المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوجه الحادي والثمانون: أن فضيلة الشيء تعرف بضده - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الوجه الثاني عشر: أنه سبحانه جعلَ أهلَ الجهل بمنزلة العُميان الذين لا يبصرون

- ‌الوجه الرابع عشر: أنه سبحانه أمرَ بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم

- ‌الوجه الثامن عشر: أنه سبحانه أمرَ نبيَّه أن يسأله مزيدَ العلم

- ‌الوجه التاسع عشر: أنه سبحانه أخبرَ عن رِفْعة درجات أهل العلم والإيمان خاصَّة

- ‌الوجه العشرون: أنه سبحانه استشهَد بأهل العلم والإيمان يومَ القيامة على بطلان قول الكفار

- ‌الوجه الحادي والثلاثون: أنه سبحانه ذمَّ أهلَ الجهل في مواضع كثيرةٍ من كتابه:

- ‌الوجه الثاني والثلاثون: أنَّ العلمَ حياةٌ ونور، والجهلَ موتٌ وظُلمَة

- ‌الوجه التاسع والثلاثون: أنه سبحانه سمَّى الحُجَّة العلميةَ سلطانًا

- ‌الوجه الثاني والخمسون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع كلامَه ووعاه وبلَّغه بالنَّضرة

- ‌الوجه الثالث والخمسون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ بتبليغ العلم عنه

- ‌الوجه الخامس والستون: أنَّ الإنسانَ إنما يُمَيَّزُ على غيره من الحيوانات بفضيلة العلم والبيان

- ‌الوجه السادس والستون: أنَّ العلمَ حاكمٌ على ما سواه، ولا يَحْكُم عليه شيء

- ‌الوجه الثامن والستون: أنَّ صفات الكمال كلَّها ترجعُ إلى العلم والقدرة والإرادة، والإرادةُ فرعُ العلم

- ‌الوجه الحادي والسبعون: أنَّ حاجةَ العباد إلى العلم ضروريَّةٌ فوق حاجة الجسم إلى الغذاء

- ‌الوجه الثاني والسبعون: أنَّ صاحبَ العلم أقلُّ تعبًا وعملًا، وأكثرُ أجرًا

- ‌الوجه الثالث والسبعون: أنَّ العلمَ إمامُ العمل وقائدٌ له، والعملُ تابعٌ له ومؤتمٌّ به

- ‌الوجه الرابع والسبعون: أنَّ العاملَ بلا علمٍ كالسائر بلا دليل

- ‌الوجه التاسع والسبعون: أنَّ اللذَّة بالمحبوب تَضْعُفُ وتقوى بحسب قوَّة الحبِّ وضعفه

- ‌الوجه الحادي والثمانون: أنَّ فضيلةَ الشيء تُعْرَفُ بضدِّه

- ‌الوجه الثالث والثمانون: أنَّ أشرفَ ما في الإنسان محلُّ العلم منه، وهو قلبُه وسمعُه وبصرُه

- ‌الوجه التسعون: أنَّ كلَّ صفةٍ مدحَ الله بها العبدَ في القرآن فهي ثمرةُ العلم ونتيجتُه

- ‌الوجه الثامن والمئة: أنَّ كثيرًا من الأئمة صرَّحوا بأنَّ أفضلَ الأعمال بعد الفرائض طلبُ العلم

- ‌لا شيء أنفعُ للقلب من قراءة القرآن بالتدبُّر والتفكُّر

الفصل: ‌الوجه الحادي والثمانون: أن فضيلة الشيء تعرف بضده

يؤثِّرُ في المعلوم، ولا هو شرطٌ فيه.

فكلٌّ من الطائفتين نظرَت جزئيًّا وحكمَت كليًّا، وهذا موضعٌ يغلطُ فيه كثيرٌ من الناس، وكلا القسمين من العلم صفةُ كمال، وعدمُه من أعظم النقص.

يوضحُه:

‌الوجه الحادي والثمانون: أنَّ فضيلةَ الشيء تُعْرَفُ بضدِّه

.

* فالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَه الضِّدُّ *

(1)

* وبضدِّها تتبيَّنُ الأشياءُ *

(2)

ولا ريب أنَّ الجهلَ أصلُ كلِّ فساد، وكلُّ ضررٍ يلحقُ العبدَ في دنياه وأخراه فهو نتيجةُ الجهل، وإلا فمع العلم التامِّ بأنَّ هذا الطعام ــ مثلًا ــ مسمومٌ مَنْ أكلَه قطَّعَ أمعاءه في وقتٍ معيَّن، لا يُقْدِمُ على أكله، وإن قُدِّرَ أنه أقدمَ عليه لغلبة جوعٍ أو استعجال وفاةٍ فهو لعلمه بموافقة أكله لمقصوده

(1)

عجزُ بيتٍ، صدرُه:

* ضِدَّان لما استجمعا حَسُنَا *

من القصيدة الفائقة المشهورة بـ «اليتيمة» . وفي نسبتها تنازعٌ وخلافٌ كثير، وغَلَبَ عليها شاعران: أبو الشِّيص الخزاعي، وهي في ديوانه (136)، وعلي بن جبلة العكوَّك، وهي في شِعره المجموع (116). ونُشِرَت مفردة.

وانظر: «فهرسة ابن خير» (401)، و «بحوث وتحقيقات» للميمني (1/ 455)، و «القصيدة اليتيمة» للمنجد.

(2)

عجزُ بيتٍ للمتنبي في ديوانه (117). وصدرُه:

* ونَذِيمهم وبهم عرفنا فضله *

ص: 242

الذي هو أحبُّ إليه من العذاب بالجوع أو بغيره.

وهنا اختُلِفَ في مسألةٍ عظيمة؛ وهي أنَّ العلمَ هل يستلزمُ الاهتداء، ولا يتخلَّف عنه الهدى إلا لعدم العلم أو نقصه، وإلا فمع المعرفة الجازمة لا يُتَصَوَّر الضلال؟ أو أنه لا يستلزمُ الهدى، فقد يكونُ الرجلُ عالمًا وهو ضالٌّ على عَمْد؟

هذا مما اختلف فيه المتكلِّمون وأربابُ السلوك وغيرهم.

* فقالت فرقة: من عرفَ الحقَّ معرفةً لا يشُكُّ فيها استحالَ أن لا يهتدي، وحيث ضلَّ فلنقصان علمه.

واحتجُّوا من النصوص بقوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء: 162]، فشهدَ تعالى لكلِّ راسخٍ في العلم بالإيمان، وبقوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وبقوله تعالى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]، وبقوله تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]، وبقوله تعالى:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19]، قسمَ الناس قسمين:

أحدهما: العلماءُ بأن ما أُنزِلَ إليه من ربِّه هو الحق.

الثَّاني: العُمْي.

فدلَّ على أنه لا واسطةَ بينهما.

ص: 243

وبقوله تعالى في وصف الكفار: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، وبقوله:{وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 93]، وبقوله تعالى:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]. وهذه مداركُ العلم الثلاثُ قد سُدَّت عليهم

(1)

.

وكذلك قولُه تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].

وقولُه تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} قال سعيد بن جبير: «على عِلْمِه تعالى فيه»

(2)

. قال الزجاج

(3)

: «أي: على ما سبقَ في علمه تعالى أنه ضالٌّ قبل أن يخلقه» . {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} أي: طبعَ عليه فلم يسمع الهدى، وعلى قلبه فلم يعقل الهدى، و {عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} فهو لا يبصرُ أسبابَ الهدى.

وهذا في القرآن كثير، مما يبيَّنُ فيه منافاةُ الضلال للعلم، ومنه قولُه تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16]، فلو كانوا علموا ما قال الرسولُ صلى الله عليه وسلم لم يسألوا أهلَ العلم ماذا قال، ولما كان مطبوعًا

(1)

(ح، ن): «قد فسدت عليهم» .

(2)

أخرج اللالكائي في «السنة» (1003)، وابن بطة في «الإبانة» (1622 - القدر)، والطبري في «التفسير» (22/ 76)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (1/ 309) نحوه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

(3)

في «معاني القرآن» (4/ 433).

ص: 244

على قلوبهم.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 39]، وقال تعالى:{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 107 - 108]؛ فهذه شهادةٌ من الله تعالى لأولي العلم بالإيمان به وبكلامه.

وقال الله تعالى عن أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]؛ فدلَّ على أنَّ أهل الضلال

(1)

لا سمعَ لهم ولا عقل.

وقال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]؛ أخبر تعالى أنه لا يَعْقِلُ أمثالَه إلا العالِمون، والكفارُ لا يدخلون في مسمَّى العالِمين؛ فهم لا يعقلونها.

وقال الله تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [الروم: 29]، وقال الله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة: 118]، وقال الله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزُّمر: 9]، ولو كان الضلالُ يُجامِعُ العلمَ لكان الذين لا يعلمون أحسنَ حالًا من بعض الذين يعلمون، والنصُّ بخلافه.

والقرآنُ مملوءٌ بسلب العلم والمعرفة عن الكفار؛ فتارةً يصفهم بأنهم لا يعلمون، وتارةً بأنهم لا يعقلون، وتارةً بأنهم لا يشعرون، وتارةً بأنهم لا يفقهون، وتارةً بأنهم لا يسمعون، ــ والمرادُ بالسمع المنفيِّ: سمعُ الفهم،

(1)

(ح، ن): «أصحاب الضلال» .

ص: 245

وهو سمعُ القلب، لا إدراكُ الصوت ــ، وتارةً بأنهم لا يبصرون؛ فدلَّ ذلك كلُّه على أنَّ الكفر مستلزمٌ للجهل، منافٍ للعلم لا يُجامِعه.

ولهذا يصفُ اللهُ سبحانه الكفارَ بأنهم جاهلون؛ كقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، وقوله تعالى:{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]، وقوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا بلغ قومُه من أذاه ذلك المبلغ:«اللهمَّ اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون»

(1)

.

وفي «الصحيحين» عنه: «من يُرِد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين»

(2)

؛ فدلَّ على أنَّ الفقهَ مستلزمٌ لإرادة الله الخيرَ في العبد، ولا يقال: الحديثُ دلَّ على أنَّ من أراد الله به خيرًا فقَّهه في الدين، ولا يدلُّ على أنَّ كلَّ من فقَّهه في الدين فقد أراد به خيرًا، وبينهما فرق، ودليلُكم إنما يتمُّ بالتقدير الثاني، والحديثُ لا يقتضيه= لأنَّا نقول: النبيُّ صلى الله عليه وسلم جعل الفقهَ في الدين دليلًا وعلامةً على إرادة الله بصاحبه خيرًا، والدليلُ يستلزمُ المدلول ولا يتخلَّفُ

(1)

أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (4/ 123)، ويعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (1/ 338)، والطبراني في «الكبير» (6/ 120)، وغيرهم من حديث سهل بن سعد بإسنادٍ حسن.

