الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإنه إن لم يعلم ما جاء به الرسولُ لم يمكنه قصدُه، وإن لم يعرف معبودَه لم يمكنه إرادتُه وحده، فلولا العلمُ لما كان عملُه مقبولًا؛ فالعلمُ هو الدليلُ على الإخلاص، وهو الدليلُ على المتابعة.
وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، وأحسنُ ما قيل في تفسير الآية: أنه إنما يتقبلُ عملَ من اتَّقاه في ذلك العمل، وتقواه فيه أن يكون لوجهه، على موافقة أمره
(1)
. وهذا إنما يحصلُ بالعلم.
وإذا كان هذا منزلَ العلم
(2)
وموقعَه عُلِمَ أنه أشرفُ شيءٍ وأجلُّه وأفضلُه، والله أعلم.
الوجه الرابع والسبعون: أنَّ العاملَ بلا علمٍ كالسائر بلا دليل
، ومعلومٌ أنَّ عَطَبَ مثل هذا أقربُ من سلامته، وإن قُدِّرَ سلامتُه اتفاقًا نادرًا فهو غير محمود، بل مذمومٌ عند العقلاء.
وكان شيخُ الإسلام ابن تيمية يقول: «من فارق الدليلَ ضلَّ السبيل، ولا دليلَ إلا ما جاء به الرسول»
(3)
.
قال الحسن: «العاملُ على غير علمٍ كالسالك على غير طريق، والعاملُ على غير علمٍ يُفْسِدُ أكثرَ مما يُصْلِح، فاطلبوا العلمَ طلبًا لا تُضِرُّوا بالعبادة،
(1)
انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 322، 11/ 662، 12/ 483)، و «جامع الرسائل» (1/ 257)، و «منهاج السنة» (5/ 296، 6/ 216).
(2)
(د، ق، ن): «منزلة العلم» .
(3)
بنحوه في «الفتاوى» (6/ 388، 13/ 136)، و «درء التعارض» (7/ 329). وانظر:«مدارج السالكين» (2/ 469)، وعنه الفيروزابادي في «بصائر ذوي التمييز» (4/ 90) دون عزو.
واطلبوا العبادةَ طلبًا لا تُضِرُّوا بالعلم؛ فإنَّ قومًا طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، ولو طلبوا العلمَ لم يدلَّهم على ما فعلوا»
(1)
.
والفرقُ بين هذا الوجه وبين ما قبله: أنَّ العلمَ مرتبتُه في الوجه الأول مرتبةُ المطاع المتبوع المقتدى به المتَّبع حكمُه المطاع أمرُه، ومرتبتُه في هذا الوجه مرتبةُ الدليل المرشد إلى المطلوب الموصل إلى الغاية.
الوجه الخامس والسبعون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثبت في «الصحيح» عنه أنه كان يقول: «اللهمَّ ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشَّهادة، أنت تحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنك، إنك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيم»
(2)
.
وفي بعض «السنن» أنه كان يكبِّر تكبيرةَ الإحرام في صلاة الليل، ثمَّ يدعو بهذا الدعاء
(3)
.
والهدايةُ هي العلمُ بالحقِّ مع قصده وإيثاره على غيره، فالمهتدي هو العالِمُ بالحقِّ المريدُ له، وهي أعظمُ نعمةٍ لله على العبد، ولهذا أمرنا سبحانه أن نسأله هدايةَ الصِّراط المستقيم كلَّ يومٍ وليلةٍ في صلواتنا الخمس؛ فإنَّ
(1)
علَّقه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 545)، وروى بعضه ابنُ أبي شيبة في «المصنف» (13/ 499).
(2)
«صحيح مسلم» (770)، بلفظ: «كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم رب جبرائيل
…
».
(3)
أخرجه أبو داود (764). وهو مقتضى رواية مسلم.
العبدَ محتاجٌ إلى معرفة الحقِّ الذي يرضي اللهَ في كلِّ حركةٍ ظاهرةٍ وباطنة، فإذا عرفها فهو محتاجٌ إلى من يُلْهِمُه قصدَ الحقِّ فيجعلُ إرادتَه في قلبه، ثمَّ إلى من يُقْدِرُه على فعله.
ومعلومٌ أنَّ ما يجهلُه العبدُ أضعافُ أضعاف ما يعلمُه، وأنَّ كلَّ ما يعلمُه أنه حقٌّ لا تطاوعُه نفسُه على إرادته، ولو أراده
(1)
لعجز عن كثيرٍ منه؛ فهو مضطرٌّ كلَّ وقتٍ إلى هدايةٍ تتعلَّقُ بالماضي وبالحال وبالمستقبل.
