الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه السادس والمئة: قال محمدُ بن شهاب الزُّهري: «ما عُبِدَ اللهُ بمثل الفقه»
(1)
.
وهذا الكلامُ ونحوه يرادُ به: أنه ما يُعْبَدُ اللهُ بمثل أن يُتَعَبَّدَ بالفقه في الدين، فيكونُ نفسُ التفقُّه عبادة؛ كما قال معاذُ بن جبل:«عليكم بالعلم؛ فإنَّ طلبَه لله عبادة» . وسيأتي إن شاء الله ذكرُ كلامه بتمامه
(2)
.
وقد يرادُ به: أنه ما عُبِدَ اللهُ بعبادةٍ أفضلَ من عبادةٍ يصحبُها الفقهُ في الدين؛ لعلم الفقيه في دينه بمراتب العبادات، ومفسداتها، وواجباتها، وسُننها، وما يكمِّلها، وما يُنْقِصُها.
وكلا المعنيين صحيح.
الوجه السابع والمئة: قال سهلُ بن عبد الله التُّسْتَري: «من أراد النظرَ إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء»
(3)
.
وهذا لأنَّ العلماءَ خلفاءُ الرسل في أممهم، ووارثوهم في علمهم، فمجالسُهم مجالسُ خلافة النبوَّة.
الوجه الثامن والمئة: أنَّ كثيرًا من الأئمة صرَّحوا بأنَّ أفضلَ الأعمال بعد الفرائض طلبُ العلم
.
(1)
أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 119)، والبيهقي في «المدخل إلى السنن» (467)، كلاهما من طريق معمر في «الجامع» (11/ 256).
وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (3/ 365)، والبيهقي في «الشعب» (8/ 551)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 225) عنه بلفظ:«العلم» بدل «الفقه» .
(2)
في الوجه العاشر بعد المئة.
(3)
أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 149).
فقال الشافعي: «ليس شيءٌ بعد الفرائض أفضلَ من طلب العلم»
(1)
. وهذا الذي ذكره أصحابُه عنه أنه مذهبُه.
وكذلك قال سفيانُ الثوري
(2)
.
وحكاهُ الحنفيةُ عن أبي حنيفة
(3)
.
وأمَّا الإمامُ أحمدُ فحُكِي عنه ثلاثُ روايات:
إحداهن: أنه العلم
(4)
. فإنه قيل له: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؛ أجلسُ بالليل أنسخُ أو أصلِّي تطوُّعًا؟ قال: «نسخُك تعلمُ به أمرَ دينك فهو أحبُّ إلي»
(5)
.
وذكر الخلَّال عنه في كتاب «العلم» نصوصًا كثيرةً في تفضيل العلم. ومن كلامه فيه: «الناسُ إلى العلم أحوجُ منهم إلى الطعام والشراب» . وقد تقدم
(6)
.
(1)
أخرجه البيهقي في «مناقب الشافعي» (2/ 138)، و «المدخل» (475، 476). وانظر: «آداب الشافعي ومناقبه» لابن أبي حاتم (97)، و «الحلية» (9/ 119)، و «جامع بيان العلم» (1/ 123).
(2)
أخرجه أبو القاسم البغوي في «الجعديات» (1/ 40)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 363، 366)، والرامهرمزي في «المحدث الفاصل» (182)، والبيهقي في «المدخل» (470، 471)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 124).
(3)
انظر: «الكسب لمحمد بن الحسن» بشرحه للسرخسي (102، 148، 154)، و «حاشية ابن عابدين» (1/ 40، 6/ 432).
(4)
انظر: «مسائل ابن هاناء» (2/ 168)، و «مسائل الكوسج» (3309، 3310)، و «الآداب الشرعية» (2/ 38، 43)، و «الإنصاف» (2/ 116).
(5)
أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 104).
(6)
(ص: 164).
والرواية الثانية: أنَّ أفضلَ الأعمال بعد الفرائض صلاةُ التطوع
(1)
.
واحتُجَّ لهذه الرواية بقوله صلى الله عليه وسلم: «واعلموا أنَّ خيرَ أعمالكم الصلاة»
(2)
،
وبقوله في حديث أبي ذرٍّ وقد سأله عن الصلاة، فقال:«خيرٌ موضوع»
(3)
، وبأنه أوصى من سأله مرافقتَه في الجنة بكثرة السُّجود
(4)
، وهو الصلاة، وكذلك قولُه في الحديث الآخر:«عليك بكثرة السجود؛ فإنك لا تسجدُ لله سجدةً إلا رفعك اللهُ بها درجة، وحَطَّ عنك بها خطيئةً»
(5)
، وبالأحاديث الدالَّة على تفضيل الصلاة.
والرواية الثالثة: أنه الجهاد
(6)
. فإنَّه
(7)
(1)
انظر: «الفروع» (1/ 522)، و «المبدع» (2/ 1، 2).
(2)
أخرجه أحمد (5/ 276، 282)، وابن ماجه (277)، وغيرهما من طرقٍ عن ثوبان.
وصححه ابن حبان (1037)، والحاكم (1/ 130) ولم يتعقبه الذهبي.
وانظر: «الضعفاء» للعقيلي (4/ 168).
(3)
جزءٌ من حديثٍ طويلٍ أخرجه أحمد (5/ 178، 179)، والنسائي (5522)، وغيرهما من طُرقٍ لا تخلو من ضعفٍ عن أبي ذر.
وصححه ابن حبان (361)، والحاكم (2/ 597) وتعقبه الذهبي.
(4)
أخرجه مسلم (489) من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي.
(5)
أخرجه مسلم (488) من حديث ثوبان.
(6)
وهذا هو المشهورُ عنه. وأطلقه الأصحاب. انظر: «مسائل عبد الله» (2/ 819، 836)، و «مسائل أبي داود» (310)، و «مسائل ابن هاناء» (2/ 109)، و «المغني» (13/ 10)، و «المبدع» (2/ 1)، و «الإنصاف» (2/ 115).
(7)
أي الإمام أحمد.
ولا ريب أنَّ أكثر الأحاديث في الصلاة والجهاد.
وأمَّا مالك؛ فقال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول: «إنَّ أقوامًا ابتغوا العبادةَ وأضاعوا العلم، فخرجوا على أمَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم بأسيافهم، ولو ابتغوا
(1)
العلمَ لحَجَزهم عن ذلك»
(2)
.
(3)
.
وقال ابن وهب: «كنتُ بين يدي مالك بن أنس، فوضعتُ ألواحي وقمتُ إلى الصلاة، فقال: ما الذي قمتَ إليه بأفضل من الذي تركتَه»
(4)
.
(1)
(ق، ت، ن، ح): «اتبعوا» .
(2)
مضى (ص: 230) من قول الحسن.
(3)
أخرج أصل الخبر ابنُ سعد في «الطبقات» (9/ 130) مختصرًا.
وانظر: «الجامع» لمعمر (11/ 217)، و «المعرفة والتاريخ» (1/ 516)، و «المستدرك» (3/ 540)، و «السنة» لعبد الله بن أحمد (1/ 135).
(4)
أخرجه ابن شاهين في «مذاهب أهل السنة» (64)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 122).
والصلاة التي قام إليها ابن وهب كانت صلاة فريضة، كما هو بيِّنٌ في رواية ابن شاهين، وفي هذا إشكال؛ فكيف يكون طلب العلم أفضل من صلاة الفريضة؟ ويمكن أن يحمل هذا على أن الإمام مالكًا أراد أن الصلاة لا تجب في أول الوقت إلا وجوبًا موسَّعًا، فالاشتغالُ بتقييد ما يُخشى فواتُه من العلم أفضل من البدار إلى الصلاة في أول الوقت. انظر:«المقدمات والممهدات» لابن رشد (1/ 43، 51)، وخطبة «الكتاب المؤمل للردِّ إلى الأمر الأول» لأبي شامة (55). أو يحمل على أن الاشتغال بطلب العلم أفضل من البدار لإدراك الصف الأول أو تكبيرة الإحرام، كما تفيده رواية ابن شاهين.
قال شيخنا: وهذه الأمورُ الثلاثةُ التي فضَّل كلُّ واحدٍ من الأئمة بعضَها ــ وهي الصلاةُ والعلمُ والجهاد ــ هي التي قال فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لولا ثلاثٌ في الدنيا لما أحببتُ البقاءَ فيها؛ لولا أن أحمِل أو أجهِّز جيشًا في سبيل الله، ولولا مكابدةُ هذا الليل، ولولا مجالسةُ أقوامٍ ينتقونَ أطايبَ الكلام كما يُنتقى أطايبُ الثمر= لما أحببتُ البقاء»
(1)
، فالأولُ: الجهاد، والثاني: قيام الليل، والثالث: مذاكرة العلم
(2)
.
فاجتمعت في الصحابة لكمالهم
(3)
، وتفرَّقت فيمن بعدهم.
الوجه التاسع والمئة: ما ذكره أبو نعيم وغيره عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فضلُ العلم خيرٌ من [فضل] العمل، وخيرُ دينكم الوَرَع»
(4)
.
(1)
أخرجه ابن المبارك في «الجهاد» (222)، وعبد الله بن أحمد في زوائد «الزهد» (117)، ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 51).
ورُوِي عن أبي الدرداء. أخرجه أحمد (135)، وابن المبارك (277) كلاهما في «الزهد» ، وابن معين في «التاريخ» (4/ 340 - رواية الدوري).
(2)
انظر: «منهاج السنة» (6/ 75)، و «مدارج السالكين» (2/ 281).
(3)
(ت، د، ق): «بكمالهم» .
(4)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (2/ 211 - 212)، والبزار (2969)، وغيرهما عن حذيفة بن اليمان.
قال الترمذي في «العلل الكبير» (341): «سألت محمدًا عن هذا الحديث، فلم يَعُدَّ هذا الحديث محفوظًا، ولم يعرف هذا عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم» . وقال البزار: «وهذا الكلام لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، وإنما يُعْرَفُ هذا الكلامُ من كلام مطرِّف» .
وروي من حديث سعد بن أبي وقاص، وثوبان، وأبي هريرة، وغيرهم، ولا يصحُّ منها شيء، والصوابُ أنه من قول مطرِّف بن عبد الله بن الشخير، وأخرجه عنه جماعة.
انظر: «علل الدارقطني» (4/ 318، 10/ 145)، و «المدخل» للبيهقي (2/ 34).
وقد رُوِي هذا مرفوعًا من حديث عائشة رضي الله عنها
(1)
؛ وفي رفعه نظر.
وهذا الكلامُ هو فصلُ الخطاب في هذه المسألة:
فإنه إذا كان كلٌّ من العلم والعمل فرضًا، فلا بدَّ منهما، كالصوم والصلاة.
فإذا كانا فَضلَين ــ وهما النَّفْلان المُتَطَوَّعُ بهما ــ، ففضلُ العلم ونفلُه خيرٌ من فضل العبادة ونفلها؛ لأنَّ العلم يعمُّ نفعُه صاحبَه والناسَ معه، والعبادةُ يختصُّ نفعُها بصاحبها؛ ولأنَّ العلم تبقى فائدتُه وثمرتُه بعد موته، والعبادةُ تنقطعُ عنه؛ ولما مرَّ من الوجوه السابقة.
الوجه العاشر بعد المئة: ما رواه الخطيبُ وأبو نعيم وغيرهما عن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه قال: «تعلَّموا العلم؛ فإنَّ تعلُّمه لله خشية
(2)
، وطلبَه عبادة، ومدارستَه تسبيح، والبحثَ عنه جهاد، وتعليمَه لمن لا يُحْسِنُه صدقة، وبذلَه لأهله قُربة، به يُعْرَفُ اللهُ ويُعْبَد، وبه يُوَحَّد، وبه يُعْرَفُ الحلالُ
(1)
أخرجه ابن عدي في «الكامل» (6/ 160) بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا.
(2)
(ح، ن) وبعض المصادر: «حسنة» .
من الحرام، وتُوصَلُ الأرحام، وهو الأنيسُ في الوحدة، والصاحبُ في الخلوة، والدليلُ على السَّرَّاء، والمُعِينُ على الضرَّاء، والوزيرُ عند الأخلَّاء، والقريبُ عند الغرباء، ومنارُ سبيل الجنة، يرفعُ اللهُ به أقوامًا فيجعلُهم في الخير قادةً وسادةً يقتدى بهم، أدلَّةً في الخير تُقْتَصُّ آثارهم، وتُرْمَقُ أفعالُهم، وترغبُ الملائكةُ في خُلَّتهم، وبأجنحتها تمسحُهم، يستغفرُ لهم كلُّ رطبٍ ويابس، حتى حيتانُ البحر وهوامُّه، وسباعُ البرِّ وأنعامُه، والسماءُ ونجومُها، والعلمُ حياةُ القلوب من العمى، ونورٌ للأبصار من الظُّلَم، وقوةٌ للأبدان من الضعف، يبلغُ به العبدُ منازلَ الأبرار والدرجات العلى، التفكُّرُ فيه يُعْدَلُ بالصيام، ومدارستُه بالقيام، وهو إمامٌ للعمل، والعملُ تابعُه، يُلْهَمُه السعداء، ويُحْرَمُه الأشقياء»
(1)
.
هذا الأثرُ معروفٌ عن معاذ. ورواه أبو نعيم في «المعجم»
(2)
من حديث معاذٍ مرفوعًا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(3)
، ولا يثبُت، وحسبه أن يَصِلَ إلى
(1)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 238)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 240) بإسنادٍ شديد الضعف.
(2)
لعله: معجم شيوخه. ذكره الذهبي في «السير» (17/ 455)، والسخاوي في «فتح المغيث» (1/ 119)، وغيرهما. ولعله أخرجه ــ أيضًا ــ في كتابيه:«رياضة المتعلمين» ، و «فضل العالم العفيف» .
(3)
وأخرجه كذلك ابن عبد البر في «الجامع» (1/ 239)، والخطيب في «المتفق والمفترق» (1/ 326) بإسنادين، أحدهما شديدُ الضعف، والآخرُ معضل.
قال ابن عبد البر: «هو حديثٌ حسنٌ جدًّا، ولكن ليس له إسنادٌ قوي» . أراد حُسْنَ المعنى، لا الحُسْنَ الاصطلاحي، كما هو ظاهر، ونصَّ عليه العراقي في «التقييد والإيضاح» (60).
ورُوِي الحديثُ من وجوهٍ أخرى لا يثبتُ منها شيء. انظر: «تكميل النفع» للشيخ محمد عمرو عبد اللطيف (59 - 64).
معاذ
(1)
.
الوجه الحادي عشر بعد المئة: ما رواه يونس بن عبد الأعلى، عن ابن أبي فُدَيْك: حدثني عمرو بن كثير، عن أبي العلاء، عن الحسن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من جاءه الموتُ وهو يطلبُ العلم ليحيي به الإسلامَ فبينه وبين الأنبياء في الجنة درجةُ النبوَّة»
(2)
.
وقد رُوِي من حديث عليِّ بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيِّب، عن ابن عباس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(3)
.
وهذا وإن كان لا يثبتُ إسناده فلا يبعدُ معناه من الصحة؛ فإنَّ أفضلَ الدرجات: النبوَّة، وبعدها الصِّدِّيقيَّة، وبعدها الشهادة، وبعدها الصَّلاح، وهذه الدرجاتُ الأربع التي ذكرها الله تعالى في كتابه في قوله:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
فمن طلبَ العلمَ ليحيي به الإسلامَ فهو من الصِّدِّيقين، ودرجتُه بعد
(1)
انظر: «مجموع الفتاوى» (4/ 109)، و «مدارج السالكين» (3/ 263).
(2)
أخرجه الدارمي (360)، وأبو إسماعيل الهروي في «ذم الكلام» (708)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 206) مرسلاً بإسنادٍ فيه من لا يُعْرَف.
(3)
أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 165)، و «تاريخ بغداد» (3/
78)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 403) بإسنادٍ شديد الضعف. وهو مع ذلك مضطربُ الإسناد جدًّا، كما قال ابن عبد البر.
درجة النبوَّة.
الوجه الثاني عشر بعد المئة: قال الحسنُ في قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} : «هي العلمُ والعبادة» ، {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}:«هي الجنة»
(1)
.
وهذا من أحسن التفسير؛ فإنَّ أجلَّ حسنات الدنيا العلمُ النافعُ والعملُ الصالح.
الوجه الثالث عشر بعد المئة: قال ابن مسعود: «عليكم بالعلم قبل أن يُرْفَع، ورفعُه هلاكُ العلماء، فوالذي نفسي بيده ليودَّنَّ رجالٌ قُتِلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم اللهُ علماء؛ لما يرون من كرامتهم، وإنَّ أحدًا لم يولد عالمًا، وإنما العلمُ بالتعلُّم»
(2)
.
الوجه الرابع عشر بعد المئة: قال ابن عباس، وأبو هريرة، وبعدهما أحمد بن حنبل:«تذاكُر العلم بعض ليلةٍ أحبُّ إلينا من إحيائها»
(3)
.
(1)
أخرجه الطبري في «التفسير» (4/ 205)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 229)، وغيرهما. والآيتان في سورة البقرة: 201، 202.
(2)
أخرج صدرَه معمرُ في «الجامع» (11/ 252) ــ ومن طريقه الطبراني في
«الكبير» (9/ 170)، والبيهقي في «المدخل» (387) -، وغيره.
وفي إسناده انقطاع، كما أشار إلى ذلك البيهقي، إلا أنه أخرجه بعد ذلك (388) من وجهٍ آخر موصولًا.
وأخرج آخره ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/ 730)، ووكيع في «الزهد»
(518)
، ومن طريقه أحمد في «الزهد» (162).
(3)
أخرجه معمر في «الجامع» (11/ 253)، والدارمي (614) عن ابن عباسٍ. وإسنادُ الأول صحيح. وقولُ أبي هريرة تقدم تخريجه (ص: 186). وقولُ أحمد في «مسائل إسحاق بن منصور الكوسج» (3309)، ومن طريقه ابن عبد البر في
«جامع بيان العلم» (1/ 118).
الوجه الخامس عشر بعد المئة: قال عمر رضي الله عنه: «أيها الناس عليكم بالعلم؛ فإنَّ لله سبحانه رداءً يحبُّه، فمن طلب بابًا من العلم رَدَّاهُ اللهُ بردائه، فإن أذنبَ ذنبًا استعتَبه؛ لئلَّا يَسْلُبه رداءه ذلك حتى يموت به»
(1)
.
قلت: ومعنى استعتاب الله عبدَه أن يطلبَ منه أن يُعْتِبَه؛ أي: يزيل عَتْبَه عليه بالتوبة والاستغفار والإنابة، فإذا أناب إليه رفع عنه عَتْبَه؛ فيكونُ قد أَعْتَبَ ربَّه، أي: أزال عَتْبَه عليه، والربُّ تعالى قد استعتبَه؛ أي: طلبَ منه أن يُعْتِبَه.
ومن هذا قولُ ابن مسعود ــ وقد وقعت زلزلةٌ بالكوفة ــ: «إنَّ ربكم يستعتبُكم فأَعْتِبُوه»
(2)
.
وهذا هو الاستعتابُ الذي نفاه سبحانه في الآخرة في قوله: {فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية: 35]، أي: لا يُطْلَبُ منهم إزالة عَتْبِنا عليهم؛ فإنَّ إزالته إنما تكونُ بالتوبة، وهي لا تنفعُ في الآخرة.
(1)
علَّقه ابن عبد البر في «الجامع» (1/ 253)، وعزاه الزبيديُّ في «إتحاف السادة المتقين» (1/ 140) إلى «مناقب عمر» للإسماعيلي والذهبي.
(2)
أخرجه الطبري في «التفسير» (17/ 478)، وفي إسناده انقطاع.
وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (2/ 472) عن شهر بن حوشب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. قال ابن رجب في «فتح الباري» (9/ 246): «هذا مرسلٌ ضعيف» .
وأخرجه ابن أبي الدنيا في «العقوبات» (18) معضلاً من وجه آخر.
وهذا غير استعتاب العبد ربَّه، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 24]، فهذا معناه أن يطلبوا إزالةَ عتْبِنا عليهم والعفو، {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} أي: ما هم ممن يُزالُ العَتْبُ عليه، وهذا الاستعتابُ ينفعُ في الدنيا دون الآخرة
(1)
.
الوجه السادس عشر بعد المئة: قال عمر رضي الله عنه: «موتُ ألف عابدٍ أهونُ من موت عالمٍ بصيرٍ بحلال الله وحرامه»
(2)
.
ووجهُ قول عمر: أنَّ هذا العالِم يَهْدِمُ على إبليس كلَّ ما يبنيه، بعلمه وإرشاده، وأما العابدُ فنفعُه مقصورٌ على نفسه.
الوجه السابع عشر بعد المئة: قولُ بعض السلف: «إذا أتى عليَّ يومٌ لا أزدادُ فيه علمًا يقرِّبني إلى الله تعالى، فلا بُورِكَ لي في طلوع شمس ذلك اليوم»
(3)
.
وقد رُفِعَ هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4)
، ورفعُه إليه باطل، وحسبه أن يَصِلَ
(1)
انظر لهذا البحث فصلاً نافعًا في «بدائع الفوائد» (1622).
(2)
علَّقه ابن عبد البر في «الجامع» (1/ 128).
(3)
لم أجده. وأحسبُ المصنف قدَّر نسبته إلى بعض السلف تقديرًا، كما يشير إلى ذلك آخرُ كلامه.
(4)
أخرجه إسحاق في «مسنده» (2/ 553)، وابن عدي في «الكامل» (2/ 79 ،
3/ 294)، والطبراني في «الأوسط» (6636)، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 188)، وغيرهم عن عائشة.
قال ابن عدي: «هذا حديثٌ منكر المتن، وهو عن الزهريِّ منكر، لا يرويه عنه غير الحكم» . وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (460).
إلى واحدٍ من الصحابة أو التابعين.
وفي مثله قال القائل
(1)
:
إذا مرَّ بي يومٌ ولم أسْتَفِدْ هدًى
…
ولم أكتَسِبْ علمًا فما ذاك من عُمْري
الوجه الثامن عشر بعد المئة: قال بعض السلف: «الإيمانُ عُرْيان، ولباسُه التقوى، وزينتُه الحياء، وثمرتُه العلم»
(2)
.
وقد رُفِعَ هذا أيضًا
(3)
،
ورفعُه باطل.
الوجه التاسع عشر بعد المئة: أنه في بعض الآثار: «بين العالم والعابد
(1)
وهو أبو الفتح البستي ، في ديوانه (254)، و «اليتيمة» (4/ 382)، و «التمثيل والمحاضرة» (127)، والرواية فيها:
* إذا مر بي يومٌ ولم أصطنع يدًا *
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (13/ 510)، وابن أبي الدنيا (97)، والخرائطي (273) كلاهما في «مكارم الأخلاق» ، واللالكائي في «السنة» (1571)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (63/ 389) عن وهب بن منبه.
…
وأخرجه ابن أبي الدنيا (103) عن ابن مسعود.
(3)
أخرجه يحيى بن الحسين الشجري في «أماليه» (1/ 15، 36) من حديث ابن مسعود بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا.
وروي من وجهٍ آخر ضعيف. انظر: «المغني عن حمل الأسفار» للعراقي (1/ 12).
ومن وجهٍ آخر باطل، أخرجه ابن عساكر (43/ 241) من حديث علي.
وانظر: «كشف الخفا» (1/ 22)، و «الجد الحثيث فيما ليس بحديث» للغزِّي
(25)
.
وفي بعض هذه المصادر: «وماله العفَّة» ، وفي بعضها:«الفقه» ، ولعله تحريف، بدل:«وثمرته العلم» .
مئة درجة، بين كلِّ درجتين حُضْرُ الجواد المُضَمَّر سبعين سنة»
(1)
.
وقد رُفِعَ هذا أيضًا
(2)
، وفي رفعه نظر.
الوجه العشرون بعد المئة: ما رواه حربٌ في «مسائله»
(3)
مرفوعًا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «يجمعُ اللهُ تعالى العلماءَ يوم القيامة، ثم يقول: يا معشر العلماء، إني لم أضَعْ علمي فيكم إلا لعلمي بكم، ولم أضَعْ علمي فيكم لأعذِّبكم، اذهبوا فقد غفرتُ لكم» .
وهذا وإن كان غريبًا فله شواهدُ حِسَان.
(1)
أخرجه بنحوه أبو نعيم في «الحلية» (3/ 365) عن الزهري.
وحُضْر الجواد: ارتفاعُه في عَدْوِه. وتضمير الخيل: أن تُعْلف حتى تسمن ، ثم تردُّ إلى القوت. وقيل: أن تُشَدَّ عليها سروجُها وتجلَّل بالأجِلَّة حتى تعرق تحتها ، فيذهب رَهَلُها ويشتدَّ لحمها ، ويحمل عليها غلمانٌ خِفافٌ يجرونها ولا يَعْنفون بها ، فإِذا فُعل ذلك بها أُمِنَ عليها البُهْرُ الشديد عند حُضْرها. «اللسان» .
(2)
انظر ما تقدم (ص: 188).
(3)
(343) من مرسل الحسن البصري بنحو لفظه.
وأخرجه الطبراني في «الصغير» (1/ 354)، وابن عدي في «الكامل» (4/ 111) ــ ومن طريقه البيهقي في «المدخل» (567)، وابن الجوزي في «الموضوعات» (511) ــ، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 215، 217)، وغيرهم من حديث أبي موسى الأشعري.
قال ابن عدي: «هذا الحديث بهذا الإسناد باطل» .
ورُوِي من حديث أبي هريرة، وابن عمر، وجابر، وثعلبة بن الحكم، وأبي أمامة أو واثلة بن الأسقع، رضي الله عنهم، بأسانيد ضعيفةٍ جدًّا لا يصلحُ شيءٌ منها لتقوية الحديث. انظر:«السلسة الضعيفة» (867، 868).
الوجهُ الحادي والعشرون بعد المئة: قولُ ابن المبارك، وقد سئل: مَن الناس؟ قال: العلماء، قيل: فمَن الملوك؟ قال: الزُّهَّاد، قيل: فمَن السِّفْلة
(1)
؟ قال: الذي يأكلُ بدينه
(2)
.
الوجه الثاني والعشرون بعد المئة: أنَّ من أدرك العلمَ لم يضرَّه ما فاته بعد إدراكه؛ إذ هو أفضلُ الحظوظ والعطايا، ومن فاته العلمُ لم ينفعه ما حصل له من الحظوظ، بل يكونُ وبالًا عليه وسببًا لهلاكه.
وفي هذا قال بعض السلف: «أيَّ شيءٍ أدركَ من فاته العلمُ؟! وأيَّ شيءٍ فات من أدركَ العلمَ؟!»
(3)
.
الوجه الثالث والعشرون بعد المئة: قال بعضُ العارفين
(4)
وصَدَق؛ فإنَّ العلمَ طعامُ القلب وشرابُه ودواؤه، وحياتُه موقوفةٌ على ذلك، فإذا فقد القلبُ العلمَ فهو ميت، ولكن لا يشعُر بموته، كما أنَّ السَّكران الذي قد زال عقلُه، والخائفَ الذي قد انتهى خوفُه إلى غايته، والمُحِبَّ
(1)
وهم أراذلُ الناس. «اللسان» (سفل).
(2)
أخرجه البيهقي في «الشعب» (12/ 267)، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 168)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 192)، وغيرهم.
(3)
نُسِبَ لعليٍّ رضي الله عنه في «شرح النهج» (20/ 289)، ولأرسطاطاليس في «إرشاد الأريب» (22)، ولبزرجمهر في «المحاسن والمساواء» (3).
(4)
هو فتح بن سعيد الموصلي، كما في «الإحياء» (1/ 8). والتعليق الذي يلي قوله هنا للغزالي.
والمفكِّر، قد يَبْطُلُ إحساسُهم بألم الجِراحات في تلك الحال، فإذا صَحَوا وعادوا إلى حال الاعتدال أدركوا آلامَها.
هكذا العبدُ إذا حَطَّ عنه الموتُ أحمالَ الدنيا وشواغلَها أحسَّ بهلاكه وخسرانه.
فحَتَّامَ لا تصحو وقد قَرُبَ المَدى
…
وحَتَّامَ لا يَنجابُ عن قلبك السُّكْرُ
بلى سوف تصحو حين ينكشِفُ الغِطَا
…
وتَذْكُرُ قولي حين لا ينفعُ الذِّكْرُ
(1)
فإذا كُشِفَ الغِطَاء، وبَرِحَ الخفاء، وبُلِيَت السرائر، وبَدَت الضمائر، وبُعْثِرَ ما في القبور، وحُصِّل ما في الصدور؛ فحينئذٍ يكونُ الجهلُ ظلمةً على الجاهلين، والعلمُ حسرةً على البطَّالين.
الوجه الرابع والعشرون بعد المئة: قال أبو الدرداء: «من رأى أنَّ الغُدُوَّ إلى العلم ليس بجهادٍ فقد نقصَ في رأيه وعقله»
(2)
.
وشاهدُ هذا قولُ معاذ، وقد تقدَّم.
الوجه الخامس والعشرون بعد المئة: قولُ أبي الدرداء ــ أيضًا ــ: «لأَنْ أتعلَّم مسألةً أحبُّ إليَّ من قيام ليلة»
(3)
.
الوجه السادس والعشرون بعد المئة: قولُه أيضًا: «العالمُ والمتعلِّمُ
(1)
البيتان في «المدهش» (354)، و «شرح النهج» (18/ 70) دون نسبة.
(2)
تقدم تخريجه (ص: 193). وأثر معاذ تقدم قريبًا.
(3)
أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 102، 103) بنحوه من وجهين فيهما انقطاع.
شريكان في الأجر، وسائرُ الناس هَمَجٌ لا خير فيهم»
(1)
.
الوجه السابع والعشرون بعد المئة: ما رواه أبو حاتم ابن حبان في «صحيحه»
(2)
من حديث أبي هريرة: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من دخلَ مسجدنا هذا ليتعلَّمَ خيرًا أو ليعلِّمَه كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخلَه لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له» .
الوجه الثامن والعشرون بعد المئة: ما رواه أيضًا في «صحيحه»
(3)
من حديث الثلاثة الذين انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في حَلْقة، فأعرضَ أحدُهم، واستحى الآخرُ فجلسَ خلفهم، وجلسَ الثالثُ في فُرْجَةٍ في الحَلْقة؛ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأمَّا الآخر فاستحيى فاستحيى الله منه، وأما الآخر فأعرضَ فأعرضَ الله عنه» .
فلو لم يكن لطالب العلم إلا أنَّ الله يؤويه إليه، ولا يُعْرِضُ عنه، لكفى به فضلًا.
(1)
أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (543)، وعبد الله بن أحمد في زوائد «الزهد» (136)، والبيهقي في «المدخل» (383)، وغيرهم.
وانظر: «الزهد» لوكيع (3/ 836 - 838)
(2)
(368)، وأحمد (2/ 350، 526)، وابن ماجه (227)، وغيرهم.
وصححه الحاكم (1/ 91)، ولم يتعقبه الذهبي.
وهو معلول؛ فقد روي من وجهٍ أصح عن كعب الأحبار قوله. قال الدارقطني في «العلل» (10/ 381): إنه «أشبه بالصواب» .
وانظر: «الكامل» لابن عدي (2/ 275).
ورُوِي من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه بإسنادٍ فيه ضعف. أخرجه الطبراني في «الكبير» (6/ 175).
(3)
(86)، والبخاري (66)، ومسلم (2176) من حديث أبي واقد الليثي.
الوجه التاسع والعشرون بعد المئة: ما رواه كُمَيْلُ بن زياد النخعي، قال: «أخذَ عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه بيدي، فأخرجني ناحيةَ الجَبَّانة
(1)
، فلما أصْحَرَ جعلَ يتنفَّس، ثمَّ قال: يا كميل بن زياد، القلوبُ أوعية، فخيرُها أوعاها للخير، احفظْ عنِّي ما أقول: الناسُ ثلاثة؛ فعالمٌ ربَّاني، ومتعلِّمٌ على سبيل نجاة، وهَمَجٌ رعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق.
العلمُ خيرٌ من المال، العلمُ يحرسُك وأنت تحرسُ المال، العلمُ يزكو على الإنفاق ــ وفي رواية: على العمل ــ والمالُ تَنْقُصُه النفقة، العلمُ حاكم والمالُ محكومٌ عليه، ومحبةُ العلم
(2)
دينٌ يُدانُ بها، العلمُ يُكْسِبُ العالِمَ الطاعةَ في حياته، وجميلَ الأُحدوثة بعد وفاته، وصنيعةُ المال تزولُ بزواله، مات خُزَّانُ الأموال وهم أحياء، والعلماءُ باقون ما بقي الدَّهر، أعيانُهم مفقودة، وأمثالُهم في القلوب موجودة.
هاه .. هاه .. إنَّ ههانا علمًا ــ وأشار بيده إلى صدره ــ لو أصبتُ له حَمَلة! بلى
(3)
.. أصبتُ لَقِنًا
(4)
غير مأمونٍ عليه، يستعملُ آلةَ الدين للدنيا، يستظهرُ بحُجَج الله على كتابه، وبنعمه على عباده، أو منقادًا لأهل الحقِّ، لا بصيرةَ له في أحنائه
(5)
، ينقدحُ الشكُّ في قلبه بأول عارضٍ من شبهة، [ألا] لا ذا ولا
(1)
الصحراء. وفي (د ، ق ، ن): «الجبَّان» . وهما بمعنى.
(2)
(ق): «العالم» . وفي طرة (ح) إشارةٌ إلى أنه كذلك في نسخة.
(3)
(ح ، ن): «بل» .
(4)
سريع الفهم. «اللسان» (لقن).
(5)
جوانبُ الحقِّ ومُشْتَبِهُه وغوامضُه. «اللسان» (حنا). وسيأتي شرحُها. وفي بعض المصادر: «إحيائه» ، وفي بعضها:«إجابة» ، وفي بعضها:«خيانة» . وكلُّه تحريف.
ذاك، أو منهومًا للَّذَّات، سَلِسَ القياد للشهوات، أو مُغرًى بجمع الأموال والادِّخار، ليسا من دعاة الدِّين، أقربُ شَبهًا بهم الأنعامُ السَّائمة.
كذلك
(1)
يموتُ العلمُ بموت حامليه، اللهمَّ بلى .. لن تخلو الأرضُ من قائمٍ لله بحجَّته، لكيلا تَبْطُل حججُ الله وبيِّناتُه، أولئك الأقلُّون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، بهم يدفعُ اللهُ عن حُجَجه، حتى يؤدُّوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هَجَمَ بهم العلمُ على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعرَ منه المترفون، وأَنِسوا بما استوحشَ منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها
(2)
معلَّقةٌ بالملأ الأعلى، أولئك خلفاءُ الله في أرضه
(3)
، ودعاتُه إلى دينه، هاه .. هاه .. شوقًا إلى رؤيتهم، وأستغفرُ الله لي ولك، إذا شئتَ فَقُم».
ذكره أبو نعيم في «الحلية»
(4)
وغيره.
(1)
(ق): «لذلك» .
(2)
(ق): «بأبدانهم وأرواحهم» .
(3)
(ح): «وأمناؤه على عباده» .
(4)
(1/ 79) ــ ومن طريقه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 182) ــ، والرافعي في «التدوين» (3/ 208)، وأبو بكر الأبهري في «الفوائد» (16) ، والشجري في «الأمالي» (1/ 66)، والمعافى في «الجليس والأنيس» (4/ 135)، والسِّلَفي في «الطيوريات» (535)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (14/ 17 ، 50/ 252)، والمزي في «تهذيب الكمال» (24/ 220)، والذهبي في «تذكرة الحفاظ» (1/ 11) بإسنادٍ ضعيف. وقال الذهبي:«إسناده لين» .
وروي من وجهٍ آخر:
أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (6/ 379) ــ ومن طريقه ابن عساكر (50/ 251) ــ، وابن عبد ربه في «العقد» (2/ 212) بإسنادٍ شديد الضعف. وقال ابن عساكر:«هذا طريق غريب» .
ومن وجهٍ آخر:
أخرجه المعافى في «الجليس والأنيس» (3/ 331)، ومن طريقه ابن عساكر (50/ 254)، وإسنادُه مظلم.
ومن وجهٍ آخر:
أخرجه أبو هلال العسكري في «ديوان المعاني» (1/ 328)، وإسنادُه مظلمٌ كذلك.
ومن وجهٍ آخر:
أخرجه الدينوري في «المجالسة» (1824) بإسنادٍ منقطع، وأخشى أن يكون مركَّبًا؛ والدينوريُّ متَّهمٌ بالكذب.
وهو مرويٌّ في كتب الشيعة وأماليهم من وجوهٍ أخرى مظلمة.
وقد قال ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 984) ــ وأقرَّه المصنفُ في «إعلام الموقعين» (2/ 195) ــ: «وهو حديثٌ مشهورٌ عند أهل العلم، يستغني عن الإسناد؛ لشهرته عندهم» .
قال أبو بكر الخطيب: «هذا حديثٌ حسن، من أحسن الأحاديث معنًى، وأشرفها لفظًا، وتقسيمُ أمير المؤمنين الناسَ في أوَّله تقسيمٌ في غاية الصِّحَّة ونهاية السَّداد؛ لأنَّ الإنسانَ لا يخلو من أحد الأقسام التي ذكرها مع كمال العقل وإزاحة العِلَل؛ إمَّا أن يكون عالمًا، أو متعلِّمًا، أو مُغْفِلًا للعلم وطلبه ليس بعالمٍ ولا طالبٍ له.
فالعالمُ الربانيُّ هو الذي لا زيادةَ على فضله لفاضل، ولا منزلةَ فوق منزلته لمجتهد، وقد دخلَ في الوصف له بأنه ربَّانيٌّ وصفُه بالصِّفات التي يقتضيها العلمُ لأهله، ويمنعُ وصفَه بما خالفها.
ومعنى الرَّبَّاني في اللغة: الرفيعُ الدرجة في العلم العالي المنزلة فيه،
وعلى ذلك حملوا قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 63]، وقوله:{كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79].
قال [سعيد بن جبير]
(1)
: «حكماء فقهاء» .
وقال أبو رَزِين
(2)
: «فقهاء علماء»
(3)
.
وقال أبو عمر الزاهد: سألتُ ثعلبًا عن هذا الحرف ــ وهو الرَّبَّاني ــ فقال: سألتُ ابن الأعرابي فقال: إذا كان الرجلُ عالمًا عاملًا معلِّمًا قيل له: هذا ربَّاني، فإنْ خَرَمَ
(4)
عن خصلةٍ منها لم يُقَل له: ربَّاني.
وقال ابنُ الأنباري عن النحويِّين: إنَّ الرَّبَّانيِّين منسوبون إلى الربِّ، وإنَّ الألف والنون زيدتا للمبالغة في النَّسب، كما تقول: لِحْياني وجُمَّاني إذا كان عظيمَ اللِّحية والجُمَّة
(5)
.
وأمَّا المتعلِّمُ على سبيل النجاة فهو الطالب بتعلُّمه والقاصدُ به نجاتَه من التفريط في تضييع الفروض الواجبة عليه، والرغبةَ بنفسه عن إهمالها واطِّراحها، والأنفةَ من مجانسة البهائم»
(6)
.
(1)
سقط من الأصول ، سوى (ح)، ففيه:«علي وابن عباس» . والمثبت من «الفقيه والمتفقه» . وقد أخرجه الطبري (6/ 542) عن ابن عباس.
(2)
(ق): «الواقدي» .
(3)
في (ح) زيادة: «وقال قتادة: حكماء علماء» . وليست في «الفقيه والمتفقه» .
(4)
مهملة في (د ، ق). وفي «تهذيب اللغة» (14/ 316): «حرم خصلة» . والمثبت من (ح ، ت) و «الفقيه والمتفقه» . وخَرَمَ عن الشيء: حاد وعدل عنه. «اللسان» (خرم).
(5)
«الزاهر» (1/ 178). وانظر: «المحكم» (10/ 235).
(6)
«الفقيه والمتفقه» (1/ 184 - 186). والنصوصُ المنقولة مسندةٌ فيه.
ثمَّ قال: «وقد نفى بعض المتقدِّمين عن الناس من لم يكن من أهل العلم.
وأمَّا القسمُ الثالث: فهم المُهْمِلون لأنفسهم، الراضُونَ بالمنزلة الدنيَّة والحال الخسيسة، التي هي في الحضيض الأَوْهَدِ والهبوط الأسفل، التي لا منزلة بعدها في الجهل ولا دونها في السقوط.
وما أحسن ما شبَّههم بالهَمَج الرَّعاع! وبه يُشَبَّه دُناةُ الناس وأراذلهم.
والرَّعاع: المُتَبدِّدُ المتفرِّق، والنَّاعق: الصَّائح، وهو في هذا الموضع الراعي، يقال: نَعَقَ الراعي بالغنم يَنْعِق، إذا صاحَ بها، ومنه قولُه تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]»
(1)
.
ونحن نشيرُ إلى بعض ما في هذا الحديث من الفوائد:
* فقولُه رضي الله عنه: «القلوبُ أوعية» ؛ القلبُ يُشَبَّهُ بالوعاء والإناء والوادي؛ لأنه وعاءٌ للخير والشرِّ.
وفي بعض الآثار: «إنَّ لله في أرضه آنية، وهي القلوب، فخيرُها أرقُّها وأصلبُها وأصفاها»
(2)
.
(1)
«الفقيه والمتفقه» (1/ 186).
(2)
أخرجه الطبراني في «مسند الشاميين» (2/ 19) من حديث أبي عنبة الخولاني مرفوعًا بإسنادٍ جيد، كما قال العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 474). وانظر:«السلسلة الصحيحة» (1691).
وفي صُحبة أبي عنبة خلافٌ ستأتي الإشارةُ إليه.
وروي الحديث من وجوهٍ أخرى مرفوعًا وموقوفًا.
فهي أواني مملوءةٌ من الخير، وأواني مملوءةٌ من الشرِّ؛ كما قال بعضُ السَّلف:«قلوبُ الأبرار تغلي بالبِرِّ، وقلوبُ الفجَّار تغلي بالفجور»
(1)
.
وفي مثل هذا قيل في المثل: «وكلُّ إناءٍ بالذي فيه يَنْضَح»
(2)
.
وقال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]؛ شبَّه العلمَ بالماء النازل من السماء، والقلوبَ في سَعَتها وضِيقها بالأودية؛ فقلبٌ كبير واسعٌ يسعُ علمًا كثيرًا كوادٍ كبيرٍ واسعٍ يسعُ ماءً كثيرًا، وقلبٌ صغيرٌ ضيِّقٌ يسعُ علمًا قليلًا كوادٍ صغيرٍ ضيِّقٍ يسعُ ماءً قليلًا
(3)
.
ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا تسمُّوا العنبَ: الكَرْم؛ فإنَّ الكَرْمَ قلبُ المؤمن»
(4)
، فإنهم كانوا يسمُّون شجرَ العنب:«الكَرْم» ؛ لكثرة منافعه وخيره، والكَرْمُ كثرةُ الخير والمنافع
(5)
، فأخبرهم أنَّ قلبَ المؤمن أولى بهذه التسمية؛ لكثرة ما فيه من الخير والبرِّ والمنافع
(6)
.
* وقولُه: «فخيرُها أوعاها» ؛ يرادُ به أسرعُها وعيًا، وأكثرها وعيًا، وأثبتُها وعيًا، ويرادُ به أيضًا أحسنُها وعيًا. فيكونُ حُسْنُ الوعي ــ الذي هو إيعاءٌ
(7)
(1)
أخرجه أحمد في «الزهد» (323)، ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (6/ 288) عن مالك بن دينار.
(2)
«مجمع الأمثال» (2/ 162).
(3)
انظر: «إعلام الموقعين» (1/ 152) ، و «الوابل الصيب» (133)، وما تقدم (ص: 165).
(4)
أخرجه البخاري (6183)، ومسلم (2247) عن أبي هريرة.
(5)
(ق): «والكروم كثيرة الخير والمنافع» . قراءة محتملة. والمثبت أشبه.
(6)
انظر: «زاد المعاد» (2/ 348 ، 468 ، 4/ 369) ، و «تهذيب السنن» (13/ 217).
(7)
أوعى الشيءَ إيعاءً: حَفِظَه. «اللسان» (وعى).
لما يقال له في قلبه ــ هو سرعتُه وكثرتُه وثباتُه.
والوعاءُ من مادَّة الوعي؛ فإنه آلةُ ما يُوعى فيه، كالغطاء والفراش والبساط ونحوها، ويوصفُ بذلك القلبُ والأذن؛ كقوله تعالى:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 11 - 12]، قال قتادة:«أذنٌ سَمِعَت وعَقَلَت عن الله ما سَمِعَت»
(1)
، وقال الفراء:«لتحفظَها كلُّ أذن، فتكونَ عظةً لمن يأتي بعدُ»
(2)
.
فالوعيُ توصفُ به الأذنُ كما يوصفُ به القلب، يقال:«قلبٌ واعٍ، وأذنٌ واعية» ؛ لما بين الأذن والقلب من الارتباط، فالعلمُ يدخلُ من الأذن إلى القلب، فهي بابُه والرسولُ المُوصِلُ إليه العلمَ، كما أنَّ اللسانَ رسولُه المؤدِّي عنه
(3)
.
ومن عرفَ ارتباط الجوارح بالقلب علمَ أنَّ الأذنَ أحقُّها بأن توصفَ بالوعي؛ فإنها
(4)
إذا وَعَت وَعَى القلبُ.
وفي حديث جابرٍ في المثَل الذي ضربته الملائكةُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ولأمته، وقول الملَك له:«اسمَعْ سَمِعَت أذنُك، واعقِلْ عَقَلَ قلبُك»
(5)
.
(1)
أخرجه الطبري (23/ 579).
(2)
«معاني القرآن» (3/ 181).
(3)
(ت): «الذي يؤدي عنه» .
(4)
(د ، ح، ن): «وأنها» .
(5)
أخرجه الترمذي (2860)، وابن سعد (1/ 145)، وغيرهما من حديث جابر.
قال الترمذي: «هذا حديثٌ مرسل؛ سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر» . وصححه الحاكم (2/ 338 ، 4/ 393) من وجهين فيهما إثباتُ واسطةٍ بين سعيد وجابر. ولم يتعقبه الذهبي. والمرسل أشبه.
وله شاهد من حديث ربيعة الجرشي رضي الله عنه، عند الطبراني في «الكبير» (5/ 65)، وجوَّد إسناده الحافظ في «الفتح» (13/ 256). وانظر:«تغليق التعليق» (5/ 320). وأخرجه الطبري (15/ 60) عن أبي قلابة مرسلًا ، بإسقاط ربيعة ، وهو أصح.
فلمَّا كان القلبُ وعاءً، والأذنُ مدخلَ ذلك الوعاء وبابَه، كان حصولُ العلم موقوفًا على حسن الاستماع وعَقْلِ القلب.
والعقل: هو ضبطُ ما وصلَ إلى القلب وإمساكُه حتى لا يتفلَّت منه. ومنه: عَقْلُ البعير والدابَّة، والعِقالُ لما يُعْقَلُ به، وعقلُ الإنسان سُمِّي عقلًا لأنه يَعْقِلُه عن اتباع الغَيِّ والهلاك، ولهذا يسمَّى: حِجْرًا، لأنه يمنعُ صاحبَه كما يمنعُ الحِجْرُ ما حواه.
فعقلُ الشيء أخصُّ من علمه ومعرفته؛ لأنَّ صاحبَه يعقلُ ما عَلِمَه فلا يَدعُه يذهب، كما يَعْقِلُ الدابَّةَ التي يخافُ شُرودَها.
وللإدراك مراتبُ بعضها أقوى من بعض؛ فأوَّلها: الشُّعور، ثمَّ الفهم، ثمَّ المعرفة، ثمَّ العلم، ثمَّ العقل، ومرادُنا هنا بالعقل: المصدرُ، لا القوَّةُ الغريزيَّةُ التي ركَّبها الله في الإنسان.
فخيرُ القلوب ما كان واعيًا للخير ضابطًا له، وليس كالقلب القاسي الذي لا يقبلُه، فهذا قلبٌ حَجَريٌّ، ولا كالمائع الأخرق الذي يقبلُ ولكن لا يحفظُ ولا يضبط. فتفهيمُ الأول كالرَّسم في الحَجَر، وتفهيمُ الثاني كالرَّسم على الماء. بل خيرُ القلوب ما كان ليِّنًا صلبًا؛ يقبلُ بلِينه ما ينطبعُ فيه، ويحفظُ صورتَه بصلابته، فهذا تفهيمُه كالرَّسم في الشَّمْع وشبهه.
* وقولُه: «الناس ثلاثة: فعالمٌ ربَّاني، ومتعلِّمٌ على سبيل النجاة، وهَمَجٌ رعاع» ؛ هذا تقسيمٌ حاصرٌ للناس
(1)
، وهو الواقع؛ فإنَّ العبدَ إمَّا أن يكون قد حَصَّل كمالَه من العلم والعمل أوْ لا؛ فالأول: العالمُ الرَّبَّاني، والثاني: إمَّا أن تكون نفسُه متحرِّكةً في طلب ذلك الكمال ساعيةً في إدراكه أوْ لا، والثاني: هو المتعلِّمُ على سبيل النجاة، والثالث: هو الهَمَجُ الرعاع. فالأول: هو الواصل، والثاني: هو الطالب، والثالث: هو المحروم.
والعالمُ الرَّبَّاني، قال ابن عباس رضي الله عنهما:«هو المعلِّم»
(2)
، أخذَه من التربية؛ أي: يَرُبُّ الناسَ بالعلم
(3)
، ويربِّيهم به كما يربِّي الطِّفلَ أبوه.
وقال سعيد بن جبير: «هو الفقيه العليم الحكيم»
(4)
.
(5)
.
معنى قول سيبويه ــ رحمه الله ــ: أنَّ هذا العالِمَ لمَّا نُسِبَ إلى علم الربِّ تعالى الذي بعثَ به رسولَه، وتَخصَّصَ به، نُسِبَ إليه دون سائر من عَلِمَ علمًا ما.
(1)
(د، ح، ت، ن): «خاص للناس» . وهو تحريف. وفي طرَّة (د): «لعله: حاصر» . وأثبت ناسخ (ق) في المتن: «لعله حاصر للناس» ، كأنه رأى التعليق في الطرَّة فأدخله في المتن بتمامه!
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (2/ 691).
(3)
أي: يجمعُهم ويُصْلِحُهم. «اللسان» (ربب).
(4)
انظر: «الفقيه والمتفقه» (1/ 185)، و «تفسير الطبري» (6/ 542).
(5)
لم أره في «الكتاب» ، وهو مشهورٌ عنه، نقله جماعة، والنقلُ هنا عن الواحدي. وانظر:«الكتاب» (3/ 380)، و «تهذيب اللغة» (15/ 178).
قال الواحدي
(1)
: «فالرَّبَّاني ــ على قوله ــ منسوبٌ إلى الربِّ، على معنى التخصيص بعلم الربِّ، أي: بعلم الشريعة وصفات الربِّ تبارك وتعالى.
قال المبرِّد: الرَّبَّاني الذي يَرُبُّ العلمَ ويَرُبُّ الناسَ به، أي: يعلِّمهم ويُصْلِحُهم.
وعلى قوله، فالرَّبَّاني مِنْ: رَبَّ يَرُبُّ رَبًّا، أي: تربيةً، فهو منسوبٌ إلى التربية»، يربِّي علمَه ليكمُلَ ويَتِمَّ بقيامه عليه وتعاهُده إياه، كما يربِّي صاحبُ المال مالَه، ويربِّي الناسَ به كما يربِّي الأطفالَ أولياؤهم.
وليس من هذا قولُه
(2)
: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146]، فالرِّبِّيُّون هنا: الجماعات، بإجماع المفسِّرين
(3)
، قيل: إنه من الرِّبَّة ــ بكسر الراء ــ، وهي الجماعة.
قال الجوهري: «الرِّبِّيُّ واحدُ الرِّبِّيِّين؛ وهم الألوفُ من الناس، قال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ}
(4)
.
ولا يوصفُ العالِمُ بكونه ربَّانيًّا حتى يكون عاملًا بعلمه معلِّمًا له.
فهذا قِسْم.
(1)
في «الوسيط» (1/ 456)، و «البسيط» (5/ 382).
(2)
(ت ، د ، ق): «وليس هذا من قوله» .
(3)
هو قول الأكثرين. وجاء عن ابن عباس والحسن وغيرهما تفسيرها بالعلماء. انظر: «سنن سعيد بن منصور» (1096)، و «تفسير الطبري» (7/ 267)، و «جامع المسائل» (3/ 62).
(4)
«الصحاح» (1/ 132)(ربب).
والقسمُ الثاني: متعلِّمٌ على سبيل نجاة؛ أي: قاصدًا بعلمه النجاة، وهو المخلصُ في تعلُّمه، المتعلِّمُ ما ينفعُه، العاملُ بما عَلِمَه، فلا يكون المتعلِّمُ على سبيل نجاةٍ إلا بهذه الأمور الثلاثة؛ فإنه إن تعلَّمَ ما يضرُّه ولا ينفعُه لم يكن على سبيل نجاة، وإن تعلَّم ما ينتفعُ به لا للنجاة فكذلك، وإن تعلَّمه ولم يعمل به لم يحصُل له النجاة، ولهذا وصَفَه بكونه على السبيل، أي: على الطريق التي تنجيه.
وليس حرفُ «على» وما عَمِلَ فيه متعلِّقًا بـ «متعلِّم» إلا على وجه التضمين، أي: مفتِّش متطلِّع على سبيل نجاته ليسلكه؛ فتعلُّمه تفتيشٌ على سبيل نجاته.
فهذا في الدرجة الثانية، وليس ممَّن تعلَّمه ليماري به السُّفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرفَ وجوهَ الناس إليه، فإنَّ هذا من أهل النار، كما جاء في الحديث
(1)
، وثبَّته أبو نعيم وأبو عمرو بن الصلاح وغيرهما.
قال ابنُ الصلاح: وثبَّت أبو نعيم ــ أيضًا ــ قولَه صلى الله عليه وسلم: «من تعلَّمَ علمًا مما يبتغى به وجهُ الله، لا يتعلَّمُه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يَجِدْ رائحةَ الجنة»
(2)
.
(1)
ورد من رواية جماعةٍ من الصحابة، ولا أعلمُ يصحُّ منها شيء، وقد صحَّح بعضها بعض أهل العلم.
وقال العقيلي في «الضعفاء» (2/ 130): «في هذا الباب أحاديثُ عن جماعةٍ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ليِّنةُ الأسانيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم» .
وانظر: «الكامل» لابن عدي (1/ 332، 7/ 216).
ورُوِي من كلام بعض السَّلف، وهو أشبه.
(2)
أخرجه أحمد (2/ 338)، وأبو داود (3664)، وابن ماجه (252)، وغيرهم من حديث أبي هريرة بإسنادٍ فيه ضعف.
وصححه ابن حبان (78)، والحاكم (1/ 85) ولم يتعقبه الذهبي.
ورُوِي مرسلًا من وجهٍ أصح. قال الدارقطني في «العلل» (11/ 9): «والمرسل أشبه بالصواب» .
وأعلَّه أبو زرعة بعلةٍ أخرى. انظر: «علل ابن أبي حاتم» (2/ 438).
وقال العقيلي (3/ 466) بعد أن أخرجه: «الروايةُ في هذا الباب ليِّنة» .
وقد ذكر المعلِّمي في تعليقاته على «الفوائد المجموعة» (330) أن أبا نُعيم قد يطلق الثبوت ويريد أن الحديث ثابتٌ في كتابه، لا أنه ثابتٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وثبَّت ــ أيضًا ــ قولَه صلى الله عليه وسلم: «أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة عالمٌ لم ينفعه اللهُ بعلمه»
(1)
.
فهؤلاء ليس فيهم من هو على سبيل نجاة، بل على سبيل الهَلَكة، نعوذُ بالله من الخذلان.
القسمُ الثالث: المحرومُ المُعْرِض؛ فلا عالمٌ ولا متعلِّم، بل همجٌ رَعاع.
والهَمَجُ من الناس: حَمْقاهُم وجَهَلَتهم، وأصله من الهَمَج، جمع هَمَجَة، وهو ذبابٌ صغيرٌ كالبعوض يسقطُ على وجوه الغنم والدوابِّ وأعينها؛ فشبَّه هَمَجَ الناس به.
والهَمَجُ أيضًا مصدر؛ قال الراجز
(2)
:
(1)
تقدم تخريجُه وبيانُ ضعفه (ص: 319).
(2)
وهو أبو مُحْرِز المحاربي. والرجز في «مجالس ثعلب» (585)، و «الأضداد» لابن الأنباري (279)، و «اللسان» (بذج)، وغيرها.
قال الفراء: «البَذَجُ من أولاد الضأن، بمنزلة العَتُودِ من أولاد المعز» .
قد هَلَكَت جارتُنا من الهَمَجْ
…
وإنْ تَجُعْ تَأكُلْ عَتُودًا أو بَذَجْ
والهَمَجُ هنا مصدر، ومعناه: سوء التدبير في أمر المعيشة.
وقولهم: «هَمَجٌ هامِج» مثل: «ليلٌ لايِل»
(1)
.
والرَّعاعُ من الناس: الحمقى الذين لا يُعْتَدُّ بهم.
* وقولُه: «أتباع كلِّ ناعق» ؛ أي: مَنْ صاحَ بهم ودعاهم تبعوه، سواءٌ دعاهم إلى هدى أو إلى ضلال، فإنهم لا علم لهم بالذي يُدْعَونَ إليه أحقٌّ هو أم باطل، فهم مستجيبون لدعوته.
وهؤلاء مِنْ أضرِّ الخلق
(2)
على الأديان؛ فإنهم الأكثرون عَدَدًا، الأقلُّون عند الله قَدْرًا، وهم حطبُ كلِّ فتنة، بهم تُوقَدُ ويُشَبُّ ضِرَامُها؛ فإنها يعتزلُها أولو الدين، ويتولَّاها الهَمَجُ الرَّعاع.
وسُمِّي داعيهم: ناعقًا؛ تشبيهًا لهم بالأنعام التي يَنْعِقُ بها الراعي فتذهبُ معه أين ذهب؛ قال الله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171].
وهذا الذي وصفهم به أميرُ المؤمنين هو من عدم علمهم وظلمة قلوبهم، فليس لهم نورٌ ولا بصيرةٌ يفرِّقون بها بين الحقِّ الباطل، بل الكلُّ عندهم سواء.
* وقولُه: «يميلون مع كلِّ ريح» ، وفي لفظ:«مع كلِّ صائح» ؛ شبَّه
عقولَهم الضعيفة بالغُصْن الضعيف، وشبَّه الأهويةَ والآراء بالرياح، والغصنُ يميلُ مع الريح حيث مالت، وعقولُ هؤلاء تميلُ مع كلِّ هوًى وكلِّ داع، ولو كانت عقولًا كاملةً كانت كالشجرة الكبيرة التي لا تتلاعبُ بها الرياح.
وهذا بخلاف المثل الذي ضربه النبيُّ صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بالخَامَة من الزَّرع تُفِيئه الريحُ مرةً وتقيمُه أخرى، والمنافقُ كشجرة الأَرْزِ التي لا تُقْطَعُ حتى تَسْتَحْصِد
(1)
؛ فإنَّ هذا المثلَ ضُرِبَ للمؤمن وما يلقاه من عواصف البلاء والأوجاع والأوجال وغيرها، فلا يزالُ بين عافيةٍ وبلاء، ومحنةٍ ومِنْحَة، وصحةٍ وسقم، وأمنٍ وخوف، وغير ذلك، فيقعُ مرةً ويقومُ أخرى، ويميلُ تارةً ويعتدلُ أخرى، فيُكفَّى بالبلاء ويُمَحَّصُ به ويُخَلَّصُ من كَدَرِه، والكافرُ كلُّه خبثٌ ولا يصلحُ إلا للوقود، فليس في إصابته في الدنيا بأنواع البلاء من الحكمة والرحمة ما في إصابة المؤمن.
فهذه حالُ المؤمن في البلاء
(2)
، وأمَّا مع الأهواء ودعاة الفتن والضلال والبدع فكما قيل:
تزولُ الجبالُ الراسياتُ وقلبُه
…
على العهدِ لا يلوِي ولا يتَغَيَّرُ
(3)
* وقولُه: «لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق» ؛ بيَّن السببَ الذي جعلهم بتلك المثابة؛ وهو أنه لم يحصُل لهم من العلم نورٌ
(1)
أخرجه البخاري (5643، 5644)، ومسلم (2809، 2810) من حديث أبي هريرة وأبي بن كعب.
(2)
(ق): «الابتلاء» .
(3)
أنشده المصنف في «بدائع الفوائد» (527)، و «طريق الهجرتين» (681). والرواية في الثاني: على الود.
يفرِّقون به بين الحقِّ والباطل؛ كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28]، وقال تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، وقوله تعالى:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} [المائدة: 16]، وقوله:{وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. فإذا عَدِمَ القلبُ هذا النورَ صار بمنزلة الحيران الذي لا يدري أين يذهب، فهو لحيرته وجهله بطريق مقصوده يَؤُمُّ كلَّ صوتٍ يسمعُه.
= ولم يَسْكُنْ قلوبَهم
(1)
من العلم ما تمتنعُ به من دعاة الباطل؛ فإنَّ الحقَّ متى استقرَّ في القلبِ قَوِيَ به وامتنعَ مما يضرُّه ويُهْلِكه، ولهذا سمَّى اللهُ الحجةَ العلميَّة: سلطانًا، وقد تقدَّم ذلك.
فالعبدُ يُؤتى من ظُلمة بصيرته ومن ضَعْف قلبه، فإذا استقرَّ فيه العلمُ النافعُ استنارت بصيرتُه وقَوِيَ قلبُه.
وهذان الأصلان هما قُطبا السعادة، أعني: العلمَ، والقوَّة.
وقد وصفَ بهما سبحانه المعلِّمَ الأولَ جبريلَ صلواتُ الله وسلامُه عليه، فقال:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 4 - 5]، وقال في سورة التكوير:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} ، فوصفَه
(1)
معطوف على قوله: «لم يحصل لهم من العلم نور
…
».
بالعلم والقوَّة.
وفيه معنًى أحسنُ من هذا؛ وهو الأشبهُ بمراد عليٍّ رضي الله عنه؛ وهو أنَّ هؤلاء ليسوا من أهل البصائر الذين استضاؤوا بنور العلم، ولا لجؤوا إلى عالم مستبصرٍ فقلَّدوه، فلا مستبصرين ولا متَّبعين لمستبصِر؛ فإنَّ الرجلَ إمَّا أن يكون بصيرًا، أو أعمى متمسِّكًا ببصيرٍ يقودُه، أو أعمى يسيرُ بلا قائد.
* قولُه رضي الله عنه: «العلمُ خيرٌ من المال، العلمُ يحرسُك وأنت تحرسُ المال» ؛ يعني: أنَّ العلمَ يحفظُ صاحبَه ويحميه من موارد الهَلَكة ومواقع العَطَب؛ فإنَّ الإنسان لا يلقي نفسَه في هَلَكَةٍ إذا كان عقلُه معه، ولا يعرِّضها لتلافٍ
(1)
إلا إذا كان جاهلًا بذلك لا علمَ له به
(2)
، فهو كمن يأكلُ طعامًا مسمومًا، فالعالمُ بالسُّمِّ وضرره يحرسُه علمُه، ويمتنعُ به مِن أكله، والجاهلُ به يقتلُه جهلُه.
فهذا مثلُ حراسة العلم للعالِم.
وكذا الطبيبُ الحاذقُ يمتنعُ بعلمه من كثيرٍ مما يجلبُ له الأمراض والأسقام، وكذا العالمُ بمخاوف طريقِ سلوكه ومعاطبها يأخذُ حِذْرَه منها، فيحرسُه علمُه من الهلاك.
(1)
كذا في الأصول، سوى (ت):«الملاف» ، تحريف. وهو بكسر التاء مصدرٌ محدَثٌ لتَلِفَ. أو بفتحها والألف إشباعٌ لفتحة اللام في التلف، ولم تذكره كتب اللغة. انظر:«تكملة المعاجم» لدوزي (2/ 59)، و «حاشية ابن عابدين» (1/ 22)، و «دراسات في العربية وتاريخها» لمحمد الخضر حسين (126). وهو كثير الوقوع في كلام المتأخرين، ومن أفصحهم: أبو العلاء في «اللزوميات» (3/ 387، 407)، و «رسالة الغفران» (393). وانظر:«الداء والدواء» (507) والتعليق عليه.
(2)
(ت): «لا علم لديه» .
وهكذا العالمُ بالله وأمره وبعدوِّه ومكايده
(1)
ومداخله على العبد، يحرسُه علمُه من وساوس الشيطان وخطراته وإلقاء الشكِّ والرَّيب والكفر في قلبه، فهو بعلمه يمتنعُ من قبول ذلك، فعلمُه يحرسُه من الشيطان، فكلَّما جاءه ليأخذه صاح به حرسُ العلم والإيمان، فيرجعُ خاسئًا خائبًا.
وأعظمُ ما يحرسُه من هذا العدوِّ المبين: العلمُ والإيمان، فهذا السببُ الذي من العبد، والله من وراء حفظه وحراسته وكَلاءته، فمتى وَكَلَه إلى نفسه طرفة عينٍ تخطَّفه عدوُّه.
قال بعض العارفين: «أجمعَ العارفون على أنَّ التوفيقَ أن لا يَكِلَكَ الله إلى نفسك، وأجمعوا على أنَّ الخِذلان أن يخلِّي بينك وبين نفسك»
(2)
.
وقولُه: «العلمُ يزكو على الإنفاق، والمالُ تَنْقُصُه النفقة» ؛ العالِمُ كلَّما بذل علمَه للناس وأنفقَ منه تفجَّرت ينابيعُه وازداد كثرةً وقوَّةً وظهورًا فيكتسبُ بتعليمه حفظَ ما عَلِمَه، ويحصلُ له به علمُ ما لم يكن عنده، وربَّما تكونُ المسألةُ في نفسه غيرَ مكشوفةٍ ولا خارجةٍ من حَيِّز الإشكال، فإذا تكلَّم بها وعلَّمها اتضحت له وأضاءت وانفتح له منها علومٌ أُخَر.
وأيضًا؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فكما عَلَّمَ الخلقَ من جهالتهم، جزاه اللهُ بأن علَّمه من جهالته؛ كما في «صحيح مسلم»
(3)
من حديث عِياض بن حمارٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديثٍ طويل: «وأنَّ الله قال لي: أَنفِقْ أُنفِقْ عليك» ، وهذا يتناولُ نفقةَ العلم؛ إمَّا بلفظه، وإمَّا بتنبيهه وإشارته
(1)
(ح، ن): «ومصايده» .
(2)
انظر: «الوابل الصيب» (10)، و «الفوائد» (97)، وما سيأتي (ص: 818).
(3)
(2865).
وفحواه.
ولزكاء العلم ونموِّه
(1)
طريقان:
أحدُهما: تعليمُه.
والثاني: العملُ به؛ فإنَّ العملَ به أيضًا ينمِّيه ويكثِّره، ويفتحُ لصاحبه أبوابَه وخباياه، وهذا لأنَّ تعليمَه والعملَ به هو التجارة فيه، فكما ينمو المالُ بالتجارة فيه كذلك العلم.
وقولُه: «والمالُ تَنْقُصُه النفقة» لا ينافي قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «ما نقَصت صدقةٌ من مال»
(2)
؛ فإنَّ المالَ إذا تصدَّقتَ منه وأنفقتَ ذهبَ ذلك القَدْرُ وخَلَفَه غيرُه، وأمَّا العلمُ فكالقَبس من النار لو اقتبس منها العالَمُ
(3)
لم يذهب منها شيء، بل يزيدُ العلمُ بالاقتباس منه، فهو كالعَيْن التي كلَّما أُخِذَ منها قويَ ينبوعُها وجاش مَعِينُها.
وفضلُ العلم على المال يُعْلَمُ من وجوه:
أحدها: أنَّ العلمَ ميراثُ الأنبياء، والمالُ ميراثُ الملوك والأغنياء.
الثاني: أنَّ العلمَ يحرسُ صاحبَه، وصاحبُ المال يحرسُ مالَه.
والثالث: أنَّ المالَ تُذْهِبُه النفقات، والعلمُ يزكو على النفقة.
(1)
في الأصول: «ونحوه» . تحريف. وانظر: «طريق الهجرتين» (802، 805)، و «إغاثة اللهفان» (1/ 46).
(2)
أخرجه مسلم (2588) من حديث أبي هريرة.
(3)
(ح): «أهل الأرض» . وفي طرَّتها: «في الأصل: أهل العلم» . وفي (ن): «أهل العلم» . وفي طرَّتها: «لعله أهل الأرض» .
الرابع: أنَّ صاحبَ المال إذا مات فارقه مالُه، والعلمُ يدخلُ معه قبرَه.
الخامس: أنَّ العلمَ حاكمٌ على المال، والمالُ لا يحكمُ على العلم.
السادس: أنَّ المالَ يحصُل للمؤمن والكافر والبَرِّ والفاجر، والعلمُ النافعُ لا يحصُل إلا للمؤمن.
السابع: أنَّ العالِمَ يحتاجُ إليه الملوكُ فمن دونهم، وصاحبُ المال إنما يحتاجُ إليه أهلُ العُدْم والفاقة.
الثامن: أنَّ النفسَ تَشْرُفُ وتزكو بجمع العلم وتحصيله، وذلك من كمالها وشرفها، والمالُ لا يزكِّيها ولا يكمِّلها ولا يزيدُها صفةَ كمال، بل النفسُ تنقصُ وتَشِحُّ وتبخلُ بجمعه والحرص عليه؛ فحرصُها على العلم عينُ كمالها، وحرصُها على المال عينُ نقصها.
التاسع: أنَّ المالَ يدعوها إلى الطغيان والفخر والخيلاء، والعلمُ يدعوها إلى التواضع والقيام بالعبودية؛ فالمالُ يدعوها إلى صفات الملوك والعلمُ يدعوها إلى صفات العبيد.
العاشر: أنَّ العلمَ حاجبٌ
(1)
موصلٌ لها إلى سعادتها التي خُلِقَت لها والمال حجابٌ عنها وبينها
(2)
.
الحادي عشر: أنَّ غِنى العلم أجلُّ من غِنى المال؛ فإنَّ غِنى المال غِنًى
(1)
(ح، ن): «جاذب» . (ق، ت، د): «صاحب» . وفي طرة (د): «حاجب» وفوقه (خ) إشارة إلى نسخة. وهو الصواب. انظر: «الفوائد» (161)، و «طريق الهجرتين» (737).
(2)
(ح، ت، ن): «بينها وبينها» .
بأمرٍ خارجيٍّ عن حقيقة الإنسان، لو ذهبَ في ليلةٍ أصبح فقيرًا مُعْدِمًا، وغِنى العلم لا يُخشى عليه الفقر، بل هو في زيادةٍ أبدًا، فهو الغِنى العالي
(1)
حقيقة؛ كما قيل:
غَنِيتُ بلا مالٍ عن الناس كلِّهم
…
وإنَّ الغِنى العالي عن الشَّيء لا به
(2)
الثاني عشر: أنَّ المال يَسْتَعْبِدُ مُحِبَّه وصاحبه، فيجعلُه عبدًا له، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «تَعِسَ عبد الدينار والدرهم
…
» الحديث
(3)
، والعلمُ يَسْتَعْبِدُه لربِّه وخالقه، فهو لا يدعوه إلا إلى عبوديَّة الله وحده.
الثالث عشر: أنَّ حبَّ العلم وطلبَه أصلُ كلِّ طاعة، وحبَّ الدنيا والمال وطلبه أصلُ كلِّ سيئة
(4)
.
الرابع عشر: أنَّ قيمةَ الغنيِّ مالُه، وقيمةَ العالِم علمُه، فهذا متقوِّمٌ بماله، فإذا عُدِمَ مالُه عُدِمَت قيمتُه فبقي بلا قيمة، والعالِمُ لا تزولُ قيمتُه، بل هي في تضاعفٍ وزيادةٍ دائمًا.
الخامس عشر: أنَّ جوهرَ المال من جنس جوهر البدن، وجوهرُ العلم من جنس جوهر الروح، كما قال يونس بن حبيب: «علمُك من روحك،
(1)
انظر: «طريق الهجرتين» (65، 67).
(2)
مِن أبياتٍ تنسبُ للشافعي في «المستطرف» (2/ 303)، و «غذاء الألباب» (2/ 543)، وعنهما في ديوانه المجموع (131). والبيتُ في «ربيع الأبرار» (4/ 383) منسوبٌ للقُهِسْتاني.
(3)
أخرجه البخاري (2886) من حديث أبي هريرة.
(4)
(ح، ن): «خطيئة» .
ومالُك من بدنك»
(1)
، والفرقُ بين الأمرين كالفرق بين الروح والبدن.
السادس عشر: أنَّ العالِم لو عُرِضَ عليه بحظِّه من العلم الدنيا بما فيها لم يَرْضَها عِوَضًا من علمه، والغنيُّ العاقلُ إذا رأى شرفَ العالِم وفضلَه وابتهاجَه بالعلم وكمالَه به يودُّ لو أنَّ له علمَه بغناه أجمع.
السابع عشر: أنَّ ما أطاع اللهَ أحدٌ قطُّ إلا بالعلم، وعامةُ من يعصيه إنما يعصيه بالمال.
الثامن عشر: أنَّ العالِمَ يدعو الناسَ إلى الله بعلمه وحاله، وجامعُ المال يدعوهم إلى الدنيا بحاله وماله.
التاسع عشر: أنَّ غِنى المال قد يكونُ سببَ هلاك صاحبه كثيرًا؛ فإنه معشوقُ النفوس، فإذا رأت من يستأثرُ بمعشوقها عليها سعت في هلاكه، كما هو الواقع. وأمَّا غِنى العلم فسببُ حياة الرجل وحياة غيره به، والناسُ إذا رأوا من يستأثرُ عليهم به ويطلبُه أحبُّوه وخدموه وأكرموه.
العشرون: أنَّ اللذَّةَ الحاصلةَ من غِنى المال إما لذَّةٌ وهميَّة وإما لذَّةٌ بهيميَّة. فإنَّ صاحبه إنْ التذَّ بنفس جمعه وتحصيله فتلك لذَّةٌ وهميَّةٌ خياليَّة وإن التذَّ بإنفاقه في شهواته فهي لذَّةٌ بهيميَّة. وأمَّا لذَّةُ العلم فلذَّةٌ عقليَّةٌ روحانيَّة، وهي تشبهُ
(2)
لذَّة الملائكة وبهجتَها. وفرقٌ ما بين اللذَّتين.
الحادي والعشرون: أنَّ عقلاء الأمم مطبقون على ذمِّ الشَّرِه في جمع
(1)
أخرجه القالي في «الأمالي» (1/ 223)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (34/ 203)، وغيرهما.
(2)
(ت): «شبه» . «وهي» ليست في (ح، ن).
المال الحريصِ عليه، وتنقُّصِه والإزراء به، ومطبقون على تعظيم الشَّرِه في جمع العلم وتحصيله، ومدحِه ومحبَّته ورؤيته بعين الكمال.
الثاني والعشرون: أنهم مطبقون على تعظيم الزاهد في المال، المُعْرِض عن جمعه، الذي لا يَلْتَفِتُ إليه ولا يجعلُ قلبَه عبدًا له، ومطبقون على ذمِّ الزاهد في العلم، الذي لا يلتفتُ إليه ولا يحرصُ عليه.
الثالث والعشرون: أنَّ المال إنما يُمْدَحُ صاحبُه بتخلِّيه منه وإخراجه، والعلمُ إنما يُمْدَحُ بتحلِّيه به واتِّصافه به.
الرابع والعشرون: أنَّ غِنى المال مقرونٌ بالخوف والحزن، فهو حزينٌ قبل حصوله، خائفٌ بعد حصوله، وكلَّما كان أكثر كان الخوفُ أقوى، وغِنى العلم مقرونٌ بالأمن والفرح والسرور.
الخامس والعشرون: أنَّ الغنيَّ بماله لا بدَّ أن يفارقَه غِناه، فيتعذَّبَ ويتألم بمفارقته، والغِنى بالعلم لا يزول، فلا يتعذَّبُ صاحبُه ولا يتألم؛ فلذَّةُ الغِنى بالمال لذَّةٌ زائلةٌ منقطعةٌ يَعْقُبُها الألم، ولذَّةُ الغِنى بالعلم لذَّةٌ باقيةٌ مستمرةٌ لا يلحقها ألم.
السادس والعشرون: أنَّ استلذاذ
(1)
النفس وكمالَها بالغِنى استكمالٌ بعاريَّةٍ مؤدَّاة، فتجمُّلها بالمال تجمُّلٌ بثوبٍ مستعارٍ لا بدَّ أن يرجع إلى مالكه يومًا ما، وأما تجمُّلها بالعلم وكمالُها به فتجمُّلٌ بصفةٍ ثابتةٍ لها راسخةٍ فيها لا تفارقُها.
السابع والعشرون: أنَّ الغِنى بالمال هو عينُ فقر النفس، والغِنى بالعلم
(1)
ليست في (ح). وفي (ن): «التذاذ» .
هو غِناها الحقيقي؛ فغِناها بعلمها هو الغِنى، وغِناها بمالها هو الفقر.
الثامن والعشرون: أنَّ من قُدِّم وأُكرِم لماله إذا زال مالُه ذهب
(1)
تقديمُه وإكرامُه، ومن قُدِّم وأُكرِم لعلمه فإنه لا يزدادُ إلا تقديمًا وإكرامًا.
التاسع والعشرون: أنَّ تقديمَ الرجل لماله هو عينُ ذمِّه؛ فإنه نداءٌ عليه بنقصه، وأنه لولا ماله لكان مستحقًّا للتأخير والإهانة
(2)
، وأما تقديمُه وإكرامُه لعلمه فإنه عينُ كماله؛ إذ هو تقديمٌ له بنفسه وبصفته القائمة به، لا بأمرٍ خارجٍ عن ذاته.
الوجه الثلاثون: أنَّ طالبَ الكمال بغِنى المال كالجامع بين الضدَّين؛ فهو طالبٌ ما لا سبيل له إليه.
وبيانُ ذلك: أنَّ القدرةَ صفةُ كمال، وصفةُ الكمال محبوبةٌ بالذَّات، والاستغناءُ عن الغير ــ أيضًا ــ صفةُ كمالٍ محبوبةٌ بالذَّات، فإذا مال الرجلُ بطبعه إلى السَّخاوة والجُود وفِعْل المَكْرُمات، فهذا كمالٌ مطلوبٌ للعقلاء، محبوبٌ للنفوس، وإذا التفتَ إلى أنَّ ذلك يقتضي خروجَ المال من يده، وذلك يُوجِبُ نقصَه واحتياجَه إلى غيره وزوالَ قدرته= نَفَرَت نفسُه عن السَّخاء والكرم والجُود واصطناع المعروف، وظنَّ أنَّ كماله في إمساك المال.
وهذه البليَّةُ أمرٌ ثابتٌ لعامَّة الخَلق، لا ينفكُّون عنها
(3)
.
(1)
(ح، ن): «زال» .
(2)
(ح، ن): «للتأخير والإبعاد» .
(3)
(ق، د): «لايتفكرون» .
فلأجل مَيْل الطَّبع إلى حصول المدح والثناء والتعظيم= يحبُّ الجودَ
(1)
والسَّخاءَ والمكارم، ولأجل فَوْتِ القدرة الحاصلة بسبب إخراجه والحاجة المنافية لكمال الغنى= يحبُّ إبقاءَ ماله، ويكره السَّخاءَ والكرمَ والجود.
فيبقى قلبُه واقفًا بين هذين الدَّاعِيَين يتجاذبانه، ويَعْتَوِرَان عليه، فيبقى القلبُ في مقام المعارضة بينهما، فمن الناس من يترجَّحُ عنده جانبُ البذل والجود والكرم، فيُؤثِرُه على الجانب الآخر، ومنهم من يترجَّحُ عنده جانبُ الإمساك وبقاء القدرة والغِنى، فيُؤثِرُه.
فهذان نَظَران للعقلاء.
ومنهم من يبلغُ به الجهلُ والحماقةُ إلى حيث يريدُ الجمعَ بين الوجهين، فيَعِدُ الناسَ بالجود والسَّخاء والمكارم؛ طمعًا منه في فوزه بالمدح والثناء على ذلك، وعند حضور الوقت لا يَفِي بما قال؛ فيَسْخُو ويبذلُ بلسانه، ويُمْسِكُ بقلبه ويده؛ فيقعُ في أنواعٍ من القبائح والفضائح!
وإذا تأمَّلتَ أحوال أهل الدنيا من الأغنياء رأيتهم تحت أسْر هذه البليَّة وهم غالبًا يَشْكُونَ ويَبْكُون.
وأما غنيُّ العلم، فلا يَعْرِضُ له شيءٌ من ذلك، بل كلَّما بَذَله ازداد ببذله فرحًا وسرورًا وابتهاجًا، والعالِمُ
(2)
وإن فاتتهُ لذَّةُ أهل الغِنى وتمتُّعهم بأموالهم فهم أيضًا قد فاتتهم لذَّةُ أهل العلم وتمتُّعهم بعلومهم وابتهاجُهم بها.
(1)
(ق، ن): «بحب الجود» . وهو تحريف.
(2)
ليست في (ت، ق، د).
فمع صاحب العلم من أسباب اللذَّة ما هو أعظمُ وأقوى وأدومُ من لذَّة الغني، وتعبُه في تحصيله وجمعه وضبطه أقلُّ من تعب جامع المال بجمعه
(1)
، وألمُه دون ألمِه؛ كما قال تعالى للمؤمنين ــ تسليةً لهم بما ينالُهم من الألم والتعب في طاعته ومرضاته ــ:{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].
الحادي والثلاثون: أنَّ اللذَّة الحاصلة من المال والغِنى إنما هي حالَ تجدُّده فقط، وأما حالَ دوامه: فإما أن تذهبَ تلك اللذَّة، وإمَّا أن تنقُص.
ويدلُّ عليه أنَّ الطَّبعَ يبقى طالبًا لغِنًى آخر، حريصًا عليه، فهو يحاولُ تحصيلَ الزيادة دائمًا، فهو في فقرٍ مستمرٍّ غير مُنْقَضٍ
(2)
، ولو ملكَ خزائنَ الأرض ففقرُه وطلبُه وحرصُه باقٍ عليه؛ فإنه أحدُ المنهومَيْن اللذَين لا يشبعان
(3)
، فهو لا يفارقُه ألمُ الحرص والطَّلب.
وهذا بخلاف غنيِّ العلم والإيمان؛ فإنَّ لذَّتَه في حال بقائه مثلُها في حال تجدُّده، بل أزْيَد، وصاحبُها وإن كان لا يزالُ طالبًا للمزيد حريصًا عليه، فطلبُه وحرصُه مُسْتَصْحِبٌ للذَّة الحاصل، ولذَّة المرجوِّ المطلوب، ولذَّة
(1)
(ت، ح، ن): «فجمعه» . خطأ.
(2)
(ت): «منتقص» . «ق» : «منتقض» .
(3)
والآخرُ هو طالب العلم؛ كما ورد في الحديث المشهور الذي صححه الحاكم (1/ 92) من حديث أنس مرفوعًا، ولم يتعقبه الذهبي. وهو أحسنُ طرقه.
وجاء من حديث أنسٍ وابن مسعودٍ وابن عباسٍ رضي الله عنهم من طرقٍ معلولة. وروي موقوفًا، وهو أشبه.
الطَّلب وابتهاجه وفرحه به.
الثاني والثلاثون: أنَّ غِنى المال يستدعي الإنعامَ على الناس والإحسانَ إليهم؛ فصاحبُه إما أن يسُدَّ على نفسه هذا الباب، وإما أن يفتحه عليه.
فإن سدَّه على نفسه اشتُهِرَ عند الناس بالبعد من الخير والنفع؛ فأبغضوه وذمُّوه واحتقروه، وكلُّ من كان بغيضًا عند الناس حقيرًا لديهم كان وصولُ الآفات والمضرَّات إليه أسرعَ من النار في الحطب اليابس، ومن السَّيل في مُنْحَدَره، وإذا عرفَ من الخلق أنهم يمقتونه ويبغضونه ولا يقيمون له وزنًا تألَّم قلبُه غايةَ التألم، وأُحْضِرَ الهمومَ والغمومَ والأحزان.
وإن فتحَ باب الإحسان والعطاء فإنه لا يمكنُه إيصالُ الخير والإحسان إلى كلِّ أحد، فلا بدَّ من إيصاله إلى البعض وإمساكه عن البعض، وهذا يفتحُ عليه باب العداوة والمذمَّة من المحروم والمرحوم.