وصححه ابن حبان (973). وقال الهيثمي في «المجمع» (6/ 117): «ورجاله رجال الصحيح» .

(2)

«البخاري» (71)، و «مسلم» (1037) عن معاوية.

ص: 246

عنه؛ فإنَّ المدلولَ لازمُه، ووجودُ الملزوم بدون لازمه محال

(1)

.

وفي الترمذي وغيره عنه صلى الله عليه وسلم: «خصلتان لا يجتمعان في منافق: حُسْنُ سَمْت، وفقهٌ في الدين»

(2)

؛ فجعلَ الفقه في الدين منافيًا للنفاق.

بل لم يكن السَّلفُ يطلقون اسمَ الفقه إلا على العلم الذي يصحبُه العمل؛ كما سئل سعدُ بن إبراهيم عن أفقه أهل المدينة فقال: أتقاهم

(3)

.

وسأل فرقدُ السَّبَخي الحسنَ البصريَّ عن شيءٍ، فأجابه، فقال: إنَّ الفقهاءَ يخالفونك، فقال الحسن: ثكلتك أمُّك فُرَيْقِد!، وهل رأيتَ بعينيك فقيهًا؟! إنما الفقيهُ الزاهدُ الراغبُ في الآخرة، البصيرُ بدينه، المداومُ على عبادة ربِّه، الذي لا يهمِزُ مَنْ فوقه، ولا يسخرُ ممَّن دونه، ولا يبتغي على علمٍ علَّمه الله تعالى أجرًا

(4)

.

(1)

في طرَّة (ح) في هذا الموضع: «[وقع في] كلامه على الحديث خللٌ أظنُّه من الكاتب؛ [فإنَّ] منطوق الحديث يدل على أن من أراد الله به خيرًا فقَّهه في الدين، ومفهومُه يدل على أن من لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيرًا. ولا يدل الحديث [على] أن كل من فقه في الدين قد أريد به خيرًا. والله أعلم» . خطه.

قلت: كلامُ المصنف ظاهر، ولم يزد كاتبُ الحاشية على أن أعاد الاعتراض الذي أجاب عنه المصنف.

(2)

تقدم تخريجه (ص: 206).

(3)

أخرجه الدارمي (295)، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 169)، وغيرهما.

(4)

أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (30)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (13/ 398)، والدارمي (294)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 147، 6/ 178)، والبيهقي في «المدخل» (504)، والآجري في «أخلاق العلماء» (74)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 341)، وغيرهم.

والسائل في بعض هذه المصادر هو عمران القصير، وفي بعضها: مطر الوراق. وأُبهِمَ في الباقي. ولم أقف عليه من طريق فرقد السبخي.

ص: 247

وقال بعضُ السَّلف: «إنَّ الفقيهَ من لم يُقْنِط الناسَ من رحمة الله، ولم يؤمنهم من مكر الله، ولم يَدَع القرآن رغبةً عنه إلى ما سواه»

(1)

.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «كفى بخشية الله علمًا، وبالاغترار بالله جهلًا»

(2)

.

قالوا: فهذا القرآنُ والسنَّة وإطلاقُ السلف من الصحابة والتابعين يدلُّ على أنَّ العلمَ والمعرفةَ مستلزمٌ للهداية، وأنَّ عدمَ الهداية دليلٌ على الجهل وعدم العلم.

قالوا: ويدلُّ عليه أنَّ الإنسانَ ما دام عقلُه معه لا يُؤْثِرُ هلاكَ نفسه على نجاتها، وعذابها العظيمَ الدائمَ على نعيمها المقيم، والحسُّ شاهدٌ بذلك.

ولهذا وصف اللهُ سبحانه أهل معصيته بالجهل في قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17].

(1)

أخرجه الدارمي (297) عن علي رضي الله عنه موقوفًا بإسنادٍ ضعيف.

وأخرجه ابن عبد البر في «الجامع» (2/ 811) عنه مرفوعًا بإسنادٍ ضعيف، ثم قال:«لا يأتي هذا الحديث مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وأكثرهم يوقفونه على علي رضي الله عنه» . وانظر: «السلسلة الضعيفة» (734).

وللحديث طريقان آخران عند أبي نعيم في «الحلية» (1/ 77)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 338)، وغيرهما.

(2)

تقدم تخريجه (ص: 138).

ص: 248

قال سفيانُ الثوري: «كلُّ من عمل ذنبًا من خلق الله فهو جاهل، سواءٌ كان جاهلًا أو عالمًا؛ إن كان عالمًا فمَنْ أجهلُ منه؟! وإن كان لا يعلم فمثلُ ذلك»

(1)

.

وقولُه: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: قبل الموت

(2)

.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «ذنبُ المؤمن جهلٌ منه»

(3)

.

قال قتادة: «أجمع أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ كلَّ شيءٍ عُصِيَ اللهُ به فهو جهالةٌ»

(4)

.

وقال السُّدِّي: «كلُّ من عصى اللهَ فهو جاهل»

(5)

.

قالوا: ويدلُّ على صحة هذا أنَّ مع كمال العلم لا تصدرُ المعصيةُ من العبد؛ فإنه لو رأى صبيًّا يتطلَّعُ عليه من كُوَّةٍ لم تتحرَّك جوارحُه لمواقعة الفاحشة، فكيف تقعُ منه حالَ كمال علمه بنظر الله إليه، ورؤيته له، وعقابه على الذنب، وتحريمه له، وسوء عاقبته؟! فلا بد من غفلة القلب عن هذا العلم، وغيبته عنه، فحينئذٍ يكونُ وقوعُه في المعصية صادرًا عن جهلٍ وغفلةٍ ونسيانٍ مضادٍّ للعلم.

(1)

ورد مختصرًا عن مجاهد، وعطاء، وابن زيد. انظر: تفسير القرآن من «الجامع» لابن وهب (1/ 18)، و «تفسير الطبري» (8/ 89، 90).

(2)

كذا ورد القول في الأصل دون نسبة. وهو قول جمهور المفسرين. انظر: «الدر المنثور» (2/ 459)، و «مدارج السالكين» (1/ 284)، و «شفاء العليل» (491).

(3)

أخرجه بنحوه الطبري (8/ 90).

(4)

أخرجه عبد الرزاق (1/ 151)، ومن طريقه الطبري (8/ 89).

(5)

أخرجه الطبري (8/ 89).

ص: 249

والذنبُ محفوفٌ بجهلين: جهلٍ بحقيقة الأسباب الصَّارفة عنه، وجهلٍ بحقيقة المفسدة المترتِّبة عليه. وكلُّ واحدٍ من الجهلين تحته جهالاتٌ كثيرة. فما عُصِيَ اللهُ إلا بالجهل، وما أُطِيعَ إلا بالعلم.

فهذا بعضُ ما احتجَّت به هذه الطائفة.

* وقالت الطائفة الأخرى: العلمُ لا يستلزمُ الهداية، وكثيرًا ما يكونُ الضلالُ عن عمدٍ وعلمٍ لا يشُكُّ صاحبُه فيه، بل يُؤثِرُ الضلالَ والكفرَ وهو عالمٌ بقبحه ومفسدته.

قالوا: وهذا شيخُ الضلال، وداعي الكفر، وإمامُ الفجرة، إبليسُ عدوُّ الله، قد علمَ أمرَ الله له بالسجود لآدم ولم يشكَّ فيه، فخالفه وعاندَ الأمرَ وباء بلعنة الله وعذابه الدائم، مع علمه بذلك ومعرفته به، وأقسمَ له بعزَّته أنه يغوي خلقَه أجمعين إلا عبادَه منهم المخلصين؛ فكان غير شاكٍّ في الله وفي وحدانيَّته، وفي البعث الآخر، وفي الجنة والنار، ومع ذلك اختارَ الخلودَ في النار واحتمالَ لعنة الله وغضبه وطرده من سمائه وجنَّته عن علمٍ بذلك ومعرفةٍ لم تحصل لكثيرٍ من الناس، ولهذا قال:{رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36]، وهذا اعترافٌ منه بالبعث وإقرارٌ به، وقد عَلِمَ قَسَمَ ربِّه ليملأنَّ جهنَّم منه ومن أتباعه؛ فكان كفرُه كفرَ عنادٍ محضٍ لا كفرَ جهل.

وقال الله تعالى إخبارًا عن قوم صالح

(1)

: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، يعني: بيَّنَّا لهم وعرَّفناهم، فعرفوا الحقَّ وتيقَّنوه، وآثروا العمى عليه. أفكان كفرُ هؤلاء عن جهل؟!

(1)

ساقطة من (ق). وفي (ت، ح، ن): «ثمود» .

ص: 250

وقال تعالى حاكيًا عن موسى أنه قال لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102] أي: هالكًا، على قراءة فَتْح التاء، وهي قراءةُ الجمهور. وضمَّها الكسائيُّ وحده

(1)

.

وقراءةُ الجمهور أحسنُ وأوضح وأفخمُ معنى، وبها تقومُ الدلالة، ويتمُّ الإلزام، ويتحقَّقُ كفرُ فرعون وعنادُه، ويشهدُ لها قولُه تعالى إخبارًا عنه وعن قومه:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 13 - 14]؛ فأخبر سبحانه أنَّ تكذيبَهم وكفرهم كان عن يقينٍ ــ وهو أقوى العلم ــ ظلمًا منهم وعلوًّا، لا جهلًا.

وقال تعالى لرسوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، يعني: أنهم قد عرفوا صدقَك، وأنك غيرُ كاذبٍ فيما تقول، ولكن عاندوا وجحدوا بالمعرفة. قاله ابن عباس رضي الله عنهما والمفسِّرون

(2)

.

قال قتادة: «يعلمون أنك رسولُ الله ولكن يجحدون»

(3)

، كقوله

(4)

عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} .

(1)

انظر: «التبصرة» لمكِّي (571)، و «النشر» لابن الجزري (2/ 309).

(2)

انظر: «الدر المنثور» (3/ 9، 10).

(3)

أخرجه عبد الرزاق (2/ 207)، ومن طريقه الطبري (11/ 333).

(4)

(ت): «لقوله» .