أما الماضي، فهو محتاجٌ إلى محاسبة نفسه عليه، وهل وقع على السَّداد فيشكر الله عليه ويستديمُه، أم خرج فيه عن الحقِّ فيتوبَ إلى الله تعالى منه ويستغفره، ويعزمَ على أن لا يعود؟
وأما الهدايةُ في الحال، فهي مطلوبةٌ منه
(2)
؛ فإنه ابنُ وقته، فيحتاجُ أن يعلمَ حكمَ ما هو متلبِّسٌ به من الأفعال، هل هو صوابٌ أم خطأ؟
وأما المستقبل، فحاجتُه فيه إلى الهداية أظهر؛ ليكونَ سيرُه على الطريق.
وإذا كان هذا شأن الهداية عُلِمَ أنَّ العبدَ أشدُّ شيءٍ اضطرارًا إليها، وأنَّ ما يوردُه بعض الناس من السؤال الفاسد، وهو أنَّا إذا كنَّا مهتدين فأيُّ حاجةٍ بنا أن نسأل الله أن يهدينا؟! وهل هذا إلا تحصيلُ الحاصل؟! = أفسدُ سؤالٍ وأبعدُه عن الصواب، وهو دليلٌ على أنَّ صاحبه لم يحصِّل معنى الهداية، ولا أحاط علمًا بحقيقتها ومسمَّاها؛ فلذلك تكلَّفَ من تكلَّفَ الجوابَ عنه بأنَّ
(1)
(ح): «ولولا إرادته» . تحريف. (ن): «ولو أرادته» .
(2)
(ن، ح): «المطلوبة منه» .
المعنى: ثَبِّتنا على الهداية وأدِمْها لنا
(1)
.
ومن أحاط علمًا بحقيقة الهداية، وحاجة العبد إليها، عَلِمَ أنَّ الذي لم يحصُل له منها أضعافُ ما حصَل له، وأنه كلَّ وقتٍ محتاجٌ إلى هداية متجدِّدة، لا سيَّما والله تعالى خالقُ أفعال القلوب والجوارح، فهو كلَّ وقتٍ محتاجٌ إلى أن يخلقَ الله له هدايةً خاصَّة، ثمَّ إن لم تُصْرَف عنه الموانعُ والصوارفُ التي تمنعُ مُوجَبَ الهداية وتَصْرِفُها لم ينتفع بالهداية، ولم يتمَّ مقصودُها له؛ فإنَّ الحكمَ لا يكفي فيه وجودُ مقتضيه، بل لا بد مع ذلك من عدم مانعه ومُنافيه.
ومعلومٌ أنَّ وساوس العبد وخواطرَه وشهوات الغيِّ في قلبه كلٌّ منها مانعٌ من وصول أثر الهداية إليه، فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدًى تامًّا؛ فحاجتُه إلى هداية الله له مقرونةٌ بأنفاسه، وهي أعظمُ حاجةٍ للعبد.
وذكَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء العظيم القَدْر من أوصاف الله وربوبيَّته ما
(1)
ذكر هذا المعنى جماعةٌ من المفسرين وشُرَّاح الحديث. انظر: «تفسير الطبري» (1/ 166)، و «تفسير القرطبي» (7/ 27)، و «شرح مسلم» للنووي (6/ 57)، وغيرها. وقد يصحُّ هذا فيمن حصل له الهدى التامُّ المتضمِّنُ لأمورٍ سبعةٍ ذكرها المصنِّف في «بدائع الفوائد» (449).
وانظر: «الصلاة وحكم تاركها» (205)، و «مجموع الفتاوى» (10/ 106)، و «جامع الرسائل» (1/ 98)، و «تفسير ابن كثير» (1/ 162).
وغلا بعض الحنفية في ذلك، فأنكر أن يقول العاطسُ لمن شمَّته من المسلمين:«يهديكم الله» ، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قاله لمن كان بحضرته من اليهود! وردَّ عليهم ذلك الطحاويُّ وغيره. انظر:«شرح معاني الآثار» (4/ 301)، و «شرح مشكل الآثار» (10/ 174)، و «جامع العلوم والحكم» (426).