أمَّا المحرومُ فيقول: كيف جادَ على غيري وبَخِل عليَّ؟!
وأمَّا المرحومُ فإنه يلتذُّ ويفرحُ بما حصلَ له من الخير والنفع، فيبقى طامعًا مُسْتَشْرِفًا لنظيره على الدوام، وهذا قد يتعذَّرُ غالبًا؛ فيفضي ذلك إلى العداوة الشديدة والمذمَّة، ولهذا قيل:«اتقِ شرَّ من أحسنتَ إليه»
(1)
.
وهذه الآفاتُ لا تعرضُ في غِنى العلم؛ فإنَّ صاحبَه يمكنُه بذلُه للعالَم واشتراكُهم فيه
(2)
، والقدرُ المبذولُ منه باقٍ لآخذه لا يزول، بل يتَّجِرُ به، فهو
(1)
وهو مثلٌ سائر. انظر: «مجمع الأمثال» (1/ 145). ويذكره بعضهم حديثًا، ولا أصل له. انظر:«المقاصد الحسنة» (39).
(2)
(ت، د، ق): «بذله للعالم كلهم وأشباههم» ولعلها: «وإشراكهم فيه» .
كالغنيِّ إذا أعطى الفقيرَ رأسَ مالٍ
(1)
يتَّجِرُ به حتى يصير غنيًّا مثلَه.
الوجه الثالث والثلاثون: أنَّ جمعَ المال مقرونٌ بثلاثة أنواعٍ من الآفات والمِحَن: نوعٌ قبله، ونوعٌ عند حصوله، ونوعٌ بعد مفارقته.
* فأما النوعُ الأول: فهو المشاقُّ والأنكادُ والآلامُ التي لا يحصلُ إلا بها.
* وأما النوعُ الثاني: فمشقَّةُ حفظه وحراسته وتعلُّق القلب به، فلا يُصْبِحُ إلا مهمومًا، ولا يمسي إلا مغمومًا.
فهو بمنزلة عاشقٍ مُفْرِط المحبَّة قد ظَفِر بمعشوقه، والعيونُ من كلِّ جانبٍ ترمقُه، والألسنُ والقلوبُ ترشقُه، فأيُّ عَيْشٍ وأيُّ لذَّةٍ لمن هذه حالُه؟! وقد عَلِمَ أنَّ أعداءه وحسَّادَه لا يفتُرون عن سعيهم في التفريق بينه وبين معشوقه وإن لم يظفروا هم به، ولكنَّ مقصودَهم أن يزيلوا اختصاصَه به دونهم، فإن فازوا به وإلا استووا في الحرمان، فزال الاختصاصُ المُؤْلِمُ للنفوس.
ولو قدروا على مثل ذلك مع العالِم لفعلوه، ولكنَّهم لما علموا أنه لا سبيل إلى سَلْبِه علمَه
(2)
عمدوا إلى جحده وإنكاره؛ ليزيلوا من القلوب محبَّته وتقديمَه والثناءَ عليه، فإن بَهَرَ علمُه وامتنع عن مكابرة الجحود والإنكار رَمَوه بالعظائم، ونسبوه إلى كلِّ قبيح؛ ليزيلوا من القلوب محبَّته ويُسْكِنوا موضعَها النُّفرة عنه وبغضَه. وهذا شغلُ السَّحرة بعينه؛ فهؤلاء سحرةٌ بألسنتهم.
فإن عجزوا له عن شيءٍ من القبائح الظاهرة بعينه رَمَوه بالتلبيس والتدليس، والزَّوْكَرة
(1)
والرِّياء، وحبِّ الترفُّع وطلب الجاه.
وهذا القَدْرُ من معاداة أهل الجهل والظُّلم للعلماء مثلُ الحرِّ والبرد لا بدَّ منه، فلا ينبغي لمن له مُسْكةُ عقلٍ أن يتأذَّى به؛ إذ لا سبيل له إلى دفعه بحال، فليوطِّن نفسَه عليه كما يوطِّنُها على برد الشتاء وحرِّ الصَّيف.
* والنوعُ الثالث من آفات الغِنى: ما يحصلُ للعبد بعد مفارقته من تعلُّق قلبه به، وكونه قد حِيل بينه وبينه، والمطالبة بحقوقه، والمحاسبة على مقبوضه ومصروفه: من أين اكتسبه وفي ماذا أنفقه؟
وغِنى العلم والإيمان مع سلامته من هذه الآفات فهو كفيلٌ بكلِّ لذَّةٍ وفرحةٍ وسرور، ولكن لا يُنالُ إلا على جسرٍ من التعب والصبر والمشقَّة.
الرابع والثلاثون: أنَّ لذَّةَ الغنيِّ بالمال مقرونةٌ بخُلْطَة الناس، ولو لم يكن إلا خَدَمُه وأزواجُه وسَراريه وأتباعُه؛ إذ لو انفردَ الغنيُّ بماله وحده من غير أن يتعلَّق بخادمٍ أو زوجةٍ أو أحدٍ من الناس لم يَكْمُل انتفاعُه بماله، ولا التذاذُه به.
وإذا كان كمالُ لذَّته بغناه موقوفًا على اتصاله بالغير، فذلك الاتصالُ
(1)
قال المقَّري في «نفح الطيب» (6/ 12): «الزواكرة [جمعُ زوكر]: لفظٌ يستعمله المغاربة، ومعناه عندهم المتلبِّسُ الذي يُظْهِرُ النُّسك والعبادة، ويُبْطِنُ الفسق والفساد» . وانظر: «طريق الهجرتين» (889)، و «السير» (14/ 314، 21/ 193)، و «إنباء الغمر» (1/ 37، 3/ 359)، و «الطالع السعيد» (583)، و «أعيان العصر» (4/ 598). ومن رسائل ابن شيخ الحزامين:«الفرق بين كرامة الولي وزوكرة المزوكر» . انظر: مقدمة تحقيق رحلته (10).
منشأُ
(1)
الآفات والآلام وأنواع النَّكد، ولو لم يكن إلا اختلافُ أخلاق الناس وطبائعهم وإراداتهم؛ فقبيحُ هذا حسنُ ذاك، ومصلحةُ ذاك مفسدةُ هذا، ومنفعةُ هذا مضرَّةُ الآخر، وبالعكس؛ فهو مبتلىً بهم، فلا بدَّ من وقوع النُّفرة والتباغض والتعادي بينهم وبينه؛ فإنَّ إرضاءهم كلِّهم محال، وهو جمعٌ بين الضدَّين، وإرضاءُ بعضهم وإسخاطُ غيره سببُ الشرِّ والمعاداة.
وكلما طالت المخالطةُ ازدادت أسبابُ الشرِّ والعداوة وقَوِيَت؛ وبهذا السَّبب كان الشرُّ الحاصلُ من الأقارب والعُشَراء أضعاف الشرِّ الحاصل من الأجانب والبُعَداء.
وهذه المخالطةُ إنما حصلت من جانب الغِنى بالمال، أما إذا لم يكن فيه فضيلةٌ
(2)
لهم فإنهم يتجنَّبون مخالطتَه ومعاشرتَه، فيستريح من أذى الخُلْطة والعِشْرة.
وهذه الآفاتُ معدومةٌ في الغِنى بالعلم.
الخامس والثلاثون: أنَّ المالَ لا يرادُ لذاته وعَيْنه؛ فإنه لا يحصُل بذاته شيءٌ من المنافع أصلًا؛ فإنه لا يُشْبِعُ ولا يُرْوِي، ولا يُدْفِاءُ ولا يُمْتِع
(3)
، وإنما يرادُ لهذه الأشياء؛ فإنه لما كان طريقًا إليها أريدَ إرادةَ الوسائل، ومعلومٌ أنَّ الغايات أشرفُ من الوسائل؛ فهذه الغاياتُ إذًا أشرفُ منه، وهي مع شرفها بالنسبة إليه ناقصةٌ دنيَّة.
(1)
(د، ق، ت): «فذلك منشأ» .
(2)
(ح، ن): «فضلة» .
(3)
(ق، ن، ت، ح): «يمنع» .
وقد ذهب كثيرٌ من العقلاء إلى أنها لا حقيقةَ لها، وإنما هي دفعُ آلامٍ فقط
(1)
؛ فإنَّ لبسَ الثِّياب ــ مثلًا ــ إنما فائدتُه دفعُ التألم بالحرِّ والبرد والريح، وليس فيها لذَّةٌ زائدةٌ على ذلك، وكذلك الأكلُ إنما فائدتُه دفعُ ألم الجوع، ولهذا لو لم يجد ألمَ الجوع لم يَسْتَطِب الأكل، وكذلك الشربُ مع العطش، والراحةُ مع التعب.
ومعلومٌ أنَّ في مزاولة ذلك وتحصيله ألم وضرر
(2)
، ولكنَّ ضررَه وألمَه أقلُّ من ضرر ما يُدْفَعُ به وألمِه، فيحتملُ الإنسانُ أخفَّ الضَّررين دفعًا لأعظمهما.
وحُكِي عن بعض العقلاء
(3)
أنه قيل له ــ وقد تناول قدحًا كريهًا جدًّا من الدواء ــ: كيف حالك معه؟ قال:
أصبحتُ في دارِ بَلِيَّاتِ
…
أدفعُ آفاتٍ بآفات
وفي الحقيقة؛ فلذَّاتُ الدنيا من المآكل والمشارب والملبس والمسكن والمَنْكَح من هذا الجنس، واللذَّةُ التي يباشرُها الحِسُّ ويتحرَّكُ لها الحيُّ
(4)
ــ وهي الغايةُ المطلوبةُ له من لذَّة المَنْكَح والمأكل ــ شهوةُ البطن والفَرْج، ليس لهما ثالثٌ البتَّة، إلا ما كان وسيلةً إليهما وطريقًا إلى تحصيلهما.
(1)
انظر ما سيأتي (ص: 782).
(2)
كذا في الأصول. والجادةُ النصب.
(3)
هو أبو إسحاق النظَّام، تمثَّل ببيت أبي العتاهية. انظر:«خاص الخاص» (110)، و «محاضرات الأدباء» (4/ 54)، وعن الأول:«ديوان أبي العتاهية وأخباره» (511).
(4)
(ق): «الجسد» .
وهذه اللذَّةُ منغَّصةٌ من وجوهٍ عديدة:
منها: أنَّ تصوُّرَ زوالها وانقضائها وفنائها يوجبُ تنغُّصَها
(1)
.
ومنها: أنها ممزوجةٌ بالآفات، معجونةٌ بالآلام، مختلطةٌ بالمخاوف، وفي الغالب لا يفي ألمُها بطِيبها، كما قيل:
قايَسْتُ بين جمالها وفَعالها
…
فإذا المَلاحةُ بالقَباحَةِ لا تَفِي
(2)
ومنها: أنَّ الأراذلَ من الناس وسَقَطَهم يشاركون فيها كبراءَهم وعقلاءَهم، بل يزيدون عليهم فيها أعظمَ زيادةٍ وأفحشَها، فنسبتُهم فيها إلى الأفاضل كنسبة الحيوانات البهيميَّة إليهم، فمشاركةُ الأراذل وأهل الخِسَّة والدناءة فيها وزيادتُهم على العقلاء فيها مما يوجبُ النُّفرةَ والإعراضَ عنها، وكثيرٌ من الناس حصل له الزهدُ في المحبوب والمعشوق منها بهذه الطريق.
وهذا كثيرٌ في أشعار الناس ونَثْرهم، كما قيل:
سأتركُ حُبَّها من غير بُغْضٍ
…
ولكنْ كثرةُ الشُّركاءِ فيهِ
إذا وقعَ الذُّبابُ على طعامٍ
…
رفعتُ يدي ونفسي تشتهيهِ
وتجتنبُ الأسودُ ورودَ ماءٍ
…
إذا كان الكلابُ يَلَغْنَ فيهِ
(3)
(1)
(ح، ن): «تنغيصها» . (د، ق): «موجب تنغصها» .
(2)
البيت لأبي بكر بن السرَّاج، مِنْ ثلاثة أبياتٍ حِسان، نُسِبَت خطأً لابن المعتز، وهي في ديوانه (1/ 386)، وقبض جائزتها عبيدُ الله بن طاهر! الخبر في «الديارات» للشابشتي (118)، و «إنباه الرواة» (3/ 147)، و «إرشاد الأريب» (2535)، وغيرها.
(3)
الأبيات في «المستطرف» (1/ 163، 2/ 434) دون نسبة.
وقيل لزاهد: ما الذي زهَّدك في الدُّنيا؟ فقال: «خِسَّةُ
(1)
شركائها، وقلَّةُ وفائها، وكثرةُ جفائها».
وقيل لآخر في ذلك؛ فقال: «ما مددتُ يدي إلى شيءٍ منها إلا وجدتُ غيري قد سبقني إليه، فأتركُه له» .
ومنها: أنَّ الالتذاذَ بموقعها إنما هو بقدر شدَّة الحاجة إليها، والتألم بمطالبة النفس لتناولها، وكلَّما كانت شهوةُ الظَّفر بالشيء أقوى كانت اللذَّةُ الحاصلةُ بوجوده أكمل، فما لم تحصُل تلك الشهوةُ لم تحصُل تلك اللذَّة؛ فمقدارُ اللذَّة الحاصلة في الحال مساوٍ لمقدار الحاجة والألم والمضرَّة في الماضي؛ وحينئذٍ تتقابلُ اللذَّةُ الحاصلةُ والألمُ المتقدِّم، فيتساقطان، فتصيرُ اللذَّةُ كأنها لم توجد، ويصيرُ بمنزلة من شَقَّ بطنَ رجلٍ ثمَّ خاطَه وداواهُ بالمَراهم، أو بمنزلة من ضربه عشرةَ أسواطٍ وأعطاه عشرةَ دراهم! ولا تخرجُ لذَّاتُ الدنيا غالبًا عن ذلك.
ومثلُ هذا لا يُعَدُّ لذَّةً ولا سعادةً ولا كمالًا، بل هو بمنزلة قضاء الحاجة من البول والغائط؛ فإنَّ الإنسان يتضرَّرُ بثِقْله، فإذا قضى حاجتَه استراح منه، فأمَّا أن يعدَّ ذلك سعادةً وبهجةً ولذَّةً مطلوبةً فلا.
ومنها: أنَّ هاتين اللذَّتين اللَّتين هما آثرُ اللذَّات عند الناس لا سبيل
(2)
إلى نيلهما إلا بما يقترنُ بهما قبلهما وبعدهما من مباشرة القاذورات والتألُّم الحاصل عقيبهما.
مثالُه
(1)
: لذَّةُ الأكل؛ فإنَّ العاقلَ لو نظر إلى طعامه حال مخالطته ريقَه وعَجْنِه به لنفرت نفسُه منه، ولو سقطت تلك اللقمةُ مِنْ فِيه لنفَر طبعُه من إعادتها إليه.
ثمَّ إنَّ لذَّته به إنما تحصُل في مجرى نحو الأربع الأصابع
(2)
، فإذا فُصِل عن ذلك المجرى زال تلذُّذُه به، فإذا استقرَّ في مَعِدته وخالطه الشرابُ وما في المعدة من الأجزاء الفَضْلِيَّة، فإنه حينئذٍ يصيرُ في غاية الخِسَّة
(3)
، فإن زاد على مقدار الحاجة أورثَ الأدواءَ المختلفة على تنوُّعها، ولولا أنَّ بقاءه موقوفٌ على تناول
(4)
الغذاء لكان تركُه ــ والحالةُ هذه ــ أليقَ به، كما قال بعضهم:
لولا قضاءٌ جَرى نزَّهتُ أُنمُلتي
…
عن أن تُلِمَّ بمأكولٍ ومشروبِ
(5)
وأمَّا لذَّةُ الوِقاع، فقَدْرُها أبينُ من أن تُذْكَر آفاتُه، ويدلُّ عليه أنَّ أعضاء هذه اللذَّة هي عورةُ الإنسان التي يستحيي من رؤيتها وذِكْرها، وسترُها أمرٌ فطر الله عليه عبادَه، ولا تتمُّ لذَّةُ المواقَعة إلا بالاطلاع عليها وإبرازها،
(1)
(ت، د، ق): «مثال» .
(2)
(ق): «نحو الأربع أصابع» . وهو المريء، وإنما سمِّي بذلك لمروء الطعام فيه، وهو انسياغه، كما في «الكشاف» (1/ 502). وفسِّر قوله:{فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} في أحد القولين بأنه: أسرعُ انحدارًا عن المَرِيء؛ لسهولته وخفَّته عليه. انظر: «زاد المعاد» (4/ 231).
(3)
(ن، ح): «الخساسة» .
(4)
(ق): «تناوله» .
(5)
البيت لعبد القاهر الجرجاني شيخ العربية، في «ربيع الأبرار» (2/ 675).
والتلطُّخ بالرطوبات المُسْتَقْذَرة المتولِّدة منها، ثمَّ إنَّ تمامها إنما يحصلُ بانفصال النطفة، وهي اللذَّةُ المقصودةُ من الوِقاع، وزمنُها يشبه الآنَ الذي لا ينقسم
(1)
؛ فصعوبةُ تلك المُزاوَلة والمُحاوَلة والمُطاوَلة والمُراوَضة
(2)
والتعب لأجل لذَّة لحظةٍ كمرِّ الطَّرف! فأيُّ مقايسةٍ بين هذه اللذَّة وبين التعب في طريق تحصيلها؟!
وهذا يدلُّ على أنَّ هذه اللذَّة ليست من جنس الخيرات والسعادات والكمال الذي خُلِقَ له العبد، ولا كمال له بدونه.
بل ثَمَّ أمرٌ وراء ذلك كلِّه قد هُيِّاء له العبدُ وهو لا يفطنُ له، فهو لغفلته عنه، وإعراضه عن التفتيش عليه حتى يَظْفَر بمعرفته، وعن التفتيش على طريقه حتى يَصِلَ إليه= يَسُومُ نفسَه مع الأنعام السَّائمة.
قد هيَّؤوك لأمرٍ لو فَطِنْتَ له
…
فاربأ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ
(3)
ومَوْقِعُ هذه اللذَّة من النفس كمَوْقِع لذَّة البراز
(4)
من رجلٍ احتبسَ في موضعٍ لا يمكنه القيامُ إلى الخلاء، وصار مضطرًّا إليه؛ فإنه يجدُ مشقَّةً شديدةً وبلاءً عظيمًا، فإذا تمكَّن من الذهاب إلى الخلاء وقَدَرَ على دفع ذلك
(1)
وهو الحدُّ الذي يتَّصلُ به آخرُ الزمان الماضي بأول الزمان المستقبل، بمنزلة النُّقطة التي يتَّصلُ بها الخطَّان حتى يصيرا واحدًا، فتكونُ النقطةُ مبدأً لأحد الخطَّين ومنتهًى للخطِّ الآخر. انظر:«شرح أدب الكاتب» للجواليقي (57)، و «الكليات» (827)، و «المعجم الفلسفي» (1/ 28).
(2)
(ت): «والمراوحة» .
(3)
آخرُ بيتٍ من لاميَّة الطُّغرائي المشهورة بلاميَّة العَجَم، في ديوانه (309).
(4)
البَراز: الفَضاءُ الواسع. وبالكسر: كنايةٌ عن الغائط. «الصحاح» (برز).
الخبيث المؤذي، وجدَ لذَّةً عظيمةً عند دفعه وإرساله
(1)
، ولا لذَّةَ هناك إلا راحتُه من حمل ما يؤذيه حملُه.
فعُلِمَ أنَّ هذه اللذَّات إمَّا أن تكونَ دفع آلام، وإمَّا أن تكون لذَّاتٍ ضعيفةً خسيسةً مقترنةً بآفاتٍ تُرْبي مضرتُها عليها
(2)
.
وهذا كما يَعْقُبُ لذَّةَ الوِقاع من ضعف القلب، وخَفَقان الفؤاد، وضعف القُوى البدنيَّة والقلبيَّة، وضعف الأرواح، واستيلاء العفونة على كلِّ البدن، وإسراع الضعف والخَوَر إليه، واستيلاء الأخلاط عليه لضعف القوَّة عن دفعها وقهرها.
ومما يدلُّ على أنَّ هذه اللذَّات ليست خيراتٍ وسعاداتٍ وكمالًا: أنَّ العقلاء من جميع الأمم مطبقونَ على ذمِّ من كانت نَهْمَتَه وشغلَه ومَصْرِفَ همَّته وإرادته، والإزارء به، وتحقير شأنه، وإلحاقه بالبهائم، ولا يقيمون له وزنًا، ولو كانت خيراتٍ وكمالًا لكان من صرَفَ إليها همَّتَه أكملَ الناس.
وممَّا يدلُّ على ذلك: أن القلبَ الذي قد وَجَّهَ قصدَه وإرادته إلى هذه اللذَّات لا يزالُ مستغرقًا في الهموم والغموم والأحزان، وما ينالُه من اللذَّات في جنب هذه الآلام كقطرةٍ في بحر، كما قيل:
سُرورُه وَزْنُ حَبَّهْ وحُزْنُه قِنْطار
(3)
(1)
بل قال ابنُ حزمٍ في «المحلى» (2/ 6): «اللذةُ في خروج البول والغائط والريح أشدُّ عند الحاجة إلى خروجها منها في خروج المني» ! وذكر الرازي في «السر المكتوم» (ص: 3) أن لذة إخراج الطعام أعظمُ من لذة اجتلابه!
(2)
(ت، ق): «ترى مضرتها عليها» .
(3)
لم أره في مصدرٍ آخر. وهو من «كان وكان» .
فإنَّ القلبَ يجري مجرى مرآةٍ منصوبةٍ على جدار، وذلك الجدارُ مَمرٌّ لأنواع المُشْتَهَيات
(1)
والملذوذات والمكروهات، فكلَّما مرَّ به شيءٌ من ذلك ظهرَ فيه أثرُه.
فإن كان محبوبًا مُشْتَهًى مال طبعُه إليه، فإن لم يقدر على تحصيله تألم وتعذَّبَ بفَقْده، وإن قدرَ على تحصيله تألم في طريق الحصول بالتعب والمشقَّة ومنازعة الغير له، ويتألم حال حصوله خوفًا من فراقه
(2)
، وبعد فراقه حزنًا على ذهابه.
وإن كان مكروهًا له ولم يقدر على دفعه تألم بوجوده، وإن قدرَ على دفعه اشتغل بدفعه، ففاتته مصلحةٌ راجحةُ الحصول، فيتألم لفواتها.
فعُلِمَ أنَّ هذا القلبَ أبدًا مستغرقٌ في بحار الهموم والغموم والأحزان، وأنَّ نفسَه تضحكُ عليه وتُرضِّيه بوزن ذرَّةٍ من لذَّته
(3)
، فيغيبُ بها عن شُهوده القناطيرَ من ألمه وعذابه.
فإذا حِيل بينه وبين تلك اللذَّة ولم يبقَ له إليها سبيل، تجرَّد ذلك الألمُ وأحاطَ به واستولى عليه من كلِّ جهاته، فقُلْ ما شئتَ في حال عبد قد غُيِّبَ عنه سَعْدُه وحظوظُه وأفراحُه، وأُحْضِرَ شِقْوتَه وهمومَه وغمومَه وأحزانَه. وبين العبد وبين هذه الحال أن يُكشفَ
(4)
الغطاء، ويُرفعَ الستر، وينجلي الغبار، ويحصَّل ما في الصدور.
(1)
(ت): «الشبهات» . (ن): «المشتبهات» .
(2)
(ن): «فواته» .
(3)
(ح): «من لذة من لذته» .
(4)
(ق، د): «ينكشف» .
فإذا كانت هذه غايةَ اللذَّات الحيوانيَّة، التي هي غايةُ جمع الأموال وطلبها، فما الظنُّ بقدر الوسيلة؟!
وأمَّا غِنى العلم والإيمان، فدائمُ اللذَّة، متَّصلُ الفرحة، مُقْتَضٍ لأنواع المسرَّة والبهجة، لا يزولُ فيُحْزِن، ولا يُفارقُ فيُؤلِم، بل أصحابُه كما قال الله تعالى فيهم:{لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62].
السادس والثلاثون: أنَّ غنيَّ المال يبغضُ الموتَ ولقاءَ الله؛ فإنَّه لحبِّه مالَه يكرهُ مفارقتَه ويحبُّ بقاءه
(1)
ليتمتَّع به، كما يشهدُ به الواقع.
وأمَّا العلمُ، فإنه يحبِّبُ للعبد لقاءَ ربِّه، ويزهِّدُه في هذه الحياة النَّكِدَة الفانية.
السابع والثلاثون: أنَّ الأغنياء يموتُ ذكرُهم بموتهم، والعلماءُ يموتون ويحيا ذكرُهم؛ كما قال أميرُ المؤمنين في هذا الحديث:«مات خُزَّانُ الأموال وهم أحياء، والعلماءُ باقون ما بقي الدهر» ؛ فخُزَّانُ الأموال أحياءٌ كأموات، والعلماءُ بعد موتهم أمواتٌ كأحياء.
الثامن والثلاثون: أنَّ نسبةَ العلم إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن؛ فالروحُ ميتةٌ حياتُها بالعلم، كما أنَّ الجسدَ ميتٌ حياتُه بالروح، فالغِنى بالمال
(2)
غايتُه أن يزيد في حياة البدن، وأمَّا العلمُ فهو حياةُ القلوب والأرواح، كما تقدم تقريرُه.
التاسع والثلاثون: أنَّ القلبَ مَلِكُ البدن، والعلمَ زينتُه وعُدَّتُه ومالُه، وبه
(1)
(ق): «مقامه» .
(2)
(ق، ح، د، ن): «فالغنى والمال» .
قِوامُ مُلْكه، والمَلِكُ لا بدَّ له من عددٍ وعُدَّةٍ ومالٍ وزينة؛ فالعلمُ هو مركبُه وعدَّتُه وجَمالُه
(1)
.
وأمَّا المالُ فغايتُه أن يكون زينةً وجَمالًا للبدن إذا أنفقه في ذلك، فإذا خَزَنَه ولم ينفقه لم يكن زينةً ولا جمالًا، بل نقصًا ووبالًا.
ومن المعلوم أنَّ زينةَ المَلِك وما به قِوامُ ملكه أجلُّ وأفضلُ من زينة رعيَّته وجَمالهم، فقِوامُ القلب بالعلم، كما أنَّ قِوامَ الجسم بالغذاء.
الوجه الأربعون: أنَّ القدرَ المقصودَ من المال هو ما يكفي العبد ويُقِيمُه ويدفعُ ضرورتَه حتى يتمكَّن من قضاء جَهازه
(2)
، ومن التزوُّد لسفره
(3)
إلى ربِّه عز وجل، فإذا زاد على ذلك شَغَلَه وقَطَعَه عن السفر إلى ربِّه وعن قضاء جَهازه وتَعْبِيَة زاده؛ فكان ضررُه عليه أكثر من مصلحته، وكلَّما ازدادَ غِناه به ازدادَ تثبُّطًا وتخلُّفًا عن التجهُّز لما أمامه.
وأمَّا العلمُ النافع، فكلَّما ازدادَ منه ازدادَ في تَعْبِيَة الزاد، وقضاء الجَهاز، وإعداد عدَّة المسير، والله الموفِّق وبه الاستعانة، ولا حول ولا قوة إلا به.
فعُدَّةُ هذا السفر هو العلمُ والعمل، وعُدَّةُ الإقامة جمعُ الأموال والادِّخار، ومن أراد شيئًا هيَّأ له عُدَّتَه، قال تعالى:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].
(1)
(د، ق): «وكماله» .
(2)
جَهازُ كل شيء: ما يحتاج إليه.
(3)
(ق): «لمستقره» .
* قولُه: «محبةُ العلم ــ أو العالِم ــ دِينٌ يدانُ بها» ؛ لأنَّ العلمَ ميراثُ الأنبياء، والعلماءُ وُرَّاثُهم، فمحبةُ العلم وأهله محبةٌ لميراث الأنبياء وورثتهم، وبغضُ العلم وأهله بغضٌ لميراث الأنبياء وورثتهم.
فمحبةُ العلم من علامات السعادة وبغضُ العلم من علامات الشقاوة، وهذا كلُّه إنما هو في علم الرُّسل الذي جاؤوا به، وورَّثوه للأمَّة، لا في كلِّ ما يسمَّى علمًا.
وأيضًا؛ فإنَّ محبةَ العلم تحملُ على تعلُّمه واتِّباعه، وذلك هو الدِّين، وبغضُه ينهى عن تعلُّمه واتِّباعه، وذلك هو الشقاءُ والضلال.
وأيضًا؛ فإنَّ الله سبحانه عليمٌ يحبُّ كلَّ عليم، وإنما يضعُ علمَه عند من يحبُّه، فمن أحبَّ العلمَ وأهلَه فقد أحبَّ ما أحبَّ الله، وذلك مما يُدانُ به.
* قولُه: «العلمُ يُكْسِبُ العالِمَ الطَّاعةَ في حياته، وجميل الأُحدوثة بعد مماته» ؛ يُكْسِبه ذلك، أي: يجعلُه كسبًا له، ويورِّثُه إياه. ويقال: كَسَبَه ذلك عزًّا وطاعةً، وأَكْسَبه. لغتان.
ومنه حديثُ خديجة رضي الله عنها: «إنك لتَصِلُ الرَّحِم، وتَصْدُقُ الحديث، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتُكْسِبُ المعدوم»
(1)
، رُوِي بفتح التاء وضمِّها، ومعناه: تُكْسِبُ المالَ والغِنى. هذا هو الصواب.
وقالت طائفة: من رواه بضمِّها فذلك من: أَكْسَبه
(2)
مالًا وعزًّا، ومن رواه بفتحها فمعناه: تَكْسِبُ أنت المالَ المعدومَ بمعرفتك وحِذْقِك
(1)
أخرجه البخاري (3)، ومسلم (160) من حديث عائشة.
(2)
(ق، د): «أكسبته» .
بالتجارة
(1)
.
ومعاذَ الله من هذا الفهم، وخديجةُ أجلُّ قدرًا من تكلُّمها بهذا في هذا المقام العظيم، أن تقولَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشِر، فوالله لا يخزيك الله؛ إنك تَكْسِبُ الدرهمَ والدينار وتُحْسِنُ التجارة!
ومثلُ هذه التحريفات إنما تُذْكَرُ لئلَّا يُغْتَرَّ بها في تفسير كلام الله ورسوله.
والمقصودُ أنَّ قولَه: «العلمُ يُكْسِبُ العالمَ الطَّاعةَ في حياته» ؛ أي: يجعلُه مطاعًا؛ لأنَّ الحاجةَ إلى العلم عامةٌ لكلِّ أحدٍ، الملوك فمن دونهم، فكلُّ أحدٍ محتاجٌ إلى طاعة العالِم، فإنه يأمرُ بطاعة الله ورسوله، فيجبُ على الخلق طاعتُه، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
وفُسِّرَ {وَأُولِي الْأَمْرِ} بالعلماء. قال ابن عباس: «هم الفقهاءُ والعلماءُ أهلُ الدِّين، الذين يعلِّمون الناسَ دينَهم، أوجبَ اللهُ تعالى طاعتَهم» . وهذا قولُ مجاهد والحسن والضحَّاك وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد.
وفُسِّروا بالأمراء. وهو قولُ ابن زيد، وإحدى الروايتين عن ابن عباس وأحمد
(2)
.
(1)
ذكر هذا المعنى ــ على رواية الفتح ــ السَّرَقُسْطِيُّ في «الدلائل في غريب الحديث» (1/ 333)، وضعَّفه وغلَّطه النوويُّ في «شرح مسلم» (2/ 201)، وانظر:«المفهم» (1/ 379)، و «فتح الباري» (1/ 34).
(2)
انظر التعليق المتقدم (ص: 192).
والآيةُ تتناولهما جميعًا؛ فطاعةُ ولاة الأمر واجبةٌ إذا أمروا بطاعة الله ورسوله، وطاعةُ العلماء كذلك.
فالعالِمُ بما جاء به الرسولُ العاملُ به أطوعُ في أهل الأرض من كلِّ أحد، فإذا مات أحيا اللهُ ذكرَه، ونشرَ له في العالمين أحسنَ الثناء.
فالعالِمُ بعد وفاته ميتٌ وهو حيٌّ بين الناس، والجاهلُ في حياته حيٌّ وهو ميتٌ بين الناس، كما قيل:
وفي الجهلِ قبل الموتِ موتٌ لأهله
…
وأجسامُهم قبل القبور قبورُ
وأرواحُهم في وَحْشةٍ مِنْ جُسُومِهم
…
وليس لهم حتى النُّشورِ نُشورُ
(1)
وقال آخر:
قد مات قومٌ وما ماتت مَكارِمُهم
…
وعاشَ قومٌ وهم في الناس أمواتُ
(2)
وقال آخر:
وما دام ذِكْرُ العبد بالفضل باقيًا
…
فذلك حيٌّ وهو في التُّرْبِ هالكُ
(3)
ومن تأمَّل أحوال أئمَّة الإسلام ــ كأئمَّة الحديث والفقه ــ كيف هم تحت التراب وهم في العالَمين كأنهم أحياءٌ بينهم، لم يَفْقِدُوا منهم إلا صُوَرهم، وإلا فذِكرُهم وحديثُهم والثناءُ عليهم غير منقطع، وهذه هي الحياةُ
(1)
مضى القولُ في تخريج البيتين (ص: 130).
(2)
البيت للشافعي في «المنهج الأحمد» (1/ 71)، وعنه في ديوانه (58)، ودون نسبة في «السلوك» للجندي (1/ 420)، و «زهر الأكم» (1/ 332).
(3)
لم أعثر عليه.
حقًّا، حتى عُدَّ ذلك حياةً ثانية، كما قال المتنبي
(1)
:
ذِكْرُ الفتى عَيْشُه الثاني وحاجتُه
…
ما قاتَه وفضولُ العَيْشِ أشغالُ
* قولُه: «وصنيعةُ المال تزولُ بزواله» ؛ يعني: أنَّ كلَّ صنيعةٍ صُنِعَت للرجل من أجل ماله؛ من إكرامٍ ومحبَّةٍ وخدمةٍ وقضاءِ حوائجَ وتقديمٍ واحترامٍ وتوليةٍ وغير ذلك، فإنها إنما هي مراعاةٌ لماله، فإذا زال مالُه وفارقه زالت تلك الصنائعُ كلُّها، حتى إنه ربَّما لا يُسَلِّمُ عليه من كان يدأبُ في خدمته ويسعى في مصالحه.
وقد أكثر الناسُ من هذا المعنى في أشعارهم وكلامهم.
وفي مثل قولهم: «مَنْ وَدَّك لأمرٍ مَلَّك عند انقضائه»
(2)
قال بعض العرب:
وكان بنو عمِّي يقولون: مرحبًا
…
فلمَّا رأوني مُعْسِرًا ماتَ مَرْحَبُ
(3)
(1)
في ديوانه (505). وتحرَّف في (ت، ح، ن) وكثيرٍ من المصادر: «قاته» إلى: «فاته» بالفاء. والرواية في الديوان: «عمره الثاني» .
(2)
نُسِب القول إلى الحسن بن محمد بن علي بن موسى في «التذكرة الحمدونية» (1/ 276). وإلى بعض الحكماء في «العزلة» للخطابي (60)، و «ربيع الأبرار» (1/ 431). وإلى بعض ملوك الهند في «الإيجاز والإعجاز» (11)، و «البصائر والذخائر» (1/ 127)، و «التذكرة الحمدونية» (1/ 277).
(3)
من أبياتٍ تنسب لرجلٍ يكنى أبا كثير، في «إصلاح المال» لابن أبي الدنيا (495)، وبعضها في «روضة العقلاء» (226)، و «عيون الأخبار» (1/ 241)، و «المحاسن والمساواء» (273)، و «المستطرف» (2/ 96)، دون نسبة. وفي «العقد» (3/ 35) أن هذا البيت وآخر وُجِدا مكتوبَين بالذَّهب في جدارٍ من جُدُرِ بيت المقدس. وليسا في «أدب الغرباء» .
ومن هذا ما قيل: «إذا أكرمَك الناسُ لمالٍ أو سلطانٍ فلا يُعْجِبَنَّك ذلك؛ فإنَّ زوالَ الكرامة بزوالهما، ولكن لِيُعْجِبْك
(1)
إن أكرموك لعلمٍ أو دين»
(2)
.
وهذا أمرٌ لا يُنْكَرُ في الناس؛ حتى إنهم ليُكْرِمُون الرجلَ لثيابه، فإذا نزعها لم ير منهم تلك الكرامةَ وهو هو!
قال مالك: «بلغني أنَّ أبا هريرة دُعِيَ إلى وليمةٍ فأتى، فحُجِب، فرجعَ فلبسَ غير تلك الثِّياب، فأُدْخِل، فلمَّا وُضِعَ الطعامُ أدخلَ كمَّه في الطعام، فعُوتِبَ في ذلك، فقال: إنَّ هذه الثيابَ هي التي أُدخِلَت، فهي تأكُل» . حكاه ابنُ مُزَين الطُّليطلي في «كتابه»
(3)
.
وهذا بخلاف صنيعة العلم، فإنها لا تزولُ أبدًا، بل كلَّما لها
(4)
في زيادة، ما لم يُسْلَبْ ذلك العالِمُ علمَه.
وصنيعةُ العلم والدِّين أعظمُ من صنيعة المال؛ لأنها تكونُ بالقلب واللسان والجوارح، فهي صادرةٌ عن حبٍّ وإكرامٍ لأجل ما أودعه اللهُ تعالى
(1)
(د، ت، ق، ن): «ليعجبنك» .
(2)
قاله ابنُ المقفع في «الأدب الكبير» (110). وعنه في «عيون الأخبار» (2/ 121)، و «الجامع» لابن عبد البر (1/ 265)، وغيرها.
(3)
انظر ما تقدم (ص: 82) بشأن ابن مزين. والخبر لم أقف عليه. وأصلُ القصة مشهور، وقد وردت من حديث ابن عباس مرفوعًا، أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7107)، ولا يثبت، وأخرجه معمر في «الجامع» (11/ 437، 438) مرسلًا، وهو الصواب.
(4)
(ت، ح، ن): «كل مالها» . وهو تركيبٌ محدثٌ يفيد معنى الاستمرار. واستعمله المصنف في «إعلام الموقعين» (2/ 257)، والذهبي في «تاريخ الإسلام» (15/ 426)، وابن كثير في «البداية والنهاية» (9/ 522)، وغيرهم، ولا زال مستعملًا. ويمكن أن تكون (ما) موصولة.
إياه من علمه وفَضَّلَه به على غيره.
وأيضًا؛ فصنيعةُ العلم تابعةٌ لنفس العالِم وذاته، وصنيعةُ المال تابعةٌ لماله المنفصل عنه.
وأيضًا؛ فصنيعةُ المال صنيعةُ معاوَضَة، وصنيعةُ العلم والدِّين صنيعةُ حبٍّ وتقرُّبٍ وديانة.
وأيضًا؛ فصنيعةُ المال تكونُ مع البَرِّ والفاجر، والمؤمن والكافر، وأمَّا صنيعةُ العلم والدِّين فلا تكونُ إلا مع أهل ذلك.
وقد يرادُ من هذا أيضًا معنًى آخر؛ وهو أنَّ من اصطنعتَ عنده صنيعةً بمالك، إذا زال ذلك المالُ وفارقه عَدِمت صنيعتك عنده، وأما من اصطنعتَ إليه صنيعةَ علمٍ وهدى فإنَّ تلك الصنيعةَ لا تفارقُه أبدًا، بل تُرى في كلِّ وقتٍ كأنك أسْدَيْتَها إليه حينئذ.
* قولُه: «مات خُزَّانُ الأموال وهم أحياء» ؛ قد تقدَّم بيانُه.
* وكذلك قولُه: «والعلماءُ باقون ما بقي الدهر» .
* وقولُه: «أعيانُهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة» ؛ المرادُ بـ «أمثالهم» صُوَرهم العلميَّة، ووجودُهم المثاليُّ، أي: وإن فُقِدت ذواتُهم فصُوَرهم وأمثالُهم في القلوب لا تفارقُها، وهذا هو الوجودُ الذِّهنيُّ العلمي؛ لأنَّ محبة الناس لهم، واقتداءهم بهم، وانتفاعهم بعلومهم، يوجبُ أن لا يزالوا نُصْبَ عيونهم، وقبلة قلوبهم، فهم موجودون معهم، وحاضرون عندهم، وإن غابت عنهم أعيانُهم، كما قيل:
ومِنْ عجبٍ أنِّي أحِنُّ إليهمُ
…
وأسألُ عنهم من لقيتُ وهم معي
وتَطْلُبهم عيني وهم في سَوادِها
…
ويشتاقُهم قلبي وهم بين أضلُعِي
(1)
وقال آخر:
ومِن عجبٍ أن يَشْكُوَ البعدَ عاشقٌ
…
وهل غاب عن قلب المُحِبِّ حبيبُ
خيالُك في عيني وذِكْرُك في فمي
…
ومثواكَ في قلبي فأين تغيبُ
(2)
قولُه: «آه؛ إنَّ هاهنا علمًا ــ وأشار إلى صدره ــ» ؛ يدلُّ على جواز إخبار الرجل بما عنده من العلم والخير ليُقْتَبَس منه، وليُنتَفَع به، ومنه قول يوسف الصِّدِّيق عليه السلام:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
فمن أخبَر عن نفسه بمثل ذلك ليُكثِّر به ما يحبُّه الله ورسولُه من الخير فهو محمود، وهذا غير من أخبَر بذلك ليتكثَّر به عند الناس ويتعظَّم، وهذا يجازيه اللهُ بمَقْتِ الناس له، وصِغَرِه في أعينُهم، والأولُ يُكَبِّرُه في قلوبهم وعيونهم، وإنما الأعمالُ بالنيات.
وكذلك إذا أثنى الرجلُ على نفسه ليَخْلُصَ بذلك من مظلمةٍ وشرٍّ، أو
(1)
البيتان للقاضي الفاضل (ت: 596) في «ديوانه» (492). ونُسِبا لمِهْيار ــ وليسا في ديوانه ــ في «الحلة السيراء» (1/ 204)، و «نفح الطيب» (5/ 476)، وفي الأول حكاية خلافٍ في ذلك. وهما في «الحماسة المغربية» (1068) ومصادر أخرى كثيرة دون نسبة.
(2)
الثاني لابن غلندو الإشبيلي (ت: 587) في «إرشاد الأريب» (1194). ودون نسبة في «البديع» لابن منقذ (114).