ص: 251

وقال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 70 - 71] يعني: تكفرون بالقرآن وبمن جاء به، وأنتم تشهدون بصحَّته وأنه الحقُّ، فكفرُكم كفرُ عنادٍ وجحودٍ عن علمٍ وشهود، لا عن جهلٍ وخفاء.

وقال تعالى عن السحرة من اليهود: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ} [البقرة: 102] أي: علموا أنَّ من أخذَ السحرَ وقَبِلَه لا نصيبَ له في الآخرة، ومع هذا العلم والمعرفة فهم يشترونه ويقبلونه ويتعلَّمونه.

وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} ذَكَر هذه المعرفةَ عن أهل الكتاب في القبلة، كما في سورة البقرة، وفي التوحيد، كقوله في الأنعام:{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} ، وفي الكتاب أنه منزَّلٌ من عند الله، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114].

وقال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «هم قريظةُ والنضيرُ ومن دانَ بدينهم، كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا قبل مبعثه مؤمنين به وشهدوا له بالنبوَّة، وإنما كفروا بغيًا وحسدًا»

(1)

.

(1)

أخرجه الطبري (6/ 574) مختصرًا بإسنادٍ ضعيف.

والمشهورُ الثابتُ عن ابن عباس أن الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار، ارتدَّ بعد إسلامه، ثم عاد إلى الإسلام.

أخرجه النسائي (4068)، وصححه ابن حبان (4477)، والحاكم (2/ 142، 4/ 366) ولم يتعقبه الذهبي.

ص: 252

قال الزجاج: «أعلَمَ اللهُ عز وجل أنه لا جهةَ لهدايتهم؛ لأنهم قد استحقُّوا أن يَضِلُّوا بكفرهم؛ لأنهم كفروا بعد البينات»

(1)

.

ومعنى (كيف يهديهم)

(2)

أي: أنه لا يهديهم؛ لأنَّ القومَ عرفوا الحقَّ، وشهدوا به وتيقَّنوه، وكفروا عمدًا، فمن أين تأتيهم الهداية؟! فإنَّ الذي ترتجى هدايتُه من كان ضالًّا ولا يدري أنه ضالٌّ، بل يظنُّ أنه على هدى، فإذا عرفَ الهدى اهتدى، وأما من عرفَ الحقَّ وتيقَّنه وشهدَ به قلبُه ثمَّ اختار الكفرَ والضلال عليه، فكيف يهدي اللهُ مثل هذا؟!

وقال تعالى عن اليهود: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، ثمَّ قال:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة: 89، 90]، قال ابن عباس رضي الله عنهما:«لم يكن كفرُهم شكًّا ولا اشتباهًا، ولكن بغيًا منهم، حيث صارت النبوَّةُ في ولد إسماعيل»

(3)

.

ثمَّ قال بعد ذلك: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ

(1)

«معاني القرآن» (1/ 439).

(2)

كذا في الأصول، ونصُّ الآية:{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا} [آل عمران: 86]، أراد التفسير لا التلاوة، وهو سائغ، وعليه عمل أهل العلم، فلذلك لم أغيِّره.

(3)

«الوسيط» للواحدي (1/ 173). وبمعناه مختصرًا أخرجه الطبري (2/ 334).

ص: 253

نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101]، فلما شبَّههم في فعلهم هذا بمن لا يعلمُ دلَّ على أنهم نبذوه عن علمٍ كفعلِ من لا يعلم، تقولُ إذا خاطبتَ من عصاك عمدًا: كأنك لم تعلم ما فعلتَ، أو: كأنك لم تعلم بنهيي إيَّاك.

ومنه ــ على أحد القولين ــ قولُه تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 82 - 83]، قال السُّدِّي:«يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم»

(1)

. واختاره الزجاج، فقال:«يعرفون أنَّ أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم حقٌّ ثمَّ ينكرون ذلك»

(2)

. وأولُ الآية يشهدُ لهذا القول.

وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 175 - 176].

قالوا: فهل بعد هذه الآية بيان؟! فإنَّ هذا آتاه اللهُ آياته، فانسلخَ منها وآثرَ الضَّلالَ والغيَّ، وقصَّتُه معروفة

(3)

، حتى قيل: إنه كان أوتي الاسمَ الأعظم. ومع هذا فلم ينفعه علمُه وكان من الغاوين، فلو استلزمَ العلمُ والمعرفةُ الهدايةَ لاستلزمه في حقِّ هذا.

(1)

أخرجه الطبري (17/ 272).

(2)

«معاني القرآن» (3/ 216).

(3)

انظر: «تفسير ابن كثير» (4/ 1510)، و «الغوامض والمبهمات» لابن بشكوال (657)، وغيرهما.

ص: 254

وقال الله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، وهذا يدلُّ على أنَّ قولهم:{يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53] إمَّا بَهْتٌ منهم وجحود، وإمَّا نفيٌ لآيات الاقتراح والعَنَت، ولا يجبُ الإتيانُ بها.

وقد وصف سبحانه ثمودَ بأنها كفرت عن علمٍ وبصيرةٍ بالحقِّ؛ ولهذا قال: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59] يعني: بيِّنةً مضيئة، وهذا كقوله تعالى:{وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] أي: مضيئة، وحقيقةُ اللفظ أنها تجعلُ من رآها مبصرًا، فهي توجبُ له البصر، فتبصِّرُه، أي: تجعلُه ذا بصر، فهي موضِّحةٌ مبيِّنة، يقال:«بَصُرَ به» إذا رآه؛ كقوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص: 11]، وقوله:{بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} [طه: 96].

وأمَّا «أبصره» ، فله معنيان:

أحدهما: جَعَله باصرًا بالشيء، أي: ذا بصرٍ به

(1)

؛ كآية النهار وآية ثمود.

والثاني: بمعنى رآه؛ كقولك: أبصرتُ زيدًا، وفي حديث أبي شريح العَدَوي:«أحدِّثُك قولًا قال به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فسمعَتْه أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرَتْه عيناي حين تكلَّم به»

(2)

.

(1)

(ت، د، ق): «جعله باصرا بالشيء إذا بصر به» .

(2)

أخرجه البخاري (104)، ومسلم (1354).

ص: 255

ومنه قولُه تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات: 174 - 175]، قيل: المعنى: أبصِرْهم وما يقضى عليهم من الأسر والقتل والعذاب في الآخرة، فسوف يُبْصِرُونك وما يقضى لك من النصر والتأييد وحسن العاقبة. والمراد: تقريبُ المُبْصَرِ من المخاطَب حتى كأنه نصبَ عينيه ورأي ناظرَيْه.

والمقصودُ أنَّ الآية أوجبت لهم البصيرة، فآثروا الضلالَ والكفرَ عن علمٍ ويقين، ولهذا ــ والله أعلم ــ ذكر قصَّتهم من بين قصص سائر الأمم في سورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ؛ لأنه ذكر فيها انقسامَ النفوس إلى الزكيَّة الراشدة المهتدية، وإلى الفاجرة الضَّالَّة الغاوية، وذكر فيها الأصلين: القَدَر والشرع؛ فقال: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} فهذا قدرُه وقضاؤه، ثمَّ قال:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} فهذا أمرُه ودينُه. وثمودُ هداهم، فاستحبُّوا العمى على الهدى، فذَكَر قصَّتَهم ليبيِّن سوء عاقبة من آثر الفجورَ على التقوى، والتَّدْسِيَة على التزكية، والله أعلم بما أراد.

قالوا: ويكفي في هذا إخبارُه تعالى عن الكفار أنهم يقولون بعد ما عاينوا العذاب، ووَرَدُوا القيامة، ورأوا ما أخبرت به الرسل:{يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 27 - 28]، فأيُّ علمٍ أبينُ من علم من وَرَدَ القيامةَ ورأى ما فيها، وذاق عذابَ الآخرة، ثمَّ لو رُدَّ إلى الدنيا لاختار الضلالَ على الهدى، ولم ينفعه ما قد عاينه ورآه؟! وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ

ص: 256

كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111].

فهل بعد نزول الملائكة عيانًا، وتكليم الموتى لهم، وشهادتهم للرسول بالصِّدق، وحَشْرِ كلِّ شيءٍ في الدنيا عليهم= مِنْ بيانٍ وإيضاحٍ للحقِّ وهدى؟! ومع هذا فلا يؤمنون، ولا ينقادون للحقِّ، ولا يصدِّقون الرسول!

ومن نظر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه، ومع اليهود، عَلِمَ أنهم كانوا جازمين بصدقه صلى الله عليه وسلم، لا يشكُّون أنه صادقٌ في قوله: إنه رسولُ الله، ولكنْ اختاروا الضلال والكفرَ على الإيمان.

قال المِسْوَرُ بن مَخْرمة رضي الله عنه لأبي جهل ــ وكان خالَه ــ: أيْ خال، هل كنتم تتَّهمون محمدًا بالكذب قبل أن يقول مقالتَه التي قالها؟ قال: يا ابن أخي، والله لقد كان محمدٌ فينا وهو شابٌّ يُدعى: الأمين، ما جرَّبنا عليه كذبًا قطُّ، فلمَّا وخَطَه الشيبُ لم يكن ليكذبَ على الله. قال: يا خال فلم لا تتَّبعونه؟! قال: يا ابن أخي، تنازعنا نحن وبنو هاشمٍ الشَّرف؛ فأطعموا وأطعمنا، وسَقوا وسَقَينا، وأجاروا وأجَرنا، فلمَّا تجاثَيْنا على الرُّكَب وكنَّا كفرَسَيْ رهانٍ قالوا: منَّا نبيٌّ. فمتى ندركُ هذه؟!

(1)

.

وهذا أميةُ بن أبي الصَّلت كان ينتظره يومًا بيوم، وعلمُه عنده قبل مبعثه

(1)

لم أقف على الخبر من رواية المِسْوَر، ولا أراه يصحُّ عنه؛ فإن أبا جهل قُتِل يوم بدر، والمِسْوَر وُلِد بعد الهجرة بسنتين، وقيل قبلها، فكيف يسأله؟!

وأصلُ الخبر مشهور، أخرجه ابن إسحاق في «السيرة» (191)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (14/ 91)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 207) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بإسنادٍ منقطع.

ورُوِي من أوجهٍ أخرى.

ص: 257

وقصَّتُه مع أبي سفيان لما سافروا معًا معروفة، وإخباره برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ لما تيقَّنه وعرفَ صدقَه قال:«لا أومنُ بنبيٍّ من غير ثقيفٍ أبدًا»

(1)

.

وهذا هرقلُ تيقَّن أنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولم يشكَّ فيه، وآثر الضلالَ والكفرَ استبقاءً لمُلكه

(2)

.