يناسبُ المطلوب:
* فإنَّ فَطْرَ السموات والأرض توسُّلٌ إلى الله بهذا الوصف في الهداية
(1)
للفطرة التي ابتدأ الخلقَ عليها؛ فذَكَر كونَه فاطرَ السموات والأرض.
* والمطلوبُ تعليمُ الحقِّ والتوفيقُ له؛ فذَكَر علمَه سبحانه بالغيب والشهادة، وأنَّ من هو بكلِّ شيءٍ عليمٌ جديرٌ أن يطلبَ منه عبدُه أن يعلِّمه ويرشده ويهديه، وهو بمنزلة التوسُّل إلى الغنيِّ بغِناه وسعة كرمه أن يعطيَ عبدَه شيئًا من ماله، والتوسُّل إلى الغفور بسعة مغفرته أن يغفر لعبده، وبعفوه أن يعفو عنه، وبرحمته أن يرحمَه، ونظائرُ ذلك.
* وذَكَر ربوبيَّته تعالى لجبريل وميكائيل وإسرافيل، وهذا ــ والله أعلم ــ لأنَّ المطلوب هدًى يحيا به القلب، وهؤلاء الثلاثةُ الأملاكُ قد جعلَ الله تعالى على أيديهم أسبابَ حياة العباد:
أمَّا جبريل، فهو صاحبُ الوحي الذي يوحيه الله إلى الأنبياء، وهو سببُ حياة الدنيا والآخرة.
وأمَّا ميكائيل، فهو الموكَّل بالقَطْر الذي به سببُ حياة كلِّ شيء.
وأمَّا إسرافيل، فهو الذي ينفخُ في الصُّور فيحيي الله الموتى بنفخته، فإذا هم قيامٌ لربِّ العالمين
(2)
.
(1)
(ق): «للهداية» .
(2)
انظر: «زاد المعاد» (1/ 43).
والهدايةُ لها أربعُ مراتب، وهي مذكورةٌ في القرآن
(1)
:
المرتبة الأولى: الهداية العامَّة؛ وهي هدايةُ كلِّ مخلوقٍ من الحيوان والآدميِّ لمصالحه التي بها قيامُ أمره.
قال الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 - 3]؛ فذكر أمورًا أربعة: الخلق، والتسوية، والتقدير، والهداية، فسوَّى ما خلقه وأتقنه وأحكمه، ثمَّ قدَّر له أسبابَ مصالحه في معاشه وتقلُّباته وتصرُّفاته، وهداه إليها، والهدايةُ تعليمٌ؛ فذَكَر أنه الذي خلقَ وعلَّم، كما ذَكَر نظيرَ ذلك في أول سورةٍ أنزلها على رسوله، وقد تقدَّم ذلك
(2)
.
وقال تعالى حكايةً عن عدوِّه فرعون أنه قال لموسى: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49 - 50].
وهذه المرتبةُ أسبقُ مراتب الهداية وأعمُّها.
المرتبة الثانية: هدايةُ البيان والدَّلالة التي أقامَ بها حجَّتَه على عباده. وهذه لا تستلزمُ الاهتداءَ التام.
قال الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، يعني: بيَّنَّا لهم ودلَلْناهم وعرَّفناهم، فآثروا الضلالةَ والعمى.
(1)
انظر: «الوجوه والنظائر» لمقاتل (256)، وللدامغاني (473)، ولابن الجوزي (626)، و «تأويل مشكل القرآن» (443)، و «المفردات» (هدى)، و «بصائر ذوي التمييز» (5/ 312)، و «شفاء العليل» (229)، و «البدائع» (445).
(2)
(ص: 157).
وقال الله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38].
وهذه المرتبةُ أخصُّ من الأولى، وأعمُّ من الثالثة، وهي هدى التوفيق والإلهام؛ قال الله تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، فعَمَّ بالدعوة خلقَه، وخَصَّ بالهداية من شاء منهم.
وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]، مع قوله:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، فأثبتَ هدايةَ الدعوة والبيان، ونفى هدايةَ التوفيق والإلهام. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في تشهُّد الحاجة:«من يهد اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له»
(1)
.
وقال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، أي: من يضلُّه اللهُ لا يهتدي أبدًا.
وهذه الهدايةُ الثالثةُ هي الهدايةُ الموجبةُ المستلزمةُ للاهتداء، وأما الثانية فشرطٌ لا مُوجِب، فلا يستحيلُ تخلُّفُ الهدى عنها، بخلاف الثالثة فإنَّ تخلُّفَ الهدى عنها مستحيل.