ليستوفي بذلك حقًّا له يحتاجُ فيه إلى التعريف بحاله، أو ليقطعَ عنه أطماعَ السِّفلَة فيه، أو عند خِطْبته إلى من لا يعرفُ حالَه.
والأحسنُ في هذا أن يوكِّل من يُعَرِّفُ به وبحاله؛ فإنَّ لسانَ ثناء المرء على نفسه قصير
(1)
، وهو في الغالب مذموم؛ لما يقترنُ به من الفخر والتعاظُم.
ثمَّ ذكرَ أصنافَ حملة العلم الذين لا يصلحونَ لحمله، وهم أربعة:
أحدُهم: من ليس هو بمأمونٍ عليه، وهو الذي أوتي ذكاءً وحفظًا، ولكن مع ذلك لم يؤتَ زكاءً؛ فهو يتخذُ العلمَ الذي هو آلةُ الدِّين آلةَ الدنيا، يَسْتَجْلِبُها به، ويتوسَّلُ بالعلم إليها، ويجعلُ البضاعةَ التي هي مُتَّجَرُ الآخرة مُتَّجَرَ الدنيا، وهذا غيرُ أمينٍ على ما حملَه من العلم، ولا يجعلُه اللهُ إمامًا فيه قطُّ؛ فإنَّ الأمينَ هو الذي لا غرض له ولا إرادة لنفسه إلا اتباع الحقِّ وموافقته، فلا يدعو إلى قيام رياسته ولا دنياه.
وهذا الذي قد اتَّخذ بضاعةَ الآخرة ومُتَّجَرها مُتَّجَرًا للدنيا قد خان اللهَ وخان عبادَه وخان دينَه، فلهذا كان
(2)
غير مأمونٍ عليه.
* وقولُه: «يَسْتَظْهِرُ بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده» ؛ هذه صفةُ هذا الخائن؛ إذا أنعمَ اللهُ عليه استظهر بتلك النعمة على الناس، وإذا تعلَّم علمًا استظهر به على كتاب الله.
ومعنى استظهاره بالعلم على كتاب الله: تحكيمُه عليه وتقديمُه وإقامتُه
(1)
انظر السِّرَّ في ذلك في «الهوامل والشوامل» (68، 117، 308).
(2)
(ق، د، ح، ن): «قال» . أي: علي رضي الله عنه.
دونه.
وهذه حالُ كثيرٍ ممن يحصُل له علم؛ فإنه يستغني به ويستظهرُ به ويحكِّمُه ويجعلُ كتابَ الله تبعًا له، يقال: اسْتَظْهَر فلانٌ على كذا بكذا، أي: ظَهَرَ عليه به، وتقدَّم فجعله وراءَ ظهره.
وليست هذه حال العلماء؛ فإنَّ العالِمَ حقًّا يستظهرُ بكتاب الله على كلِّ ما سِواه، فيقدِّمه ويحكِّمُه، ويجعلُه إمامه، ويجعلُه عِيارًا على غيره مهيمنًا عليه، كما جعله الله تعالى كذلك.
فالمُسْتَظْهِرُ به موفَّقٌ سعيد، والمُسْتَظْهِرُ عليه مخذولٌ شقيٌّ، فمن اسْتَظْهَر على الشيء فقد جعله خلفَ ظهره مقدِّمًا عليه ما اسْتَظْهَرَ به، وهذا حالُ من اشتغل بغير كتاب الله عنه، واكتفى بغيره منه، وقدَّم غيره وأخَّره.
الصنف الثاني من حملة العلم: المنقادُ له، الذي لم يَثْلُجْ له صدرُه، ولم يطمئنَّ به قلبُه، بل هو ضعيفُ البصيرة فيه، لكنه منقادٌ لأهله.
وهذه حالُ أتباع الحقِّ من مقلِّديهم، وهؤلاء وإن كانوا على سبيلِ نجاةٍ فليسوا من دعاة الدِّين، وإنما هم من مكثِّري سَواد الجيش، لا من أمرائه وفرسانه.
والمنقاد: مُنْفَعِلٌ مِن قاده يَقُودُه، وهو مُطاوِعُ الثُّلاثي
(1)
، وأصلُه: مُنْقَيِد؛ كمُكْتَسِب، ثمَّ أُعِلَّت الياءُ ألفًا
(2)
لحركتها بعد فتحة، فصار: مُنقاد؛
(1)
(ح): «الثاني» . وهو تحريف.
(2)
(ت): «ثم أقلب الياء ألفًا» . والإعلال: تغيير حرف العلة للتخفيف، بالقلب كما في هذا المثال، أو التسكين، أو الحذف.
تقول: قُدْتُه فانقادَ، أي: لم يَمْتَنِع.
والأحناء: جمعُ حِنْو، بوزن عِلْم، وهي الجوانبُ والنواحي، والعربُ تقول: ازجُر أحناءَ طَيْرِك، أي: أمْسِك نواحي خِفَّتِك وطَيْشِك يمينًا وشمالًا وأمامًا وخلفًا
(1)
.
قال لبيد
(2)
:
فقلتُ ازدَجِرْ أحناءَ طَيْرِكَ واعْلَمَنْ
…
بأنَّك إنْ قَدَّمتَ رِجْلَك عاثرُ
والطيرُ هنا: الخِفَّةُ والطَّيش.
* وقولُه: «ينقدحُ الشكُّ في قلبه بأوَّل عارضٍ من شبهة» ؛ هذا لضَعْفِ علمه وقلَّة بصيرته، إذا وردَت على قلبه أدنى شبهةٍ قدحَت فيه الشكَّ والرَّيب، بخلاف الراسخ في العلم، لو وردَت عليه من الشُّبه بعدد أمواج البحر ما أزالت يقينَه، ولا قدحَت فيه شكًّا؛ لأنه قد رسَخَ في العلم فلا تستفزُّه الشبهات، بل إذا وردَت عليه رَدَّها حرسُ العلم وجيشُه مغلولةً مغلوبة.
والشبهةُ واردٌ يَرِدُ على القلب يحولُ بينه وبين انكشاف الحقِّ له، فمتى باشرَ القلبُ حقيقةَ العلم لم تؤثِّر تلك الشبهةُ فيه، بل يقوى علمُه ويقينُه بردِّها ومعرفة بطلانها، ومتى لم يباشِر حقيقةَ العلم بالحقِّ قلبُه قدحَتْ فيه الشكَّ بأول وهلة، فإن تداركَها وإلا تتابعت على قلبه أمثالُها، حتى يصيرَ شاكًّا مرتابًا.
(1)
انظر: «الصحاح» (حني).
(2)
في ديوانه (220).
والقلبُ يتواردُه جيشان من الباطل: جيشُ شهوات الغيِّ، وجيشُ شبهات الباطل. فأيما قلبٍ صغا إليها وركنَ إليها تَشَرَّبها وامتلأ بها، فينضحُ لسانُه وجوارحُه بمُوجَبها، فإن أُشْرِبَ شبهات الباطل تفجَّرت على لسانه الشكوكُ والشبهاتُ والإيرادات، فيظنُّ الجاهلُ أنَّ ذلك لسعة علمه، وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه!
وقال لي شيخُ الإسلام رضي الله عنه ــ وقد جعلتُ أوردُ عليه إيرادًا بعد إيراد ــ: «لا تجعل قلبَك للإيرادات والشبهات مثل السِّفِنْجَة، فيتشرَّبها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المُصْمَتة، تمرُّ الشبهاتُ بظاهرها ولا تستقرُّ فيها، فيراها بصفائه، ويدفعُها بصلابته، وإلا فإذا أَشْرَبتَ قلبَك كلَّ شبهةٍ تمرُّ عليك صار مقرًّا للشبهات»
(1)
،
أو كما قال؛ فما أعلمُ أني انتفعتُ بوصيَّةٍ في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك.
وإنما سُمِّيت الشبهةُ شبهةً لاشتباه الحقِّ بالباطل فيها؛ فإنها تلبسُ ثوبَ الحقِّ على جسم الباطل، وأكثرُ الناس أصحابُ حُسْنٍ ظاهر، فينظرُ الناظرُ فيما أُلبِسَتْهُ من اللباس فيعتقدُ صحتها، وأما صاحبُ العلم واليقين فإنه لا يغترُّ بذلك، بل يجاوزُ نظرَه إلى باطنها وما تحت لباسها، فينكشفُ له حقيقتُها.
(1)
انظر هذا المعنى في: «شفاء العليل» (323، 542)، و «الوابل الصيب» (120 - 122)، و «الروح» (599).
وذكر الصفدي في «الوافي» (7/ 16) أن ابن تيمية كان إذا رآه قال له: «أيش حِسّ الإيرادات؟ أيش حِسّ الأجوبة؟ أيش حِسّ الشكوك؟، أنا أعلم أنك مثل القِدْر التي تغلي تقول: بق بق بق، أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها، لازمني تنتفع» .
ومثالُ هذا: الدرهمُ الزائف؛ فإنه يغترُّ به الجاهلُ بالنقد، نظرًا إلى ما عليه من لباس الفضَّة، والناقدُ البصيرُ يجاوزُ نظرَه إلى ما وراء ذلك فيطَّلعُ على زيفه.
فاللفظُ الحسنُ الفصيحُ هو للشبهة بمنزلة اللباس من الفضَّة على الدرهم الزائف، والمعنى كالنحاس الذي تحته
(1)
.
وكم قد قتلَ هذا الاغترارُ من خلقٍ لا يحصيهم إلا الله!
وإذا تأمَّل العاقلُ الفَطِنُ هذا القَدْرَ وتدبَّره رأى أكثر الناس يقبَلُ المذهبَ والمقالةَ بلفظٍ، ويردُّها بعينها بلفظٍ آخر!، وقد رأيتُ أنا من هذا في كتب الناس ما شاء الله.
وكم قد رُدَّ من الحقِّ بتشنيعه بلباسٍ من اللفظ قبيح!
وفي مثل هذا قال أئمَّةُ السُّنَّة ــ منهم الإمامُ أحمد وغيره ــ: «لا نُزِيلُ عن الله صفةً من صفاته لأجل شَناعةٍ شُنِّعَت»
(2)
. فهؤلاء الجهميةُ يسمُّون إثباتَ صفات الكمال لله ــ من حياته، وعلمه، وكلامه، وسمعه، وبصره، وسائر ما وصف به نفسَه ــ تشبيهًا وتجسيمًا، ومن أثبتَ ذلك مشبِّهًا؛ فلا يَنْفِرُ من هذا المعنى الحقِّ لأجل هذه التسمية الباطلة إلا العقولُ الصغيرةُ القاصرةُ
(1)
قال ابن تيمية في تائية ابن الفارض المشهورة: «نظَم فيها الاتحاد نظمًا رائق اللفظ، فهو أخبثُ من لحم خنزيرٍ في صينيةٍ من ذهب» !. «مجموع الفتاوى» (4/ 73). وانظر: «الصواعق المرسلة» (436)، و «البيان والتبيُّن» (1/ 254).
(2)
انظر: «الإبانة» لابن بطة (3/ 326 ــ تتمة الرد على الجهمية)، و «إبطال التأويلات» (1/ 44)، و «ذم التأويل» لابن قدامة (22)، و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 431، 2/ 164)، و «درء التعارض» (2/ 31).
خفافيشُ البصائر.
وكلُّ أهل نِحْلَةٍ ومقالةٍ يَكْسُونَ نِحْلَتهم ومقالتهم أحسنَ ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومقالةَ مخالفيهم أقبحَ ما يقدرون عليه من الألفاظ
(1)
، ومن رزقه اللهُ بصيرةً فهو يكشفُ بها حقيقةَ ما تحت تلك الألفاظ من الحقِّ والباطل، ولا يغترُّ باللفظ، كما قيل في هذا المعنى:
تقولُ هذا جَنى النَّحْلِ
(2)
تمدحُه
…
وإن تشأْ قلتَ ذا قيءُ الزَّنابيرِ
مدحًا وذمًّا وما جَاوزتَ وَصْفَهما
…
والحقُّ قد يعتريه سوءُ تعبيرِ
(3)
فإذا أردتَ الاطلاعَ على كُنْه المعنى: هل هو حقٌّ أو باطل؟ فجرِّدْه من لباس العبارة، وجرِّدْ قلبك من النُّفرة والمَيْل، ثمَّ أَعْطِ النظرَ حقَّه، ناظرًا بعين الإنصاف، ولا تكن ممَّن ينظرُ في مقالة أصحابه ومن يحسِنُ ظنَّه به نظرًا تامًّا بكلِّ قلبه، ثمَّ ينظرُ في مقالة خصومه ومن يسيءُ ظنَّه به كنظر الشَّزْر والملاحظة.
فالناظرُ بعين العداوة يرى المحاسنَ مساواء، والناظرُ بعين المحبة عكسُه، وما سَلِمَ من هذا إلا من أراد الله كرامتَه وارتضاه لقبول الحقِّ، وقد قيل
(4)
:
(1)
انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 344).
(2)
كذا في الأصول. وروايةُ الديوان وكثيرٍ من المصادر: «مُجاج النحل» .
(3)
البيتان لابن الرومي في «ديوانه» (1144)، ولهما ثالث.
(4)
البيت لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، في «الأغاني» (12/ 212)، و «الكامل» (277)، و «عيون الأخبار» (3/ 76)، و «زهر الآداب» (1/ 85)، وغيرها. وفي نسبته خلاف. انظر:«الواضح المبين» (44).
وعينُ الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ
…
كما أنَّ عينَ السُّخْطِ تُبْدِي المساويا
وقال آخر
(1)
:
نظروا بعينِ عداوةٍ ولو انها
…
عينُ الرِّضا لاستحسَنوا ما استقبَحوا
فإذا كان هذا في نظر العين الذي يُدْرِكُ المحسوسات، ولا يتمكَّن من المكابرة فيها، فما الظنُّ بنظر القلب الذي يُدْرِكُ المعاني التي هي عُرْضةُ المكابرة؟!
والله المستعان على معرفة الحقِّ وقبوله، وردِّ الباطل وعدم الاغترار به.
* وقولُه: «بأول عارضٍ من شبهة» ؛ هذا دليلٌ على ضعف عقله ومعرفته، إذ تؤثِّر فيه البَدَوات
(2)
، وتستفزُّه أوائلُ الأمور، بخلاف الثابت التامِّ العقل
(3)
، فإنه لا تستفزُّه البَدَواتُ ولا تُزْعِجُه وتُقْلِقُه؛ فإنَّ الباطل له دهشةٌ وروعةٌ في أوَّله، فإذا ثبت له القلبُ رُدَّ على عقبيه.
والله يحبُّ من عبده الحِلْمَ والأناة، فلا يَعْجَل، بل يثبتُ حتى يعلمَ ويَسْتَيْقِنَ ما وردَ عليه، ولا يَعْجَل بأمرٍ من قبل استحكامه، فالعجلةُ والطَّيشُ من الشيطان.
فمن ثبت عند صدمة البَدَوات استقبلَ أمره بعلمٍ وحزم، ومن لم يثبت لها استقبله بعجلةٍ وطيش، وعاقبتُه الندامة، وعاقبةُ الأول حَمْدُ أمره، ولكنَّ للأول آفةً متى قُرِنَت بالحزم والعزم نجا منها، وهي الفَوْت، فإنه لا يُخافُ
(1)
وهو الشريفُ الرضي، في ديوانه (1/ 260).
(2)
الآراء الطارئة. واحدُها: بَداة.
(3)
(د، ق، ح، ن): «العاقل» . تحريف.
من التثبُّت إلا الفَوْت، فإذا اقترنَ به العزمُ والحزمُ تمَّ أمرُه.
ولهذا في الدعاء الذي رواه الإمام أحمد والنسائيُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألُك الثباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرُّشد»
(1)
.
وهاتان الكلمتان هما جِماعُ الفلاح، وما أُتِيَ العبدُ إلا من تضييعهما أو تضييع أحدهما، فما أُتِيَ أحدٌ إلا من باب العجلة والطَّيش واستفزاز البَدَوات له، أو من باب التهاون والتماوُت وتضييع الفرصة بعد مُواتاتها، فإذا حصلَ الثبات أوَّلًا والعزم ثانيًا أفلحَ كلَّ الفلاح، والله وليُّ التوفيق.
الصنف الثالث: رجلٌ نَهْمَتُه في نيل لذَّته، فهو منقادٌ لداعي الشهوة أين كان، ولا ينالُ درجةَ وراثة النبوَّة مع ذلك، ولا ينالُ العلم إلا بهجر اللذَّات وتطليق الراحة.
قال مسلم في «صحيحه»
(2)
: «قال يحيى بن أبي كثير: لا يُنالُ العلمُ براحة الجسم» .
وقال إبراهيم الحربي: «أجمع عقلاءُ كلِّ أمَّةٍ أنَّ النعيمَ لا يُدْرَكُ بالنعيم، ومن آثر الراحةَ فاتته الراحة»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد (4/ 123)، والترمذي (3407)، والنسائي (1303)، وغيرهما من طرقٍ يقوِّي بعضُها بعضًا عن شداد بن أوسٍ.
وصححه ابن حبان (935، 1974)، والحاكم (1/ 508) ولم يتعقبه الذهبي. وانظر:«نتائج الأفكار» (3/ 77).
(2)
(612). وانظر ما تقدم (ص: 300).
(3)
انظر: «قاعدة في المحبة» لابن تيمية (207). ولعلَّ أصله ما في «تاريخ بغداد» (6/ 30). ولابن الجوزي كلامٌ في هذا المعنى. انظر: «الآداب الشرعية» (1/ 242).
فما لصاحب اللذَّات وما لدرجة وراثة الأنبياء!
فَدَعْ عنك الكتابةَ لست منها
…
ولو سَوَّدْتَ وجهَك بالمِدادِ
(1)
فإنَّ العلمَ صناعةُ القلب وشُغْلُه؛ فما لم يتفرَّغ لصناعته وشغله لم يَنلْها، وله وِجْهَةٌ واحدة؛ فإذا وُجِّهَت وِجْهَته إلى اللذَّات والشهوات انصرفَت عن العلم.
ومن
(2)
لم تغلِبْ
(3)
لذَّةُ إدراكه للعلم وشهوتُه على لذَّة جسمه وشهوة نفسه لم ينل درجةَ العلم أبدًا، فإذا صارت شهوتُه في العلم ولذَّتُه في إدراكه رُجِيَ له أن يكون من جملة أهله.
ولذَّةُ العلم لذَّةٌ عقليَّةٌ روحانيَّةٌ من جنس لذَّة الملائكة، ولذَّةُ شهوات الأكل والشراب والنكاح لذَّةٌ حيوانيَّةٌ يشاركُ الإنسانَ فيها الحيوان، ولذَّةُ الشرِّ والظلم والفساد والعلوِّ في الأرض شيطانيَّةٌ يشاركُ صاحبَها فيها إبليسُ وجنودُه.
وسائرُ اللذَّات تبطلُ بمفارقة الروح البدن، إلا لذَّةُ العلم والإيمان، فإنها تَكْمُلُ بعد المفارقة؛ لأنَّ البدنَ وشواغلَه كان يَنْقُصها ويقلِّلها ويحجُبها، فإذا انطوت الروحُ عن البدن التذَّت لذَّةً كاملةً بما حصَّلته من العلم النافع والعمل الصالح؛ فمن طلب اللذَّةَ العظمى، وآثر النعيمَ المقيم، فهو في العلم والإيمان اللذَين بهما كمالُ سعادة الإنسان.
(1)
ثاني بيتين في «أدب الكتاب» للصولي (171)، و «حماسة الظرفاء» (2/ 108)، و «العقد» (4/ 171، 6/ 133)، وغيرها، دون نسبة.
(2)
(ح): «وما» . وهي ساقطة من (ت).
(3)
(د): «يغلب» . وهي بتشديد اللام ونصب «لذة» قراءةٌ جيدة.
وأيضًا؛ فإنَّ تلك اللذَّات سريعةُ الزوال، وإذا انقضت أعقَبَت همًّا وغمًّا وألمًا يحتاجُ صاحبُها أن يداويه بمثلها دفعًا لألمه، وربَّما كان معاودتُه لها مؤلمًا له كريهًا إليه، لكن يَحْمِلُه عليه مداواةُ ذلك الغمِّ والهمِّ.
فأين هذا من لذَّة العلم، ولذَّة الإيمان بالله، ومحبَّته، والإقبال عليه، والتنعُّم بذكره؟! فهذه هي اللذَّةُ الحقيقية.
الصنفُ الرابع: مَنْ حرصُه وهِمَّتُه في جمع الأموال وتثميرها وادِّخارها، فقد صارت لذَّتُه في ذلك، وفَنِيَ بها عمَّا سواه، فلا يرى شيئًا أطيبَ له ممَّا هو فيه، فأين هذا ودرجةُ العلم؟!
فهؤلاء الأصنافُ الأربعةُ ليسوا من دعاة الدِّين، ولا من أئمَّة العلم، ولا من طلبته الصادقين في طلبه، ومن تعلَّق منهم بشيءٍ منه فهو من المتسلِّقين عليه، المتشبِّهين بحَمَلته وأهله، المدَّعين لوصاله، المبتُوتين من حِباله.
وفتنةُ هؤلاء فتنةٌ لكلِّ مفتون؛ فإنَّ الناسَ يتشبَّهون بهم؛ لِمَا يظنُّون عندهم من العلم، ويقولون:«لسنا خيرًا منهم، ولا نرغبُ بأنفسنا عنهم» ؛ فهم حجَّةٌ لكلِّ مفتون، ولهذا قال فيهم بعضُ الصحابة الكرام:«احذروا فتنةَ العالِم الفاجر والعابد الجاهل؛ فإنَّ فتنتَهما فتنةٌ لكلِّ مفتون»
(1)
.
* وقولُه: «أقربُ شبهًا بهم الأنعامُ السائمة» ؛ هذا التشبيه مأخوذٌ من قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، فما اقتصر سبحانه
(1)
أخرجه نعيم بن حماد في زوائده على «الزهد» لابن المبارك (75)، وأحمد في «العلل» (3/ 118 - رواية عبد الله)، وابن أبي حاتم في «تقدمة الجرح والتعديل» (88)، وغيرهم عن سفيان الثوري قال: «كان يقال
…
» فذكره.
وأخرجه البيهقي في «المدخل» (443) عن الشعبي.
على تشبيههم بالأنعام حتى جعلهم أضلَّ سبيلًا منهم.
والسائمة: الراعية، وشبَّه أميرُ المؤمنين هؤلاء بها؛ لأنَّ هِمَّتهم في رَعْي الدنيا وحطامها.
والله تعالى يشبِّه أهلَ الجهل والغيِّ تارةً بالأنعام، وتارةً بالحُمُر، وهذا تشبيهٌ لمن تعلَّم علمًا ولم يَعْقِلْه ولم يعمل به، فهو كالحمار الذي يحملُ أسفارًا، وتارةً بالكلب، وهذا لمن انسلخَ عن العلم وأخلدَ إلى الشهوات والهوى.
* وقولُه: «كذلك يموتُ العلمُ بموت حامليه» ؛ هذا من قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرٍو وعائشة وغيرهما: «إنَّ الله لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُه من صدور الرجال، ولكن يقبضُ العلمَ بقبض العلماء؛ فإذا لم يَبْقَ عالِمٌ ا تخذَ الناسُ رؤساءَ جهَّالًا، فسُئلوا، فأفتَوا بغير علمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا» ، رواه البخاري في «صحيحه»
(1)
.
فذهابُ العلم إنما هو بذهاب العلماء.
قال ابن مسعودٍ يوم مات عمر رضي الله عنه: «إني لأحسبُ تسعة أعشار العلم اليوم قد ذهَب»
(2)
.
وقد تقدَّم قولُ عمر رضي الله عنه: «موتُ ألف عابدٍ أهونُ من موت عالمٍ بصيرٍ بحلال الله وحرامه»
(3)
.
(1)
(100، 7037).
(2)
أخرجه الطبراني في «الكبير» (9/ 163)، وابن الأثير في «أسد الغابة» (4/ 60) من طرقٍ بعضها صحيح.
(3)
(ص: 341).
* وقولُه: «اللهمَّ بلى! لن تخلوَ الأرضُ من مجتهدٍ قائمٍ بحجج الله» ؛ ويدلُّ عليه الحديثُ الصحيحُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي على الحقِّ، لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمرُ الله وهم على ذلك»
(1)
.
ويدلُّ عليه أيضًا ما رواه الترمذي عن قتيبة: حدثنا حماد بن يحيى الأبحّ، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مثلُ أمَّتي مثلُ المطر لا يُدرى أوَّلُه خيرٌ أم آخرُه»
(2)
.
فلو لم يكن في أواخر الأمَّة قائمٌ بحجج الله، مجتهد، لم يكونوا موصوفين بهذه الخيريَّة.
(1)
ورد من حديث جماعةٍ من الصحابة في الصحيحين وغيرهما، وهو متواتر، كما ذكر ابن تيمية في «الاقتضاء» (1/ 69)، وانظر:«نظم المتناثر» (141).
(2)
أخرجه الترمذي (2869)، وأحمد (3/ 130، 143)، وغيرهما.
قال الإمام أحمد: «هو خطأ، إنما يروى هذا الحديثُ عن الحسن» . انظر: «العلل» (3/ 314 - رواية عبد الله)، و «المنتخب من العلل للخلال» (60)، و «شرح علل الترمذي» لابن رجب (2/ 501).
وأخرجه من مُرْسَل الحسن أحمدُ في «العلل» في الموضع السابق.
ورُوِي من وجوهٍ أخرى صحَّحه بها بعضُ أهل العلم. انظر: «فتح الباري» (7/ 6)، و «الصحيحة» (2286).
واستشكل متنه العلائيُّ في «تحقيق منيف الرتبة» (90).
وأيضًا؛ فإنَّ هذه الأمَّة أكملُ الأمم، وخيرُ أمَّةٍ أُخرِجَت للناس، ونبيُّها خاتمُ النبيِّين لا نبيَّ بعده، فجعلَ اللهُ العلماءَ فيها كلَّما هلكَ عالمٌ خَلَفَه عالم؛ لئلَّا تُطْمَسَ معالمُ الدين وتخفى أعلامُه، وكان بنو إسرائيل كلما هلك فيهم نبيٌّ خَلَفَه نبي، فكانت تَسُوسُهم الأنبياء
(1)
، والعلماءُ لهذه الأمَّة كالأنبياء في بني إسرائيل
(2)
.
وأيضًا؛ ففي الحديث الآخر: «يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلفٍ عدولُه، ينفونَ عنه تحريفَ الغالين، وانتحالَ المُبْطِلين، وتأويلَ الجاهلين»
(3)
، وهذا يدلُّ على أنه لا يزالُ محمولًا في القرون قرنًا بعد قرن.
وفي «صحيح أبي حاتم» من حديث الخولانيِّ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزالُ اللهُ يغرسُ في هذا الدِّين غرسًا يستعملُهم في طاعته»
(4)
،
وغَرْسُ الله هم
(1)
كما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري (3455)، ومسلم (1842) من حديث أبي هريرة.
(2)
ورد هذا في خبرٍ لا أصل له. انظر: «كشف الخفاء» (2/ 83).
(3)
سيأتي تخريجه (ص: 463).
(4)
أخرجه أحمد (4/ 200)، وابن ماجه (8)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2497)، وغيرهم من حديث أبي عنبة الخولاني.
وصححه أبو حاتم ابن حبان (326)، وقال الذهبي في «المعجم المختص بالمحدثين» (134):«إسناده صالح» . وانظر: «الكامل» لابن عدي (1/ 162). وقال العلائي في «جامع التحصيل» (314): «ضعيفٌ من جهة الجراح بن مليح، قال الدارقطني: ليس بشيء. وأحاديث أبي عنبة مرسلة» .
قلت: إنما قال ذلك الدارقطنيُّ في الجراح بن مليح الرؤاسي، لا هذا البَهْراني، وهو شاميٌّ ليس به بأس، إلا أنه خولف في حديثه هذا، انظر:«شرح مذاهب أهل السنة» لابن شاهين (42).
وفي صحبة أبي عنبة الخولاني خلافٌ قويٌّ، والأشبه أن ليست له صحبة. انظر:«المراسيل» لابن أبي حاتم (251)، و «تهذيب الكمال» (34/ 150)، و «الإصابة» (7/ 293).
أهلُ العلم والعمل، فلو خلت الأرضُ من عالمٍ خلت من غَرْسِ الله.
ولهذا القول
(1)
حججٌ كثيرةٌ لها موضعٌ آخر.
وزاد الكذَّابون في حديث علي: «
…
إمَّا ظاهرًا مشهورًا، وإمَّا خفيًّا مستورًا»
(2)
، وظنُّوا أنَّ ذلك دليلٌ لهم على القول بالمُنتَظَر، ولكنَّ هذه الزيادة مِنْ وَضْع بعض كذَّابيهم
(3)
، والحديثُ مشهورٌ عن عليٍّ لم يَقُلْ
(4)
أحدٌ عنه هذه المقالة
(5)
إلا كذَّاب.
وحججُ الله لا تقومُ بخفيٍّ مستورٍ لا يقعُ العالَمُ له على خبر، ولا ينتفعون به في شيءٍ أصلًا؛ فلا جاهلٌ يتعلَّمُ منه، ولا ضالٌّ يهتدي به، ولا خائفٌ يأمنُ به، ولا ذليلٌ يتعزَّزُ به، فأيُّ حجَّةٍ لله قامت بمن لا يُرى له شخص، ولا يُسْمَعُ منه كلمة، ولا يُعْلَمُ له مكان؟! ولا سيما على أصول القائلين به، فإنَّ الذي دعاهم إلى ذلك أنهم قالوا: لا بدَّ منه في اللُّطْف
(1)
أي: عدم خلوِّ الأرض من مجتهد.
(2)
لم أر هذه الزيادة إلا في كتب الرافضة. أخرجها إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي في «الغارات» (1/ 153)، والطوسي في أماليه (23)، والمفيد في أماليه (3)، بأسانيد مظلمة. وهي في «نهج البلاغة» (4/ 37).
(3)
انظر: «جواب الاعتراضات المصرية» لابن تيمية (32).
(4)
كذا في الأصول، على تضمين معنى: ينقل.
(5)
(ح، ن): «هذه الزيادة» .
بالمكلَّفين وانقطاع حجَّتهم عن الله
(1)
.
فيا لله العجب! أيُّ لُطْفٍ حصل بهذا المعدوم، لا المعصوم؟!
(2)
وأيُّ حجَّةٍ أثبتُّم للخلق على ربهم بأصلكم الباطل؟! فإنَّ هذا المعدومَ إذا لم يكن لهم سبيلٌ قطُّ إلى لقائه والاهتداء به، فهل في تكليف ما لا يطاقُ أبلغُ من هذا؟! وهل في العذر والحجَّة أبلغُ من هذا؟!
فالذي فررتم منه وقعتم في شرٍّ منه، وكنتم في ذلك كما قيل:
المستجيرُ بعمرٍو عند كُرْبته
…
كالمستجير من الرَّمضاءِ بالنارِ
(3)
ولكن أبى اللهُ إلا أن يفضحَ من تنقَّصَ بالصحابة الأخيار وبسادة هذه الأمَّة، وأن يُرِيَ الناسَ عورتَه ويُغْرِيه بكشفها. ونعوذُ بالله من الخذلان.
ولقد أحسن القائل:
ما آنَ للسِّرداب أن يَلِدَ الذي
…
حمَّلتمُوه
(4)
بزعمكم ما آنا
فعلى عقولكم العَفاءُ فإنَّكم
…
ثَلَّثتُم العَنْقاءَ والغِيلانا
(5)
(1)
انظر: «النكت الاعتقادية» للمفيد (44 - 45). وراجع: «أصول مذهب الشيعة» للقفاري (2/ 789).
(2)
(ح): «بهذا المعدوم المعصوم» .
(3)
بيتٌ سائرٌ مشهور، في عامة كتب الأمثال، تمثَّل به أبو نجدة لُجَيْم بن سعد، في «الأغاني» (23/ 219)، فنسبه إليه بعضهم، وهو وهم، وورد في كثيرٍ من المصادر دون نسبة، وقال العباسي في «معاهد التنصيص» (4/ 201):«لا أعرف قائله» .
(4)
كذا في الأصول. وفي بعض المصادر: «كلمتموه» .
(5)
تنسبُ الشيعةُ البيتين لابن حجر الهيتمي (ت: 973)، ولهم عليه ردود. انظر:«الكنى والألقاب» للقُمِّي (1/ 262)، و «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» (10/ 177، 20/ 110). وذلك أنه استشهد بهما في «الصواعق المحرقة» (2/ 483)، وقد اكتوى به القوم، واستشهد بهما المصنف هنا وفي «المنار المنيف» (119)، وهو قبل الهيتميِّ بدهر.
ولقد بطلت حججٌ استُودِعَها مثلُ هذا الغائب، وضاعت أعظمَ ضياع، فأنتم أبطلتم حججَ الله من حيث زعمتم حِفْظَها!
وهذا تصريحٌ من أمير المؤمنين رضي الله عنه بأنَّ حاملَ حجج الله لابدَّ أن يكون في الأرض، بحيث يؤدِّيها عن الله، ويبلِّغها إلى عباده، مثلُه رضي الله عنه، ومثلُ إخوانه من الخلفاء الراشدين ومن اتبعهم إلى يوم القيامة.
* وقولُه: «لكيلا تبطُل حججُ الله وبيِّناتُه» ؛ أي: لكيلا تذهبَ من بين أيدي الناس، وتبطُل من صدورهم، وإلا فالبطلانُ محالٌ عليها؛ لأنها ملزومُ ما يستحيلُ عليه البطلان.
فإن قيل: فما الفرقُ بين الحجج والبيِّنات؟
قيل: الفرقُ بينهما أنَّ الحججَ هي الأدلَّةُ العلميةُ التي يَعْقِلُها القلب، وتَسْتَمِعُها الأذن
(1)
.
قال تعالى في مناظرة إبراهيم لقومه، وتبيينه بطلانَ ما هم عليه بالدليل العلمي:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83]، قال ابن زيد
(2)
: «بعلم الحجَّة» .
وقال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20]،
(1)
(د، ح): «وتسمع بالأذن» . (ق، ن): «وتسمع بالآذان» .
(2)
كذا في الأصول. وتقدم (ص: 139) عن أبيه زيد بن أسلم.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16].
والحجَّةُ هي اسمٌ لما يُحْتَجُّ به من حقٍّ وباطل؛ قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ، يعني: فإنهم يحتجُّون عليكم بحجَّةٍ باطلة، {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150]، وقال تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية: 25].
والحجَّةُ المضافةُ إلى الله تعالى: هي الحق.
وقد تكون الحجَّةُ بمعنى المُخاصَمة، ومنه قولُه تعالى:{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، أي: قد وَضَحَ الحقُّ واستبانَ وظَهَر، فلا خصومة بيننا بعد ظهوره ولا مجادلة؛ فإنَّ الجدال شريعةٌ موضوعةٌ للتعاون على إظهار الحق، فإذا ظهر الحقُّ ولم يبقَ به خفاءٌ فلا فائدة في الخصومة والجدال على بصيرة، [فإن] مخاصمةَ المتكبِّر
(1)
ومجادلتَه عناءٌ لا غناءَ فيه
(2)
.
(1)
رسمها في الأصول: «المنكر» . والمثبت أشبه. انظر: «مدارج السالكين» (1/ 445)، و «الصواعق المرسلة» (372، 901، 1088).
(2)
ما بين المعكوفين أضفته ليستقيم السياق، ويمكن أن يقرأ بدونه:«فإذا ظهر الحقُّ ولم يبقَ به خفاءٌ فلا فائدة في الخصومة. والجدال على بصيرةٍ مخاصمةُ (المتكبر)، ومجادلتُه عناءٌ لا غناءَ فيه» . وانظر ما سيأتي (ص 1008).
هذا معنى هذه الآية.
وقد يقعُ في وهم كثيرٍ من الجُهَّال أنَّ الشريعةَ لا احتجاجَ فيها، وأنَّ المُرْسَلَ بها صلى الله عليه وسلم لم يكن يحتجُّ على خصومه ولا يجادلهم، ويظنُّ جُهَّالُ المنطقيِّين وفروخُ اليونان أنَّ الشريعةَ خطابٌ للجمهور ولا احتجاجَ فيها، وأنَّ الأنبياء دعَوا الجمهورَ بطريق الخَطابة، والحججُ للخواصِّ، وهم أهلُ البرهان، يَعْنُونَ نفوسَهم ومن سلك طريقتهم.
وكلُّ هذا من جهلهم بالشريعة والقرآن؛ فإنَّ القرآنَ مملوءٌ من الحجج والأدلَّة والبراهين في مسائل التوحيد وإثبات الصانع والمعاد وإرسال الرسل وحدوث العالم
(1)
، فلا يذكرُ المتكلِّمون وغيرهم دليلًا صحيحًا على ذلك إلا وهو في القرآن بأحسن عبارة، وأوضح بيان، وأتمِّ معنى، وأبعده عن الإيرادات والأسئلة.
وقد اعترفَ بهذا حُذَّاقُ المتكلِّمين من المتقدِّمين والمتأخِّرين.
قال أبو حامد في أول «الإحياء»
(2)
: «فإن قلت: فلم لم تُورِد في أقسام العلم الكلامَ والفلسفة، وتبيِّن أنهما مذمومان أو ممدوحان؟
فاعلم أنَّ حاصل ما يشتملُ عليه الكلامُ من الأدلة التي يُنتفَعُ بها فالقرآنُ والأخبارُ مشتملةٌ عليه، وما خرج عنهما فهو إمَّا مجادلةٌ مذمومة، وهي من البدع كما سيأتي بيانه، وإمَّا مشاغبةٌ بالتعلُّق بمناقضات الفِرَق، وتطويلٌ بنقل المقالات التي أكثرها تُرَّهاتٌ وهذياناتٌ تزدريها الطِّباعُ وتَمُجُّها الأسماع،
وبعضها خوضٌ فيما لا يتعلَّقُ بالدِّين، ولم يكن شيءٌ منه مألوفًا في العصر الأول
(1)
، ولكن تغيَّر الآن حكمُه إذ حدثت البدعُ الصارفةُ عن مقتضى القرآن والسنَّة، فلفَّقتْ لها شبهًا، ورتَّبتْ لها كلامًا مؤلَّفًا
(2)
، فصار ذلك المحظورُ بحكم الضرورة مأذونًا فيه».
وقال الرازي في كتابه «أقسام اللذَّات»
(3)
: «لقد تأمَّلتُ الكتبَ الكلاميَّة، والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتُها تروي غليلًا ولا تشفي عليلًا، ورأيتُ أقرب الطرق طريقةَ القرآن، اقرأ
(4)
في الإثبات: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، واقرأ في النفي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ومن جَرَّبَ مثل تجربتي عرف مثل معرفتي»
(5)
.
وهذا الذي أشار إليه بحسب ما فُتِحَ له من دلالة القرآن بطريق الخبر، وإلا فدلالتُه البرهانيةُ العقليةُ التي يشيرُ إليها ويرشدُ إليها، فتكونُ دليلًا سمعيًّا عقليًّا= أمرٌ تميَّز به القرآنُ وصار العالِمُ به من الراسخين في العلم، وهو العلمُ الذي يطمئنُّ إليه القلب، وتَسْكُنُ عنده النفس، ويزكو به العقل، وتستنيرُ به البصيرة، وتقوى به الحجَّة، ولا سبيل لأحدٍ من العالمين إلى قطع
(1)
في «الإحياء» زيادة: «وكان الخوض فيه بالكلية من البدع» .
(2)
في «الإحياء» : «ونبعَت جماعةٌ فلفقوا لها شبهًا ورتبوا فيها كلامًا مؤلفًا» .
(3)
[(ص: 263) باختلاف يسير، وكذا نقله شيخ الإسلام في مواضع، ولعله نقلٌ بالمعنى أو من نسخة أخرى].
(4)
وتصح قراءتها: «أقرأُ» . للمتكلِّم.
(5)
انظر: «تاريخ الإسلام» (13/ 142، 144)، و «السير» (21/ 501)، و «طبقات الشافعية» للسبكي (8/ 91)، ولابن قاضي شهبة (2/ 82).
من حاجَّ به، بل من خاصمَ به فَلَجَتْ حجَّتُه
(1)
، وكسرَ شبهةَ خصمه، وبه فُتِحَت القلوب، واستُجِيبَ لله ورسوله، ولكنَّ أهل هذا العلم لا تكادُ الأعصارُ تَسْمَحُ منهم إلا بالواحد بعد الواحد.
فدلالةُ القرآن سمعيةٌ عقلية، قطعيةٌ يقينية، لا تعترضُها الشبهات، ولا تتداولها الاحتمالات، ولا ينصرفُ القلبُ عنها بعد فهمها أبدًا.
وقال بعضُ المتكلِّمين: أفنيتُ عمري في الكلام أطلبُ الدليل، وإذا أنا لا أزدادُ إلا بعدًا عن الدليل، فرجعتُ إلى القرآن أتدبَّره وأتفكَّر فيه، وإذا أنا بالدليل حقًّا معي وأنا لا أشعرُ به، فقلت: والله ما مثلي إلا كما قال القائل:
ومن العجائب والعجائبُ جمَّةٌ
…
قُرْبُ الحبيب وما إليه وصولُ
كالعِيسِ في البيداءِ يقتلها الظَّما
…
والماءُ فوق ظهورها محمولُ
(2)
قال: فلمَّا رجعتُ إلى القرآن إذا هو الحكمُ والدليل، ورأيتُ فيه من أدلَّة الله وحججه وبراهينه وبيِّناته ما لو جُمِعَ كلُّ حقٍّ قاله المتكلِّمون في كتبهم لكانت سورةٌ من سور القرآن وافيةً بمضمونه، مع حُسْن البيان، وفصاحة اللفظ، وتطبيق المَفْصِل
(3)
، وحُسْن الاحتراز، والتنبيه على مواقع الشُّبه، والإرشاد إلى جوابها، وإذا هو كما قيل ــ بل فوق ما قيل ــ:
(1)
انتصَرَت وغَلَبَت. والفَلْجُ: الظَّفر والفوز. «اللسان» (فلج).
(2)
البيت الثاني لأبي العلاء في «سقط الزند» (2/ 878، 880) باختلافٍ يسير. وضمَّنه القاضي الفاضل (ت: 596). انظر: «الروضتين» (2/ 357). ودون نسبة في مصادر كثيرة.
(3)
أي: إصابة الحجَّة. وأصلُه من: طبَّق السيفُ، إذا أصاب المَفْصِل، فأبان العضو. «الصحاح» (طبق).