ولمَّا سأله اليهودُ عن التسع آياتٍ البيِّنات؛ فأخبرهم بها، قبَّلوا يدَه، وقالوا: نشهدُ أنك نبيٌّ. قال: فما يمنعكم أن تتَّبعوني؟ قالوا: إنَّ داود عليه السلام دعا أن لا يزال في ذريَّته نبيٌّ، وإنَّا نخشى إن اتبعناك أن تقتلَنا يهود

(3)

.

فهؤلاء قد تحقَّقوا نبوَّته، وشهدوا له بها، ومع هذا فآثروا الكفرَ

(1)

أخرجها في سياقٍ طويلٍ الطبرانيُّ في «الكبير» (8/ 5)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 116)، وأبو القاسم التيمي في «دلائل النبوة» (226)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (9/ 257) من طرق.

(2)

وخبره مشهور، أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773).

(3)

أخرجه الترمذي (2733، 3144)، والنسائي (4078)، وابن ماجه (3705)، وغيرهم من حديث صفوان بن عسَّال.

وفي إسناده ضعف، وفي متنه نكارة. وقال النسائي في «الكبرى» (3527):«هذا حديثٌ منكر» . وانظر: «تهذيب سنن أبي داود» للمصنف (14/ 86)، و «تفسير ابن كثير» (5/ 2135)، و «البداية والنهاية» (9/ 96).

وصححه جماعة، قال الترمذي:«هذا حديثٌ حسن صحيح» . وقال الحاكم في «المستدرك» (1/ 9): «هذا حديثٌ صحيحٌ لا نعرف له علةً بوجهٍ من الوجوه، ولم يخرجاه» ، ولم يتعقبه الذهبي. وخرَّجه الضياء في «المختارة» (8/ 28). وقال ابن حجر في «التلخيص» (4/ 93):«إسناده قوي» .

ص: 258

والضلال، ولم يصيروا مسلمين بهذه الشهادة.

فقيل: لا يصيرُ الكافرُ مسلمًا بمجرَّد شهادة أنَّ محمدًا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى يشهدَ لله بالوحدانيَّة.

وقيل: يصيرُ بذلك مسلمًا.

وقيل: إن كان كفرُه بتكذيب الرسول ــ كاليهود ــ صار مسلمًا بذلك، وإن كان كفره بالشرك مع ذلك لم يَصِرْ مسلمًا إلا بالشهادة بالتوحيد

(1)

، كالنصارى والمشركين.

وهذه الأقوالُ الثلاثةُ في مذهب الإمام أحمد وغيره

(2)

.

وعلى هذا، فإنما لم يحكم لهؤلاء اليهود الذين شهدوا له بالرسالة بحكم الإسلام؛ لأنَّ مجردَ الإقرار والإخبار بصحَّة رسالته لا يوجبُ الإسلام، إلا أن يلتزمَ طاعتَه ومتابعتَه، وإلا فلو قال: أنا أعلمُ أنه نبيٌّ، ولكنْ لا أتبعُه ولا أدينُ بدينه؛ كان من أكفَر الكفَّار، كحال هؤلاء المذكورين وغيرهم.

وهذا متفقٌ عليه بين الصحابة والتابعينَ وأئمَّة السُّنَّة: أنَّ الإيمانَ لا يكفي فيه قولُ اللسان بمجرَّده، ولا معرفةُ القلب مع ذلك، بل لا بدَّ فيه من عمل القلب، وهو حبُّه لله ورسوله، وانقيادُه لدينه، والتزامُه طاعتَه ومتابعةَ رسوله.

(1)

(ق، ت): «بالشهادة» . (ح، ن): «بالشهادة به» .

(2)

انظر: «العلل» لأحمد (3/ 83 - رواية عبد الله)، وكتاب أهل الملل والردة والزنادقة من «الجامع» للخلال (2/ 372)، و «الروايتين والوجهين» لأبي يعلى (2/ 311)، و «المغني» (12/ 288)، و «شرح الزركشي» (6/ 266)، و «زاد المعاد» (3/ 639).

ص: 259

وهذا خلافُ من زعم أنَّ الإيمانَ هو مجردُ معرفة القلب وإقراره.

وفيما تقدَّم كفايةٌ في إبطال هذه المقالة.

ومن قال: إنَّ الإيمان هو مجردُ اعتقاد صدق الرسول فيما جاء به، وإن لم يلتزم متابعتَه، وعاداه وأبغضه وقاتله؛ لَزِمَه أن يكون هؤلاء كلُّهم مؤمنين.

وهذا إلزامٌ لا محيد عنه، ولهذا اضطرب هؤلاء في الجواب عن ذلك لمَّا وَرَدَ

(1)

عليهم، وأجابوا بما يستحي القائلُ من قوله؛ كقول بعضهم: إنَّ إبليس كان مستهزئًا ولم يكن يقرُّ بوجود الله، ولا بأنَّ الله ربُّه وخالقُه، ولم يكن يعرف ذلك! وكذلك فرعون وقومُه لم يكونوا يعرفون صحَّة نبوَّة موسى، ولا يعتقدون وجودَ الصَّانع

(2)

.

وهذه فضائحُ نعوذُ بالله من الوقوع في أمثالها، ونصرةُ المقالات وتقليدُ أربابها يحمِلُ على أكثر من هذا، ونعوذُ بالله من الخذلان.

قالوا: وقد بيَّن القرآنُ أنَّ الكفر أقسام:

أحدها: كفرٌ صادرٌ عن جهلٍ وضلالٍ وتقليدِ الأسلاف؛ وهو كفرُ أكثر الأتباع والعَوامِّ.

الثاني: كفرُ جحودٍ وعنادٍ وقصدِ مخالفة الحقِّ؛ ككفر من تقدَّم ذكرُه.

وغالبُ ما يقعُ هذا النوعُ فيمن له رياسةٌ علميَّةٌ في قومه من الكفار، أو رياسةٌ سلطانيَّة، أو من له مآكلُ وأموالٌ في قومه؛ فيخافُ هذا على رياسته

(1)

(ح): «أورد» .

(2)

انظر: «الفِصَل» (5/ 75)، و «الصارم المسلول» (967)، و «جامع المسائل» (5/ 247)، و «هذه مفاهيمنا» (104، 107).

ص: 260

وهذا على ماله ومأكله؛ فيُؤثِرُ الكفرَ على الإيمان عمدًا.

الثالث: كفرُ إعراضٍ محض، لا ينظرُ فيما جاء به الرسول، ولا يحبُّه ولا يبغضُه، ولا يواليه ولا يعاديه، بل هو معرضٌ عن متابعَته ومعاداته.

وهذان القسمان أكثرُ المتكلِّمين ينكرونهما، ولا يُثْبِتُون من الكفر إلا الأول، ويجعلون الثاني والثالث كفرًا لدلالته على الأول لا لأنه في ذاته كفر؛ فليس عندهم الكفرُ إلا مجرَّد الجهل.

ومن تأمَّل القرآن والسُّنَّة، وسِيَر الأنبياء في أممهم ودعوتهم لهم وما جرى لهم معهم جزم بخطأ أهل الكلام فيما قالوه، وعلمَ أنَّ عامَّة كفر الأمم عن تيقُّنٍ وعلمٍ ومعرفةٍ بصدق أنبيائهم وصحَّة دعواهم وما جاءوا به.

وهذا القرآنُ مملوءٌ من الإخبار عن المشركين عُبَّاد الأصنام أنهم كانوا يقرُّون بالله وأنه هو وحده ربُّهم وخالقُهم، وأنَّ الأرضَ وما فيها له وحده، وأنه ربُّ السموات السبع وربُّ العرش العظيم، وأنه بيده ملكوتُ كلِّ شيء وهو يجيرُ ولا يجارُ عليه، وأنه هو الذي سخَّر الشمسَ والقمر، وأنزلَ المطر، وأخرجَ النبات.

والقرآنُ منادٍ عليهم بذلك، محتجٌّ بما أقرُّوا به من ذلك على صحَّة ما دعتهم إليه رسله، فكيف يقال: إنَّ القومَ لم يكونوا مُقِرِّين قطُّ بأنَّ لهم ربًّا وخالقًا؟! هذا بهتانٌ عظيم.

فالكفرُ أمرٌ وراء مجرَّد الجهل، بل الكفرُ الأغلظُ هو ما أنكره هؤلاء وزعموا أنه ليس بكفر.

قالوا: والقلبُ عليه واجبان لا يصير مؤمنًا إلا بهما جميعًا:

ص: 261

* واجبُ المعرفة والعلم.

* وواجبُ الحبِّ والانقياد والاستسلام.

فكما لا يكونُ مؤمنًا إذا لم يأت بواجب العلم والاعتقاد، لا يكونُ مؤمنًا إذا لم يأت بواجب الحبِّ والانقياد والاستسلام، بل إذا ترك هذا الواجبَ مع علمه ومعرفته به، كان أعظم كفرًا وأبعدَ عن الإيمان من الكافر جهلًا؛ فإنَّ الجاهلَ إذا عرفَ وعَلِمَ فهو قريبٌ إلى الانقياد والاتباع، وأمَّا المعاندُ فلا دواء فيه؛ قال الله تعالى:{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86].

قالوا: فحبُّ الله ورسوله ــ بل كونُ الله ورسوله أحبَّ إلى العبد مما سواهما ــ لا يكونُ العبدُ مسلمًا إلا به. ولا ريب أنَّ الحبَّ أمرٌ وراء العلم؛ فما كلُّ من عرف الرسولَ أحبَّه، كما تقدَّم.

قالوا: وهذا الحاسدُ يحملُه بغضُ المحسود على معاداته، والسَّعي في أذاه بكلِّ ممكن، مع علمه بفضله وعلمه، وأنه لا شيء فيه يوجبُ عداوتَه إلا محاسنُه وفضائلُه.

ولهذا قيل للحاسد: «عدوُّ النِّعم والمكارم»

(1)

.

فالحاسدُ لم يَحْمِله على معاداة المحسود جهلُه بفضله وكماله، وإنما حمله على ذلك فسادُ قصده وإرادته، كما هي حالُ الرُّسل وورثتهم مع

(1)

انظر: «شعب الإيمان» (12/ 35)، و «المجالسة» للدينوري (658)، و «بهجة المجالس» (1/ 407)، و «التذكرة الحمدونية» (2/ 181).

ص: 262

الرؤساء الذين سلبهم الرسلُ ووارثوهم رياستَهم الباطلة، فعادَوْهُم وصدُّوا النفوسَ عن متابعتهم؛ ظنًّا أنَّ الرياسة تبقى لهم وينفردون بها، وسُنَّةُ الله في هؤلاء أن يسلبهم رياسةَ الدنيا والآخرة، ويُصَغِّرهم في عيون الخلق؛ مقابلةً لهم بنقيض قصدهم، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].

