع أقوالهم، لا من آحادها.
فطلبُ العلم وتعليمُه من أعظم سبيل الله عز وجل.
قال كعبُ الأحبار: «طالبُ العلم كالغادِي
(1)
الرَّائح في سبيل الله عز وجل»
(2)
.
وجاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم: «إذا جاء الموتُ طالبَ العلم وهو على هذه الحال مات وهو شهيد»
(3)
.
وقال سفيان بن عيينة: «من طلب العلمَ فقد بايعَ اللهَ عز وجل»
(4)
.
وقال أبو الدرداء: «من رأى الغُدُوَّ والرَّواحَ إلى العلم ليس بجهادٍ فقد نقصَ عقلُه
(5)
ورأيه».
(1)
في الأصول: «الغازي» . وفي طرَّة (ح): «لعله: كالغادي» . وهو كذلك في مصادر الأثر، ويدلُّ عليه السياق.
(2)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (5/ 376)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 281).
ورُوِي مرفوعًا من حديث أبي الردين.
أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده (41 - زوائده)، والطبراني في «الكبير» (22/ 337) بإسنادٍ فيه من لم أعرفه. وقال ابنُ منده عن أبي الردين:«له ذِكْرٌ في الصحابة، ولم يَثْبُت» . «الإصابة» (7/ 138).
(3)
أخرجه البزار (138 - كشف الأستار)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 121)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 101)، و «تاريخ بغداد» (9/ 247) عن أبي هريرة وأبي ذر مرفوعًا بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا.
وانظر: «الضعفاء» للعقيلي (4/ 350)، و «اللسان» (2/ 145).
(4)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (7/ 280)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (5/ 174) بلفظ: «من طلب الحديث
…
».
(5)
(د، ت، ح، ن): «نقص في عقله» . والمثبت من (ق) و «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 152).
الوجه الحادي والخمسون: ما رواه الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان: حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سلكَ طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سهَّل اللهُ له طريقًا إلى الجنة» .
قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسن»
(1)
.
(2)
.
والحديثُ رواه مسلم في «صحيحه»
(3)
من أوجهٍ عن الأعمش عن أبي صالح.
قال الحاكم في «المستدرك» : «هو صحيحٌ على شرط البخاري ومسلم، رواه عن الأعمش جماعة، منهم: زائدة، وأبو معاوية، وابن نمير»
(4)
.
(1)
«جامع الترمذي» (1930، 2646).
(2)
ذكر هذه العلة الترمذيُّ في «الجامع» (4/ 34، 5/ 195)، ونقل عنه الحافظُ في «الفتح» (1/ 160) و «النكت» (1/ 403) العبارة التي نقلها المصنفُ عن بعضهم، ولم أرها في «جامعه» ، ولا رأيتُ من نقلها عنه سواه.
ووافق الترمذيَّ غيرُ واحدٍ من الحفَّاظ.
انظر: «علل ابن أبي حاتم» (2/ 162)، و «علل أحاديث في كتاب الصحيح لمسلم» لابن عمار الشهيد (136)، و «جامع العلوم والحكم» (632)، و «فتح الباري» لابن حجر (1/ 141). وأطال الدارقطنيُّ في بيان الاختلاف فيه في «العلل» (10/ 185).
(3)
(2699).
(4)
«المستدرك» (1/ 89) بنحوه ولم يتعقبه الذهبي. وصححه ابن حبان (84).