كفى وشفى ما في الفؤاد فلم يَدَعْ
…
لذي أرَبٍ في القول جدًّا ولا هَزْلا
(1)
وجعلَت جيوشُ الكلام بعد ذلك تفدُ إليَّ
(2)
كما كانت، وتتزاحمُ في صدري، ولا يأذنُ لها القلبُ بالدخول فيه، ولا تلقى منه إقبالًا ولا قبولًا، فترجعُ على أدبارها.
والمقصودُ أنَّ القرآن مملوءٌ بالاحتجاج، وفيه جميعُ أنواع الأدلَّة والأقيسة الصحيحة.
وأمر الله تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم فيه بإقامة الحجَّة والمجادلة؛ فقال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46].
وهذه مناظراتُ القرآن مع الكفار موجودةٌ فيه، وهذه مناظراتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لخصومهم، وإقامةُ الحجج عليهم، لا ينكرُ ذلك إلا جاهلٌ مُفْرِطٌ في الجهل.
والمقصودُ الفرقُ بين الحجج والبيِّنات
(3)
، فنقول: الحُجج: الأدلةُ العلمية، والبيِّنات: جمعُ بيِّنة، وهي صفةٌ في الأصل، يقال: آيةٌ بيِّنة، وحجةٌ بيِّنة.
والبيِّنة: اسمٌ لكل ما يبيِّن الحقَّ، من علامةٍ منصوبةٍ أو أمارةٍ أو دليلٍ
(1)
البيت لحسان بن ثابت يمدحُ عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، من كلمةٍ في ديوانه (1/ 331). وانظر:«المنتقى من أخبار الأصمعي» (69).
(2)
(ت، د، ق): «تنفذ إلي» .
(3)
انظر: «مدارج السالكين» (2/ 336).
علمي
(1)
، قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: 25]؛ فالبيِّنات: الآياتُ التي أقامها اللهُ دلالةً على صدقهم من المعجزات، والكتابُ: هو الدعوة.
وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 96 - 97]، ومقامُ إبراهيم آيةٌ جزئيةٌ مرئيةٌ بالأبصار، وهو من آيات الله الموجودة في العالم. ومنه قولُ موسى لفرعون وقومه:{قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ} [الأعراف: 105 - 107]، وكان إلقاءُ العصا وانقلابها حيَّةً هو البيِّنة.
وقال قومُ هودٍ: {يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود: 53]، يريدونَ آيةَ الاقتراح، وإلا فهو قد جاءهم بما يعرفون به أنه رسولُ الله إليهم، فطلبُ الآية بعد ذلك تعنُّتٌ واقتراحٌ لا يكون لهم عذرٌ في عدم الإجابة إليه.
وهذه هي الآياتُ التي قال اللهُ تعالى فيها: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]، فعدمُ إجابته سبحانه إليها إذ طلبها الكفارُ [كان] رحمةً منه وإحسانًا؛ فإنه جرَت سُنَّته التي لا تبديل لها أنهم إذا طلبوا الآيةَ واقترحوها وأجيبوا ولم يؤمنوا عُوجِلوا بعذاب الاستئصال
(2)
،
(1)
انظر: «الطرق الحكمية» (25، 64)، و «إعلام الموقعين» (1/ 90).
(2)
انظر: «الجواب الصحيح» (6/ 430 - 451).
فلمَّا علم سبحانه أنَّ هؤلاء لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آيةٍ لم يُجِبْهم إلى ما طلبوا، فلم يَعُمَّهم بعذاب، لِمَا أخرجَ من بنيهم ومن أصلابهم من عباده المؤمنين، وأنَّ أكثرهم آمنَ بعد ذلك بغير الآية التي اقترحوها.
فكان عدمُ إنزال الآيات المطلوبة من تمام حكمة الربِّ ورحمته وإحسانه، بخلاف الحُجج فإنها لم تزل متتابعةً يتلو بعضُها بعضًا، وهي كلَّ يومٍ في مزيد، وتوفِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهي أكثرُ ما كانت، وهي باقيةٌ إلى يوم القيامة.
* وقوله: «أولئك الأقلُّون عددًا، الأعظمون عند الله قَدْرًا» ؛ يعني: هذا الصنفُ من الناس أقلُّ الخلق عددًا، وهذا سببُ غُرْبَتهم
(1)
؛ فإنهم قليلون في الناس، والناسُ على خلاف طريقتهم، فلهم نبأٌ وللناس نبأ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«بدأ الإسلامُ غريبًا، وسيعودُ غريبًا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء»
(2)
، فالمؤمنون قليلٌ
(3)
في الناس، والعلماءُ قليلٌ في المؤمنين، وهؤلاء قليلٌ في العلماء.
وإياك أن تغترَّ بما يغترُّ به الجاهلون، فإنهم يقولون: لو كان هؤلاء على حقٍّ لم يكونوا أقلَّ الناس عددًا، والناسُ على خلافهم؛ فاعلم أنَّ هؤلاء هم الناس، ومن خالفهم فمشبَّهون بالناس، ليسوا بناس، فما الناسُ إلا أهلُ الحقِّ وإن كانوا أقلَّهم عددًا.
قال ابن مسعود: «لا يكن أحدُكم إمَّعَة ــ يعني يقول: أنا مع الناس ــ،
(1)
(ت): «عزتهم» .
(2)
أخرجه مسلم (145) من حديث أبي هريرة.
(3)
(ت): «قليلون» .
لِيُوطِّنْ أحدُكم نفسَه على أن يؤمنَ ولو كفَر الناس»
(1)
.
وقد ذمَّ سبحانه الأكثرين في غير موضع، كقوله:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وقال:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال الله تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وقال:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24].
وقال بعض العارفين: «انفرادُك في طريق طلبك دليلٌ على صدق الطلب»
(2)
.
ولقد أحسن القائل
(3)
:
مُتْ بداء الهوى وإلا فَخَاطِرْ
…
واطْرُق الحَيَّ والعيونُ نَوَاظِرْ
لا تَخَفْ وَحْشَةَ الطريق إذا سِرْ
…
تَ وكن في خَفارة الحقِّ
(4)
سائرْ
(1)
أخرجه ابن حزم في «الإحكام» (6/ 147) بإسنادٍ صحيح.
وأخرجه الطبراني في «الكبير» (9/ 153)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 137) بإسنادٍ آخر فيه ضعف.
ورُوِي نحوه مرفوعًا في حديثٍ حسَّنه الترمذي (2007).
(2)
انظر: «مدارج السالكين» (2/ 5).
(3)
الجملة من (ت). والبيتان في «المدارج» (2/ 55) في نظمٍ كأنه للمصنف. ولعل البيتين لغيره، وما بعدهما له.
(4)
كذا في الأصول. وفي «المدارج» : «الحب» . وهو أنسب. والخفارة (مثلَّثةُ الخاء): الأمانُ والإجارة. «اللسان» (خفر).
* وقولُه: «بهم يدفعُ اللهُ عن حججه، حتى يؤدُّوها إلى نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم» ؛ وهذا لأنَّ الله سبحانه ضَمِنَ حفظَ حججه وبيِّناته، وأخبر رسولُه صلى الله عليه وسلم أنه لا تزالُ طائفةٌ من أمَّته على الحقِّ، لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة
(1)
.
فلا يزالُ غَرْسُ الله الذين غرَسهم في دينه يَغْرِسونَ العلمَ في قلوب من أهَّلَهم اللهُ لذلك وارتضاهم؛ فيكونوا
(2)
ورثةً لهم كما كانوا هم ورثةً لمن قبلهم، فلا تنقطعُ حججُ الله والقائمُ بها
(3)
من الأرض.
وفي الأثر
(4)
المشهور: «لا يزالُ اللهُ يَغْرِسُ في هذا الدِّين غَرْسًا يستعملُهم بطاعته»
(5)
.
وكان من دعاء بعض من تقدَّم: «اللهمَّ اجعلني من غَرْسِك الذين تستعملُهم بطاعتك» .
ولهذا ما أقامَ اللهُ لهذا الدِّين من يحفظُه ثم قبضه إليه إلا وقد زرع ما عَلِمَه من العلم والحكمة؛ إمَّا في قلوب أمثاله، وإمَّا في كتبٍ ينتفعُ بها الناسُ بعده.
وبهذا وغيره فَضَلَ العلماءُ العُبَّادَ؛ فإنَّ العالِم إذا زرع علمَه عند غيره ثمَّ مات جرى عليه أجرُه، وبقي له ذِكرُه، وهو عمرٌ ثانٍ وحياةٌ أخرى، وذلك
(1)
حديث متواتر، تقدم الكلام عليه (ص: 403).
(2)
كذا في الأصول، بلا ناصب أو جازم.
(3)
(ت، ق): «والقيام بها» . (د): «القائم» ، وفي طرتها:«لعله: القيام» .
(4)
(ت): «الخبر» .
(5)
تقدم تخريجه (ص: 404).
أحقُّ ما تنافسَ فيه المتنافسون ورَغِبَ فيه الراغبون.
* وقولُه: «هجَم بهم العلمُ على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعره المُتْرفون وأَنِسُوا بما استوحش منه الجاهلون» .
الهجومُ على الرجل: الدخولُ عليه بلا استئذان.
ولما كانت طريقُ الآخرة وعرةً على أكثر الخلق؛ لمخالفتها لشهواتهم ومباينتها لإراداتهم ومألوفاتهم= قلَّ سالكوها، وزهَّدهم فيها
(1)
قلَّةُ علمهم ــ أو عدمُه ــ بحقيقة الأمر وعاقبة العباد
(2)
ومصيرهم وما هُيِّئوا له وهُيِّاء لهم؛ فقلَّ علمُهم بذلك، واستلانوا مركبَ الشهوة والهوى على مركب الإخلاص والتقوى، وتوعَّرت عليهم الطريق، وبَعُدَت الشُّقَّة، وصَعُبَ عليهم مرتقى عِقابها وهبوطُ أوديتها وسلوكُ شعابها، فأخلدوا إلى الدَّعة والراحة، وآثروا العاجلَ على الآجل، وقالوا: عَيْشُنا اليوم نَقْدٌ وموعودُنا
(3)
نسيئة
(4)
.
فنظروا إلى عاجل الدنيا، وأغمضوا العيونَ عن آجلها، ووقفوا مع ظاهرٍ منها، ولم يتأمَّلوا باطنَها، وذاقوا حلاوةَ مَبادِيها، وغاب عنهم مرارةُ عواقبها، ودَرَّ لهم ثَدْيُها فطابَ لهم الارتضاع، واشتغلوا به عن التفكُّر في الفطام ومرارة الانقطاع، وقال مغترُّهم بالله وجاحدُهم لعظمته وربوبيَّته ــ متمثِّلًا في ذلك ــ:
(1)
ساقطة من (ت).
(2)
(ت): «المعاد» .
(3)
(ح، ت): «وموعدنا» .
(4)
انظر: «تلبيس إبليس» (345)، و «الداء والدواء» (79).
* خُذ ما تراهُ ودَع شيئًا سمعتَ به *
(1)
وأمَّا القائمون لله بحجَّته، خلفاءُ نبيِّه في أمَّته، فإنهم لكمال علمهم وقوَّته نَفَذ بهم إلى حقيقة الأمر، وهجمَ بهم عليه، فعاينوا ببصائرهم ما عَشَتْ عنه
(2)
بصائرُ الجاهلين، فاطمأنَّت قلوبُهم به، وعملوا على الوصول إليه؛ لِمَا باشرها مِنْ رَوْح اليقين
(3)
.
رُفِعَ لهم عَلَمُ السعادة فشمَّروا إليه، وأسْمَعهم منادي الإيمان النداءَ فاستبقوا إليه، واستيقنت أنفسُهم ما وعدهم به ربُّهم فزهدوا فيما سواه ورغبوا فيما لديه.
علموا أنَّ الدنيا دارُ ممرٍّ لا دارُ مقرّ، ومنزلُ عبورٍ لا مقعد حبور، وأنها خيالُ طَيْفٍ أو سحابةُ صَيْف، وأنَّ مَنْ فيها كراكبٍ قال تحت ظلِّ شجرةٍ ثمَّ راح عنها وتركها، وتيقَّنوا أنها:
أحلامُ نومٍ أو كظلٍّ زائلٍ
…
إنَّ اللبيبَ بمثلها لا يُخْدَعُ
(4)
وأنَّ واصفَها صدق في وصفها إذ يقول:
أرى أشقياءَ الناس لا يسأمونها
…
على أنهم فيها عراةٌ وجُوَّعُ
(1)
صدرُ بيتٍ للمتنبي، في ديوانه (330)، وعجُزه:
* في طلعة البدر ما يغنيك عن زُحَلِ *
(2)
العَشَى: سوءُ البصر. وخصَّه بعضُهم بالليل. «اللسان» (عشا).
(3)
(ت): «عين اليقين» .
(4)
البيت لعمران بن حطان، في «روضة العقلاء» (301)، و «تاريخ دمشق» (43/ 498)، و «الخزانة» (5/ 361)، وغيرها.
أراها وإن كانت تُحَبُّ فإنها
…
سحابةُ صَيْفٍ عن قليلٍ تَقَشَّعُ
(1)
فترحَّلَت عن قلوبهم مدبرةً كما ترحَّلَت عن أهلها مُوَلِّية، وأقبلت الآخرةُ إلى قلوبهم مسرعةً كما أسرعَت إلى الخلق مقبلة، فامتطوا ظهورَ العزائم، وهجروا لذَّة المنام، وما ليلُ المحبِّ بنائم.
عَلِموا طولَ الطريق وقلَّة المُقام في منزل التزوُّد فسارعوا في الجَهاز، وجَدَّ بهم السيرُ إلى منازل الأحباب فقطعوا المراحلَ وطووا المفاوز
(2)
.
وهذا كلُّه من ثمرات اليقين؛ فإنَّ القلب إذا استيقنَ ما أمامه من كرامة الله وما أعدَّ لأوليائه ــ بحيث كأنه ينظرُ إليه من وراء حجاب الدنيا، ويعلمُ أنه إذا زال الحجابُ رأى ذلك عيانًا ــ زالت عنه الوحشةُ التي يجدُها المتخلِّفون، ولانَ له ما استوعره المترفون.
وهذه المرتبةُ هي أولُ مراتب اليقين؛ وهي علمُه وتيقُّنه، وهي انكشافُ المعلوم للقلب، بحيث يشاهدُه ولا يشكُّ فيه، كانكشاف المرئيِّ للبصر.
ثمَّ تليها المرتبةُ الثانية؛ وهي مرتبةُ عين اليقين، ونسبتُها إلى العين كنسبة الأول إلى القلب.
ثمَّ تليها المرتبةُ الثالثة؛ وهي حقُّ اليقين، وهي مباشرةُ المعلوم وإدراكُه الإدراكَ التام.
فالأولى كعلمك بأنَّ في هذا الوادي ماءً، والثانيةُ كرؤيته، والثالثةُ
(1)
البيتان لعمران بن حطان ــ أيضًا ــ، من مقطعةٍ أخرى في «الزهد» لابن أبي الدنيا (219)، وفي «ديوان شعر الخوارج» (173) مزيد تخريج.
(2)
كذا في الأصول. ولعلها محرفة عن: المفاز. وهو المفازة. ليستقيم السجع.
كالشُّرب منه
(1)
.
ومن هذا ما يروى في حديث حارثة وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «كيف أصبحتَ يا حارثة؟» قال: أصبحتُ مؤمنًا حقًّا، قال:«إنَّ لكلِّ قولٍ حقيقة، فما حقيقةُ إيمانك؟» قال: عزفَت نفسي عن الدنيا وشهواتها، فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري، وكأني أنظرُ إلى عرش ربِّي بارزًا، وكأني أنظرُ إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوَوْن فيها، فقال:«عبدٌ نوَّر اللهُ قلبه»
(2)
.
فهذا هو هجومُ العلم بصاحبه على حقيقة الأمر، ومن وصل إلى هذا استلانَ ما يستوعرُه المترفون، وأَنِسَ بما يستوحشُ منه الجاهلون، ومن لم يثبت قدمُ إيمانه على هذه الدرجة فهو إيمانٌ ضعيف.
وعلامةُ هذا: انشراحُ الصدر لمنازل الإيمان، وانفساحُه، وطمأنينةُ القلب لأمر الله، والإنابةُ إلى ذكر الله، ومحبَّته، والفرح بلقائه، والتجافي عن
(1)
انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 645)، و «مدارج السالكين» (2/ 403)، و «أيمان القرآن» (284).
(2)
أخرجه عبد بن حميد في «المسند» (445 - منتخبه)، والطبراني في «الكبير» (3/ 266)، وغيرهما من حديث الحارث بن مالك الأنصاري بإسنادٍ ضعيف.
ورُوِي من وجوهٍ أخرى معضلًا ومرسلًا وموصولًا.
قال العقيلي: «ليس لهذا الحديث إسنادٌ يثبت» ، وقال ابن صاعد:«هذا الحديثُ لا يثبتُ موصولًا» ، وقال ابن تيمية:«رُوِي مسندًا من وجهٍ ضعيفٍ لا يثبت» ، وقال ابن رجب:«والمرسلُ أصح» .
انظر: «الضعفاء» (4/ 455)، و «الإصابة» (1/ 597)، و «الاستقامة» (1/ 194)، و «مجموع الفتاوى» (7/ 669)، و «جامع العلوم والحكم» (79)، و «التخويف من النار» (33).
دار الغرور؛ كما في الأثر المشهور: «إذا دخلَ النورُ القلبَ انفسحَ وانشرح» ، قيل: وما علامةُ ذلك؟ قال: «التجافي عن دار الغرور، والإنابةُ إلى دار الخلود، والاستعدادُ للموت قبل نزوله»
(1)
.
وهذه هي الحالُ التي كانت تحصلُ للصحابة رضي الله عنهم عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا ذكَّرهم الجنةَ والنار؛ كما في الترمذيِّ وغيره من حديث الجُريري، عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة الأسدي ــ وكان من كُتَّاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ــ أنه مرَّ بأبي بكرٍ رضي الله عنه وهو يبكي، فقال: ما لك يا حنظلة؟ فقال: نافقَ حنظلةُ يا أبا بكر، نكونُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرنا بالجنة والنار كأنَّا رأي عَيْن، فإذا رجعنا إلى الأزواج والضَّيعة نسينا كثيرًا، قال: فوالله إنَّا لكذلك، انطلِقْ بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا، فلمَّا رآه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: ما لك يا حنظلة؟ قال: نافقَ حنظلةُ يا رسول الله، نكونُ عندك تذكِّرنا بالنار والجنة كأنَّا رأي عَيْن، فإذا رجعنا عافَسْنا الأزواجَ والضَّيعة ونسينا كثيرًا، قال: فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتْكم الملائكةُ في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فُرشكم، ولكنْ يا حنظلةُ ساعةً وساعة» . قال الترمذي: «حديثٌ حسنٌ صحيح»
(2)
.
(1)
أخرجه وكيع (15)، وابن المبارك (315) كلاهما في «الزهد» ، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (ق: 115/ب)، وغيرهم.
وفي إسناده اختلاف، والصوابُ أنه مرسل، ولا يثبتُ رفعه.
انظر: «علل الدارقطني» (5/ 189)، و «شرح علل الترمذي» لابن رجب (2/ 773). وراجع التعليق على «الوابل الصيب» (144).
(2)
«جامع الترمذي» (2514). وهو في «صحيح مسلم» (2750).
وفي الترمذي أيضًا نحوه من حديث أبي هريرة
(1)
.
والمقصودُ أنَّ الذي يهجُم بالقلب على حقيقة الإيمان، ويليِّنُ له ما يستوعرُه غيرُه، ويُؤنِسُه بما يستوحشُ منه سواه: العلمُ التام، والحبُّ الخالص. والحبُّ تبعٌ للعلم، يقوى بقوَّته، ويضعفُ بضعفه، والمحبُّ لا يستوعرُ طريقًا توصلُه إلى محبوبه، ولا يستوحشُ فيها.
* وقولُه: «صحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها معلَّقةٌ بالملأ الأعلى» ، وفي رواية:«بالمحلِّ الأعلى» ؛ الروحُ في هذا الجسد بدارِ غُربة، ولها وطنٌ غيره فلا تستقرُّ إلا في وطنها، وهي جوهرٌ عُلْوِيٌّ مخلوقٌ من مادةٍ عُلْوِيَّة، وقد اضطرَّت إلى مساكنة هذا البدن الكثيف، فهي دائمًا تطلبُ وطنها في المحلِّ الأعلى، وتحنُّ إليه حنينَ الطير إلى أوكارها.
وكلُّ روحٍ ففيها ذلك، ولكن لفرط اشتغالها بالبدن وبالمحسوسات المألوفة أخلدت إلى الأرض، ونسيت محلَّها
(2)
ووطنها الذي لا راحة لها في غيره؛ فإنه لا راحة للمؤمن دون لقاء ربِّه، والدنيا سجنُه حقًّا، فلهذا تجدُ المؤمنَ بدنُه في الدنيا وروحُه في المحلِّ الأعلى.
وفي الحديث المرفوع: «إذا نام العبدُ وهو ساجدٌ باهى اللهُ به الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبدي، بدنُه في الأرض وروحُه عندي» رواه تمَّامٌ
(3)
(1)
(2526)، وقال:«هذا حديثٌ ليس إسناده بذاك القوي وليس هو عندي بمتصل» .
(2)
(ت، ق، ن، ح): «معلمها» . تحريف. والمثبت من (د)، وهو الصواب. انظر ما سيأتي (ص:
…
). ويحتمل أن تكون: معهدها. انظر: «مدارج السالكين» (1/ 498).
(3)
في «الفوائد» (343 - الروض)، والبيهقي في «الخلافيات» (2/ 143) من حديث أنسٍ بإسنادٍ ضعيف جدًّا.
ورُوِي من حديث الحسن، عن أبي هريرة. أخرجه ابن شاهين في «الناسخ والمنسوخ» (199). والحسنُ لم يسمع من أبي هريرة. وبذا أعلَّه الدارقطنيُّ في «العلل» (8/ 249).
ورُوِي عن الحسن قال: «أُنبئتُ أنَّ العبد إذا نام
…
». أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (1213). وهو أشبه.
ورُوِي عن الحسن قوله. أخرجه أحمد في «الزهد» (280)، وابن أبي شيبة (14/ 28)، ومحمد بن نصر في «تعظيم قدر الصلاة» (1/ 319).
وانظر: «المجموع» (2/ 14)، و «التلخيص الحبير» (1/ 120).
وغيره.
وهذا معنى قول بعض السلف: «القلوبُ جَوَّالة؛ فقلبٌ حول الحُشِّ
(1)
، وقلبٌ يطوفُ مع الملائكة حول العرش»
(2)
.
فأعظمُ عذاب الروح انغماسُها وتدسيسُها في أعماق البدن، واشتغالُها بملاذِّه، وانقطاعُها عن ملاحظة ما خُلِقَت له وهُيِّئت له، وعن وطنها ومحلِّ أُنسِها ومنزل كرامتها، ولكنَّ سُكْرَ الشهوات يحجُبها عن مطالعة هذا الألم والعذاب.
فإذا صَحَت من سُكْرها، وأفاقت من غمرتها، أقبلَت عليها جيوشُ الحسرات من كلِّ جانب؛ فحينئذٍ تتقطَّعُ حسراتٍ على ما فاتها من كرامة الله وقربه والأُنس به، والوصول إلى وطنها الذي لا راحة لها إلا فيه، كما قيل:
(1)
موضعُ قضاء الحاجة. «اللسان» (حشش).
(2)
أخرجه أبو عبد الرحمن السلمي في «طبقات الصوفية» (103) عن أحمد بن خضرويه البلخي (ت: 240). وهو في ترجمته من «السير» (11/ 488).
صَحِبتُك إذْ عيني عليها غشاوةٌ
…
فلمَّا انجلت قَطَّعْتُ نفسي ألومُها
(1)
ولو تنقَّلت الروحُ في المواطن كلِّها والمنازل، لم تستقرَّ ولم تطمئنَّ إلا في وطنها ومحلِّها الذي خُلِقَت له، كما قيل:
نَقِّلْ فؤادَك حيثُ شئتَ من الهوى
…
ما الحبُّ إلا للحبيب الأوَّلِ
كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى
…
وحنينُه أبدًا لأوَّل منزلِ
(2)
وإذا كانت الروحُ تَحِنُّ أبدًا إلى وطنها من الأرض مع قيام غيره مقامه في السُّكنى، وكثيرًا ما يكونُ غيرُ وطنها أحسنَ وأطيب منه، وهي إنما
(3)
تَحِنُّ إليه، مع أنه لا ضرر عليها ولا عذابَ في مفارقته إلى مثله، فكيف بحنينها إلى الوطن الذي في فراقها له عذابها وألمُها وحسرتُها التي لا تنقضي؟!
فالعبدُ المؤمنُ في هذه الدار سُبِيَ من الجنة إلى دار التعب والعناء، ثمَّ ضُرِبَ عليه الرِّقُّ فيها، فكيف يلامُ على حنينه إلى داره التي سُبِيَ منها، وفُرِّق بينه وبين من يُحِب، وجُمِعَ بينه وبين عدوِّه؟!
فروحُه دائمًا معلَّقةٌ بذلك الوطن، وبدنُه في الدنيا.
ولي من أبياتٍ في ذلك
(4)
:
(1)
البيت للحارث بن خالد المخزومي، يخاطبُ عبد الملك بن مروان، في «الكامل» (1051). وفي مجموع شعره (101) مزيدُ تخريج.
(2)
البيتان لأبي تمام، في ديوانه (4/ 253).
(3)
(ن، ح): «وهي دائما» .
(4)
من ميميَّةٍ طويلة، في «طريق الهجرتين» (108)، و «حادي الأرواح» (14).
فحَيَّ على جنَّاتِ عَدْنٍ فإنها
…
منازلُك الأولى وفيها المُخَيَّمُ
ولكنَّنا سَبْيُ العدوِّ فهل تُرى
…
نَعُودُ إلى أوطاننا ونُسَلَّمُ
وكلَّما أراد منه العدوُّ نسيانَ وطنه، وضَرْبَ الذِّكر عنه صفحًا، وإيلافَه وطنًا غيره، أبت ذلك روحُه وقلبُه، كما قيل:
يرادُ من القلب نسيانُكم
…
وتأبى الطِّباعُ على الناقلِ
(1)
ولهذا كان المؤمنُ غريبًا في هذه الدار، أين حلَّ منها فهو في دار غُربة، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل»
(2)
، ولكنها غُربةٌ تنقضي ويصيرُ إلى وطنه ومنزله، وأما الغُربةُ التي لا يُرجى انقطاعُها فهي غُربةٌ في دار الهوان، ومفارقةُ وطنه الذي كان قد هيِّاء له وأُعِدَّ له وأُمِرَ بالتجهُّز إليه والقدوم عليه، فأبى إلا اغترابَه عنه ومفارقتَه له، فتلك غربةٌ لا يُرجى إيابُها ولا يُجْبَرُ مصابُها.
ولا تبادِر إلى إنكار كون البدن في الدنيا والروح في الملإ الأعلى؛ فللرُّوح شأنٌ وللبدن شأن، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان بين أظهُر أصحابه وهو عند ربِّه يطعمُه ويسقيه
(3)
، فبدنُه بينهم وروحُه وقلبه عند ربِّه.
وقال أبو الدرداء: «إذا نام العبدُ عُرِجَ بروحه إلى تحت العرش، فإن كان
(1)
البيت للمتنبي، في ديوانه (259). والرواية الصحيحة: ويأبى، بالياء. انظر كلام ابن القطاع بحاشية الديوان (تحقيق عبد الوهاب عزام).
(2)
أخرجه البخاري (6416) من حديث ابن عمر.
(3)
انظر ما مضى (ص: 97).
طاهرًا أُذِنَ لها بالسجود وإن لم يكن طاهرًا لم يؤذن لها بالسجود»
(1)
.
فهذه ــ والله أعلم ــ هي العلةُ التي أُمِرَ الجنبُ لأجلها أن يتوضَّأ إذا أراد النوم
(2)
.
وهذا الصُّعودُ إنما كان لتجرُّد الروح عن البدن بالنوم، فإذا تجرَّدت بسببٍ آخر حصل لها من الترقِّي والصُّعود بحسب ذلك التجرُّد.
وقد يقوى الحبُّ بالمحبِّ حتى لا يُشاهَد منه بين الناس إلا جسمُه، وروحُه في موضعٍ آخر عند محبوبه، وفي هذا من أشعار الناس وحكاياتهم
(1)
أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (1245) ــ ومن طريقه ابن قتيبة في «غريب الحديث» (1/ 11)، و «تعبير الرؤيا» (27) ــ، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (ق: 274/أ) بإسنادٍ ضعيف.
(2)
الأثر في المصادر السابقة بلفظ: «
…
وإن كان جُنبًا لم يؤذن لها بالسجود»، والوضوءُ لا ينفي عن الجُنب اسمَ الجنابة، ولذا كان ابنُ قتيبة أسعدَ بهذا الأثر من المصنف، إذ قال:«لا أرى الطهارةَ التي نختار للنائم أن يبيت عليها إلا الاغتسال من الجنابة» ، ثم استدلَّ بالأثر، ثم قال:«فجعَلَ طهارةَ النائم في نومه أن يكون على غير جنابة. وأكثرُ الناس على أنه التوضؤ للصلاة. والنومُ ناقضٌ للوضوء وليس بناقضٍ للغسل» .
وهذا الاختيار من ابن قتيبة على سبيل الأفضليَّة، وقد صرَّح في «تأويل مختلف الحديث» (306) بعدم وجوب الغسل.
والغرض هنا الإشارةُ إلى مجانبة الأثر بهذا اللفظ لما استنبطه المصنفُ منه.
وقد ورد باللفظ الذي ذكره المصنفُ أثرٌ آخر عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان ممَّن يأخذُ عن أهل الكتاب.
أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (6/ 292)، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (ق: 274/أ)، والبيهقي في «الشعب» (6/ 75، 9/ 13) بإسنادين يقوِّي أحدُهما الآخر.
ما هو معروف
(1)
.
* وقولُه: «أولئك خلفاءُ الله في أرضه ودعاتُه إلى دينه» ؛ هذا حجَّةُ أحد القولين في أنه يجوزُ أن يقال: «فلانٌ خليفةُ الله في أرضه»
(2)
.
واحتجَّ أصحابُه أيضًا بقوله تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165]، وهذا خطابٌ لنوع الإنسان.
وبقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62].
وبقول موسى لقومه: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129].
وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله ممكِّنٌ لكم في الأرض ومستخلفُكم فيها، فناظرٌ كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء»
(3)
.
واحتجُّوا بقول الراعي يخاطبُ أبا بكر الصدِّيق
(4)
رضي الله عنه:
(1)
انظر: «زهر الآداب» (1/ 328)، و «التدوين» للرافعي (4/ 78).
(2)
انظر: «نقض التأسيس» (6/ 589 ــ 611)، و «معجم المناهي اللفظية» (252).
(3)
أخرجه بنحوه مسلم (2742) من حديث أبي سعيد الخدري.
(4)
«الصديق» ليست في (د). وهذا وهمٌ غريب. فالبيتان من لاميَّةٍ طويلة للراعي النميري (ت: 92) يمدحُ فيها عبد الملك بن مروان، ويشكو من السُّعاة (الذين يأخذون الزكاة مِنْ قِبَل السُّلطان)، وهي من مشهور شعره وجيِّده، وكان يعتزُّ بها، وقد حَفِظَتها مجاميعُ الشِّعر بتمامها. انظر:«منتهى الطلب» (6/ 5)، و «أمالي المرزوقي» (470)، وديوانه المجموع (58).
والراعي يَصْغُر عن إدراك زمن أبي بكرٍ شاعرًا، وإنما هو من شعراء دولة بني أمية. ولعلَّ ذِكر الزكاة في الأبيات هو سبب الوهم؛ لمنع المرتدِّين لها على عهد الصدِّيق رضي الله عنه.
أخليفةَ الرحمنِ إنَّا معشرٌ
…
حنفاءُ نسجدُ بُكْرَةً وأصيلا
عربٌ نرى لله في أموالنا
…
حقَّ الزكاة منزَّلًا تنزيلا
ومنعت طائفةٌ هذا الإطلاق، وقالت: لا يقالُ لأحد: إنه خليفة الله؛ فإنَّ الخليفةَ إنما يكونُ عمن يغيبُ ويَخْلُفه غيرُه، واللهُ تعالى شاهدٌ غير غائب، قريبٌ غير بعيد، راءٍ وسامع، فمحالٌ أن يَخْلُفَه غيرُه، بل هو سبحانه الذي يَخْلُفُ عبدَه المؤمنَ فيكون خليفتَه؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديث الدجال:«إنْ يَخْرُج وأنا فيكم فأنا حَجِيجُه دونكم، وإن يَخْرُج ولستُ فيكم فامرؤٌ حَجِيجُ نفسه، واللهُ خليفتي على كلِّ مؤمن» ، والحديث في «الصحيح»
(1)
.
وفي «صحيح مسلم»
(2)
أيضًا من حديث عبد الله بن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقولُ إذا سافر: «اللهم أنت الصاحبُ في السَّفر، والخليفةُ في الأهل
…
» الحديث.
وفي «الصحيح»
(3)
أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «اللهمَّ اغفر لأبي سلمة، وارفع
(1)
«صحيح مسلم» (2937) من حديث النواس بن سمعان.
(2)
(1342).
(3)
(ت، د، ق): «وفي الحديث» . وهو في «صحيح مسلم» (920).
درجتَه في المهديِّين، واخلُفْهُ في أهله».
فالله تعالى هو خليفةُ العبد؛ لأنَّ العبدَ يموتُ فيحتاجُ إلى من يَخْلُفه في أهله.
قالوا: ولهذا أنكر الصدِّيقُ رضي الله عنه على من قال له: «يا خليفةَ الله» ، قال:«لستُ بخليفة الله، ولكن خليفةُ رسول الله، وحسبي ذلك»
(1)
.
قالوا: وأمَّا قولُه تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، فلا خلافَ أنَّ المرادَ به آدمُ وذريته. وجمهورُ أهل التفسير من السَّلف والخلف على أنه جعله خليفةً عمن كان قبله
(2)
في الأرض. قيل: عن الجنِّ الذين كانوا سُكَّانها. وقيل: عن الملائكة الذين سكنوها بعد الجنِّ، وقصَّتهم مذكورةٌ في التفاسير
(3)
.
وأمَّا قولُه تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165]، فليس المرادُ به خلائفَ عن الله، وإنما المرادُ به أنه جعلكم يَخْلُفُ بعضُكم بعضًا، فكلَّما هلك قرنٌ خَلَفه قرنٌ إلى آخر الدهر.
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (1/ 10)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (14/ 568)، والخلال في «السنة» (1/ 274)، وغيرهم بإسنادٍ منقطع.
وقد كان الصحابةُ رضي الله عنهم ينادونه: «يا خليفة رسول الله» ، عقد الحاكمُ للروايات في ذلك فصلًا في «المستدرك» (3/ 79)، وصحَّح بعضها ولم يتعقَّبه الذهبي.
(2)
(ت): «فمن كان قبله» . (ن): «ممن كان قبله» . (د، ق): «خليفته ممن كان قبله» . والمثبت أشبه.
(3)
انظر: «تفسير الطبري» (1/ 450)، و «الدر المنثور» (1/ 44).
ثمَّ قيل: إنَّ هذا خطابٌ لأمَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم خاصَّة؛ أي: جعلكم خلائفَ من الأمم الماضية، فهلكوا وورثتم أنتم الأرضَ من بعدهم.
ولا ريب أنَّ هذا الخطابَ للأمَّة، والمرادُ نوعُ الإنسان الذي جعلَ اللهُ أباهم خليفةً عمَّن قبله، وجعل ذريته يَخْلُفُ بعضُهم بعضًا إلى قيام الساعة، ولهذا جَعَل هذا آيةً من آياته، كقوله تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62].
وأما قول موسى لقومه: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 129]، فليس ذلك استخلافًا عنه، وإنما هو استخلافٌ عن فرعون وقومه؛ أهلكهم وجعل قومَ موسى خلفاء من بعدهم.
وكذا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ مستخلفُكم في الأرض» ، أي: من الأمم التي تهلكُ وتكونون أنتم خلفاءَ من بعدهم.
قالوا: وأمَّا قولُ الراعي؛ فقولُ شاعرٍ قال قصيدةً في غيبة الصدِّيق لا يُدرى أبلغت أبا بكرٍ أم لا؟ ولو بلغته فلا يُعْلَمُ أنه أقرَّه على هذه اللفظة
(1)
.
قلت: إن أريد بالإضافة إلى الله أنه خليفةٌ عنه، فالصوابُ قولُ الطائفة المانعة منها.
وإن أريد بالإضافة أن الله استخلفه عن غيره ممَّن كان قبله، فهذا لا يمتنعُ فيه الإضافة، وحقيقتُها: خليفةُ الله الذي جعله اللهُ خَلَفًا عن غيره. وبهذا يخرَّجُ الجوابُ عن قول أمير المؤمنين: «أولئك خلفاءُ الله في أرضه» .
(1)
راجع ما قدَّمناه قريبًا في شأن أبيات الراعي.
فإن قيل: هذا لا مدحَ فيه؛ لأنَّ هذا الاستخلافَ عامٌّ في الأمَّة، وخلافةُ الله التي ذكرها أميرُ المؤمنين خاصَّةٌ بخواصِّ الخَلْق.
فالجواب: أنَّ الاختصاصَ المذكور أفاد اختصاصَ الإضافة، فالإضافةُ هنا للتشريف والتخصيص، كما يضافُ إليه
(1)
عبادُه، كقوله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، ونظائرها.
ومعلومٌ أنَّ كلَّ الخلق عبادٌ له، فخلفاءُ الأرض كالعباد في قوله:{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]، وخلفاءُ الله كعباد الله في قوله:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ونظائره.
وحقيقةُ اللفظة: أنَّ الخليفةَ هو الذي يَخْلُفُ الذاهب، أي: يجيء بعده؛ يقال: خَلَفَ فلانٌ فلانًا.
وأصلُها: «خليفٌ» بغير هاء؛ لأنها فَعِيلٌ بمعنى فاعل، كالعليم والقدير، فدخلت التاءُ للمبالغة في الوصف، كراوية وعلَّامة؛ ولهذا جُمِعَ جمعَ فَعِيل، فقيل: خُلفاء، كشُرفاء وظُرفاء وكُرماء
(2)
. ومن راعى لفظَه بعد دخول التاء عليه جمَعه على فعائل، فقال: خلائف، كعَقِيلة وعقائل، وطَرِيفة وطرائف
(3)
. وكلاهما ورد به القرآن.
(1)
(ت): «يضاف لله» .
(2)
(ت، ق، د): «كشريف وشرفاء وكرماء» .
(3)
(ت): «وطريقة وطرائق» . (ح، ن): «وظريفة وظرائف» .
هذا قولُ جماعةٍ من النحاة
(1)
.
والصوابُ أنَّ التاء إنما دخلت فيها للعَدْل عن الوصف إلى الاسم؛ فإنَّ الكلمةَ صفةٌ في الأصل، ثمَّ أُجرِيَت مجرى الأسماء، فأُلحِقَت التاءُ لذلك، كما قالوا:«نَطِيحة» بالتاء، فإذا أجروها صفةً قالوا:«شاةٌ نَطِيح» كما يقولون: «كفٌّ خَضِيب» ، وإلا فلا معنى للمبالغة في «خليفة» حتى تلحقها تاءُ المبالغة، والله أعلم.
* وقولُه: «ودعاتُه إلى دينه» ؛ الدعاة: جمعُ داعٍ، كقاضٍ وقضاة، ورامٍ ورماة، وإضافتُهم إلى الله للاختصاص، أي الدعاةُ المخصوصون به الذين يدعون إلى دينه وعبادته ومعرفته ومحبَّته، وهؤلاء هم خواصُّ خلق الله وأفضلُهم عند الله منزلةً وأعلاهم قدرًا.
يدلُّ على ذلك الوجه الثلاثون بعد المئة: وهو قولُه تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
(2)
.
فمقامُ الدعوة إلى الله أفضلُ مقامات العبد، قال تعالى:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19].
(1)
انظر: «التبيان» للعكبري (1/ 47)، و «النهاية» (خلف).
(2)
أخرجه الطبري (21/ 468).
وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، جَعَل سبحانه مراتبَ الدعوة بحسب مراتب الخلق:
* فالمستجيبُ القابلُ الزَّكِيُّ
(1)
الذي لا يعاندُ الحقَّ ولا يأباه، يُدْعى بطريق الحكمة.
* والقابلُ الذي عنده نوعُ غفلةٍ وتأخُّر، يُدْعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمرُ والنهيُ المقرونُ بالرغبة والرهبة.
* والمعاندُ الجاحدُ، يجادَلُ بالتي هي أحسن.
هذا هو الصحيحُ في معنى هذه الآية، لا ما يزعمُ أسيرُ منطق اليونان أنَّ الحكمةَ قياسُ البرهان وهو دعوةُ الخواصِّ، والموعظةَ الحسنةَ قياسُ الخطابة وهو دعوةُ العوامِّ، والمجادلةَ بالتي هي أحسنُ القياسُ الجَدَلي وهو ردُّ شَغَب المشاغِب بقياسٍ جدليٍّ مسلَّم المقدِّمات!
وهذا باطل، وهو مبنيٌّ على أصول الفلسفة، وهو منافٍ لأصول المسلمين وقواعد الدِّين من وجوهٍ كثيرةٍ ليس هذا موضع ذكرها
(2)
.
وقال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. قال الفرَّاء
(3)
وجماعة: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} معطوفٌ على الضمير
(1)
كذا في الأصول، عدا (ت) فهي ساقطة منها. وزكاء نفسه هو الذي جعله لا يعاند الحق. ولعلها بالذال، لمقابلة الذي عنده نوع غفلةٍ وتأخر.
(2)
انظر ما سيأتي (ص: 491).
(3)
في «معاني القرآن» (2/ 55).
في {أَدْعُو} ، يعني: ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو.
وهذا قولُ الكلبي
(1)
، قال: حقٌّ على كلِّ من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه ويذكِّر بالقرآن والموعظة
(2)
.
ويَقْوَى هذا القولُ من وجوهٍ كثيرة.
قال ابن الأنباري: ويجوزُ أن يتمَّ الكلامُ عند قوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} ، ثمَّ يبتداء:{عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}
(3)
. فيكونُ الكلامُ على قوله جملتين، أخبَر في أولاهما أنه يدعو إلى الله، وفي الثانية بأنه وأتباعَه على بصيرة.