فهذا موردُ احتجاج الفريقين، وموقفُ أقدام الطائفتين، فاجلس أيها المُنْصِفُ منهما مجلسَ الحكومة، وتوخَّ بعلمك وعدلك فَصْلَ هذه الخصومة، فقد أدلى كلٌّ منهما بحججٍ لا تُعارَضُ ولا تُمانَع، وجاء ببيِّناتٍ لا تُرَدُّ ولا تُدافَع، فهل عندك شيءٌ غيرُ هذا يحصلُ به فصلُ الخطاب، وينكشفُ به لطالب الحقِّ وجهُ الصواب، فيرضي الطائفتين، ويزولُ به الاختلافُ من البَيْن؟! وإلا فخلِّ المَطِيَّ وحادِيها، وأعطِ القوسَ باريها.

دَع الهوى لأناسٍ يُعْرَفُونَ به

قد كابدوا الحبَّ حتى لانَ أصْعَبُه

(1)

ومن عرف قَدْرَه، وعرف لذي الفضل فضله، فقد قَرَعَ باب التوفيق، والله الفتاح العليم.

فنقول وبالله التوفيق: كلا الطائفتين

(2)

ما خرجت عن مُوجَب العلم، ولا عدلت عن سَنَن الحقِّ، وإنما الاختلافُ والتباينُ بينهما من عدم التَّوارد على محلٍّ واحد، ومن إطلاق ألفاظٍ مجملة، بتفصيل معانيها يزولُ الاختلاف، ويظهرُ أنَّ كلَّ طائفةٍ موافقةٌ للأخرى على نفس قولها.

(1)

من أبياتٍ لأبي القاسم الكاتب علي بن أفلح العبسي (ت: 532) في ترجمته من «المنتظم» (10/ 82). وفيه: «قد مارسوا» .

(2)

كذا. والجادة: «كلتا الطائفتين» .

ص: 263

وبيانُ هذا: أنَّ المقتضي قسمان:

* مقتضٍ لا يتخلَّفُ عنه مُوجَبُه ومقتضاه

(1)

، بل يستلزمُه استلزامَ العلَّة التامَّة لمعلولها.

* ومقتضٍ غيرُ تامٍّ، بل قد يتخلَّفُ

(2)

عنه مقتضاه؛ لقصوره في نفسه عن التمام

(3)

، أو لفوات شرط اقتضائه، أو قيام مانعٍ منعَ تأثيرَه.

فإن أريدَ بكون العلم مقتضيًا للاهتداء الاقتضاءُ التامُّ

(4)

الذي لا يتخلَّف عنه أثرُه بل يلزمُه الاهتداءُ بالفعل؛ فالصوابُ قولُ الطائفة الثانية، وأنه لا يلزمُ من العلم حصولُ الاهتداء المطلوب.

وإن أريدَ بكونه مُوجِبًا أنه صالحٌ للاهتداء، مقتضٍ له، وقد يتخلَّفُ عنه مقتضاه لقصوره، أو لفوات شرطٍ، أو قيام مانع؛ فالصوابُ قولُ الطائفة الأولى.

وتفصيلُ هذه الجملة: أنَّ العلمَ بكون الشيء سببًا لمصلحة العبد ولذَّته وسروره قد يتخلَّفُ عنه عملُه بمقتضاه، لأسبابٍ عديدة

(5)

:

السببُ الأول: ضعفُ معرفته بذلك.

السببُ الثاني: عدمُ الأهليَّة. وقد تكونُ معرفتُه به تامة، لكن يكونُ

(1)

(ق، ن): «موجبه ومقتضاه لقصوره في نفسه» .

(2)

«بل قد» ليست في (د، ت، ق». (ق): «لا يتخلف» . (ت): «لا يختلف» .

(3)

(ت): «القيام» .

(4)

(ت، ق): «والاقتضاء التام» . وهو خطأ، اشتبهت الهمزة بالواو.

(5)

انظر: «هداية الحيارى» (39، 269).

ص: 264

مشروطًا بزَكاء

(1)

المحلِّ وقبوله للتزكية، فإذا كان المحلُّ غير زكيٍّ ولا قابلٍ للتزكية كان كالأرض الصَّلْدَة التي يخالطُها الماء، فإنه يمتنعُ النباتُ منها؛ لعدم أهليتها وقبولها.

فإذا كان القلبُ قاسيًا حَجَريًّا، لا يقبلُ تزكيةً ولا تُؤثِّرُ فيه النصائح، لم ينتفع بكلِّ علمٍ يعلمُه، كما لا تنبتُ الأرضُ الصلبة ولو أصابها كلُّ مطر، وبُذِرَ فيها كلُّ بَذْر.

كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96 - 97]، وقال تعالى:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111]، وقال تعالى:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]. وهذا في القرآن كثير.

فإذا كان القلبُ قاسيًا غليظًا جافيًا لا يعملُ فيه العلمُ شيئًا، وكذلك إذا كان مريضًا مَهِينًا مائيًّا لا صلابةَ فيه ولا قوةَ ولا عزيمة لم يؤثِّر فيه العلم.

السببُ الثالث: قيامُ مانع؛ وهو إمَّا حسدٌ أو كِبْر، وذلك مانعُ إبليس من الانقياد للأمر، وهو داءُ الأولين والآخرين إلا من عصم الله، وبه تخلَّف الإيمانُ عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صحةَ نبوَّته ومن جرى مجراهم، وهو الذي منع عبد الله بن أبيٍّ من الإيمان، وبه تخلَّفَ الإيمانُ عن أبي جهلٍ وسائر المشركين؛ فإنهم لم يكونوا يرتابون في صدقه

(1)

(ق): «بزكاة» .

ص: 265

وأنَّ الحقَّ معه، ولكنْ حملهم الكِبْرُ والحسدُ على الكفر، وبه تخلَّفَ الإيمانُ عن أميَّة

(1)

وأضرابه ممن كان عنده علمٌ بنبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم.

السببُ الرابع: مانعُ الرياسة والمُلْك، وإن لم يَقُم بصاحبه حسدٌ ولا تكبُّر عن الانقياد للحقِّ، لكن لا يمكنُ أن يجتمع له الانقيادُ ومُلْكُه ورياستُه، فيَضِنُّ بمُلْكِه ورياسته؛ كحال هِرَقل وأضرابه من ملوك الكفار الذين علموا بنبوَّته وصِدْقه، وأقرُّوا بها باطنًا، وأحبُّوا الدخول في دينه، لكن خافوا على مُلْكهم.

وهذا داءُ أرباب المُلْك والولاية والرياسة، وقلَّ من نجا منه إلا من عصم الله، وهو داءُ فرعون وقومه، ولهذا قالوا:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47]؛ أَنِفُوا أن يؤمنوا ويتبعوا موسى وهارون وينقادوا لهما وبنو إسرائيل عبيدٌ لهم.

ولهذا قيل: إنَّ فرعون لما أراد متابعةَ موسى وتصديقَه شاورَ هامان وزيرَه، فقال: بينا أنت إلهٌ تُعْبَدُ تصيرُ عبدًا تعبُد غيرَك!

(2)

؛ فأبى العبوديَّةَ واختار الرياسةَ والإلهيَّة المُحال

(3)

.

السببُ الخامس: مانعُ الشهوة والمال؛ وهو الذي منع كثيرًا من أهل الكتاب من الإيمان، خوفًا من بطلان مآكلهم وأموالهم التي تصيرُ إليهم من

(1)

أمية بن أبي الصلت.

(2)

انظر: «تفسير يحيى بن سلام» (1/ 263)، و «المتفق والمفترق» (1126)، و «تاريخ دمشق» (61/ 64)، و «الدر المنثور» (8/ 410)، و «سراج الملوك» (288).

(3)

(ت): «وإلهية المحال» . ولستُ منها على ثقة.

ص: 266

قومهم

(1)

.

وقد كانت كفارُ قريش يصدُّون الرجلَ عن الإيمان بحسب شهوته، فيدخلونَ عليه منها؛ فكانوا يقولون لمن يحبُّ الزِّنا والفواحش: إنَّ محمدًا يحرِّم الزِّنا، ويحرِّم الخمر؛ وبه صدُّوا الأعشى الشاعر عن الإسلام

(2)

.

وقد فاوضتُ غير واحدٍ من أهل الكتاب في الإسلام وصحَّته، فكان آخر ما كلَّمني به أحدهم: أنا لا أتركُ الخمر، وأشربُها آمنًا

(3)

، فإذا أسلمتُ حُلْتُم بيني وبينها وجلدتموني على شربها.

وقال آخر منهم ــ بعد أن عرف ما قلتُ له ــ: لي أقاربُ أربابُ أموالٍ وإني إن أسلمتُ لم يَصِل إليَّ منها شيء، وأنا أؤمِّلُ أن أرِثَهم. أو كما قال

(4)

.

ولا ريب أنَّ هذا القَدْرَ في نفوس خلقٍ كثيرٍ من الكفار، فتتفقُ قوةُ داعي الشهوة والمال، وضعفُ داعي الإيمان، فيجيبُ داعي الشهوة والمال،

(1)

انظر: «هداية الحيارى» (27، 38، 39).

(2)

أورد القصة ابنُ هشام في «السيرة» (1/ 397) ضمن الأحداث التي وقعت بمكة قبل الهجرة، فتعقَّبه السُّهيلي في «الروض الأنف» (3/ 378)، وابنُ كثير في «البداية والنهاية» (4/ 254) بأن تحريم الخمر إنما كان بالمدينة. فالظاهرُ أن قدوم الأعشى كان بعد الهجرة، وفي قصيدته التي مدح فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على ذلك. وانظر تعليق د. محمد محمد حسين في تحقيقه لديوانه (134)، ومقال «قصيدة الأعشى في مدح الرسول الكريم وأخبارها» لياسين يوسف عايش في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني (56/ 23/73)، ومقال «وفادة الأعشى على الرسول أهي صحيحة» لعبد العزيز المانع في مجلة معهد المخطوطات (28/ 1/241).

(3)

كذا في الأصول. أي: أشربها الآن وأنا آمنٌ من العقوبة.

(4)

انظر: «أحكام أهل الذمة» (855).

ص: 267

ويقول: لا أرغبُ بنفسي عن آبائي وسلفي.