المرتبة الرابعة: الهدايةُ في الآخرة إلى طريق الجنة والنار.
قال الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ
(1)
أخرجه مسلم (867، 868) من حديث جابر وابن عباس.
فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 - 23].
وأمَّا قولُ أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، فيحتملُ أن يكونوا أرادوا الهدايةَ إلى طريق الجنة، وأن يكونوا أرادوا الهدايةَ في الدنيا التي أوصلتهم إلى دار النعيم. ولو قيل: إنَّ كلا الأمرين مرادٌ لهم، وأنهم حمدوا اللهَ على هدايته لهم في الدنيا، وهدايتهم إلى طريق الجنة؛ كان أحسنَ وأبلغ.
وقد ضربَ الله تعالى لمن لم يحصُل له العلمُ بالحقِّ واتباعه مثَلًا مطابقًا لحاله؛ فقال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71].
الوجه السادس والسبعون: أنَّ فضيلةَ الشيء وشرفه يظهرُ تارةً من عموم منفعته، وتارةً من شدَّة الحاجة إليه وعدم الاستغناء عنه، وتارةً من ظهور النقص والشرِّ بفَقْدِه، وتارةً من حصول اللذَّة والسرور والبهجة بوجوده ــ لكونه محبوبًا ملائمًا، فإدراكُه يُعْقِبُ غايةَ اللذَّة ــ، وتارةً من كمال الثمرة المترتِّبة عليه، وشرف علَّته الغائيَّة
(1)
، وإفضائه إلى أجلِّ المطالب.
وهذه الوجوه ونحوها تنشأ وتظهرُ من متعلَّقه؛ فإذا كان في نفسه كمالًا وشرفًا ــ بقطع النظر عن متعلَّقاته ــ جمعَ جهات الشرف والفضل في نفسه ومتعلَّقه.
(1)
وهي ما يوجدُ الشيءُ لأجله. «التعريفات» (155).
ومعلومٌ أنَّ هذه الجهات بأسرها حاصلةٌ للعلم؛ فإنه أعمُّ شيءٍ نفعًا، وأكثره وأدومُه، والحاجةُ إليه فوق الحاجة إلى الغذاء، بل فوق الحاجة إلى التنفُّس؛ إذ غايةُ ما يُتَصوَّرُ من فقدهما فقدُ حياة الجسم، وأما فقدُ العلم ففيه فقدُ حياة القلب والروح؛ فلا غَناءَ للعبد عنه طرفةَ عين، ولهذا إذا فُقِدَ من الشخص كان شرًّا من الحمير، بل كان شرَّ الدوابِّ
(1)
عند الله، ولا شيء أنقصُ منه حينئذ.
وأما حصولُ اللذَّة والبهجة بوجوده؛ فلأنه كمالٌ في نفسه، وهو ملائمٌ غايةَ الملاءمة للنفوس؛ فإنَّ الجهلَ مرضٌ ونقص، وهو في غاية الإيذاء والإيلام للنفس، ومن لم يشعر بهذه الملاءمة والمنافرة فهو لفَقْدِ حسِّه وموت نفسه، و «ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ»
(2)
.
فحصولُه للنفس إدراكٌ منها لغاية محبوبها، واتصالٌ به، وذلك في غاية لذَّتها وفرحتها، وهذا بحسب المعلوم في نفسه ومحبة النفس له ولذَّتها بقربه، والعلومُ والمعلوماتُ متفاوتةٌ في ذلك أعظمَ التفاوت وأبينَه، فليس علمُ النفوس بفاطرها وباريها ومبدعها ومحبَّته والتقرُّب إليه كعلمها بالطبيعة وأحوالها وعوارضها وصحَّتها وفسادها وحركاتها.
وهذا يتبيَّن بالوجه السابع والسبعين: وهو أنَّ شرفَ العلم تابعٌ لشرف معلومه، ولوثوق النفس بأدلَّة وجوده وبراهينه، ولشدَّة الحاجة إلى معرفته، وعِظَم النفع بها.
(1)
(د، ت، ق): «شرا من الدواب» .
(2)
عجزُ بيتٍ للمتنبي، في «ديوانه» (149)، وصدرُه:
* من يهن يسهل الهوانُ عليه *
ولا ريب أنَّ أجلَّ معلومٍ وأعظمَه وأكبَره فهو الله الذي لا إله إلا هو، ربُّ العالمين، وقيومُ السموات والأرضين، الملكُ الحقُّ المبين، الموصوفُ بالكمال كلِّه، المنزَّه عن كلِّ عيبٍ ونقص، وعن كلِّ تمثيلٍ وتشبيهٍ في كماله.