والقولان متلازمان؛ فلا يكونُ الرجلُ من أتباعه حقًّا حتى يدعو إلى ما دعا إليه. وقولُ الفرَّاء أحسنُ وأقربُ إلى الفصاحة والبلاغة
(4)
.
وإذا كانت الدعوةُ إلى الله أشرفَ مقامات العبد وأجلَّها وأفضلَها، فهي لا تحصلُ إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حدٍّ يصلُ إليه السَّعي
(5)
.
ويكفي هذا في شرف العلم، أنَّ صاحبه يحوزُ به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء.
(1)
محمد بن السائب بن بشر، أبو النضر، الإخباريُّ النَّسابة المفسِّر (ت: 146). انظر: «السير» (6/ 248).
(2)
انظر: «الكشف والبيان» (5/ 263)، و «البسيط» (12/ 263). وأخرجه الطبري (16/ 292) عن ابن زيد.
(3)
انظر: «زاد المسير» (4/ 295).
(4)
راجع ما مضى (ص: 216).
(5)
كذا في الأصول. أي: إلى آخر حدٍّ يصلُ إليه السعي.
الوجه الحادي والثلاثون بعد المئة: أنه لو لم يكن من فوائد العلم إلا أنه يُثْمِرُ اليقينَ الذي هو أعظمُ حياة القلب، وبه طمأنينتُه وقوَّتُه ونشاطُه وسائرُ لوازم الحياة لكفاه شرفًا وفضلًا
(1)
.
ولهذا مدح الله سبحانه أهلَه في كتابه، وأثنى عليهم بقوله:{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]، وقوله تعالى:{قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118]
(2)
، وقوله في حقِّ خليله إبراهيم:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]، وذَمَّ من لا يقين عنده، فقال: {إنَّ
(3)
النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 82].
وفي الحديث المرفوع من حديث سفيان الثوري، عن سليمان التيمي
(4)
، عن خيثمة، عن عبد الله بن مسعود يرفعُه: «لا تُرضِينَّ أحدًا بسخط الله، ولا تَحْمَدَنَّ أحدًا على فضله، ولا تَذُمَّنَّ أحدًا على ما لم يُؤْتِك الله؛ فإنَّ رزقَ الله لا يسوقُه [إليك] حرصُ حريص، ولا يردُّه عنك كراهيةُ كارِه، وإنَّ الله بعدله وقسطه جعل الرَّوْحَ والراحةَ والفرحَ في الرضا واليقين،
(1)
الجوابُ مستدركٌ في طرة (د)، وليس في باقي الأصول.
(2)
في الأصول: (كذلك نفصل الآيات لقوم يوقنون) وهو وهم؛ فليس ثم آيةٌ كذلك، وأنا متأثمٌ من إثباتها في المتن. وفي القرآن:{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28]، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]، {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]. ويصلح للاستشهاد لما أراده المصنف ما أثبتُّه.
(3)
كذا قرأ أبو عمرو، وهي قراءة المصنف وأهل الشام لعهده.
(4)
كذا في الأصول و «الرسالة القشيرية» ، وهي مصدر المصنف. وهو سليمان الأعمش، كما في المصادر التالية.
وجعل الهمَّ والحزن في الشكِّ والسخط»
(1)
.
فإذا باشرَ القلبَ اليقينُ امتلأ نورًا، وانتفى عنه كلُّ ريبٍ وشك، وعُوفي من أمراضه القاتلة، وامتلأ شكرًا لله وذكرًا ومحبَّةً وخوفًا، فحَيِيَ عن بيِّنة.
واليقينُ والمحبةُ هما ركنا الإيمان، وعليهما ينبني، وبهما قِوامُه، وهما يُمِدَّان سائرَ الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تَصْدُر، وبضعفهما يكونُ ضعفُ الأعمال، وبقوَّتهما قوتها. وجميعُ منازل السائرين ومقامات العارفين إنما تصحُّ بهما
(2)
، وهما يُثْمِران كلَّ عملٍ صالحٍ وعلمٍ نافعٍ وهدًى مستقيم.
قال شيخُ العارفين الجُنيد
(3)
: «اليقينُ هو استقرارُ العلم الذي لا ينقلبُ ولا يتحوَّلُ ولا يتغيَّرُ في القلب»
(4)
.
(1)
أخرجه الطبراني في «الكبير» (10/ 215)، والقشيري في «الرسالة» (318)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 121، 7/ 130)، والبيهقي في «الأربعين الصغرى» (51)، وغيرهم، بإسنادٍ شديد الضعف.
ورُوِي من وجهٍ آخر أحسن منه، إلا أنَّ فيه انقطاعًا. أخرجه البيهقي في «الشعب» (1/ 527)، و «الأربعين» (50).
ورُوِي موقوفًا على ابن مسعود، وهو أشبه، وإليه مال البيهقي، وإن كان في إسناده انقطاع. أخرجه ابن أبي الدنيا في «اليقين» (32)، ومن طريقه البيهقي في «الشعب» (1/ 528)، و «الأربعين» (52).
(2)
(ت، ق): «تفتح بهما» . ولم تحرر في (د).
(3)
الجُنَيد بن محمد البغدادي، شيخ الصُّوفية، صاحبُ علمٍ وتعبُّد (ت: 297). انظر: «طبقات الصوفية» (155)، و «السير» (14/ 66).
(4)
«الرسالة القشيرية» (320).
وقال سهل
(1)
: «حرامٌ على قلبٍ أن يشمَّ رائحة اليقين وفيه سكونٌ إلى غير الله»
(2)
.
(3)
.
وقال السَّرِي
(4)
: «اليقينُ: سكونُك
(5)
عند جَوَلان الموارد
(6)
في صدرك؛ لتيقُّنك
(7)
أنَّ حركتك فيها لا تنفعُك ولا تردُّ عنك مقضيًّا»
(8)
.
قلت: هذا إذا لم تكن الحركةُ مأمورًا بها، فأمَّا إذا كانت مأمورًا بها فاليقينُ في بذل الجهد فيها واستفراغ الوسع.
وقيل: «إذا استكمل العبدُ حقيقةَ اليقين صار البلاءُ عنده نعمة، والمحنةُ مِنْحة»
(9)
.
(1)
سهل بن عبد الله التُّسْتَرِي، أبو محمد، الزاهد، له كلماتٌ نافعة (ت: 283). انظر: «طبقات الصوفية» (206)، و «السير» (13/ 330).
(2)
«الرسالة القشيرية» (319).
(3)
«الرسالة القشيرية» (320).
(4)
السَّرِيُّ بن المغلِّس السَّقَطي، أبو الحسن، الإمام القُدوة (ت: 253). انظر: «طبقات الصوفية» (48)، و «السير» (12/ 185).
(5)
(ت، ح، د، ق): «السكون» . والمثبت من (ن) و «الرسالة» .
(6)
(ق): «المواد» .
(7)
(ح): «ليقينك» . «الرسالة» : «لتبينك» .
(8)
«الرسالة القشيرية» (321).
(9)
أخرجه القشيري في «الرسالة» (322) عن النهرجوري. وفيه: «والرخاء مصيبة» بدل: «والمحنة منحة» .
فالعلمُ أولُ درجات اليقين؛ ولهذا قيل: «العلمُ يستعملُك، واليقينُ يَحْمِلُك»
(1)
.
فاليقينُ أفضلُ مواهب الربِّ لعبده، ولا تثبتُ قدمُ الرضا إلا على درجة اليقين.
قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]. قال ابنُ مسعود: «هو العبدُ تصيبُه المصيبة، فيعلمُ أنها من عند الله، فيرضى ويسلِّم»
(2)
.
فلهذا لم تحصل له هدايةُ القلب والرضا والتسليمُ إلا بيقينه.
قال في «الصحاح»
(3)
: «اليقينُ: العلمُ وزوالُ الشك، يقال منه: يَقِنْتُ الأمرَ ــ بالكسر ــ يَقَنًا، واستيقنتُ وأيقنتُ وتيقَّنت، كلُّه بمعنًى واحد. وأنا على يقينٍ منه.
وإنما صارت الياءُ واوًا في «مُوقِن» للضمَّة قبلها، وإذا صغَّرتَه رددته إلى الأصل، فقلتَ: مُيَيْقِن.
وربَّما عبَّروا عن الظنِّ باليقين، وعن اليقين بالظن
(4)
.
(1)
قاله أبو سعيد الخراز. أخرجه القشيري في «الرسالة» (322)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 455)، والخطيب في «اقتضاء العلم العمل» (36).
(2)
علَّقه البخاري في «الصحيح» (6/ 193). ووصله سعيد بن منصور، كما في «الدر المنثور». (6/ 227). وهو مشهورٌ عن علقمة. انظر:«الفتح» (8/ 520)، و «تغليق التعليق» (4/ 342).
(3)
(6/ 2219)(يقن).
(4)
(د): «وبالظن عن اليقين» ، وصحِّحت في الطرَّة إلى:«وباليقين عن الظن» .
قال
(1)
:
تَحَسَّبَ هوَّاسٌ وأيقَنَ أنني
…
بها مُفْتَدٍ من واحدٍ لا أُغامِرُه
يقول: تَشَمَّمَ الأسدُ ناقتي، يظنُّ أنني أفتدي بها منه، وأستحيي نفسي فأتركها له، ولا أَقْتَحِمُ المهالكَ بمقاتلته
(2)
».
قلت: هذا موضعٌ اختلف فيه أهلُ اللغة والتفسير؛ هل يستعملُ اليقينُ في موضع الظنِّ، والظنُّ في موضع اليقين؟
(3)
.
فرأى ذلك طائفة، منهم الجوهريُّ وغيره، واحتجُّوا سوى ما ذُكِر بقوله تعالى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46]، ولو شكُّوا في ذلك لم يكونوا مؤمنين
(4)
، فضلًا عن أن يُمْدَحوا بهذا المدح، وبقوله تعالى:{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، وبقوله تعالى:{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]، وبقول الشاعر
(5)
:
(1)
أبو سِدْرة الأسدي، ويقال: الهُجَيْمي. انظر: «النوادر» لأبي زيد (189)، و «اللآلي» (1/ 539)، و «الخزانة» (2/ 119).
(2)
(ق، د، ت): «لمقاتلته» .
(3)
انظر: «الأضداد» لابن الأنباري (12)، و «تفسير الطبري» (2/ 17)، و «الخزانة» (9/ 314، 11/ 282).
(4)
(ق): «موقنين» .
(5)
هو دريدُ بن الصِّمَّة، من حماسيَّةٍ أصمعية. انظر:«الحماسة» بشرح المرزوقي (812)، و «الأصمعيات» (28)، وديوانه (47). والمدجَّج: الكاملُ السلاح. وسَراتهم: أشرافُهم ورؤساؤهم. والفارسيُّ المسرَّد: الدِّرعُ الفارسيُّ المحكم النَّسج.
فقلتُ لهم: ظُنُّوا بألفَيْ مقاتلٍ
…
سَراتُهمُ في الفارسيِّ المُسَرَّد
أي: استيقِنوا بهذا العدد.
وأبى ذلك طائفة، وقالوا: لا يكونُ اليقينُ إلا للعلم.
وأمَّا الظن، فمنهم من وافق على أنه يكونُ بمعنى العلم.
ومنهم من قال: لا يكون
(1)
الظنُّ في موضع اليقين. وأجابوا عمَّا احتجَّ به من جوَّز ذلك بأن قالوا: هذه المواضعُ التي زعمتم أنَّ الظنَّ وقع فيها موقعَ اليقين كلُّها على بابها؛ فإنَّا لم نجد ذلك إلا في علمٍ بمُغيَّب، ولم نجدهم يقولون لمن رأى الشيء:«أظنُّه» ، ولمن ذاقه:«أظنُّه» ، وإنما يقالُ لغائبٍ قد عُرِفَ بالسَّمع والعقل
(2)
، فإذا صار إلى المشاهدة امتنع إطلاقُ الظنِّ عليه.
قالوا: وبين العِيان والخبر مرتبةٌ متوسِّطةٌ باعتبارها أُوقِعَ على العلم بالغائب الظنُّ؛ لفقد الحال التي تحصل لِمُدْرِكه بالمشاهدة.
وعلى هذا أُخرِجَت
(3)
سائرُ الأدلَّة التي ذكرتموها.
ولا يَرِدُ على هذا قولُه: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} لأن الظنَّ إنما وقع على مُواقَعَتها
(4)
، وهي غيبٌ حال الرؤية، فإذا واقعوها لم يكن ذلك ظنًّا، بل حقُّ يقين.
(1)
من قوله: «بمعنى العلم» إلى هنا، ساقط من (ح، ن).
(2)
في الأصول: «بالسمع والعلم» . تحريف. انظر: «الصواعق» (870).
(3)
(ت، د): «خرجت» .
(4)
(ت، ن): «مواقعها» . (ق): «مواقعوها» .
قالوا: وأما قولُ الشاعر: «وأيقنَ أنني بها مُفْتَدٍ» فعلى بابه؛ لأنه ظنَّ أنَّ الأسدَ لتيقُّنه شجاعتَه وجراءتَه موقنٌ بأنَّ الرجلَ يدعُ له ناقتَه يفتدي بها من نفسه.
قالوا: وعلى هذا يخرَّجُ معنى الحديث: «نحن أحقُّ بالشكِّ من إبراهيم»
(1)
، وفيه أجوبة
(2)
، لكنَّ بين العِيان والخبر رتبةً طلب إبراهيمُ زوالها بقوله:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، فعبَّر عن تلك الرتبة بالشكِّ، والله أعلم
(3)
.
الوجه الثاني والثلاثون بعد المئة: ما رواه أبو يعلى الموصلي في «مسنده»
(4)
من حديث أنس بن مالكٍ يرفعُه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «طلبُ العلم
(1)
أخرجه البخاري (3372)، ومسلم (151) عن أبي هريرة.
(2)
(ت): «وعنه أجوبة» . وانظر: «فتح الباري» (6/ 474).
(3)
انظر: «مدارج السالكين» (1/ 471).
(4)
(2837)، وابن ماجه (224)، وغيرهما بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا؛ حفص بن سليمان متروك، وقد أنكروا عليه حديثه هذا.
وللحديث طرقٌ أخرى معلولةٌ من حديث أنس، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبي سعيد، وجابر، رضي الله عنهم.
وقد حكم بردِّ الحديث من جهة الإسناد جماعةٌ من أئمَّة النقد: أحمد - كما في «المنتخب من العلل للخلال» (128) -، وإسحاق بن راهويه - كما في «مسائل الكوسج» (3311) -، والعقيلي في «الضعفاء» (2/ 58، 238)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 23)، وابن عبد الهادي في «جزء في الأحاديث الضعيفة
…
» (31). وهو الحق. وانظر: «مسند البزار» (94).
وقوَّاه بعض المتأخرين. انظر: «اللالاء المنثورة» للزركشي (43)، و «المقاصد الحسنة» (660)، وللسيوطي فيه جزءٌ مفرد.
فريضةٌ على كلِّ مسلم».
وهذا وإن كان في سنده حفصُ بن سليمان، وقد ضُعِّف، فمعناه صحيح؛ فإنَّ الإيمان فرضٌ على كلِّ واحد، وهو ماهيَّةٌ مركَّبةٌ من علمٍ وعمل، فلا يتصوَّرُ وجودُ الإيمان إلا بالعلم والعمل.
ثمَّ شرائعُ الإسلام واجبةٌ على كلِّ مسلم، ولا يمكنُ أداؤها إلا بعد معرفتها والعلم بها، واللهُ تعالى أخرجَ عبادَه من بطون أمَّهاتهم لا يعلمون شيئًا، فطلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم.
وهل تمكنُ عبادةُ الله التي هي حقُّه على العباد كلِّهم إلا بالعلم؟! وهل يُنالُ العلمُ إلا بطلبه؟!
ثمَّ إنَّ العلمَ المفروضَ تعلُّمه ضربان:
* ضربٌ منه فرضُ عينٍ لا يسعُ مسلمًا جهلُه. وهو أنواع:
النوع الأول: علمُ أصول الإيمان الخمسة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر؛ فإنَّ من لم يؤمن بهذه الخمسة لم يدخل في باب الإيمان، ولا يستحقُّ اسمَ المؤمن؛ قال الله تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]، وقال:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136].
ولمَّا سأل جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر» ، قال: صَدَقْت
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة. ومسلم (8) من حديث عمر.
فالإيمانُ بهذه الأصول فرعُ معرفتها والعلم بها.
النوعُ الثاني: علمُ شرائع الإسلام، واللازمُ منها
(1)
علمُ ما يخصُّ العبدَ من فِعلها؛ كعلم الوضوء والصلاة والصيام والحجِّ والزكاة، وتوابعها وشروطها ومبطلاتها.
النوعُ الثالث: علمُ المحرَّمات الخمس؛ التي اتفقت عليها الرسلُ والشرائعُ والكتبُ الإلهيَّة؛ وهي المذكورةُ في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
فهذه محرَّماتٌ على كلِّ أحد، في كلِّ حال، على لسان كلِّ رسول، لا تُباح قطُّ؛ ولهذا أتى فيها بـ {إِنَّمَا} المفيدة للحصر مطلقًا، وغيرُها محرَّمٌ في وقتٍ مباحٌ في غيره، كالميتة والدم ولحم الخنزير ونحوه، فهذه ليست محرَّمةً على الإطلاق والدوام، فلم تدخل تحت التحريم المحصور المطلق.
النوعُ الرابع: علمُ أحكام المعاشرة والمعاملة التي تحصلُ بينه وبين الناس خصوصًا وعمومًا، والواجبُ في هذا النوع يختلفُ باختلاف أحوال الناس ومنازلهم، فليس الواجبُ على الإمام مع رعيَّته كالواجب على الرجل مع أهله وجيرته، وليس الواجبُ على من نَصَبَ نفسَه لأنواع التجارات من تعلُّم أحكام البِيَاعات كالواجب على من لا يبيعُ ولا يشتري إلا ما تدعو الحاجةُ إليه
(2)
.
وتفصيلُ هذه الجملة لا ينضبط بحدٍّ؛ لاختلاف الناس في أسباب العلم الواجب. وذلك يرجعُ إلى ثلاثة أصول: اعتقاد، وفعل، وترك.
* فالواجبُ في الاعتقاد: مطابقتُه للحقِّ في نفسه.
* والواجبُ في العمل: معرفةُ موافقة حركات العبد الظاهرة والباطنة الاختيارية للشرع أمرًا أو إباحة.
* والواجبُ في التَّرك: معرفةُ موافقة الكفِّ والسُّكون لمرضاة الله، وأنَّ المطلوبَ منه إبقاءُ هذا الفعل على عدمه المُسْتَصْحَب
(1)
فلا يتحركُ في طلبه، أو كفُّ النفس عن فعله، على الطريقتين
(2)
.
وقد دخل في هذه الجملة علمُ حركات القلوب والأبدان.
* وأما فرضُ الكفاية فلا أعلمُ فيه ضابطًا صحيحًا؛ فإنَّ كلَّ أحدٍ يُدْخِلُ في ذلك ما يظنُّه فرضًا، فيُدْخِلُ بعضُ الناس في ذلك علمَ الطبِّ وعلمَ الحساب وعلمَ الهندسة والمِساحات، وبعضُهم يزيدُ على ذلك علمَ أصول الصِّناعات، كالفِلاحة والحِياكة والحِدادة والخِياطة ونحوها
(3)
، وبعضُهم يزيدُ على ذلك علمَ المنطق
(4)
، وربَّما جعله فرضَ عين، وبناه على عدم
(1)
(ق): «اتقاء هذا الفعل على عدمه المستعمل» .
(2)
الأولى: أن الترك أمرٌ عدمي، والثانية: أنه وجودي. انظر: «إغاثة اللهفان» (2/ 123)، و «شفاء العليل» (488)، و «الداء والدواء» (449).
(3)
انظر: «الإحياء» (1/ 16)، وهو مصدر المصنف هنا، و «الوسيط» (7/ 6، 7)، و «روضة الطالبين» (10/ 222، 223)، و «مجموع الفتاوى» (29/ 194)، و «الطرق الحكمية» (645)[و"المجموع" (1/ 26).].
(4)
انظر: «المستصفى» (1/ 45)، و «معيار العلم» (60)، و «الرد على المنطقيين» (179).
صحَّة إيمان المقلِّد.
وكلُّ هذا هَوَسٌ وخَبْط، فلا فرضَ إلا ما فرضه
(1)
اللهُ ورسولُه.
فيا سبحان الله! هل فرضَ اللهُ على كلِّ مسلم أن يكون طبيبًا حجَّامًا حاسبًا مهندسًا، أو حائكًا أو فلَّاحًا
(2)
أو نجَّارًا أو خيَّاطًا؟! فإنَّ فرضَ الكفاية كفرض العين في تعلُّقه بعموم المكلَّفين، وإنما يخالفُه في سقوطه بفعل البعض
(3)
.
ثمَّ على قول هذا القائل يكونُ اللهُ قد فرض على كلِّ أحد جملةَ هذه الصَّنائع والعلوم؛ فإنه ليس واحدٌ منها فرضًا على معيَّنٍ والآخرُ على مُعيَّنٍ آخر، بل عمومُ فرضيَّتها مشتركةٌ بين العموم، فيجبُ على كلِّ أحدٍ أن يكون حاسبًا حائكًا
(4)
خيَّاطًا نجَّارًا فلَّاحًا طبيبًا مهندسًا!
فإن قال: «المجموعُ فرضٌ على المجموع» لم يكن قولك: «إنَّ كلَّ واحدٍ منها فرض كفاية» صحيحًا؛ لأنَّ فرضَ الكفاية يجبُ على العموم.
وأمَّا المنطق، فلو كان علمًا صحيحًا كان غايتُه أن يكون كالمِسَاحة والهندسة ونحوها، فكيف وباطلُه أضعافُ حقِّه، وفسادُه وتناقضُ أصوله واختلافُ مبانيه توجبُ مراعاتُها للذِّهن أن يزيغَ في فكره؟!
(1)
(ت): «افترضه» . (ح): «فرض» .
(2)
(ت): «فلاحا أو حدادا» .
(3)
على أحد القولين في تعلُّق فرض الكفاية بعموم المكلَّفين أو ببعضهم، وهو خلافٌ مشهور، وما اختاره المصنفُ هو رأيُ الجمهور. انظر:«زاد المعاد» (1/ 398)، و «الصلاة وحكم تاركها» (45)، و «المحصول» (2/ 186)، و «البحر المحيط» (1/ 243).
(4)
في الأصول: «أو حائكًا» . ولا يستقيم المعنى بإثبات «أو» هنا.
ولا يؤمنُ بهذا إلا من قد عرفه وعرفَ فسادَه وتناقضه ومناقضةَ كثيرٍ منه للعقل الصريح.
وأخبَر بعضُ من كان قد قرأه وعُنِيَ به
(1)
أنه لم يزل متعجِّبًا من فساد أصوله وقواعده، ومباينتها لصريح المعقول، وتضمُّنها لدعاوٍ محضةٍ غير مدلولٍ عليها، وتفريقه بين متساويَيْن، وجمعه بين مختلفَيْن؛ فيحكمُ على الشيء بحكمٍ وعلى نظيره بضدِّ ذلك الحكم، أو يحكمُ على الشيء بحكمٍ ثمَّ يحكمُ على مضادِّه أو مناقِضه به!
قال: إلى أن سألتُ بعض رؤسائه وشيوخ أهله عن شيءٍ من ذلك، فأَفْكَرَ فيه
(2)
، ثمَّ قال:«هذا علمٌ قد صقلَته الأذهان، ومرَّت عليه من عهد القرون الأوائل ــ أو كما قال ــ، فينبغي أن نتسلَّمه من أهله» ، وكان هذا أفضلَ من رأيتُ في المنطق.
قال: إلى أن وقفتُ على ردِّ متكلِّمي الإسلام عليه وتبيين فساده وتناقضه، فوقفتُ على مصنَّفٍ لأبي سعيد السِّيرافي النحوي
(3)
في ذلك
(4)
،
(1)
أحسب المصنف يريد نفسه. انظر: «إغاثة اللهفان» (2/ 260)، و «الصواعق المرسلة» (995).
(2)
كذا في الأصول. فكَّر في الشيء وأَفْكَرَ فيه وتفكَّر، بمعنى. «اللسان» .
(3)
الحسن بن عبد الله، إمامٌ في العربية، صاحبُ تصانيف، وفيه دينٌ وورع (ت: 368). انظر: «إنباه الرواة» (1/ 348)، و «السير» (16/ 247).
(4)
لعلَّه يقصد المناظرة التي جرت بينه وبين أبي بشر متَّى بن يونس صاحب كتب المنطق، وقد دوَّنها أبو حيان التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة» (1/ 108 - 128). وانظر:«الرد على المنطقيين» (178).
وعلى ردِّ كثيرٍ من أهل الكلام والعربية عليهم، كالقاضي أبي بكر بن الطيِّب
(1)
، والقاضي عبد الجبار
(2)
، والجُبَّائي
(3)
، وابنه
(4)
، وأبي المعالي
(5)
، وأبي القاسم الأنصاري
(6)
،
وخلقٍ لا يُحْصَوْنَ كثرة
(7)
.
ورأيتُ [من] استشكالات فضلائهم ورؤسائهم لمواضع الإشكال، ومخالفتها [للعقل]
(8)
، ما كان ينقدحُ لي كثيرٌ منه.
(1)
الباقلَاّني، المتكلِّم، الأصولي، انتهت إليه رياسة المالكية في وقته (ت: 403). انظر: «ترتيب المدارك» (7/ 44)، و «السير» (17/ 190).
(2)
عبد الجبار بن أحمد الهمداني، شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف (ت: 415). انظر: «السير» (17/ 244)، و «لسان الميزان» (3/ 386).
(3)
أبو علي، محمد بن عبد الوهاب البصري، المعتزلي، له تصانيف (ت: 303). انظر: «طبقات المعتزلة» (80)، و «السير» (14/ 183).
(4)
أبو هاشم، عبد السلام بن محمد، المعتزلي، له تصانيف (ت: 321). انظر: «طبقات المعتزلة» (94)، و «السير» (15/ 63).
(5)
عبد الملك بن عبد الله الجويني، إمام الحرمين، الشافعي، المتكلِّم (ت: 478). انظر: «السير» (18/ 468)، و «طبقات الشافعية» (5/ 165).
(6)
سلمان بن ناصر النيسابوري، الصوفي، الشافعي، المتكلِّم، تلميذُ إمام الحرمين، وشارحُ كتابه «الإرشاد» (ت: 511). انظر: «السير» (19/ 412) ..
(7)
انظر: «الرد على المنطقيين» (15 - 19، 194)، و «نقض المنطق» (187)، و «صون المنطق والكلام» للسيوطي (206)، و «الحاوي للفتاوي» (1/ 255)، و «فتاوى ابن الصلاح» (1/ 209)، و «زغل العلم» للذهبي (43).
والخلافُ بين المتكلمين والمناطقة هو في الفائدة من «الحدِّ» ، وهي أهمُّ مسائل التصوُّرات؛ فالحدُّ عند المتكلمين: ما يُمَيِّزُ المحدود عن غيره، بينما هو عند المناطقة: المعرِّفُ للماهيَّة والموصلُ للحقيقة.
(8)
ما بين المعكوفات يقتضيه السياق، وليس في الأصول.
ورأيتُ آخر من تجرَّد للردِّ عليهم شيخَ الإسلام ــ قدَّس الله روحه ــ، فإنه أتى في كتابيه الكبير والصغير
(1)
بالعجب العُجاب، وكشفَ أسرارَهم وهتكَ أستارَهم، فقلتُ في ذلك:
واعجبًا لمنطقِ اليونانِ
كم فيه من إفكٍ ومن بهتانِ
مُخَبِّطٌ لجيِّدِ الأذهانِ
ومُفْسِدٌ لفطرة الإنسانِ
ومُبْكِمٌ للقلب واللِّسان
مضطربُ الأصولِ والمَباني
على شفا هارٍ بناه الباني
أحوجَ ما كان إليه العَاني
يخُونُه في السِّرِّ والإعلانِ
يمشي به اللِّسانُ في الميدان
مَشْيَ مُقَيَّدٍ على صَفْوانِ
متَّصلِ العِثَارِ والتَّواني
كأنه السَّرابُ بالقيعانِ
بدا لِعَيْنِ الظَّاماء الحَرَّانِ
(2)
فأَمَّهُ بالظَّنِّ والحُسْبانِ
يرجو شفاء غُلَّةِ الظَّمآنِ
(1)
["الرد على المنطقيين"، وكتاب مختصر لم يصلنا. انظر: مقدمتي لـ "الانتصار لأهل الأثر" (5، 14 - 25)].
(2)
العطشان. وفي (ت ، ق): «الحيران» . (د): «الظمإ الحيران» .
فلم يجد ثَمَّ سوى الحِرْمانِ
فعادَ بالخيبةِ والخسران
يَقْرَعُ سِنَّ نادمٍ حيرانِ
قد ضاعَ منه العمرُ في الأماني
وعايَنَ الخِفَّةَ في الميزان
(1)
وما كان مِنْ هَوَس النفوس بهذه المنزلة فهو بأن يكونَ جهلًا أولى منه بأن يكون علمًا تعلُّمُه فرضُ كفايةٍ أو فرضُ عين.
وهذا الشَّافعيُّ وأحمدُ وسائرُ أئمَّة الإسلام وتصانيفُهم، وأئمَّةُ العربية
(2)
وتصانيفُهم، وأئمَّةُ التفسير وتصانيفُهم، لمن نظر فيها؛ هل راعَوا فيها حدودَ المنطق وأوضاعَه؟ وهل صحَّ لهم علمُهم بدونه أم لا؟! بل هم كانوا أجلَّ قدرًا وأعظمَ عقولًا من أن يشغلوا أفكارَهم بهذيان المنطقيِّين.
وما دخلَ المنطقُ على علمٍ إلا أفسدَه، وغيَّر أوضاعَه، وشَوَّش قواعدَه
(3)
.
ومن الناس من يقول: إنَّ علومَ العربية من التصريف والنحو واللغة والمعاني والبيان ونحوها تعلُّمها فرضُ كفاية؛ لتوقُّف فهم كلام الله ورسوله عليها.
(1)
الأبيات على ظهر النسخة الخطية الفريدة لكتاب "الرد على المنطقيين" باختلافٍ يسير.
(2)
(ت، ق، د): «وسائر أئمة العربية» . والمثبت من (ح، ن) أصح؛ فالسائر: الباقي، لا الجميع، من السُّؤر. انظر:«تصحيح التصحيف» (302)، و «خير الكلام في التقصي عن أغلاط العوام» (34).
(3)
انظر: «الصواعق المرسلة» (819)، و «بدائع الفوائد» (891)، و «إغاثة اللهفان» (2/ 260).
ومن الناس من يقول: تعلُّمُ أصول الفقه فرضُ كفاية؛ لأنه العلمُ الذي يُعْرَفُ به الدليلُ ومرتبتُه، وكيفيةُ الاستدلال.
وهذه الأقوالُ وإن كانت أقربَ إلى الصواب من القول الأول، فليس وجوبُها عامًّا على كلِّ أحد، ولا في كلِّ وقت، وإنما تجبُ وجوبَ الوسائل في بعض الأزمان وعلى بعض الأشخاص، بخلاف الفرض الذي يعمُّ وجوبُه كلَّ أحد؛ وهو علمُ الإيمان وشرائع الإسلام، فهذا هو الواجب، وأما ما عداه فإن توقَّفت معرفتُه عليه فهو من باب ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به، ويكونُ الواجبُ منه القدرَ المُوصِل إليه، دون المسائل التي هي فَضْلةٌ لا يفتقرُ معرفةُ الخطاب وفهمُه عليها.
فلا يُطلقُ القولُ بأنَّ علمَ العربية واجبٌ على الإطلاق؛ إذ الكثيرُ منه ومن مسائله وبحوثه لا يتوقَّفُ فهمُ كلام الله ورسوله عليها
(1)
.
وكذلك أصولُ الفقه، القدرُ الذي يتوقَّفُ فهمُ الخطاب عليه منه تجبُ معرفتُه، دون المسائل المُقَدَّرة والأبحاث التي هي فَضْلة، فكيف يقال: إنَّ تعلُّمها واجب؟!
وبالجملة؛ فالمطلوبُ الواجبُ من العبد من العلوم والأعمال إذا توقَّف على شيءٍ منها كان ذلك الشيءُ واجبًا وجوبَ الوسائل، ومعلومٌ أنَّ ذلك التوقُّفَ
(2)
يختلفُ باختلاف الأشخاص والأزمان والألسنة والأذهان؛
(1)
لكنَّ ما يتوقَّفُ فهمُ الكلام عليه لا يوصلُ إليه إلا بتعلُّم كثيرٍ مما لا يُحتاجُ إليه، فصار الثاني مما لا يتمُّ الواجبُ إلا به. وللخليل بن أحمد عبارةٌ مشهورةٌ في هذا. انظر:«بهجة المجالس» (1/ 67)، و «نصرة الثائر» للصفدي (67).
(2)
(ت): «المتوقف» .
فليس لذلك حدٌّ مقدَّر
(1)
، والله أعلم.
الوجه الثالثُ والثلاثون بعد المئة: ما رواه ابنُ حبان في «صحيحه»
(2)
من حديث أبي هريرة يرفعُه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «سأل موسى ربَّه عن ستِّ خصالٍ كان يظنُّ أنها له خالصة، والسابعةُ لم يكن موسى يحبُّها، قال: يا ربِّ، أيُّ عبادك أتقى؟ قال: الذي يَذْكُرُ ولا ينسى، قال: فأيُّ عبادك أهدى؟ قال: الذي يتبعُ الهدى، قال: فأيُّ عبادك أحكم؟ قال: الذي يحكمُ للناس ما يحكمُ لنفسه، قال: أيُّ عبادك أعلم؟ قال: عالمٌ لا يشبعُ من العلم، يجمعُ علمَ الناس إلى علمه، قال: فأيُّ عبادك أعزُّ؟ قال: الذي إذا قَدَرَ غفَر، قال: فأيُّ عبادك أغنى؟ قال: الذي يرضى بما أوتي، قال: فأيُّ عبادك أفقر؟ قال: صاحبٌ منقوص»
(3)
.
(1)
(ن، ح): «حد مقدور» .
(2)
(6217)، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (369)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (61/ 134، 135، 136)، وغيرهم.
وفي إسناده دراج بن سمعان، وهو مختلفٌ فيه، كما تقدم (ص: 203)، وليس حديثه هذا بالمحفوظ، وقد اضطرب في تسمية شيخه على وجهين، وأصل الحديث مشهورٌ مرويٌّ من وجوهٍ كثيرة عن جماعة من التابعين: عطاء، ومجاهد، وأبي عمرو الشيباني، ووهب بن منبه، وكعب الأحبار، وميثم (شيخٌ لأبي إسحاق السبيعي، يروي أخبار بني إسرائيل. انظر: «الثقات» لابن حبان: 5/ 463، و «الزهد» لهناد: 1301، و «الدعاء» للضبي: 103) وغيرهم، مقطوعًا، وعن ابن عباس موقوفًا، من أخبار أهل الكتاب، وهو الأشبه.
(3)
قال ابن حبان عقب الحديث: «صاحبٌ منقوص: يريد به منقوصٌ حالتُه، يستقلُّ ما أوتي ويطلبُ الفضل» .
فأخبر في هذا الحديث أنَّ أعلمَ عباده الذي لا يشبعُ من العلم، فهو يجمعُ علمَ الناس إلى علمه؛ لنَهْمَته في العلم، وحرصه عليه.
ولا ريب أنَّ كون العبد أعلمَ عباد الله
(1)
من أعظم أوصاف كماله، وهذا هو الذي حمل موسى على الرِّحلة إلى عالِم الأرض ليعلِّمه مما علَّمه الله. هذا وهو كليمُ الرحمن، وأكرمُ الخلق على الله في زمانه، وأعلمُ الخلق، فحمله حرصُه ونَهْمتُه في العلم على الرِّحلة إلى العالِم الذي وُصِفَ له.
فلولا أنَّ العلمَ أشرفُ ما بُذِلَت فيه المُهَج، وأُنفِقَت فيه الأنفاس، لاشتغلَ موسى عن الرِّحلة إلى الخَضر بما هو بصدده من أمر الأمَّة، وعن مقاساة النَّصَب والتعب في رحلته وتلطُّفه للخَضر في قوله:{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، فلم ير اتباعَه حتى استأذنه في ذلك وأخبره أنه جاء متعلِّمًا مستفيدًا.
فهذا النبيُّ الكريمُ كان عالمًا بقدر العلم وأهله، صلواتُ الله وسلامه عليه.
الوجه الرابع والثلاثون بعد المئة: أنَّ الله سبحانه وتعالى خلقَ الخلقَ لعبادته الجامعة لمحبَّته وإيثار مرضاته، المستلزمة لمعرفته، ونَصَب للعباد عَلَمًا لا كمال لهم إلا به؛ وهو أن تكونَ حركاتُهم كلُّها واقعةً على وَفْقِ مرضاته ومحبَّته، ولذلك أرسل رسله، وأنزَل كتبه، وشرع شرائعه.
فكمالُ العبد الذي لا كمال له إلا به أن تكونَ حركاتُه موافقةً لما يحبُّه الله منه ويرضاه له.
(1)
(ق): «أعظم عباد الله» . وهو تحريف.
ولهذا جعل اتباعَ رسوله دليلًا على محبَّته، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
فالمحبُّ الصادقُ يرى خيانةً منه لمحبوبه أن يتحرَّك بحركةٍ اختياريَّةٍ في غير مرضاته، وإذا فعل فعلًا مما أبيحَ له بمُوجَب طبيعته وشهوته تاب منه كما يتوبُ من الذَّنب، ولا يزالُ هذا الأمرُ يقوى عنده حتى تنقلبَ مباحاتُه
(1)
كلُّها طاعات، فيحتسبُ نَوْمَتَه
(2)
وفِطْرَه وراحتَه كما يحتسبُ قَوْمَتَه وصومَه واجتهادَه، وهو دائمًا بين سرَّاءَ يشكرُ اللهَ عليها وضرَّاءَ يصبرُ عليها؛ فهو سائرٌ إلى الله دائمًا في نومه ويقظته.
قال بعض العلماء: «الأكياسُ عاداتهم عبادات، والحمقى عباداتهم عادات»
(3)
.
وقال بعضُ السَّلف: «حبَّذا نومُ الأكياس وفِطْرُهم، يَغْبِنون
(4)
به سهرَ الحمقى وصومَهم»
(5)
.
فالمحبُّ الصادقُ إنْ نَطَق نَطَق لله وبالله، وإن سَكَت سَكَت لله، وإن
(1)
(ح): «مباحاته عنده» .
(2)
(ق، د، ت): «نومه» .
(3)
انظر: «طريق الهجرتين» (466، 467).
(4)
كذا في الأصول، وهو مستقيم. وفي طرة (د):«لعله: يسبقون» . وتحرفت في بعض المصادر إلى: يعيبون.
(5)
أخرجه أحمد في «الزهد» (137)، ــ ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 212) ــ، وابن أبي الدنيا في «اليقين» (8)، ــ ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (47/ 175) ــ عن أبي الدرداء بإسنادٍ منقطع.
تحرَّك فبأمر الله، وإن سَكَن فسكونُه استعانةٌ على مرضاة الله؛ فهو لله وبالله ومع الله.
ومعلومٌ أنَّ صاحبَ هذا المقام أحوجُ خلق الله إلى العلم؛ فإنه لا تتميَّز له الحركةُ المحبوبةُ لله من غيرها ولا السُّكونُ المحبوبُ له من غيره إلا بالعلم، فليست حاجتُه إلى العلم كحاجة من طلبَ العلمَ لذاته ولأنه في نفسه صفةُ كمال، بل حاجتُه إليه كحاجته إلى ما به قِوامُ نفسه وذاته.
ولهذا اشتدَّت وَصَاةُ شيوخ العارفين لمُرِيديهم بالعلم وطلبه
(1)
، وأنه من لم يطلب العلمَ لم يُفْلِح، حتى كانوا يَعُدُّونَ من لا علم له من السِّفْلة
(2)
.
قال ذو النون
(3)
، وقد سئل: من السِّفْلة؟، فقال:«من لا يعرفُ الطريقَ إلى الله تعالى ولا يتعرَّفُه»
(4)
.
وقال أبو يزيد
(5)
: «لو نظرتم إلى الرجل وقد أُعطِي من الكرامات حتى يتربَّع
(6)
في الهواء، فلا تغترُّوا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحِفظ الحدود ومعرفة الشريعة»
(7)
.
(1)
عقد القشيري في «الرسالة» بابًا في ذكر مشايخ الطريقة وما يدلُّ من سِيَرهم وأقوالهم على تعظيم الشريعة. وهو مصدر المصنف في الأقوال التالية.
(2)
السِّفْلة والسَّفِلة: أراذل الناس. «اللسان» (سفل).
(3)
ثوبان بن إبراهيم المصري، زاهد، واعظ (ت: 245). «السير» (11/ 532).
(4)
«الرسالة القشيرية» (46). وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (9/ 372).
(5)
طيفور بن عيسى البِسْطامي، زاهدٌ يروى عنه كلامٌ نافع وكلماتٌ مشكلة (ت: 261). «السير» (13/ 86).
(6)
(ن): «يترفع» . وفي بعض المصادر: «يرتفع» ، «يرفع» ، «يرتقى» .
(7)
«الرسالة القشيرية» (64). وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (10/ 40)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 449)، وغيرهم.
وقال أبو حمزة البزَّاز
(1)
(2)
.
وقال محمدُ بن الفضل الصوفي الزاهد
(3)
: «ذهابُ الإسلام على يدي أربعة أصنافٍ من الناس: صنفٍ لا يعملون بما يعلمون، وصنفٍ يعملون بما لا يعلمون، وصنفٍ لا يتعلَّمون ولا يعملون
(4)
، وصنفٍ يمنعونَ الناسَ من التعلُّم»
(5)
.
قلتُ: الصنفُ الأول: من له علمٌ بلا عمل؛ فهو أضرُّ شيءٍ على العامَّة، فإنه حجَّةٌ لهم في كلِّ نقيصةٍ ومَبْخَسَة
(6)
.
والصنفُ الثاني: العابدُ الجاهل؛ فإنَّ الناسَ يحسِّنون الظنَّ به؛ لعبادته وصلاحه، فيقتدون به على جهله.