السببُ السادس: محبةُ الأهل والأقارب والعشيرة؛ يرى أنه إذا اتبعَ الحقَّ وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم وأخرجوه من بين أظهرهم. وهذا سببُ بقاء خلقٍ كثيرٍ على الكفر بين قومهم وأهاليهم وعشائرهم.

السببُ السابع: محبةُ الدار والوطن، وإن لم يكن له بها عشيرةٌ ولا أقارب، لكن يرى أنَّ في متابعة الرسول خروجَه عن داره ووطنه إلى دار الغُربة والنَّوى، فيَضِنُّ بوطنه وداره.

السببُ الثامن: تخيُّله أنَّ في الإسلام ومتابعة الرسول إزراءً وطعنًا منه على آبائه وأجداده وذمًّا لهم، وهذا هو الذي منعَ أبا طالبٍ وأمثاله عن الإسلام؛ استعظموا آباءهم وأجدادَهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال وأن يختاروا خلافَ ما اختار أولئك لأنفسهم، ورأوا أنهم إن أسلموا سفَّهوا أحلامَ أولئك، وضلَّلوا عقولهم، ورموهم بأقبح القبائح وهو الكفر والشرك.

ولهذا قال أعداء الله لأبي طالبٍ عند الموت: أترغبُ عن ملَّة عبد المطلب؟! فكان آخرَ ما كلَّمهم به: «هو على ملَّة عبد المطَّلب»

(1)

. فلم يَدْعُه

(2)

أعداءُ الله إلا من هذا الباب؛ لعلمهم بتعظيمه أباه عبد المطلب، وأنه إنما حاز الفخرَ والشَّرف به، فكيف يأتي أمرًا يلزمُ منه غايةُ تنقيصه وذمِّه؟!

ولهذا قال: «لولا أن تكونَ سُبَّةً على بني عبد المطلب لأقررتُ بها عينَك»

(3)

، أو كما قال.

(1)

أخرجه البخاري (1360)، ومسلم (24).

(2)

الضبط من (د، ق). وفي (ت): «تدعه» .

(3)

أخرجه مسلم (25).

ص: 268

وهذا شِعرُه يصرِّحُ فيه بأنه قد علمَ وتحقَّق نبوَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وصِدْقَه؛ كقوله:

ولقد علمتُ بأنَّ دينَ محمدٍ

من خَيْرِ أديان البريَّة دِينا

لولا الملامةُ أو حِذارُ مَسَبَّةٍ

لوجدتني سَمْحًا بذاك مُبِينا

(1)

وفي قصيدته اللاميَّة

(2)

:

فواللهِ لولا أن تكونَ مَسَبَّةٌ

تُجَرُّ على أشياخِنا في المَحافلِ

لكنَّا اتَّبعناهُ على كلِّ حالةٍ

من الدَّهر جِدًّا غير قولِ التَّهازُلِ

لقد عَلِمُوا أنَّ ابننَا لا مُكَذَّبٌ

لدينا ولا يُعْنى بقولِ الأباطِل

والمَسبَّةُ التي زعم أنها تُجَرُّ على أشياخه شهادتُه عليهم بالكفر والضلال وتسفيه الأحلام وتضليل العقول؛ فهذا هو الذي منعه من الإسلام بعد تيقُّنه.

السببُ التاسع: متابعةُ من يعاديه من الناس للرسول، وسبقُه إلى الدخول في دينه، وتخصُّصه

(3)

وقربُه منه.

(1)

«ديوان أبي طالب» صنعة أبي هفان وعلي بن حمزة (87، 189)، و «سيرة ابن إسحاق» (136)، و «خزانة الأدب» (3/ 296)، وغيرها.

(2)

«ديوان أبي طالب» (84، 198). وهي قصيدةٌ باذخةٌ نبيلة، إلا أنَّ الناس زادوا فيها، وبعض أهل العلم بالشعر ينكرُ أكثرها. انظر:«السيرة» لابن هشام (1/ 283)، و «طبقات فحول الشعراء» (244)، و «شرح نهج البلاغة» (14/ 78)، و «البداية والنهاية» (4/ 142).

(3)

(ح): «وتخصيصه» .

ص: 269

وهذا القَدْرُ منع خلقًا كثيرًا من اتباع الهدى؛ يكونُ للرجل عدوٌّ يُبْغِضُ مكانَه، ولا يحبُّ أرضًا يمشي عليها، ويقصدُ مخالفتَه ومناقضتَه، فيراه قد اتبعَ الحقَّ، فيحملُه قصدُ مناقضته ومعاداته على معاداة الحقِّ وأهله، وإن كان لا عداوةَ بينه وبينهم.

وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار؛ فإنهم كانوا أعداءهم، وكانوا يتواعدونهم

(1)

بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم يتَّبعونه ويقاتلونهم معه

(2)

، فلمَّا بَدَرَهم إليه الأنصارُ وأسلموا حملهم معاداتُهم على البقاء على كفرهم ويهوديَّتهم.

السببُ العاشر: مانعُ الإلْفِ والعادة والمنشأ؛ فإنَّ العادةَ قد تقوى حتى تغلبَ حكمَ الطبيعة، ولهذا قيل:«هي طبيعةٌ ثانية»

(3)

؛ فيُربَّى الرجلُ على المقالة ويُنشَّأُ عليها صغيرًا، فيتربَّى قلبُه ونفسُه عليها كما يتربَّى لحمُه وعظمُه على الغذاء المعتاد، ولا يعقلُ نفسَه إلا عليها، ثمَّ يأتيه العلمُ وهلةً واحدةً يريدُ إزالتها وإخراجَها من قلبه وأن يسكنَ موضعَها، فيعسرُ عليه الانتقال، ويصعبُ عليه الزوال.

وهذا السببُ وإن كان أضعفَ الأسباب منعًا

(4)

فهو أغلبُها على الأمم وأرباب المقالات والنِّحل، ليس مع أكثرهم ــ بل جميعهم، إلا ما عسى أن

(1)

(ح): «يتوعدونهم» . وسيأتي التعليق على استعمال «تواعد» بمعنى «توعَّد» .

(2)

انظر: «تفسير الطبري» (2/ 332 - 337).

(3)

من مقالات الحكماء. وتُنْسَبُ لبقراط. انظر: «عيون الأخبار» (3/ 157)، و «الهوامل والشوامل» (171)، و «العقد» (6/ 313).

(4)

(ق، ن): «معنا» . تحريف.

ص: 270

يشذَّ ــ إلا عادةً ومَرْبًى تربَّى عليها طفلًا، لا يعرفُ غيرها ولا يحِسُّ به؛ فدينُ العوائد هو الغالبُ على أكثر الناس، فالانتقالُ عنه كالانتقال عن الطبيعة إلى طبيعةٍ ثانية.

فصلواتُ الله وسلامه على أنبيائه ورسله، خصوصًا على خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ كيف غيَّروا عوائد الأمم الباطلة، ونقلوهم إلى الإيمان، حتى استحدثوا به طبيعةً ثانيةً خرجوا بها عن عادتهم وطبيعتهم الفاسدة. ولا يعلمُ مشقَّة هذا على النفوس إلا من زاولَ نقلَ رجلٍ واحدٍ عن دينه ومقالته إلى الحقِّ؛ فجزى الله المرسلين أفضلَ ما جازى به أحدًا من العالمين.

إذا عُرِفَ أنَّ المقتضي نوعان؛ فالهدى المقتضي وحده لا يوجبُ الاهتداء، والهدى التامُّ يوجبُ الاهتداء.

فالأول: هدى البيان والدلالة والتعليم، ولهذا يقال: هُدِيَ فما اهتدى.

والثاني: هدى البيان والدَّلالة، مع إعطاء التوفيق، وخَلْق الإرادة؛ فهذا الهدى الذي يستلزمُ الاهتداء، ولا يتخلَّفُ عنه مُوجَبه، فمتى وُجِدَ السببُ وانتفت الموانعُ لزمَ وجودُ حكمه.

وهاهنا دقيقةٌ بها ينفصلُ النزاع؛ وهو أنه: هل ينعطفُ من قيام المانع وعدم الشرط على المقتضي أمرٌ يُضْعِفه في نفسه ويسلبه اقتضاءَه وقوَّته، أو اقتضاؤه بحاله وإنما غَلَبَ المانعُ فكان التأثيرُ له؟

ومثالُ ذلك في مسألتنا: أنه بوجود هذه الموانع المذكورة أو بعضها، هل يَضْعُفُ العلمُ أو يُعْدَمُ حتى لا يصير مؤثِّرًا البتة، أو العلمُ بحاله ولكنَّ المانعَ بقوَّته غَلَبَ فكان الحكمُ له؟

ص: 271

هذا سرُّ المسألة وفقهُها.

فأمَّا الأولُ فلا شكَّ فيه، ولكنَّ الشأنَ في القسم الثاني ــ وهو بقاءُ العلم بحاله ــ، والتحقيقُ أنَّ الموانعَ تحجبُه وتُعَمِّيه، وربما قلبت حقيقتَه من القلب.

والقرآنُ قد دلَّ على هذا؛ قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5]؛ فعاقبهم سبحانه بإزاغة قلوبهم عن الحقِّ لمَّا زاغوا عنه ابتداءً.

ونظيرُه قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110].

ولهذا قيل: «من عُرِضَ عليه حقٌّ فردَّه ولم يقبله عُوقِبَ بفساد قلبه وعقله ورأيه» .

ومن هنا قيل: «لا رأيَ لصاحب هوى»

(1)

؛ فإنَّ هواه يحملُه على ردِّ الحقِّ، فيُفْسِدُ اللهُ عليه رأيَه وعقلَه.

وقال الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]؛ أخبَر سبحانه أنَّ كفرهم بالحقِّ بعد أن علموه كان سببًا لطبع الله على قلوبهم حتى صارت غُلْفًا، والغُلْفُ: جمعُ أغلَف، وهو القلبُ الذي قد غَشِيَه غِلاف،

(1)

انظر: «الفاضل» للمبرد (123).

ص: 272

كالسَّيف الذي في غِلافه، وكلُّ شيءٍ في غِلافٍ فهو أغلف، وجمعه غُلْف، يقال: سيفٌ أغلف، وقوسٌ غَلْفاء، ورجلٌ أغلَف وأقلَف: إذا لم يختتن. والمعنى: قلوبنا عليها غشاوةٌ وغطاء، فلا تفقه ما تقولُ يا محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ. ولم يصنع شيئًا من قال:«إنَّ المعنى أنها غُلُفٌ للعلم والحكمة، أي: أوعيةٌ لها، فلا نحتاجُ إلى قولك ولا نقبله، استغناءً بما عندهم»

(1)

؛ لوجوه

(2)

:

أحدها: أنَّ {غُلْفٌ} جمعُ أغلف، كقُلْف وأقلَف، وحُمْر وأحمَر، وجُرْد وأجرَد، وغُلْب وأغلَب، ونظائره. والأغلفُ من القلوب هو الداخلُ في الغلاف. هذا هو المعروف من اللغة.