ولا ريب أنَّ العلمَ به وبأسمائه وصفاته وأفعاله أجلُّ العلوم وأفضلُها، ونسبتُه إلى سائر العلوم كنسبة معلومه إلى سائر المعلومات، وكما أنَّ العلمَ به أجلُّ العلوم وأشرفُها فهو أصلُها كلِّها، كما أنَّ كلَّ موجودٍ فهو مستندٌ في وجوده إلى الملك الحقِّ المبين ومفتقرٌ إليه في تحقُّق ذاته وإنِّيَّته
(1)
، وكلُّ علمٍ فهو تابعٌ للعلم به مفتقرٌ في تحقيق ذاته إليه؛ فالعلمُ به أصلُ كلِّ علم، كما أنه سبحانه ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه ومُوجِدُه.
ولا ريب أنَّ كمال العلم بالسبب التامِّ وكونَه سببًا يستلزمُ العلمَ بمسبِّبه كما أنَّ العلمَ بالعلة التامَّة ومعرفةَ كونها علَّةً يستلزمُ العلم بالمعلول
(2)
، وكلُّ موجودٍ سوى الله فهو مستندٌ في وجوده إليه استنادَ المصنوع إلى صانعه، والمفعول إلى فاعله؛ فالعلمُ بذاته سبحانه وصفاته وأفعاله يستلزمُ العلمَ بما سواه، فهو في ذاته ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه، والعلمُ به أصلُ كلِّ علم ومنشؤه؛ فمن عرفَ اللهَ عرفَ ما سواه، ومن جهلَ ربَّه فهو لما سواهُ أجهل.
قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، فتأمَّل هذه الآية تجد تحتها معنًى شريفًا عظيمًا: أنَّ من نسيَ ربَّه أنساه ذاتَه
(1)
مهملة في (د، ق). (ت): «وأبنيته» . والإنِّيَّة: اصطلاحٌ فلسفيٌّ قديم، يعني تحقُّق الوجود العَينيِّ من حيث مرتبته الذاتية. «التعريفات» (38)، و «الكليات» (190)، و «المعجم الفلسفي» (1/ 169).
(2)
(ق): «بمعلوله» . (ح): «بالمعلوم» .
ونفسَه، فلم يعرف حقيقتَه ولا مصالحه، بل نسي ما به صلاحُه وفلاحُه في معاشه ومعاده، فصار معطَّلًا مهملًا بمنزلة الأنعام السائمة، بل ربما كانت الأنعامُ أخبَر بمصالحها منه؛ لبقائها على هداها التامِّ الذي أعطاها إياه خالقُها، وأمَّا هذا فخرج عن فطرته التي خُلِقَ عليها، فنسي ربَّه، فأنساه نفسَه وصفاتها، وما تكمُل به وتزكو به وتسعدُ به في معاشها ومعادها.
قال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، فغفَل عن ذكر ربِّه، فانفرط عليه أمرُه وقلبُه، فلا التفات له إلى مصالحه وكماله وما تزكو به نفسُه وقلبُه، بل هو مشتَّتُ القلب مُضيَّعُه، منفرطُ الأمر حيرانُ لا يهتدي سبيلًا
(1)
.
والمقصودُ أنَّ العلمَ بالله أصلُ كلِّ علم، وهو أصلُ علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته، والجهلُ به مستلزمٌ للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به وتفلحُ به، فالعلمُ به سعادةُ العبد، والجهلُ به أصلُ شقاوته.
ويزيده إيضاحًا:
الوجه الثامنُ والسبعون: أنه لا شيء أطيبُ للعبد ولا ألذُّ ولا أهنأُ ولا أنعمُ لقلبه وعيشه من محبة فاطره وباريه، ودوام ذكره، والسعي في مرضاته.
وهذا هو الكمالُ الذي لا كمال للعبد بدونه، وله خُلِقَ الخلق، ولأجله أُنزِل الوحي، وأُرسِلَت الرسل، وقامت السمواتُ والأرض، ووُجِدَت الجنةُ والنار، ولأجله شُرِعَت الشرائع، ووُضِعَ البيتُ الحرام، ووجبَ حجُّه على
(1)
انظر: «الوابل الصيب» (93، 104، 105).