وهذان الصنفان هما اللذان ذكرهما بعضُ السَّلف في قوله: «احذروا
(1)
محمد بن إبراهيم البغدادي، صوفي، عنده انحرافٌ وشَطْح، قال الذهبي:«له تأويل» (ت: 260). انظر: «السير» (13/ 165).
(2)
«الرسالة القشيرية» (100). وأخرجه السلمي في «طبقات الصوفية» (298).
(3)
أبو عبد الله، العلَّامة، واعظُ بَلْخ (ت: 317). «السير» (14/ 523).
(4)
(ت): «لا يعملون ولا يعلمون» . وفي «الرسالة» ومصادر التخريج: «لا يتعلمون ما لا يعلمون» . وهو من تصرُّف المصنف.
(5)
«الرسالة القشيرية» (88). وأخرجه السلمي في «طبقات الصوفية» (214)، وأبو نعيم في «الحلية» (10/ 233)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 430).
(6)
البَخْس: النَّقص. وفي (ت، ق، ن): «ومنحسة» ، والنَّحس: ضدُّ السَّعد.
فتنةَ العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإنَّ فتنتهما فتنةٌ لكلِّ مفتون»
(1)
؛ فإنَّ الناسَ إنما يقتدون بعلمائهم وعبَّادهم، فإذا كان العلماءُ فَجَرةً والعبَّادُ جَهَلةً عمَّت المصيبةُ بهما وعَظُمَت الفتنةُ على الخاصَّة والعامَّة.
والصنفُ الثالث: الذين لا علمَ لهم ولا عمل؛ وإنما هم كالأنعام السائمة.
والصنفُ الرابع: نُوَّابُ إبليس في الأرض؛ وهم الذين يثبِّطون الناسَ عن طلب العلم والتفقُّه في الدين، فهؤلاء أضرُّ عليهم من شياطين الجنِّ، فإنهم يحُولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه.
فهؤلاء الأربعةُ أصنافٍ
(2)
هم الذين ذكرهم هذا العارفُ رحمةُ الله عليه
(3)
، وهؤلاء كلُّهم على شفا جُرفٍ هار، وعلى سبيلِ هَلَكة، وما يلقى العالِمُ الداعي إلى الله ورسوله ما يلقاه من الأذى والمحاربة إلا على أيديهم، والله يستعملُ من يشاءُ في سخطه كما يستعملُ من يحبُّ
(4)
في مرضاته، إنه بعباده خبيرٌ بصير.
ولا ينكشفُ سرُّ
(5)
هذه الطوائف وطريقتُهم إلا بالعلم؛ فعاد الخيرُ بحذافيره إلى العلم ومُوجَبه، والشرُّ بحذافيره إلى الجهل ومُوجَبه.
(1)
تقدم تخريجه (ص: 401).
(2)
(ح): «الأربعة الأصناف» .
(3)
للذهبيِّ في «السير» (14/ 525) تعليقٌ لطيفٌ على كلام هذا العارف.
(4)
(ت): «من يشاء» .
(5)
(ق، ن): «شر» ، بالمعجمة. والتعبير بانكشاف السرِّ مألوفٌ في كتب المصنف، وهو الأليق هنا.
الوجه الخامس والثلاثون بعد المئة: أنَّ الله سبحانه جعل العلماءَ وكلاءَ وأمناءَ على دينه ووحيه، وارتضاهم لحفظه والقيام به والذبِّ عنه، وناهيك بها منزلةً شريفةً ومنقبةً عظيمة، قال الله تعالى:{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 88 - 89].
وقد قيل: إنَّ هؤلاء القوم هم الأنبياء. وقيل: أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كلُّ مؤمن.
هذه أمَّهاتُ الأقوال، بعد أقوالٍ متفرِّعةٍ عن هذه، كقول من قال: هم الأنصار، أو: المهاجرون والأنصار، أو: قومٌ
(1)
من أبناء فارس.
وقال آخرون: هم الملائكة
(2)
.
قال ابن جرير
(3)
: «وأولى هذه الأقوال بالصواب: أنهم الأنبياء الثمانية عشر الذين سمَّاهم في الآيات قبل هذه الآية» .
قال: «وذلك أنَّ الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذُكِر، فما بينها
(4)
بأن يكونَ خبرًا عنهم أولى وأحقُّ من أن يكون
(5)
(1)
(ن): «أو هم» .
(2)
انظر: «زاد المسير» (3/ 81)، و «الدر المنثور» (3/ 28).
(3)
(11/ 518).
(4)
في الأصول: «فما يليها» . تحريف. والمثبت من كتاب ابن جرير.
(5)
في الأصول: «بأن يكون» . وهو تحريف كذلك.
خبرًا عن غيرهم. فالتأويل: فإن يكفر قومُك من قريشٍ يا محمدُ بآياتنا، وكذَّبوا بها، وجحدوا حقيقتَها، فقد استحفظناها واسترعينا القيامَ بها رسلَنا وأنبياءنا من قبلك، الذين لا يجحدون حقيقتَها ولا يكذِّبون بها، ولكنهم يصدِّقون بها ويؤمنون بصحتها».
قلت: السُّورة مكِّية، والإشارةُ بقوله:{هَؤُلَاءِ} إلى من كفر به من قومه أصلًا، ومَنْ عداهم تبعًا، فيدخلُ فيها من كفر بما جاء به من هذه الأمَّة.
والقومُ الموكَّلون بها هم الأنبياءُ أصلًا، والمؤمنون بهم تبعًا، فيدخلُ فيها كلُّ من قام بحفظها والذبِّ عنها والدعوة إليها، ولا ريب أنَّ هذا للأنبياء أصلًا وللمؤمنين بهم تبعًا، وأحقُّ من دخلَ فيهم من أتباع الرسول خلفاؤه في أمَّته وورثتُه، فهم الموكَّلون بها.
وهذا ينتظمُ الأقوالَ التي قيلت في الآية.
وأما قولُ من قال: إنهم الملائكة؛ فضعيفٌ جدًّا لا يدلُّ عليه السِّياق، وتأباه لفظة «قوم»؛ إذا الغالبُ في القرآن ــ بل المطَّرد ــ تخصيصُ القوم ببني آدم دون الملائكة. وأما قولُ إبراهيم لهم:{قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: 25]، فإنما قاله لمَّا ظنَّهم من الإنس.
وأيضًا؛ فلا يقتضيه فخامةُ المعنى ومقصودُه، ولهذا لو ظهَر ذلك وقيل:«فإن يكفُر بها كفَّارُ قومك فقد وكَّلنا بها الملائكة فإنهم لا يكفرون بها» ، لم يَجِد منه من التسلية وتحقير شأن الكفرة بها، وبيان عدم تأهُّلهم لها
(1)
والإنعام عليهم، وإيثار غيرهم من أهل الإيمان الذين سبقت لهم الحسنى
(1)
(ح، ن): «تأهيلهم لها» .
عليهم لكونهم أحقَّ بها وأهلَها، والله أعلمُ حيث يضعُ هُداه
(1)
ويختصُّ به من يشاء.
وأيضًا؛ فإنَّ تحت هذه الآية إشارةً وبشارةً بحفظها، وأنه لا ضَيْعةَ عليها، وأنَّ هؤلاء وإن ضيَّعوها ولم يقبلوها فإنَّ لها قومًا غيرهم يقبلونها ويحفظونها ويَرْعَونها ويذبُّون عنها، فكفرُ هؤلاء بها لا يضيِّعها ولا يُذْهِبُها ولا يضرُّها شيئًا؛ فإنَّ لها أهلًا ومستحِقًّا سواهم.
فتأمَّل شرفَ هذا المعنى وجلالتَه وما تضمَّنه من تحريض عباده المؤمنين على المبادرة إليها والمسارعة إلى قبولها، وما تحته من تنبيههم على محبته لهم وإيثاره إياهم بهذه النعمة على أعدائه الكافرين، وما تحته من احتقارهم وازدرائهم وعدم المبالاة والاحتفال
(2)
بهم، وأنكم وإن لم تؤمنوا بها فعبادي المؤمنون بها الموكَّلون بها سواكم كثير، كما قال تعالى:{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109].
وإذا كان للمَلِك عبيدٌ قد عصوه وخالفوا أمرَه ولم يلتفتوا إلى عهده، وله عبيدٌ آخرون سامعون له مطيعون قابلون مستجيبون لأمره، فنظر إليهم وقال:«إنْ يكفُر هؤلاء نعمتي ويعصوا أمري ويضيِّعوا عهدي، فإنَّ لي عبيدًا سواهم وهم أنتم، تطيعون أمري، وتحفظون عهدي، وتؤدُّون حقِّي» ؛ فإنَّ عبيدَه
(1)
(ت): «رسالاته وهداه» .
(2)
(ح): «والاهتبال» .
المطيعين يَجِدُون في أنفسهم من الفرح والسُّرور والنشاط وقوة العزيمة ما يكون مُوجِبًا لهم المزيدَ من القيام بحقِّ العبودية، والمزيدَ من كرامة سيِّدهم ومالكهم. وهذا أمرٌ يشهدُ به الحِسُّ والعِيان.
وأمَّا توكيلُهم بها، فهو يتضمَّنُ توفيقَهم للإيمان بها والقيام بحقوقها ومراعاتها والذبِّ عنها والنصيحة لها، كما يوكِّل الرجلُ غيرَه بالشيء ليقوم به ويتعهَّده ويحافظ عليه. و {بِهَا} الأولى متعلِّقةٌ بـ {وَكَّلْنَا} ، و {بِهَا} الثانية متعلِّقةٌ بـ {بِكَافِرِينَ} ، والباءُ في {بِكَافِرِينَ} لتأكيد النفي.
فإن قلت: فهل يصحُّ أن يقال لأحد هؤلاء الموكَّلين: إنه «وكيلُ الله» بهذا المعنى، كما يقال:«وليُّ الله» ؟
قلت: لا يلزمُ من إطلاق فعل التوكيل
(1)
المقيَّد بأمرٍ ما أن يُصاغ منه اسمُ فاعلٍ مطلق، كما أنه لا يلزمُ من إطلاق فعل الاستخلاف المقيَّد أن يقال:«خليفة» ، كقوله:{وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 129]، وقوله:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55]، فلا يُوجِبُ هذا الاستخلافُ
(2)
أن يقال لكلِّ منهم: إنه «خليفةُ الله» ؛ لأنه استخلافٌ مقيَّد.
ولمَّا قيل للصدِّيق: يا خليفةَ الله، قال:«لستُ بخليفةٍ لله، ولكنِّي خليفةُ رسول الله، وحسبي ذلك»
(3)
.
(1)
(ح، ن): «التوكل» .
(2)
(ت): «الاستخلاف المقيد» .
(3)
تقدم تخريجه (ص: 429).
ولكن يسوغُ أن يقال: هو وكيلٌ بذلك؛ كما قال تعالى: {وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا} .
والمقصودُ أنَّ هذا التوكيلَ خاصٌّ بمن قام بها علمًا وعملًا، وجهادًا لأعدائها، وذبًّا عنها، ونفيًا لتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وأيضًا؛ فهو توكيلُ رحمةٍ وإحسانٍ وتوفيقٍ واختصاص، لا توكيل حاجةٍ كما يوكِّلُ الرجلُ من يتصرَّفُ عنه في غيبته لحاجته إليه.
ولهذا قال بعض السَّلف: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا} يقول: «رزقناها قومًا»
(1)
؛ فلهذا لا يقالُ لمن رُزِقَها
(2)
ورُحِمَ بها: إنه «وكيلُ الله» .
وهذا بخلاف اشتقاق «وليِّ الله» من الموالاة؛ فإنها المحبةُ والقُرب، فكما يقال: عبد الله وحبيبُه، يقال: وليُّه، والله تعالى يوالي عبدَه إحسانًا إليه وجبرًا له ورحمة، بخلاف المخلوق فإنه يوالي المخلوقَ لتعزُّزه به وتكثُّره بموالاته؛ لذلِّ العبد وحاجته، وأمَّا العزيزُ الغنيُّ ــ سبحانه ــ فلا يوالي أحدًا من ذلٍّ ولا من حاجة.
قال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، فلم يَنْفِ الوليَّ نفيًا عامًّا مطلقًا، بل نفى أن يكون له وليٌّ من الذُّل، وأثبتَ في موضعٍ آخر أنَّ له أولياء، بقوله:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]، وقوله:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]، فهذه موالاةُ رحمةٍ
(1)
قاله أبو عبيدة في «مجاز القرآن» (1/ 200).
(2)
(ح، ن): «رزق بها» .
وإحسانٍ وجَبْر، والموالاةُ المنفيةُ موالاةُ حاجةٍ وذُل.
يُوضِّحُ هذا الوجهُ السادسُ والثلاثون بعد المئة: وهو ما رُوِي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ متعدِّدة أنه قال: «يحملُ هذا العلمَ من كلِّ خلفٍ عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»
(1)
.
فهذا الحملُ المشارُ إليه في هذا الحديث هو التوكُّلُ المذكورُ في الآية، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن العلمَ الذي جاء به يحملُه عدولُ أمَّته من كلِّ خَلَف، حتى لا يضيعَ ويذهب.
وهذا يتضمَّنُ تعديلَه صلى الله عليه وسلم لحملة العلم الذي بُعِثَ به، وهو المشارُ إليه في قوله:«هذا العلم» ، فكلُّ من حمَل العلمَ المشارَ إليه لا بدَّ وأن يكون عدلًا
(2)
، ولهذا اشتهر عند الأمَّة عدالةُ نَقَلته وحملته اشتهارًا لا يقبلُ شكًّا ولا امتراءً
(3)
.
ولا ريب أنَّ من عدَّله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يُسْمَعُ فيه جرح؛ فالأئمةُ الذين اشتهروا عند الأمَّة بنقل العلم النبويِّ وميراثه كلُّهم عدولٌ بتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا يُقبلُ قَدْحُ بعضهم في بعض، وهذا بخلاف من اشتهر عند
(1)
سيأتي تخريجه مفصَّلًا قريبًا.
(2)
فيكتفى فيهم بالعدالة الظاهرة حتى يأتي ما ينقضها. وإلى هذا ذهب ابن عبد البر، وابن المواق، والذهبي، وابن سيد الناس، وابن الوزير، وغيرهم. وعليه العمل عند أهل الحديث فيمن تعذَّر العلم بعدالته الباطنة من الرواة. انظر:«فتح المغيث» (2/ 18)، و «التمهيد» (1/ 28)، و «جامع بيان العلم» (2/ 1093)، و «العواصم والقواصم» (1/ 307)، وما مضى (ص: 131).
(3)
(ت): «مراء» .
الأمَّة جرحُه والقدحُ فيه، كأئمة البدع ومن جرى مجراهم من المتَّهمين في الدِّين، فإنهم ليسوا عند الأمَّة من حملة العلم.
فما حمَل علمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عَدْل، ولكن قد يُغْلَطُ في مسمَّى العدالة، فيُظنُّ أنَّ المرادَ بالعدل من لا ذنب له، وليس كذلك، بل هو عدلٌ مؤتمنٌ على الدِّين، وإن كان منه ما يتوبُ إلى الله منه، فإنَّ هذا لا ينافي العدالةَ كما لا ينافي الإيمانَ والوَلاية.
فصل
وهذا الحديثُ له طرقٌ عديدة:
* منها: ما رواه ابن عدي
(1)
، عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جدِّه جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
* ومنها: ما رواه العوَّام بن حوشب، عن شهر بن حوشب، عن معاذ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. ذكره الخطيبُ
(2)
وغيره.
* ومنها: ما رواه ابن عدي
(3)
من حديث الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
في «الكامل» (1/ 145). وإسنادُه شديدُ الضعف، والآفةُ فيه من الراوي عن موسى، كما بيَّن ذلك ابنُ عدي في (6/ 301).
(2)
في «شرف أصحاب الحديث» (14). وإسنادُه شديدُ الضعف، مسلسلٌ بالعلل، بدءًا بشيخ الخطيب المتَّهم بالكذب، إلى الانقطاع بين شهرٍ ومعاذ.
(3)
في «الكامل» (1/ 145)، وتمام في «الفوائد» (80 - الروض). وإسنادُه موضوع، كما شرحه ابنُ عدي في «الكامل» (3/ 31).
* ومنها: ما رواه محمد بن جرير الطبري
(1)
من حديث ابن أبي كريمة، عن مُعان بن رفاعة السَّلامي، عن أبي عثمان النهدي، عن أسامة بن زيد، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
* ومنها: ما رواه حماد بن زيد، عن بقية بن الوليد، عن مُعان بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العُذْري، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
قال الدارقطني: حدثنا أحمد بن الحسن: حدثنا هاشم بن القاسم: حدثنا مثنى بن بكر ومُبَشِّرٌ وغيرهما من أهل العلم، كلُّهم يقولون: حدثنا مُعان بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(3)
.
يعني أنَّ المحفوظ من هذا الطَّريق مرسل؛ لأنَّ إبراهيم هذا لا صحبة له
(4)
.
(1)
ومن طريقه الخطيبُ في «شرف أصحاب الحديث» (53)، والعلائي في «بغية الملتمس» (34). وإسنادُه منكر؛ ابنُ أبي كريمة ضعيف، وقد خالف جماعةً من الثقات رووه عن معان بن رفاعة عن إبراهيم العذري مرسلًا، كما سيأتي. واشتبه ابنُ أبي كريمة على العلائي براوٍ آخر ثقة؛ فصحَّح الحديث.
(2)
أخرجه ابن حبان في «الثقات» (4/ 10)، وابن عدي في «الكامل» (1/ 118)، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (55)، وغيرهم.
ومُعان بن رفاعة مختلفٌ فيه، وقد خولف في حديثه هذا، فرواه الوليد بن مسلم ــ وهو ثقةٌ، وقد صرَّح بالسماع ــ عن إبراهيم العذري، عن الثقة من أشياخنا، عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه ابن وضاح في «البدع والنهي عنها» (2)، وابن عدي في «الكامل» (1/ 147).
(3)
أخرجه من هذا الوجه ابن عساكر (7/ 38). وانظر: «الجرح والتعديل» (2/ 17).
(4)
وهذا هو الصواب، فالحديثُ إنما يحفظُ من هذا الطريق مرسلًا، وسائر الروايات المرفوعة معلولةٌ منكرةٌ لا تصلُح لتقويته. وإلى هذا ذهب جماعةٌ من الحفَّاظ، كالدارقطني، والعقيلي، وابن كثير، والعراقي، وغيرهم. انظر:«المقنع» لابن الملقن (1/ 246)، و «الضعفاء» (4/ 256)، و «مختصر علوم الحديث» (1/ 283 - الباعث الحثيث)، و «التقييد والإيضاح» (116)، و «محاسن الاصطلاح» (289).
وكلامُ الإمام أحمد الآتي لا يعارضُ هذا؛ لأنه إنما صحَّحه عن إبراهيم العذري، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع إرسال هذه الرواية، فإبراهيمُ العذري لا يُدرى من هو، كما قال الذهبي في «الميزان» (1/ 45)، ولا يُعرَف في غير هذا الحديث. انظر:«بيان الوهم والإيهام» (3/ 40). وأشياخُه ــ على رواية الوليد بن مسلم السالفة، وهي أصح ــ مجهولون.
وقال الخلال في كتاب «العلل»
(1)
: «قرأتُ على زهير بن صالح بن أحمد: حدثنا مهنَّا، قال: سألتُ أحمد عن حديث مُعان بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العُذْري قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يحملُ هذا العلمَ من كلِّ خلفٍ عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» ، فقلتُ لأحمد: كأنه كلامٌ موضوع؟
(2)
قال: لا، هو صحيح. فقلت: ممَّن سمعته أنت؟ فقال: من غير واحد. قلت: من هم؟ قال: حدثني به مسكين، إلا أنه يقول: عن مُعان، عن القاسم بن عبد الرحمن. قال أحمد: ومُعان بن رفاعة لا بأس به».
* ومنها: ما رواه أبو صالح: حدثنا الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيِّب، عن عبد الله بن مسعود، قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «يَرِثُ هذا العلمَ من كلِّ خلفٍ عدولُه»
(3)
.
(1)
وأخرج النصَّ من طريقه الخطيبُ في «شرف أصحاب الحديث» (56).
(2)
(ح، ن): «كأنه موضوع» . والمثبت من (ت، د، ق) و «شرف أصحاب الحديث» .
(3)
أخرجه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (54). وإسنادُه ضعيفٌ مسلسلٌ بالعلل؛ فيه ثلاثةُ ضعفاء في نسق.
* ومنها: ما رواه أبو أحمد ابن عدي
(1)
من حديث رُزَيْق أبي عبد الله
(2)
الألهاني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة الباهلي، قال:«قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم» . رواه عنه بقية.
* ومنها: ما رواه ابن عدي
(3)
أيضًا من طريق مروان الفزاري، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
* ومنها: ما رواه تمَّام في «فوائده»
(4)
من حديث الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن أبي قَبِيل، عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة. رواه عنه خالد بن عمرو.
* ومنها: ما رواه القاضي إسماعيل
(5)
من حديث علي بن مسلم
(1)
في «الكامل» (1/ 146)، والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 9). وإسنادُه ضعيف، وفيه اضطراب. انظر:«مشكل الآثار» للطحاوي (10/ 17).
(2)
(ح، ن): «رزيق بن عبد الله» . وهو تحريف.
(3)
في «الكامل» (1/ 146). وإسناده ضعيف، وفي رواته من لم أعرفه، وقد أشار ابن عديٍّ إلى غرابته. وأبو حازم هو سلمان الأشجعي صاحب أبي هريرة.
(4)
والبزار (143 - كشف الأستار)، والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 10). وإسناده موضوع. انظر:«الكامل» لابن عدي (3/ 31). وقد تقدم هذا الإسناد من رواية ابن عمر، وهي التي أخرجها تمَّام في «الفوائد» (80).
(5)
والطبراني في «مسند الشاميين» (1/ 344) ــ ومن طريقه الخطيب في «الجامع» (1/ 193) ــ، وابن عدي في «الكامل» (1/ 146) ــ ومن طريقه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (52) ــ، والهروي في «ذم الكلام» (705)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (43/ 236). وإسناده ضعيفٌ جدًّا؛ فيه راوٍ متروك، وآخرُ لم أقف فيه على توثيق. وانظر:«ذخيرة الحفاظ» (2778).
البكري
(1)
، عن أبي صالح الأشعري، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
الوجه السابع والثلاثون بعد المئة: أنَّ بقاء الدِّين والدنيا في بقاء العلم، وبذهاب العلم تذهبُ الدنيا والدِّين، فقِوامُ الدِّين والدنيا إنما هو بالعلم.
قال الأوزاعي: قال ابن شهاب الزهري: «الاعتصامُ بالسُّنَّة نجاة، والعلمُ يُقْبَض قبضًا سريعًا، فَنَعْشُ العلم
(2)
ثباتُ الدِّين والدنيا، وذهابُ العلم ذهابُ ذلك كلِّه»
(3)
.
وقال ابن وهب: أخبرني ابن يزيد
(4)
(5)
.
الوجه الثامن والثلاثون بعد المئة: أنَّ العلمَ يرفعُ صاحبَه في الدنيا والآخرة ما لا يرفعُه المُلْكُ ولا المالُ ولا غيرهما، فالعلمُ يزيدُ الشريفَ
(1)
في الأصول: «البلوي» . تحريف. ترجمته في «تاريخ دمشق» (43/ 235)، ولم يحك فيه جرحًا أو تعديلًا.
(2)
أي: بقاؤه ورفعة شأنه. «اللسان» (نعش).
(3)
أخرجه الدارمي (96)، واللالكائي في «السنة» (136)، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 369)، وغيرهم.
(4)
(د، ت، ق): «أخبرني يزيد» . خطأ. وهو يونس بن يزيد الأيلي صاحبُ الزهري، وقد ورد مصرَّحًا به في مصادر التخريج.
(5)
أخرجه ابن عبد البر في «الجامع» (546)، والذهبي في «السير» (18/ 343). وتابع ابنَ وهب: ابنُ المبارك في «الزهد» (817)، والليثُ بن سعد في «السنة» للالكائي (137)، و «المعرفة والتاريخ» (3/ 373).
شرفًا، ويرفعُ العبدَ المملوك حتى يُجْلِسَه مجالسَ الملوك، كما ثبت في «الصحيح»
(1)
من حديث الزهري، عن أبي الطفيل، أنَّ نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعُسْفان ــ وكان عمر استعمله على أهل مكة ــ فقال له عمر: من استخلفتَ على أهل الوادي؟ قال: استخلفتُ عليهم ابن أبزى، فقال: ومن ابن أبزى؟ فقال: رجلٌ من موالينا، فقال عمر: استخلفتَ عليهم مولى؟! فقال: إنه قاراءٌ لكتاب الله عالمٌ بالفرائض، فقال عمر: أما إنَّ نبيَّكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إنَّ الله يرفعُ بهذا الكتاب أقوامًا ويضعُ به آخرين» .
قال أبو العالية: كنتُ آتي ابنَ عباس وهو على سريره
(2)
وحوله قريش، فيأخذُ بيدي فيجلسني معه على السرير، فتَغامَزُ بي
(3)
قريش، ففَطِنَ لهم ابنُ عباس فقال: كذا هذا العلم، يزيدُ الشريفَ شرفًا ويُجْلِسُ المملوكَ على الأسرَّة
(4)
.
وقال إبراهيم الحربي: كان عطاءُ بن أبي رباح عبدًا أسود لامرأةٍ من أهل مكة، وكان أنفُه كأنه باقلَّاة.
قال: وجاء سليمانُ بن عبد الملك أميرُ المؤمنين إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إليه وهو يصلي، فلمَّا صلى انفتلَ إليهم، فما زالوا يسألونه عن
(1)
«صحيح مسلم» (817).
(2)
قال الذهبي في «السير» (4/ 208): «هذا كان سرير دار الإمرَة، لما كان ابنُ عباس متولِّيها لعليٍّ رضي الله عنهما» . يعني: إمارة البصرة.
(3)
(ت): «فتتغامز» . وفي (ن): «فتغامزني» .
(4)
أخرجه البيهقي في «المدخل» (398)، وغيره. وفي (ن):«ويجلس المملوك على أسرة الملوك» .
مناسك الحجِّ وقد حَوَّل قفاه إليهم، ثمَّ قال سليمان لابنيه: قُوما، فقاما، فقال: يا بَنِيَّ، لا تَنِيا في طلب العلم؛ فإني لا أنسى ذُلَّنا بين يدي هذا العبد الأسود.
قال الحربي: وكان محمدُ بن عبد الرحمن الأوقص
(1)
عنقُه داخلٌ في بدنه، وكان منكباه خارجَيْن كأنهما زُجَّان
(2)
، فقالت له أمُّه: يا بنيَّ، لا تكونُ في مجلس قومٍ إلا كنتَ المضحوكَ منه المسخورَ به، فعليك بطلب العلم فإنه يرفعك. فوَلِيَ قضاءَ مكة عشرين سنة.
قال: وكان الخصمُ إذا جلس إليه بين يديه يَرْعُد حتى يقوم.
قال: ومرَّت به امرأةٌ يومًا وهو يقول: اللهمَّ أعتق رقبتي من النار، فقالت له: يا ابنَ أخي، وأيُّ رقبةٍ لك؟!
(3)
.
وقال يحيى بن أكثم: قال الرشيد: ما أنبلُ المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين. قال: فتعرفُ أجلَّ منِّي؟ قلت: لا. قال: لكنِّي أعرفُه؛ رجلٌ في حَلْقةٍ يقول: حدثنا فلانٌ عن فلانٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، أهذا خيرٌ منك وأنت ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليُّ عهد المسلمين؟! قال: نعم، ويلك، هذا خيرٌ منِّي؛ لأنَّ اسمَه مقترنٌ باسم رسول الله، لا يموتُ أبدًا، ونحن نموتُ ونفنى، والعلماءُ باقون ما بقي الدهر
(4)
.
(1)
المخزومي القرشي (ت: 169). ترجمته في «تاريخ دمشق» (54/ 102)، و «أخبار القضاة» لوكيع (1/ 264)، وغيرهما.
(2)
الزُّجُّ: الحديدة التي في أسفل الرمح. «اللسان» (زجج).
(3)
أخرج النصَّ بطوله (خبر عطاء، والأوقص) عن الحربي الخطيبُ في «الفقيه والمتفقه» (1/ 140).
(4)
أخرجه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (219).
وقال خيثمة بن سليمان: سمعت ابن أبي الخناجر يقول: كنَّا في مجلس يزيد بن هارون، والناسُ قد اجتمعوا، فمرَّ أميرُ المؤمنين فوقف علينا في المجلس، وفي المجلس أُلوفٌ، فالتفت إلى أصحابه، وقال: هذا المُلْك
(1)
.
وفي «تاريخ بغداد»
(2)
للخطيب: حدثني أبو النجيب عبد الغفار بن عبد الواحد، قال: سمعت الحسن بن علي المقراء يقول: سمعت أبا الحسين بن فارس يقول: سمعت الأستاذ ابن العميد يقول: ما كنتُ أظنُّ أن في الدنيا حلاوةً ألذَّ من الرِّياسة والوزارة التي أنا فيها، حتى شهدتُ مذاكرةَ سليمان بن أيوب بن أحمد الطبراني وأبي بكر الجِعَابي بحضرتي، فكان الطبرانيُّ يغلبُ الجِعَابيَّ بكثرة حفظه، وكان الجِعَابيُّ يغلبُ الطبرانيَّ بفطنته وذكاء أهل بغداد، حتى ارتفعت أصواتُهما ولا يكادُ أحدُهما يغلبُ صاحبه، فقال الجِعَابي: عندي حديثٌ ليس في الدنيا إلا عندي، فقال: هاته، فقال: حدثنا أبو خليفة: حدثنا سليمانُ بن أيوب، وحَدَّثَ بالحديث، فقال الطبراني: أنا سليمانُ
(3)
بن أيوب ومنِّي سمعَ أبو خليفة، فاسمعْ منِّي حتى يَعْلُوَ إسنادُك، فإنك تروي عن أبي خليفة عنِّي! فخَجِلَ الجِعَابيُّ وغَلَبه الطبراني.
قال ابن العميد: فوددتُ في مكاني أنَّ الوزارةَ والرِّياسةَ ليتها لم تكن لي
(1)
أخرجه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (220).
(2)
لم أره في مطبوعته. وهو في «الجامع» للخطيب (2/ 413)، ومن طريقه رواه جماعة. والقصة في «التدوين في أخبار قزوين» (2/ 81) في سياقٍ ممتع.
(3)
في «سير أعلام النبلاء» (16/ 124)، و «طبقات الحنابلة» (3/ 94):«أخبرنا سليمان» ، وهو من تصرُّف النسَّاخ أو المحققين، ظنُّوا «أنا» في هذا الموضع اختصارًا لـ «أخبرنا» . وهو مفسدٌ للمعنى كما ترى.
وكنتُ الطبراني، وفرحتُ مثل الفرح الذي فرح به الطبراني لأجل الحديث. أو كما قال.
وقال المزني: سمعتُ الشافعيَّ يقول: «من تعلَّمَ القرآنَ عَظُمَت قيمتُه، ومن نظر في الفقه نَبُلَ مقدارُه، ومن تعلَّم اللغةَ رَقَّ طبعُه، ومن تعلَّم الحسابَ جَزُل رأيُه، ومن كتب الحديثَ قَوِيَت حُجَّتُه، ومن لم يَصُنْ نفسَه لم ينفعه علمُه»
(1)
.
وقد رُوِي هذا الكلامُ عن الشافعيِّ من وجوهٍ متعدِّدة
(2)
.
وقال سفيان الثوري: «من أراد الدنيا والآخرة فعليه بطلب العلم» .
وقال عبد الله بن داود: سمعت سفيان الثوري يقول: «إنَّ هذا الحديثَ عِزٌّ، فمن أراد به الدنيا وجدها، ومن أراد به الآخرةَ وجدها»
(3)
.
وقال النضر بن شُمَيْل: «من أراد أن يَشْرُفَ في الدنيا والآخرة فليتعلَّم العلم، وكفى بالمرء سعادةً أن يوثقَ به في دين الله، ويكونَ بين الله وبين عباده»
(4)
.
(1)
أخرجه البيهقي في «مناقب الشافعي» (1/ 282)، و «المدخل» (511)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 276)، و «الفقيه والمتفقه» (1/ 151)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (13/ 3).
(2)
من رواية الربيع بن سليمان، ويونس بن عبد الأعلى، وغيرهما. انظر:«تاريخ بغداد» (11/ 6)، و «تاريخ دمشق» (13/ 95، 51/ 409).
(3)
أخرجه البيهقي في «الشعب» (15/ 158)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 366)، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (131).
(4)
«تاريخ الإسلام» (5/ 208). ورُوِي آخره مرفوعًا في حديثٍ لا يصح. انظر: «الميزان» (2/ 605).
وقال حمزة بن سعيد المصري: لمَّا حَدَّثَ أبو مسلم الكَجِّي
(1)
أول يومٍ حدَّث قال لابنه: كم فَضَلَ عندنا من أثمان غلَّاتنا؟ قال: ثلاث مئة دينار
(2)
، قال: فرِّقها على أصحاب الحديث والفقراء شكرًا أنَّ أباك اليوم شَهِدَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقُبِلَت شهادتُه
(3)
.
وفي كتاب «الجليس والأنيس»
(4)
لأبي الفرج المعافى بن زكريا الجَرِيري: حدثنا محمد بن الحسن
(5)
بن دُرَيْد: حدثنا أبو حاتم، عن العُتْبي، عن أبيه، قال: ابتنى معاويةُ بالأبطح مجلسًا، فجلس عليه ومعه ابنةُ قَرَظَة
(6)
، فإذا هو بجماعةٍ على رحالٍ لهم، وإذا شابٌّ منهم قد رفع عقيرتَه يتغنَّى:
من يُساجِلْني يُساجِلْ ماجدًا
…
يملأُ الدَّلوَ إلى عَقْدِ الكَرَبْ
(7)
قال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن جعفر، قال: خلُّوا له الطريق.
(1)
(ت، ح): «اللخمي» . وهو تحريف. وهو الإمام الحافظ، إبراهيم بن عبد الله، صاحب «السنن» (ت: 292). انظر: «السير» (13/ 423).
(2)
في «السير» ، و «تاريخ بغداد» (6/ 122) أنه تصدَّق بعشرة آلاف درهم.
(3)
أخرجه ابنُ عساكر في «تاريخ دمشق» (53/ 280). وفي «السير» (19/ 277) خبرٌ آخر في هذا المعنى.
(4)
«الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي» (3/ 181). وهو في «جمهرة نسب قريش» (2/ 788) بإسنادٍ آخر.
(5)
(ت، ح، ن): «الحسين» . تحريف.
(6)
فاختة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، زوج معاوية.
(7)
الكَرَب: الحبلُ الذي يُشَدُّ على الدَّلو. «اللسان» (كرب). والبيت للفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب.
ثمَّ إذا هو بجماعةٍ فيهم غلامٌ يتغنَّى:
بينما يَذْكُرنني أبصرنني
…
عند قِيدِ المِيلِ يَسْعَى بي الأغَرّ
قلنَ: تعرفنَ الفتى؟ قلنَ: نعم
…
قد عرفناهُ، وهل يخفى القمرْ
قال: من هذا؟ قالوا: عمر بن أبي ربيعة، قال: خلُّوا له الطريق، فليذهب.
قال: ثمَّ إذا هو بجماعة، وإذا فيهم رجلٌ يُسْأل، يقال [له]: رميتُ قبل أن أحلق؟ وحلقتُ قبل أن أرمي؟ في أشياء أشكلت عليهم من مناسك الحجِّ فقال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن عمر، فالتفت إلى ابنة قَرَظَة، وقال: هذا وأبيكِ الشَّرف، هذا والله شرفُ الدنيا والآخرة.
وقال سفيان بن عيينة: «أرفعُ الناس منزلةً عند الله من كان بين الله وبين عباده؛ وهم الأنبياءُ والعلماء»
(1)
.
(2)
.
الوجه التاسعُ والثلاثون بعد المئة: أنَّ النفوسَ الجاهلةَ التي لا علم عندها قد أُلبِسَت ثوبَ الذلِّ، والإزراءُ عليها والتنقُّصُ بها أسرعُ منه إلى غيرها، وهذا أمرٌ معلومٌ عند الخاصِّ والعام.
(1)
تقدم تخريجه (ص: 330).
(2)
تقدم تخريجه (ص: 331).
قال الأعمش: «إني لأرى الشيخَ لا يروي شيئًا من الحديث فأشتهي أن ألطِمَه»
(1)
.
وقال أبو معاوية: سمعتُ الأعمش يقول: «من لم يطلب الحديث أشتهي أن أصفَعه بنعلي»
(2)
.
وقال عَثَّامُ بن علي: سمعت الأعمش يقول: إذا رأيتَ الشيخَ لم يقرأ القرآنَ ولم يكتب الحديثَ فاصفَعْ له
(3)
، فإنه من شيوخ القَمْراء. قال أبو صالح
(4)
: قلت لأبي جعفر: ما شيوخُ القَمْراء؟ قال: شيوخٌ دُهْرِيُّون
(5)
، يجتمعون في ليالي القمر يتذاكرون أيام الناس، ولا يُحْسِنُ أحدُهم أن يتوضَّأ للصلاة
(6)
.
وكان سفيانُ الثوري إذا رأى الشيخَ لم يكتب الحديثَ قال: «لا جزاك الله خيرًا عن الإسلام»
(7)
.
(1)
أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (9/ 6).
(2)
أخرجه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (319).
(3)
(ت): «فاصفعه» . وكلاهما جائز. والصَّفعُ كلمةٌ مولَّدة، وهو ضربُ القفا بالكفِّ مبسوطةً. انظر بحثًا طريفًا حوله في «موسوعة العذاب» للشالجي (2/ 159 - 216)، وتعليقه على «الفرج بعد الشدة» للتنوخي (3/ 189).
(4)
الطرسوسي. وشيخه أبو جعفر محمد بن عقبة. من رجال إسناد هذا الخبر.
(5)
الدُّهريُّ - بضمِّ الدال -: الرجلُ المُسِنُّ. وبفتحها: المُلْحِد. «الصحاح» .
(6)
أخرجه الرامهرمزي في «المحدث الفاصل» (204)، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (142).
(7)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (6/ 365)، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (141)، والهروي في «ذم الكلام» (907)، وغيرهم. والخبر ليس في (د، ق، ت).
وكان بعضُ خلفاء بني العباس يلعبُ بالشِّطرنج، فاستأذن عليه عمُّه، فأذنَ له وغطَّى الرُّقعة، فلما جلس قال له: يا عم، هل قرأتَ القرآن؟ قال: لا، قال: فهل كتبتَ شيئًا من السُّنَّة؟ قال: لا، قال: فهل نظرتَ في الفقه واختلاف الناس؟ قال: لا، قال: فهل نظرتَ في العربية وأيام الناس؟ قال: لا، فقال الخليفة: اكشِف الرُّقعة. ثمَّ أتمَّ اللعب، وزال احتشامُه وحياؤه منه، فقال له مُلاعِبُه: يا أمير المؤمنين تكشفُها ومعنا من تحتشِمُ منه
(1)
؟! قال: اسكت، فما معنا أحد!
(2)
.
وهذا لأنَّ الإنسان إنما يتميزُ عن سائر الحيوان بما خُصَّ به من العلم والعقل والفهم، فإذا عَدِمَ ذلك لم يَبْقَ فيه إلا القَدْرُ المشتركُ بينه وبين سائر الحيوانات، وهو الحيوانيَّةُ البهيميَّة، ومثلُ هذا لا يستحيي منه الناسُ ولا يمتنعون بحضرته وشهوده مما يُسْتَحيى منه مِنْ
(3)
أولي الفضل والعلم.
الوجه الأربعون بعد المئة: أنَّ كلَّ صاحب بضاعةٍ سوى العلم إذا عَلِمَ
(1)
(ق): «نحتشم منه» . والحرف الأول مهمل في (ن، ت، ح).
(2)
القصة في أمالي يحيى بن الحسين الشجري (2/ 312)، والخليفة فيها سليمان بن عبد الملك. ونسبت للوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكان ولي عهد خلافة هشام، في «الجليس والأنيس» (4/ 87)، و «عيون الأخبار» (2/ 120)، و «التذكرة الحمدونية» (3/ 293)، و «تاريخ دمشق» (68/ 204)، و «محاضرات الأدباء» (1/ 65)، وغيرها.
(3)
«من» ليست في (ت، ق).
أنَّ غيرَ بضاعته خيرٌ منها زَهِدَ في بضاعته ورَغِبَ في الأخرى وودَّ أنها له عِوَض بضاعته، إلا صاحب بضاعة العلم، فإنه ليس يحبُّ أنَّ له بحظِّه منها خَطرًا أصلًا
(1)
.
قال أبو جعفر الطحاوي: كنت عند أحمد بن أبي عمران
(2)
، فمرَّ بنا رجلٌ من بني الدنيا، فنظرتُ إليه وشُغِلتُ به عما كنتُ فيه من المذاكرة، فقال لي: كأني بك قد فكَّرتَ فيما أُعطِي هذا الرجلُ من الدنيا. قلت له: نعم. قال: هل أدلُّك على خَلَّة؟ هل لك أن يحوِّل الله إليك ما عنده من المال ويحوِّل إليه ما عندك من العلم، فتعيش أنت غنيًّا جاهلًا ويعيش هو عالمًا فقيرًا؟ فقلت: ما أختارُ أن يحوِّل الله ما عندي من العلم إلى ما عنده.
فالعلمُ غنًى بلا مال، وعزٌّ بلا عشيرة، وسلطانٌ بلا رجال.
وفي ذلك قيل:
العلمُ كنزٌ وذُخْرٌ لا نفادَ له
…
نعمَ القرينُ إذا ما صاحبٌ صَحِبا
قد يجمعُ المرءُ مالًا ثمَّ يُحْرَمُه
…
عمَّا قليلٍ فيلقى الذُّلَّ والحَرَبا
وجامعُ العلم مغبوطٌ به أبدًا
…
ولا يُحَاذِرُ منه الفَوْتَ والسَّلَبا
يا جامع العلم نعمَ الذُّخرتجمعُه
…
لا تَعْدِلَنَّ به دُرًّا ولا ذهبا
(3)
(1)
أي: عِوَضًا ومثيلًا. «اللسان» (خطر). واستعمال الخطر بهذا المعنى كثير الورود في كتب المصنف. وانظر التعليق على «طريق الهجرتين» (86).