الثاني: أنه ليس من الاستعمال السائغ المشهور أن يقال: «قلبُ فلانٍ غلافٌ لكذا» ، وهذا لا يكادُ يوجدُ في شيءٍ من نثر كلامهم ولا نظمه، ولا نظيرَ له في القرآن فيُحْمَلُ عليه، ولا هو من التشبيه البديع المُسْتَحْسَن؛ فلا يجوزُ حملُ الآية عليه.

الثالث: أنَّ نظيرَ قول هؤلاء قولُ الآخرين من الكفار: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5]، والأكنَّةُ هنا: هي الغُلُفُ التي قلوبُ هؤلاء فيها، والأكنَّةُ كالأوعية والأغطية التي تغطِّي المتاع، ومنه «الكِنانة» لغلاف السِّهام.

(1)

رُوِي هذا عن ابن عباس من وجهٍ لا يثبت، وعن عطية العوفي. انظر:«تفسير الطبري» (2/ 373).

(2)

انظر: «شفاء العليل» (295 - 296).

ص: 273

الرابع: أنَّ سياقَ الآية لا يَحْسُنُ مع المعنى الذي ذكروه، ولا يَحْسُنُ مقابلتُه بقوله:{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} ، وإنما يَحْسُنُ مع هذا المعنى أن يُسْلَبَ عنهم العلمُ والحكمةُ التي ادَّعوها؛ كما قيل لهم لمَّا ادَّعوا ذلك:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، وأما هنا فلمَّا ادَّعوا أنَّ قلوبهم في أغطيةٍ وأغشيةٍ لا تفقهُ قولَه، قوبلوا بأنْ عرَّفهم أنَّ كفرهم ونقضَهم ميثاقَهم وقتلَهم الأنبياء كان سببًا لأنْ طُبِعَ على قلوبهم.

ولا ريب أنَّ القلبَ إذا طُبِعَ عليه أظلمت صورةُ العلم فيه وانطمست، وربَّما ذهب أثرُها، حتى يصيرَ السببُ الذي يهتدي به المهتدون سببًا لضلال هذا؛ كما قال تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 26 - 27]؛ فأخبر تعالى أنَّ القرآنَ سببٌ لضلال هذا الصِّنف من الناس، وهو هُداه الذي هدى به رسولَه وعبادَه المؤمنين. ولهذا أخبر سبحانه أنه إنما يهدي به من اتبعَ رضوانَ الله

(1)

.

وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124 - 125].

(1)

كما في سورة المائدة، الآية:16.

ص: 274

ولا شيء أعظمُ فسادًا لمحلِّ العلم من صَيْرورته بحيث يَضِلُّ بما يُهتدى به، فنسبتُه إلى الهدى والعلم نسبةُ الفَمِ الذي قد استحكَمت فيه المرارةُ إلى الماء العَذْب؛ كما قيل:

ومن يكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مريضٍ

يَجِدْ مُرًّا به الماءَ الزُّلالا

(1)

فإذا فسد القلبُ فسد إدراكُه، وإذا فسد الفمُ فسد إدراكُه، وكذلك إذا فسدت العَيْن.

وأهلُ المعرفة من الصَّيارفة يقولون: «إنَّ من خانَ في نَقْده نَسِيَ النَّقْدَ وسُلِبَه، فاشتبه عليه الخالصُ بالزَّغَل»

(2)

.

ومن كلام بعض السَّلف: «العلمُ يَهْتِفُ بالعمل، فإن أجابه حَلَّ وإلا ارتحل»

(3)

.

وقال بعضُ السلف: «كنَّا نستعينُ على حفظ العلم بالعمل به»

(4)

.

فتركُ العمل بالعلم من أقوى الأسباب في ذهابه ونسيانه.

وأيضًا؛ فإنَّ العلمَ يرادُ للعمل؛ فإنه بمنزلة الدليل للسَّائر، فإذا لم يَسِرْ

(1)

البيت للمتنبي في ديوانه (130).

(2)

انظر: «روضة المحبين» (531).

(3)

أخرجه الخطيب في «اقتضاء العلم العمل» (40، 41) عن علي رضي الله عنه، ومحمد بن المنكدر.

(4)

أخرجه أبو زرعة الدمشقي في «التاريخ» (1/ 311)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 421، 459)، والخطيب في «الجامع» (2/ 388)، و «اقتضاء العلم العمل» (149)، وغيرهم عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع الأنصاري.

ص: 275

خلفَ الدليل لم ينتفع بدلالته، فنزِّل منزلةَ من لم يعلم شيئًا؛ لأنَّ من علمَ ولم يعمل بمنزلة الجاهل الذي لا يعلم، كما أنَّ من ملك ذهبًا وفضَّةً وجاعَ وعَرِيَ ولم يَشْتَرِ منها ما يأكلُ ويلبسُ فهو بمنزلة الفقير العادِم؛ كما قيل:

ومن تركَ الإنفاقَ عند احتياجِه

مخافةَ فَقْرٍ فالذي فَعَلَ الفقرُ

(1)

والعربُ تسمِّي الفُحْشَ والبَذاءَ: جَهْلًا؛ إما لكونه ثمرة الجهل فيسمَّى باسم سببه ومُوجِبه، وإما لأنَّ الجهلَ يقال في جانب العلم والعمل؛ قال الشاعر

(2)

:

ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا

فَنَجْهَلَ فوق جهلِ الجاهلينا

ومن هذا قولُ موسى لقومه وقد قالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} : {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]؛ فجعلَ الاستهزاءَ بالمؤمنين جهلًا.

ومنه قولُه تعالى حكايةً عن يوسف أنه قال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33].

ومن هذا قولُه تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، ليس المرادُ به إعراضَه عمَّن لا علم عنده فلا يعلِّمه ولا يرشدُه، وإنما المرادُ إعراضُه عن جهل من جَهِلَ عليه منهم فلا يقابلُه ولا يعاتبُه.

(1)

لم أجده. وهو محوَّرٌ عن بيت المتنبي المشهور:

ومن يُنْفِقُ الساعاتِ في جمع ماله

مخافةَ فقرٍ، فالذي فعل الفقرُ

(2)

عمرو بن كلثوم، في «ديوانه» (330)، من معلَّقته. وهذا البيتُ آخِرُها في رواية أكثر الناس. انظر:«شرح القصائد السبع الطوال» لابن الأنباري (426).

ص: 276

قال مقاتل وعروة والضَّحاك وغيرهم: «صُنْ نفسَك عن مقابلتهم على سَفَهِهم»

(1)

.

وهذا كثيرٌ في كلامهم.

ومنه الحديث: «إذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يَصْخَب ولا يَجْهَل»

(2)

.

ومن هذا تسميةُ المعصية: جهلًا؛ قال قتادة: «أجمع أصحابُ محمَّد صلى الله عليه وسلم أنَّ كلَّ من عصى اللهَ فهو جاهل»

(3)

، وليس المرادُ أنه جاهلٌ بالتحريم؛ إذ لو كان جاهلًا به لم يكن عاصيًا، ولا يترتَّبُ الحدُّ في الدنيا والعقوبةُ في الآخرة على جاهلٍ بالتحريم، بل نفسُ الذنب يسمَّى جهلًا وإنْ علمَ مرتكبُه بتحريمه؛ إما لأنه لا يصدرُ إلا عن ضعف العلم ونقصانه، وذلك جهلٌ؛ فسمِّي باسم سببه، وإما تنزيلًا لفاعله منزلة الجاهل به.

الثاني

(4)

: أنهم لمَّا ردُّوا الحقَّ ورغبوا عنه عُوقِبوا بالطَّبع والرَّيْن وسَلْب العقل والفهم؛ كما قال تعالى عن المنافقين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3].

الثالث: أنَّ العلمَ الذي يُنتَفعُ به ويستلزمُ النجاةَ والفلاحَ لم يكن حاصلًا

(1)

وهذا أولى من تفسير «الجاهلين» بالمشركين، ثم دعوى أن الآية منسوخةٌ بآية السيف. انظر:«نواسخ القرآن» لمكِّي (253)، ولابن الجوزي (406).

(2)

أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

تقدم تخريجه (ص: 249).

(4)

هذا استئنافٌ لذكر الأدلة على أن الموانع تحجبُ العلم وتُعَمِّيه. وقد ابتدأها المصنف (ص: 272).

ص: 277

لهم، فسَلَبَ عنهم حقيقتَه، والشيءُ قد ينتفي لنفي ثمرته والمراد منه؛ قال تعالى في ساكن النار:{فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [طه: 74]، نفى الحياة لانتفاء فائدتها والمراد منها. ويقولون:«لا مال إلا ما أُنفِق، ولا علمَ إلا ما نَفَع»

(1)

.

ولهذا نفى سبحانه عن الكفار الأسماعَ والأبصارَ والعقولَ لما لم ينتفعوا بها؛ قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف: 26]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].

ولمَّا لم يحصل لهم الهدى المطلوبُ بهذه الحواسِّ كانوا بمنزلة فاقديها؛ قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171].

فالقلبُ يوصفُ بالبصر والعمى، والسَّمع والصَّمَم، والنطق والبَكَم، بل هذه له أصلًا وللعَيْن والأذن واللسان تبعًا، فإذا عَدِمَها القلبُ

(2)

فصاحبُه أعمى مفتوحُ العين، أصمُّ ولا آفة بأذنه، أبكمُ وإن كان فصيحَ اللسان؛ قال الله تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. فلا تنافي بين قيام الحجَّة بالعلم، وبين سلبه ونفيه بالطَّبع

(3)

والخَتْم والقَفْل على قلوب من لم يعمل بمُوجَب الحجَّة وينقاد لها.

(1)

انظر: «المستصفى» (2/ 32).

(2)

(ح): «فقدها القلب» .

(3)

(د، ت، ح، ن): «والطبع» .

ص: 278

قال الله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 45 - 46]؛ فأخبَر سبحانه بأنه مَنَعهم فقهَ كلامه، وهو الإدراكُ الذي ينتفعُ به من فَقِهَه، ولم يكن ذلك مانعًا لهم من الإدراك الذي تقومُ به الحجَّةُ عليهم؛ فإنهم لو لم يفهموه جملةً ما وَلَّوا على أدبارهم نفورًا عند ذكر توحيد الله، فلما ولَّوا عند ذكر التوحيد دلَّ على أنهم كانوا يفهمون الخطاب، وأنَّ الذي غَشِيَ قلوبَهم كالذي غَشِيَ آذانَهم.

ومعلومٌ أنهم لم يَعْدَموا السمعَ جملةً ويصيروا كالأصمِّ، ولذلك ينفي سبحانه عنهم السمع تارةً، ويثبتُه أخرى:

قال الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، ومعلومٌ أنهم قد سمعوا القرآن، وأُمِرَ الرسولُ بإسماعهم إيَّاه. وقال تعالى:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]؛ فهذا السمعُ المنفيُّ عنهم سمعُ الفهم والفقه، والمعنى: ولو علم اللهُ فيهم خيرًا لأسمعهم سمعًا ينتفعون به، وهو فقهُ المعنى وعَقْلُه، وإلا فقد سمعوه سمعًا تقومُ به عليهم الحجَّة، ولكن لمَّا سمعوه مع شدَّة بغضه وكراهته ونُفْرتهم عنه لم يفهموه ولم يعقلوه.

والرجلُ إذا اشتدَّت كراهتُه للكلام ونُفْرته عنه لم يفهم ما يرادُ به، فيُنَزَّلُ منزلة من لم يسمعه، قال الله تعالى:{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، نفى عنهم استطاعةَ السمع مع صحَّة حواسِّهم

ص: 279

وسلامتها، وإنما لفَرْطِ بُغْضِهم ونُفْرتهم عنه وعن كلامه صاروا بمنزلة من لا يستطيعُ أن يسمعه ولا يراه، وهذا استعمالٌ معروفٌ للخاصَّة والعامَّة، يقولون:«لا أطيقُ أنظرُ إلى فلان، ولا أستطيعُ أسمعُ كلامَه» مِنْ بُغْضِه ونُفْرته عنه.

وبعضُ الجبريَّة يحتجُّ بهذه الآية وشِبْهها على مذهبهم، ولا دلالة فيها؛ إذ ليس المرادُ سَلْبَهم السمعَ والبصرَ الذي تقومُ به الحجَّةُ قطعًا، وإنما المرادُ سلبُ السمع الذي يترتبُ عليه فائدتُه وثمرتُه. والقَدَرُ حقٌّ، ولكنَّ الواجبَ تنزيلُ القرآن منازلَه، ووضعُ الآيات مواضعَها

(1)

، واتباعُ الحقِّ حيث كان.

ومثلُ هذا إذا لم يحصل له فهمُ الخطاب لا يُعْذَرُ بذلك؛ فإنَّ الآفةَ منه، وهو بمنزلة من سَدَّ أذنيه عند

(2)

الخطاب فلم يسمَعه، فلا يكونُ ذلك عذرًا له.

ومن هذا قولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصِّلت: 5]، يعنون أنهم في ترك القبول منه ومحبة الاستماع لما جاء به، وإيثار الإعراض عنه، وشدَّة النِّفار عنه، بمنزلة من لا يعقلُه ولا يسمعُه، ولا يُبْصِرُ المخاطِبَ لهم به؛ فهذا هو الذي يقولون لأجله في النار:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، ولهذا جَعَل ذلك مقدورًا لهم وذنبًا اكتسبوه، فقال تعالى:{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11].

(1)

(ت، د، ح، ن): «على مواضعها» .

(2)

(ح): «عن» .

ص: 280

والله تعالى تارةً ينفي عن هؤلاء العقلَ والسمعَ والبصر ــ فإنها مداركُ العلم وأسبابُ حصوله ــ، وتارةً ينفي عنهم السمعَ والعقل، وتارةً ينفي عنهم السمعَ والبصر، وتارةً ينفي عنهم العقلَ والبصر، وتارةً ينفي عنهم العقلَ وحده، وتارةً ينفي عنهم السمعَ وحده

(1)

.

فنفيُ الثلاثة نفيٌ لمدارك العلم بطريق المطابقة، ونفيُ بعضها نفيٌ له بالمطابقة وللآخر باللُّزوم؛ فإنَّ القلبَ إذا فسدَ فسدَ السمعُ والبصر، بل أصلُ فسادهما مِنْ فساده، وإذا فسدَ السمعُ والبصرُ فسدَ القلب، فإذا أعرض عن سَمْع الحقِّ وأبغض قائلَه بحيث لا يحبُّ رؤيتَه امتنع وصولُ الهدى إلى القلب، ففسَد، وإذا فسدَ السمعُ والعقلُ تبعهما فسادُ البصر، فكلُّ مُدْرَكٍ

(2)

من هذه يصحُّ بصحَّة الآخر، ويفسدُ بفساده؛ فلهذا يجيء في القرآن نفيُ ذلك صريحًا ولزومًا.

وبهذا التفصيل يُعْلَمُ اتفاقُ الأدلَّة من الجانبين.

وفي استدلال الطائفة الثانية بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} ونظائرها نظر؛ فإنَّ الله تعالى حيث قال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} لم يكونوا إلا ممدوحين مؤمنين، وإذا أرادَ ذمَّهم والإخبارَ عنهم بالعناد وإيثار الضلال أتى بلفظ:{الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} مبنيًّا للمفعول

(3)

.

* فالأول، كقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)

(1)

اضطربت الأصول في ذكر التارات، والمثبت من (د).

(2)

بضمِّ الميم. انظر تحرير ذلك في «المصباح المنير» (درك).

(3)

(ح): «للمجهول» . وانظر لهذا المعنى: «بدائع الفوائد» (725).

ص: 281

وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} الآيات [القصص: 52 - 54].

وكقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114]، فهذا في سياق مدحهم والاستشهاد بهم، ليس في سياق ذمِّهم والإخبار بعنادهم وجحودهم، كما استشهَد بهم

(1)

في قوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]، وفي قوله:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 121].

واختُلِفَ في الضمير في قوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} : فقيل: هو ضميرٌ للكتاب

(2)

الذي أُوتُوه.

قال ابن مسعود

(3)

: «يُحِلُّونَ حلالَه، ويحرِّمونَ حرامَه، ويقرؤونه كما أُنزِل، ولا يحرِّفونه عن مواضعه»

(4)

.

(1)

(ح): «استشهدهم» .

(2)

(ت، ن): «ضمير الكتاب» .

(3)

(ت): «ابن عباس» . وأخرجه عنه الطبري (2/ 566)، وصححه الحاكم (2/ 266) ولم يتعقبه الذهبي.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (1/ 56)، ومن طريقه الطبري (2/ 567).

ص: 282

قالوا: ونزلت في مؤمني أهل الكتاب.

وقيل: هذا وصفٌ للمسلمين، والضميرُ في {يَتْلُونَهُ} للكتاب الذي هو القرآن

(1)

.

وهذا بعيد؛ إذ عُرْفُ القرآن يأباه.

ولا يَرِدُ على ما ذكرنا قولُه تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، بل هذا حجَّةٌ لنا أيضًا، لِمَا ذكرنا، فإنه أخبر في الأول عن معرفتهم برسوله صلى الله عليه وسلم ودينه وقبلته كما يعرفون أبناءهم، استشهادًا بهم على من كفر، وثناءً عليهم، ولهذا ذكر المفسِّرون أنهم عبد الله بن سلام وأصحابُه

(2)

، وخَصَّ في آخر الآية بالذَّمِّ طائفةً منهم؛ فدلَّ على أنَّ الأولين غيرُ مذمومين، وكونُهم دخلوا في جملة الأولين بلفظِ المضمَر لا يوجبُ أن يقال:{آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} عند الإطلاق، فإنهم دخلوا في هذا اللفظ ضِمْنًا وتبعًا، فلا يلزمُ تناولُه لهم قصدًا واختيارًا.

وقال تعالى في سورة الأنعام: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} .

قيل

(3)

: الرسولُ وصِدْقُه.

(1)

أخرجه الطبري (2/ 564) عن قتادة.

(2)

انظر: «الدر المنثور» (1/ 147).

(3)

أي في ضمير {يَعْرِفُونَهُ} .

ص: 283

وقيل: المذكور، وهو التوحيد.

والقولان متلازمان؛ إذ ذلك في معرض الاستشهاد والاحتجاج على المشركين، لا في معرض ذمِّ الذين آتاهم الكتاب؛ فإنَّ السُّورة مكيَّة، والحِجَاجُ كان فيها مع أهل الشرك، والسِّياقُ يدلُّ على الاحتجاج لا ذمِّ المذكورين من أهل الكتاب.

* وأما الثاني، فكقوله:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 144 - 145]؛ فهذا شهادتُه سبحانه للذين أوتوا الكتاب، والأولُ شهادتُه للذين آتاهم الكتابَ بأنهم مؤمنون.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: 47]، وقال تعالى:{وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} [آل عمران: 20]، وهذا خطابٌ لمن لم يُسْلِمْ منهم، وإلا فلم يُؤْمَر صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا لمن أسلمَ منهم وصدَّق به.

ولهذا لا يذكرُ سبحانه الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب إلا بالذمِّ أيضًا، كقوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: 44]، وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] الآية، وقال:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23].

ص: 284

فالأقسام أربعة:

* {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} ، وهذا لا يذكره سبحانه إلا في معرض المدح.

* و {الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} لا يكونُ قطُّ إلا في معرض الذَّمِّ.

* و {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أعمُّ منه، فإنه قد يتناولُهما، ولكن لا يُفْرَدُ به الممدوحون قطُّ

(1)

.

* و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} يَعُمُّ الجنسَ كلَّه، ويتناولُ الممدوحَ منه والمذموم، كقوله:{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [آل عمران: 113 - 114]، وقال في الذَّمِّ:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1].

وهذا الفصلُ يُنْتَفَعُ به جدًّا في أكثر

(2)

مسائل أصول الإسلام، وهي مسألةُ الإيمان واختلاف أهل القبلة فيه، وقد ذكرنا فيه نُكَتًا حِسَانًا يتضحُ بها الحقُّ في المسألة، والله أعلم.

الوجه الثاني والثمانون: أنَّ الله سبحانه وتعالى فاوتَ بين النوع الإنسانيِّ أعظمَ تفاوتٍ يكونُ بين المخلوقين، فلا يُعْرَفُ اثنان من نوعٍ واحدٍ بينهما من التفاوت ما بين خير البشر وشرِّهم.

(1)

(ح، ن): «فقط» . وهي قط، والفاء زائدة.

(2)

كذا في الأصول. ولعل الصواب: «أكبر» .

ص: 285