(2)
شيخ الحنفية، كان من بحور العلم، لازمه الطحاوي وتفقَّه به (ت: 280). انظر: «السير» (13/ 334).
(3)
الأبيات لأبي الأسود الدؤلي، في «الفقيه والمتفقه» (1/ 75)، و «نور القبس» (12)، و «تاريخ دمشق» (25/ 210)، وغيرها. وهي في مستدرك ديوانه (383). وتنسبُ لغيره.
الوجه الحادي والأربعون بعد المئة: أنَّ الله سبحانه أخبر أنه يجزي المحسنين أجرَهم بأحسن ما كانوا يعملون، وأخبر سبحانه أنه يجزي على الإحسان بالعلم؛ وهذا يدلُّ على أنه من أحسن الجزاء.
* أما المقامُ الأول؛ ففي قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33 - 35]، وهذا يتناول الجزاءين الدنيويَّ والأخروي.
* وأما المقامُ الثاني؛ ففي قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22].
قال الحسن: «من أحسنَ عبادةَ الله في شبيبته لقَّاهُ الله الحكمةَ في شَيبته
(1)
، وذلك قولُه:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} »
(2)
.
ومن هذا قولُ بعض العلماء: «تقولُ الحكمة: من التمسني فلم يجدني فليعمل بأحسن ما يعلم، وليترك أقبحَ ما يعلم، فإذا فعل ذلك فأنا معه وإن لم يعرفني»
(3)
.
(1)
(د): «شيبه» . «عيون الأخبار» : «سنه» ، تحريف. (ح، ن) و «المجالسة» : «عند كبر سنه» . «الموضح» : «في بلوغ أشده» . والأثر ساقط من (ت).
(2)
«عيون الأخبار» (2/ 122). وهو مصدر المصنف. وأخرجه الخطيب في «الموضح» (2/ 253)، والدينوري في «المجالسة» (315، 2597).
(3)
«عيون الأخبار» (2/ 122). وأخرج نحوه أبو نعيم في «الحلية» (5/ 251) عن يونس بن ميسرة.
الوجهُ الثاني والأربعون بعد المئة: أنَّ الله سبحانه جعل العلمَ للقلوب كالمطر للأرض، فكما أنه لا حياة للأرض إلا بالمطر، فكذلك لا حياة للقلب إلا بالعلم.
وفي «الموطأ»
(1)
: «قال لقمانُ لابنه: يا بنيَّ، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك؛ فإنَّ الله تعالى يحيي القلوبَ الميتة بنُور الحكمة كما يحيي
(2)
الأرضَ بوابل المطر».
ولهذا، الأرض إنما تحتاجُ إلى المطر في بعض الأوقات، فإذا تتابعَ عليها احتاجت إلى انقطاعه، وأما العلمُ فيحتاجُ إليه القلبُ بعدد الأنفاس، ولا يزيدُه كثرتُه إلا صلاحًا ونفعًا.
الوجهُ الثالث والأربعون بعد المئة: أنَّ كثيرًا من الأخلاق التي لا تُحْمَدُ في الشخص، بل يُذَمُّ عليها، تُحْمَدُ في طلب العلم؛ كالمَلَق
(3)
، وترك الاستحياء، والذُّل، والتردُّد إلى أبواب العلماء، ونحوها.
قال ابن قتيبة
(4)
: جاء في الحديث: «ليس المَلَقُ من أخلاق المؤمنين
(1)
«موطأ مالك» (2859) بلاغًا. وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» (1387)، والبيهقي في «المدخل» (445)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 438، 439) من طرقٍ عن جماعةٍ من السلف.
ورُوِي مرفوعًا عند الطبراني في «الكبير» (8/ 235) من حديث أبي أمامة بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا.
(2)
مهملة في (د). (ت، ن) وبعض المصادر: «تحيى» .
(3)
وهو الزيادةُ في التودُّد والتلطُّف فوق ما ينبغي. «اللسان» (ملق).
(4)
«عيون الأخبار» (2/ 122).
إلا في طلب العلم»
(1)
.
وهذا أُثِر عن بعض السلف.
وقال ابن عباس: «ذللتُ طالبًا فعززتُ مطلوبًا»
(2)
.
(3)
.
وقال أبو إسحاق: قال علي: «كلماتٌ لو رَحَلتُم المَطِيَّ فيهنَّ لأنضَيتُموهُنَّ
(4)
قبل أن تدركوا مثلهنَّ: لا يرجونَّ عبد إلا ربَّه، ولا يخافنَّ إلا ذنبَه، ولا يستحي من لا يعلمُ أن يتعلَّم، ولا يستحي إذا سئل عما لا يعلمُ أن يقول: الله أعلم
(5)
، واعلموا أنَّ منزلةَ الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأسُ ذهب الجسد، وإذا ذهب الصبرُ ذهب
(1)
أخرجه ابن عدي في «الكامل» (2/ 298)، والبيهقي في «الشعب» (8/ 159)، وغيرهما من حديث معاذ بن جبل بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا.
وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (436).
ورُوِي من وجوهٍ أخرى لا يصحُّ منها شيء. انظر: «السلسلة الضعيفة» (380، 381).
(2)
«عيون الأخبار» (2/ 122). وأخرجه الدينوري في «المجالسة» (1635). وهو في «الجامع» لابن عبد البر (1/ 474)، وغيره.
(3)
«عيون الأخبار» (2/ 122). وأخرجه أبو خيثمة في «العلم» (133)، والدارمي (567)، والبيهقي في «المدخل» (674)، وغيرهم بإسنادٍ حسن.
(4)
أتعبتموهنَّ وأهزلتموهن. وتحرَّفت على أنحاء. «ح» : «لأنقيتموهن» . (ت): «لأنطيتموهن» . (ط): «لأفنيتموهن» . «عيون الأخبار» : «لا تصيبوهن» .
(5)
(ت، ن، ح): «لا أعلم» . والمثبت من (د، ق) و «عيون الأخبار» .
الإيمان»
(1)
.
ومن كلام بعض العلماء: «لا ينالُ العلمَ مستحيٍ ولا متكبِّر»
(2)
؛ هذا يمنعُه حياؤه من التعلُّم، وهذا يمنعُه كِبْرُه.
وإنما حُمِدَت هذه الأخلاقُ في طلب العلم لأنها طريقٌ إلى تحصيله، فكانت من كمال الرجل ومُفْضِيةً إلى كماله.
ومِنْ كلام الحسن: «من استتر عن طلب العلم بالحياء لَبِسَ للجهل سربالَه، فقطِّعوا سرابيلَ الحياء؛ فإنه من رَقَّ وجهُه رَقَّ علمُه»
(3)
.
وقال الخليل: «منزلةُ الجهل بين الحياء والأنَفَة»
(4)
.
ومن كلام عليٍّ رضي الله تعالى عنه: «قُرِنت الهيبةُ بالخيبة، والحياءُ بالحرمان»
(5)
.
(1)
«عيون الأخبار» (2/ 119). وأخرجه ابن أبي شيبة في «لإيمان» (130)، و «المصنف» (13/ 283)، ومعمر في «الجامع» (11/ 469)، وابن أبي عمر في «الإيمان» (19)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 75)، وغيرهم من طرقٍ بعضها حسن.
(2)
علَّقه البخاري في «الصحيح» (1/ 43) عن مجاهد، ووصله أبو نعيم في «الحلية» (3/ 287)، والبيهقي في «المدخل» (410)، وغيرهم.
وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (2/ 220) عن أبي العالية.
(3)
«عيون الأخبار» (2/ 123). وأخرجه الدينوري في «المجالسة» (1636). وهو في «العقد» (2/ 415)، وغيره.
(4)
«عيون الأخبار» (2/ 123).
(5)
«عيون الأخبار» (2/ 123). وهو في «نهج البلاغة» (4/ 6)، و «أمالي القالي» (2/ 94)، و «تاريخ دمشق» (51/ 264)، وغيرها.
وقال إبراهيمُ لمنصور
(1)
: «سل مسألةَ الحمقى، واحفَظ حِفظَ الأكياس»
(2)
.
وكذلك سؤالُ الناس هو عيبٌ ونقصٌ في الرجل وذِلَّةٌ تنافي المروءة، إلا في العلم، فإنه عينُ كماله ومروءته وعزِّه، كما قال بعض أهل العلم:«خيرُ خصال الرجل السؤالُ عن العلم»
(3)
.
وقيل: «إذا جلستَ إلى عالمٍ فسَلْ تفقُّهًا لا تعنُّتًا»
(4)
.
وقال رؤبة بن العجَّاج: أتيتُ النسَّابةَ البكري
(5)
، فقال: من أنت؟ قلت: أنا ابن العجَّاج، قال: قصَّرتَ وعرَّفت، لعلَّك كقومٍ إن سكتُّ لم يسألوني، وإن تكلَّمتُ لم يَعُوا عنِّي؟ قلت: أرجو أن لا أكون كذلك، قال: ما أعداءُ المروءة؟ قلت: تُخْبِرُني، قال: بنو عمِّ السُّوء؛ إن رأوا حسنًا ستروه، وإن رأوا سيِّئًا أذاعوه. ثمَّ قال: إنَّ للعلم آفةً ونكدًا وهُجْنة؛ فآفتُه نسيانُه، ونكَدُه الكذبُ فيه، وهُجْنتُه نشرُه عند غير أهله
(6)
.
(1)
إبراهيمُ هو النخعي، ومنصورُ ابن المعتمر.
(2)
«عيون الأخبار» (2/ 122). وهو في «جمهرة الأمثال» (1/ 79)، وغيره.
(3)
«عيون الأخبار» (2/ 123).
(4)
«عيون الأخبار» (2/ 123). وهو في «العقد» (2/ 224)، وغيره.
(5)
دَغْفَل بن حنظلة بن زيد، عالمٌ بالنَّسب، يقال: له صحبة (ت: 70). انظر: «الإصابة» (2/ 380)، و «تهذيب الكمال» (8/ 486).
(6)
«عيون الأخبار» (2/ 118). وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (3/ 180)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 386)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 449)، وغيرهم.
وأنشدَ ابنُ الأعرابي
(1)
:
ما أقربَ الأشياءَ حين يَسُوقُها
…
قَدَرٌ وأبعدَها إذا لم تُقْدَرِ
فسَلِ الفقيهَ تكن فقيهًا مثله
…
من يَسْعَ في علمٍ بِذُلٍّ يَمْهَرِ
فتدبَّر العلمَ الذي تُعنى
(2)
به
…
لا خيرَ في علمٍ بغير تدبُّرِ
ولقد يَجِدُّ المرءُ
(3)
وهو مُقَصِّرٌ
…
ويخيبُ جَدُّ المرء غير مُقَصِّرِ
ذَهَبَ الرجالُ المقتدى بفِعَالهم
…
والمنكِرون لكلِّ أمرٍ منكرِ
وبقيتُ في خَلْفٍ يُزيِّنُ بعضُهم
…
بعضًا لِيَدْفَعَ مُعْوِرٌ
(4)
عن مُعْوِر
وللعلم ستُّ مراتب
(5)
:
أولها: حُسْنُ السؤال.
الثانية: حُسْنُ الإنصات والاستماع.
(1)
«عيون الأخبار» (2/ 123). والأبيات الأربعة الأولى في «لباب الآداب» (361) دون نسبة. والأول والأخيران في «بهجة المجالس» (1/ 182، 801) لعبدالله بن المبارك، وللحسن الأصفهاني في «إرشاد الأريب» (875). والأخيران لأبي الأسود الدؤلي في «إرشاد الأريب» (1473)، ومستدرك ديوانه (397)، ولمرة بن عمرو الخزاعي في «معجم الشعراء» (295)، وللحكم بن عبدل الأسدي في «المؤتلف والمختلف» (161)، وللمرار بن حمويه الهمداني في «التدوين» (4/ 83). والأول ــ وحده ــ لعبد الله بن يزيد الهلالي في «حماسة البحتري» (246).
(2)
في الأصول: «تفتي» . والمثبت من «عيون الأخبار» و «لباب الآداب» ، وهو أشبه بالصواب.
(3)
أي: يكون ذا حظوةٍ ورزق. من الجَدِّ.
(4)
قبيحُ السِّيرة، كأنه بادي العورة.
(5)
أصلها في «عيون الأخبار» (2/ 122). وتصرَّف فيها المصنف.
الثالثة: حُسْنُ الفهم.
الرابعة: الحفظ.
الخامسة: التعليم.
السادسة ــ وهي ثمرتُه ــ: وهي العملُ به ومراعاةُ حدوده.
فمن الناس من يُحْرَمُه لعدم حُسْن سؤاله؛ إمَّا أنه لا يسألُ بحال، أو يسألُ عن شيءٍ وغيرُه أهمُّ إليه منه؛ كمن يسألُ عن فُضوله التي لا يضرُّ جهلُه بها، ويدعُ ما لا غنى له عن معرفته. وهذه حالُ كثيرٍ من الجهَّال المتعالِمين
(1)
.
ومن الناس من يُحْرَمُه لسوء إنصاته، فيكونُ الكلامُ والمماراةُ آثَر عنده من حُسْن الاستماع
(2)
. وهذه آفةٌ كامنةٌ
(3)
في أكثر النفوس الطالبة للعلم، وهي تمنعهم علمًا ولو كان حَسَنَ الفهم.
ذكر ابنُ عبد البر
(4)
عن بعض السَّلف أنه قال: «من كان حسنَ الفهم رديءَ الاستماع لم يَقُمْ خيرُه بشرِّه» .
وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب «العلل» له
(5)
قال: «كان عروةُ بن
(1)
(ح، ن): «المتعلمين» .
(2)
(ح، ن): «آثر عنده وأحب إليه من الإنصات» .
(3)
(ق، د): «كاينة» .
(4)
في «جامع بيان العلم» (1/ 448) عن أنس بن أبي شيخ. وهو بليغٌ كاتب، قتله الرشيد سنة 187 على الزندقة. انظر:«لسان الميزان» (1/ 468).
(5)
(1/ 186)، والأشبه أنه للإمام أحمد من رواية ابنه عبد الله. وأخرجه أحمد أيضًا في «فضائل الصحابة» (1869)، وأخرجه عنه ــ من غير طريق عبد الله ــ الخطيبُ في «الجامع» (1/ 317).
الزبير
(1)
يحبُّ مُمَاراةَ ابنَ عباس فكان يَخْزُنُ علمَه عنه، وكان عبيدُ الله بن عبد الله بن عتبة يَلْطُفُ له في السؤال فيَغُرُّه بالعلم غَرًّا
(2)
».
وقال ابن جريج: «لم أستخرج العلمَ الذي استخرجتُ من عطاء إلا برفقي به»
(3)
.
وقال بعضُ السَّلف: «إذا جالستَ العالم فكن على أن تسمع أحرصَ منك على أن تقول»
(4)
.
وقد قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].
فتأمَّل ما تحت هذه الألفاظ من كنوز العلم، وكيف تفتحُ مراعاتُها للعبد أبوابَ العلم والهدى، وكيف ينغلقُ بابُ العلم عنه من إهمالها وعدم
(1)
كذا في الأصول. وهو وهم. وإنما هو أبو سلمة بن عبد الرحمن، كما في «العلل» والمصادر السابقة. وقد كان يماري ابنَ عباس، فحُرِم بذلك علمًا كثيرًا. انظر:«الطبقات» لابن سعد (5/ 250)، و «التمهيد» (7/ 60، 61)، و «تهذيب الكمال» (19/ 75)، وغيرها. وصحَّ عنه أنه كان يقول:«لو رفقتُ بابن عباس لأصبتُ منه علمًا كثيرًا» . أخرجه الدارمي (412، 568) وغيره.
(2)
غَرَّ الطائرُ فرخَه: أطعمه بفمه. «اللسان» (غرر) و (زقق). والعبارة مهملة في (ق، ت، د)، وتحرفت في (ط) وكثير من المصادر، وهي مقتبسةٌ من حديثٍ مرفوع لا يصحُّ إسناده أنه صلى الله عليه وسلم كان يغرُّ عليًّا بالعلم غرًّا، أخرجه أحمد في «فضائل الصحابة» (1153)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (42/ 170).
(3)
أخرجه ابن عبد البر في «الجامع» (1/ 423، 519).
(4)
«الجامع» لابن عبد البر (1/ 521)، و «الأمالي» للقالي (2/ 188).
مراعاتها؛ فإنه سبحانه ذكر أنَّ آياته المتلوَّة المسموعة والمرئيَّة المشهودة إنما تكونُ تذكرةً لمن كان له قلب؛ فإنَّ من عَدِمَ القلبَ الواعي عن الله لم ينتفع بكلِّ آيةٍ تمرُّ عليه ولو مرَّت به كلُّ آية، ومرورُ الآيات عليه كطلوع الشمس والقمر والنجوم ومرورِها على من لا بصر له، فإذا كان له قلبٌ كان بمنزلة البصير إذا مرَّت به المرئيَّات فإنه يراها.
ولكنَّ صاحبَ القلب لا ينتفعُ بقلبه إلا بأمرين:
* أحدهما: أن يُحْضِرَه ويُشْهِدَه لما يُلقى إليه؛ فإذا كان غائبًا عنه مسافرًا في الأماني والشهوات والخيالات لا ينتفعُ به.
* فإذا أَحْضَرَه وأَشْهَدَه لم ينتفع إلا بأن يلقي سمعه ويصغي بكلِّيَّته إلى ما يُوعَظُ به ويُرْشَدُ إليه.
وها هنا ثلاثةُ أمور:
أحدها: سلامةُ القلب وصحتُه وقبولُه.
الثاني: إحضارُه وجَمْعُه ومنعُه من الشُّرود والتفرُّق.
الثالث: إلقاءُ السمع وإصغاؤه والإقبالُ على الذكر
(1)
.
فذكرَ اللهُ تعالى الأمورَ الثلاثة في هذه الآية.
قال ابن عطية
(2)
: «القلبُ هنا عبارةٌ عن العقل؛ إذ هو محلُّه، والمعنى: لمن كان له قلبٌ واعٍ ينتفعُ به» .
قال: «وقال الشِّبلي: قلبٌ حاضرٌ مع الله لا يغفلُ عنه طرفةَ عين.
(1)
(ح، ن): «المذكر» . وهي محتملة.
(2)
في «المحرر الوجيز» (13/ 568).
وقولُه: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} معناه: صَرَف سمعَه إلى هذه الأنباء الواعظة، وأثبته في سمعه
(1)
، فذلك إلقاءٌ له عليها، ومنه قولُه:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]، أي: أثبتُّها عليك.
وقولُه: {وَهُوَ شَهِيدٌ} قال بعضُ المتأوِّلين: معناه: وهو شاهدٌ
(2)
مقبلٌ على الأمر غير معرضٍ عنه ولا مفكِّرٍ في غير ما يسمع».
قال: «وقال قتادة: هي إشارةٌ إلى أهل الكتاب. فكأنه قال: إنَّ هذه العِبَر لتذكرةٌ لمن له فهمٌ فتدبَّرَ الأمر، أو لمن سمعها من أهل الكتاب فشهدَ بصحَّتها لعلمه بها من كتاب التوراة
(3)
وسائر كتب بني إسرائيل».
قال: «فـ {شَهِيدٌ} على التأويل الأول من المشاهدة، وعلى التأويل الثاني من الشهادة» .
وقال الزجَّاج
(4)
: «معنى {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} من صَرَف قلبَه إلى التفهُّم، ألا ترى أنَّ قوله:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] أنهم لم يستمعوا استماعَ متفهِّمٍ مسترشدٍ، فجُعِلوا بمنزلة من لم يسمع، كما قال الشاعر:
* أصَمُّ عمَّا ساءه سميعُ *
(5)
(1)
كذا في الأصول. وفي مطبوعة التفسير: «وانتبه في سماعها» ، تحريف. وفي الطبعة المغربية (15/ 189):«وأثبته في سماعها» .
(2)
في مطبوعتي التفسير: «وهو مشاهِد» . وهو أصوب؛ لما سيأتي.
(3)
(ت، د، ح، ن): «كتابه التوراة» .
(4)
في «معاني القرآن» (5/ 48).
(5)
شطرٌ يجري مجرى الأمثال، في «أسرار البلاغة» (79)، و «شرح الحماسة» للمرزوقي (1450)، و «جمهرة الأمثال» (1/ 140)، وغيرها دون نسبة. وتحرَّفت في (د، ت، ق)«ساءه» إلى «شاءه» .
ومعنى {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} : استَمَع ولم يَشْغَل قلبَه بغير ما يستمع، والعربُ تقول: ألقِ إليَّ سمعَك، أي: استمِعْ منِّي.
{وَهُوَ شَهِيدٌ} أي: قلبُه فيما يسمع».
قال: «وجاء في التفسير
(1)
أنه يعني به أهلَ الكتاب الذين عندهم صفةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. فالمعنى: أو ألقى السمعَ وهو شهيدٌ أنَّ صفةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في كتابه».
وهذا هو الذي حكاه ابن عطية عن قتادة، وذكرَ أنَّ شهيدًا فيه بمعنى شاهد، أي: مُخْبِر.
وقال صاحب «الكشاف»
(2)
: «{لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} واعٍ؛ لأنَّ من لا يعي قلبُه فكأنه لا قلب له. وإلقاءُ السمع: الإصغاء.
{وَهُوَ شَهِيدٌ} أي: حاضرٌ بفطنته؛ لأنَّ من لا يُحْضِرُ ذهنَه فكأنه غائب. أو هو مؤمنٌ شاهدٌ على صحته وأنه وحيٌ من الله. أو هو
(3)
بعضُ الشهداء في قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. وعن قتادة: وهو شاهدٌ على صدقه من أهل الكتاب؛ لوجود نعته عنده».
(1)
أي: التفسير المأثور. ولعله يريد أثر قتادة. وقد روى الزجاجُ تفسير الإمام أحمد عن ابنه عبد الله إجازةً، كما في «معاني القرآن» (4/ 8)، وذكر في (4/ 166) أن أكثر ما روى في كتابه من التفسير فهو من كتاب التفسير للإمام أحمد.
(2)
(4/ 391).
(3)
في الأصول: «وهو» . والمثبت من «الكشاف» ، وهو الصواب.
فلم يُختَلف في أنَّ المراد بالقلب القلبُ الواعي، وأنَّ المرادَ بإلقاء السمع إصغاؤه وإقبالُه على الذكر
(1)
، وتفريغُ سمعه له.
واختلف في الشهيد على أربعة أقوال:
أحدها: أنه من المشاهدة، وهي الحضور. وهذا أصحُّ الأقوال، ولا يليقُ بالآية غيرُه.
الثاني: أنه شهيدٌ من الشهادة
(2)
.
وفيه على هذا ثلاثةُ أقوال:
أحدها: أنه شاهدٌ على صحَّته بما معه من الإيمان.
الثاني: أنه شاهدٌ من الشهداء على الناس يوم القيامة.
الثالث: أنها شهادةٌ من الله عنده على صحَّة نبوَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عَلِمَه من الكتب المنزَّلة.
والصوابُ القولُ الأول؛ فإنَّ قولَه: {وَهُوَ شَهِيدٌ} جملةٌ حاليَّة، والواو فيها واو الحال، أي: ألقى السمعَ في هذه الحال. وهذا يقتضي أن يكون حالَ إلقائه السمعَ شهيدًا، وهذا من
(3)
المشاهدة والحضور.
ولو كان المرادُ به الشهادةَ في الآخرة أو في الدنيا لَمَا كان لتقييدها بإلقاء السمع معنى؛ إذ يصيرُ الكلام: إنَّ في ذلك لآيةً لمن كان له قلبٌ
(1)
(د، ح، ن): «المذكر» .
(2)
(ق): «من المشاهدة» . وهو تحريف.
(3)
(د، ن): «وهذا هو من» . (ق): «وهذا أهون» .
أو ألقى السمعَ حال كونه شاهدًا بما معه في التوراة، أو حال كونه شهيدًا يوم القيامة. ولا ريب أنَّ هذا ليس هو المراد بالآية.
وأيضًا؛ فالآيةُ عامَّةٌ في كلِّ من له قلبٌ أو ألقى السمع، فكيف يُدَّعى تخصيصُها بمؤمني أهل الكتاب الذين عندهم شهادةٌ من كتبهم على صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟!
وأيضًا؛ فالسورةُ مكيَّة، والخطابُ فيها لا يجوزُ أن يختصَّ بأهل الكتاب، ولا سيما مثلُ هذا الخطاب الذي عُلِّق فيه حصولُ مضمون الآية ومقصودها بالقلب الواعي وإلقاء السمع، فكيف يقال: هي في أهل الكتاب؟!
فإن قيل: المختصُّ بهم قولُه: {وَهُوَ شَهِيدٌ} ؛ فهذا أفسدُ وأفسد؛ لأنَّ قوله: {وَهُوَ شَهِيدٌ} يرجعُ الضميرُ فيه إلى جملة من تقدَّم، وهو: من له قلبٌ أو ألقى السمع، فكيف يُدَّعى عَوْدُه إلى شيءٍ غايتُه أن يكون بعض المذكور أوَّلًا، ولا دلالةَ في اللفظ عليه؟! فهذا في غاية الفساد
(1)
.
وأيضًا؛ فإنَّ المشهودَ به محذوف، ولا دلالة في اللفظ عليه، فلو كان المرادُ به: وهو شاهدٌ بكذا، لذكر المشهودَ به؛ إذ ليس في اللفظ ما يدلُّ عليه، وهذا بخلاف ما إذا جُعِلَ من الشُّهود ــ وهو الحضور ــ فإنه لا يقتضي مفعولًا مشهودًا به، فيتمُّ الكلامُ بذكره وحده.
وأيضًا؛ فإنَّ الآيةَ تضمنَّت تقسيمًا وترديدًا بين قسمين:
أحدهما: من كان له قلب.
(1)
«فهذا في غاية الفساد» ليست في (ت، ح، ن).
والثاني: من ألقى السمعَ وحَضَرَ بقلبه ولم يَغِب، فهو حاضرُ القلب شاهِدُه لا غائبُه.
وهذا ــ والله أعلم ــ سرُّ الإتيان بـ {أَوْ} دون الواو؛ لأنَّ المنتفِعَ بالآيات من الناس نوعان:
أحدهما: ذو القلب الواعي الزَّكيِّ الذي يكتفي بهدايته بأدنى تنبيه، ولا يحتاجُ أن يَسْتَجْلِبَ قلبَه ويُحْضِرَه ويجمعه من مواضع شَتاته، بل قلبُه واعٍ زكيٌّ قابلٌ للهدى غير معرضٍ عنه؛ فهذا لا يحتاجُ إلا إلى وصول الهدى إليه فقط؛ لكمال استعداده وصحَّة فطرته، فإذا جاءه الهدى سارع قلبُه إلى قبوله، كأنه كان مكتوبًا فيه، فهو قد أدركه مجملًا ثمَّ جاء الهدى بتفصيل ما شهدَ قلبُه بصحَّته مجملًا. وهذه حالُ أكمل الخلق استجابةً لدعوة الرسل، كما هي حالُ الصِّدِّيق الأكبر رضي الله عنه.
النوع الثاني: من ليس له هذا الاستعدادُ والقبول؛ فإذا وردَ عليه الهدى أصغى إليه بسمعه، وأحضَرَ قلبَه وجَمَعَ فكرتَه عليه، وعلم صحَّته وحُسْنَه بنظره واستدلاله. وهذه طريقةُ أكثر المستجيبين، ولهم نُوِّعَ ضربُ الأمثال، وإقامةُ الحُجَج، وذِكْرُ المعارضات والأجوبة عنها.
والأوَّلون: هم الذين يُدْعَوْنَ بالحكمة، وهؤلاء: يُدْعَوْنَ بالموعظة الحسنة. فهؤلاء نوعا المُستجيبين.
وأمَّا المعارضون الدافعون للحقِّ
(1)
، فنوعان: نوعٌ يُدْعَوْنَ بالمجادلة بالتي هي أحسن، فإن استجابوا وإلا فالمُجَالَدة؛ فهؤلاء لا بدَّ لهم من جدالٍ
(1)
(ح، ن): «المدعون للحق» .
أو جِلَاد
(1)
.
ومن تأمَّل دعوةَ القرآن وجدها شاملةً لهؤلاء الأقسام، متناولةً لها كلِّها؛ كما قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]؛ فهؤلاء المدعوُّون بالكلام.
وأمَّا أهلُ الجِلَاد، فهم الذين أمر اللهُ بقتالهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدِّينُ كلُّه لله.
وأمَّا من فسَّر الآيةَ بأنَّ المرادَ بـ {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} هو المستغني بفطرته عن علم المنطق، وهو المؤيَّدُ بقوَّةٍ قُدسيَّة ينالُ بها الحدَّ الأوسط بسرعة؛ فهو لكمال فطرته مُسْتَغْنٍ عن مراعاة أوضاع المنطق، والمرادَ بمَنْ {أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} من ليست له هذه القوَّة؛ فهو محتاجٌ إلى تعلُّم المنطق ليوجبَ له مراعاتُه وإصغاؤه إليه أن لا يزيغ في فكره، وفسَّر قولَه:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} أنها القياسُ البرهاني، و {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} القياس الخَطابي، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} القياس الجَدَلي= فهذا ليس من تفاسير الصحابة ولا التابعين ولا أحدٍ من أئمَّة التفسير، بل ولا من تفاسير المسلمين، وهو تحريفٌ لكلام الله تعالى، وحملٌ له على اصطلاح المنطقيَّة المبخوسة الحظِّ من العقل والإيمان
(2)
.
(1)
فالنوع الأول: أهل الجدال. والثاني: أهل الجِلاد. وانظر: «الصواعق المرسلة» (1276)، و «الفروسية» (83، 84)، و «هداية الحيارى» (21).
(2)
ذكر هذا التفسير ابنُ رشد في «فصل المقال» (17)[ونقله ابن عرفة في تفسيره (3/ 56) عن كتاب "الاقتصاد" للغزالي، ولم أجده فيه].
وهذا من جنس تفاسير القرامطة والباطنية وغلاة الإسماعيلية لِمَا يفسِّرونه من القرآن وينزِّلونه على مذاهبهم الباطلة، وكذلك تفسيرُ الجهمية والمعتزلة والرافضة للآيات التي ينزِّلونها على أقوالهم الباطلة
(1)
والقرآن بريءٌ من ذلك كلِّه، منزَّهٌ عن هذه الأباطيل والهذيانات.
وقد ذكرنا بطلانَ ما فسَّر به المنطقيُّون هذه الآية التي نحن فيها والآية الأخرى في موضعٍ آخر من وجوهٍ متعدَّدة، وبيَّنَّا بطلانَه عقلًا وشرعًا ولغةً وعُرفًا، وأنه يتعالى كلامُ الله عن حمله على ذلك
(2)
. وبالله التوفيق.
والمقصودُ بيانُ حرمان العلم من هذه الوجوه الستة:
أحدها: تركُ السؤال.
الثاني: سوءُ الإنصات وعدمُ إلقاء السمع.
الثالث: سوءُ الفهم.
الرابع: عدمُ الحفظ.
الخامس: عدمُ نشره وتعليمه؛ فإنَّ من خَزَنَ علمَه ولم ينشره ولم يعلِّمه ابتلاه الله بنسيانه وذهابه منه؛ جزاءً من جنس عمله، وهذا أمرٌ يشهدُ به الحسُّ والوجود.
(1)
من قوله: «وكذلك تفسير الجهمية» إلى هنا ليس في (ح، ن).
(2)
انظر: «الرد على المنطقيين» (441، 444 - 447، 467 - 469)، و «مجموع الفتاوى» (2/ 42، 44 - 46، 19/ 164).
ولم أجد الموضع الذي أشار إليه المصنف هنا في كتبه، وقد أشار إليه كذلك في «مدارج السالكين» (1/ 446).
السادس: عدمُ العمل به؛ فإنَّ العملَ به يوجبُ تذكُّرَه وتدبُّرَه ومراعاتَه والنظرَ فيه، فإذا أهملَ العملَ به نسيه.
قال بعضُ السلف: «كنا نستعينُ على حفظ العلم بالعمل به»
(1)
.
وقال بعضُ السَّلف أيضًا: «العلم يهتفُ بالعمل، فإن أجابه حَلَّ وإلا ارتحل» .
فالعملُ به من أعظم أسباب حفظه وثباته، وتضييعُ العمل به إضاعةٌ له؛ فما استُدِرَّ العلمُ ولا استُجلِبَ بمثل العمل، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28].
وأما قولُه تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، فليس من هذا الباب، بل هما جملتان مستقلَّتان: طلبيَّة؛ وهي الأمرُ بالتقوى، وخبريَّة؛ وهي قولُه تعالى:{وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ، أي: والله يعلِّمُكم ما تتقون. وليست جوابًا للأمر، ولو أريد بها الجزاءُ لأُتِيَ بها مجزومةً مجرَّدةً عن الواو، فكان يقول:«واتقوا الله يعلِّمْكم» ، أو:«إن تتقوه يعلِّمْكم» ، كما قال:{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، فتدبَّره
(2)
.
الوجه الرابع والأربعون بعد المئة: أنَّ الله سبحانه نفى التسويةَ بين العالِم وغيره، كما نفى التسويةَ بين الخبيث والطيِّب، وبين الأعمى والبصير،
(1)
تقدم تخريجه والذي يليه (ص: 275).
(2)
انظر: «مجموع الفتاوى» (18/ 177)، و «الموافقات» (5/ 283)، و «البرهان» للزركشي (4/ 143).
وبين النُّور والظُّلمة، وبين الظِّلِّ والحَرُور، وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وبين الأبكم العاجز الذي لا يَقْدِرُ على شيءٍ ومن يأمُرُ بالعدل وهو على صراطٍ مستقيم، وبين المؤمنين والكفار، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين في الأرض، وبين المتَّقين والفجَّار.
فهذه عشرةُ مواضع في القرآن
(1)
نفى فيها التسويةَ بين هؤلاء الأصناف، وهذا يدلُّ على أنَّ منزلة العالِم من الجاهل كمنزلة النُّور من الظُّلمة، والظِّلِّ من الحَرُور، والطيِّب من الخبيث، ومنزلة كلِّ واحدٍ من هذه الأصناف مع مُقابِله.
وهذا كافٍ في شرف العلم وأهله.
بل إذا تأمَّلتَ هذه الأصنافَ كلَّها وجدتَ نفيَ التسوية بينها راجعًا إلى العلم ومُوجَبه؛ فبه وقع التفضيلُ
(2)
وانتفت المساواة.
الوجه الخامس والأربعون بعد المئة: أنَّ سليمان لما تواعَد
(3)
الهدهدَ بأن يعذِّبه عذابًا شديدًا أو يذبحه، إنما نجا منه بالعلم، وأقْدَمَ عليه في خطابه
(1)
وهي ــ على التوالي ــ: الزمر: 9، المائدة: 100، فاطر: 19، 20، 21، الحشر: 20، النحل: 76، السجدة: 18، ص:28.
(2)
(ح، ن): «التفصيل» .
(3)
(ق، ح، ن): «توعد» . والمثبت من (د، ت). أي: تهدَّده. وهي لغةٌ فصيحةٌ أخلَّت بها المعاجم، ووردت كثيرًا في كلام الصدر الأول فمن بعدهم. انظر:«موطأ مالك» (1009)، و «مصنف عبد الرزاق» (10788، 17103)، و «أخبار مكة» للفاكهي (1659، 2162)، و «سنن البيهقي» (7/ 209)، و «عون المعبود» (3/ 99 - الطبعة الهندية)، وغيرها. وكذلك وقعت بخط المصنف في «طريق الهجرتين» (630).
له بقوله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22]، وهذا الخطابُ إنما جرَّأه عليه العلم، وإلا فالهدهدُ مع ضعفه لا يتمكَّنُ في خطابه لسليمان مع قوَّته بمثل هذا الخطاب لولا سلطانُ العلم.
ومن هذا الحكايةُ المشهورة أنَّ بعض أهل العلم سئل عن مسألة، فقال: لا أعلمُها، فقال أحدُ تلامذته: أنا أعلمُ هذه المسألة، فغضبَ الأستاذُ وهَمَّ به، فقال له: أيها الأستاذ، لستَ أعلمَ من سليمان بن داود ولو بلغتَ في العلم ما بلغت، ولستُ أنا أجهلَ من الهدهد، وقد قال لسليمان:{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} ؛ فلم يعتب عليه ولم يعنِّفه
(1)
.
الوجه السادس والأربعون بعد المئة: أنَّ من نال شيئًا من شرف الدنيا والآخرة فإنما ناله بالعلم.
وتأمَّل ما حصلَ لآدم من تمييزه
(2)
على الملائكة واعترافهم له بتعليم الله له الأسماءَ كلَّها، ثمَّ ما حصلَ له من تدارك المصيبة والتعويض عن سكنى الجنة بما هو خيرٌ له منها= بعلم الكلمات التي تلقَّاها من ربِّه.
وما حصلَ ليوسف من التمكين في الأرض والعزَّة والعظمة بعلمه بعبارة تلك الرُّؤيا، ثمَّ عِلْمه بوجوه استخراج أخيه من إخوته بما يقرُّون به ويحكمون هم به، حتى آل الأمرُ إلى ما آل إليه من العزِّ والعاقبة الحميدة وكمال الحال التي توصَّل إليها بالعلم، كما أشار إليه سبحانه في قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ
(1)
انظر: «البصائر والذخائر» (5/ 134)، و «ثمار القلوب» (2/ 706).
(2)
(د، ت، ح، ن): «تميزه» .
كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، جاء في تفسيرها:«نرفعُ درجاتِ من نشاءُ بالعلم، كما رفعنا درجةَ يوسف على إخوته بالعلم»
(1)
.
وقال في إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83]؛ فهذه رفعةٌ بعلم الحجَّة، والأولُ رفعةٌ بعلم السِّياسة.
وكذلك ما حصلَ للخَضِر بسبب علمه من تَلْمَذَةِ كليم الرحمن له
(2)
، وتلطُّفه معه في السؤال، حتى قال:{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66].
وكذلك ما حصلَ لسليمان من عِلْم منطق الطَّير حتى وصلَ إلى مُلْك سبأ، وقَهَرَ مَلِكتَهم، واحتوى على سرير مُلْكها، ودخولِها
(3)
تحت طاعته، ولذلك قال:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16].
وكذلك ما حصلَ لداود من عِلْم نَسْج الدُّروع من الوقاية من سلاح الأعداء، وعدَّدَ سبحانه هذه النِّعمة بهذا العلم على عباده
(4)
، فقال:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80].
(1)
انظر: «الدر المنثور» (4/ 27)، و «فتح القدير» (3/ 43).
(2)
(ت، ح، ن): «تلميذه كليم الرحمن له» .
(3)
(ن): «وأدخلها» . وفي (د، ت، ق): «ودخولهم» . وهي محتملة.
(4)
أي: أحصاها وعرَّفهم قدرها. واستعمال (عدَّد) للمفرد في مثل هذا السياق يقع في كتب المصنف. انظر: «الصواعق المرسلة» (776).
وكذلك ما حصلَ للمسيح من علم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ما رفعه اللهُ به إليه وفضَّله وكرَّمه.
وكذلك ما حصلَ لسيِّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم من العلم الذي ذكَّره
(1)
اللهُ به نعمَه عليه
(2)
؛ فقال: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].
الوجه السابعُ والأربعون بعد المئة: أنَّ الله سبحانه أثنى على إبراهيم خليله بقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ} [النحل: 120 - 121].
فهذه أربعةُ أنواعٍ من الثناء:
افتتحها بأنه أمَّة. والأمَّةُ هو القدوة الذي يُؤتمُّ به؛ قال ابن مسعود: «والأمَّةُ المعلِّم للخير»
(3)
، وهي فُعْلةٌ من الائتمام، كقُدوة، وهو الذي يقتدى به.
والفرقُ بين الأمَّة والإمام من وجهين:
أحدهما: أنَّ «الإمام» كلُّ ما يؤتمُّ به، سواءٌ كان بقصده وشعوره أو لا، ومنه سمِّي الطريقُ: إمامًا، كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)
(1)
(ت): «وكذلك ما حصل لسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم الذي ذكر» .
(2)
(ق): «نعمة عليه» .
(3)
علَّقه البخاري في «الصحيح» (5/ 223)، ووصله الطبراني في «الكبير» (10/ 59)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 230)، وغيرهم من طرق. وصححه الحاكم في «المستدرك» (3/ 272)، وابن حجر في «تغليق التعليق» (4/ 238).
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 78 - 79]، أي: بطريقٍ واضحٍ لا يخفى على السالك. ولا يسمَّى الطريقُ: أمَّة.
الثاني: أنَّ «الأمَّة» فيه زيادةُ معنى؛ وهو الذي جمع صفات الكمال من العلم والعمل بحيث بقي فيها فردًا وحده، فهو الجامعُ لخصالٍ تفرَّقت في غيره، فكأنه بايَنَ غيره باجتماعها فيه وتفرُّقها أو عدمها في غيره.
ولفظُ «الأمَّة» يُشْعِرُ بهذا المعنى؛ لِمَا فيه من الميم المُضعَّفة الدَّالَّة على الضمِّ بمخرجها وتكريرها، وكذلك ضَمُّ أوله؛ فإنَّ الضَّمة من الواو، ومخرجُها ينضمُّ عند النطق بها، وأتى بالتاء الدَّالَّة على الوَحْدَة كالغُرفة واللُّقمة، ومنه الحديث:«إنَّ زيد بن عمرو بن نفيلٍ يُبعثُ يوم القيامة أمَّةً وحده»
(1)
.
فالضمُّ والاجتماعُ لازمٌ لمعنى «الأمَّة» ، ومنه سمِّيت «الأمَّة» التي هي آحادُ الأمم؛ لأنهم الناسُ المجتمعون على دينٍ واحدٍ أو في عصرٍ واحد
(2)
.
الثاني: قوله: {قَانِتًا لِلَّهِ} ، قال ابن مسعود:«القانت المطيع»
(3)
. والقنوتُ يفسَّر بأشياء كلها ترجعُ إلى دوام الطاعة.
(1)
رُوِي من وجوهٍ كثيرة. من أحسنها ما أخرجه أبو يعلى في «المسند» (973)، وحسنه الهيثمي في «المجمع» (9/ 417) عن سعيد بن زيد رضي الله عنه.
وانظر: مسانيد أحمد (1/ 189)، والبزار (1331)، والطيالسي (231)، و «البداية والنهاية» (3/ 326).
(2)
(ق، د): «على دين واحد وفي عصر واحد أو على دين واحد» .
(3)
جزءٌ من الأثر السابق في تفسير «الأمة» .
الثالث: قوله: {حَنِيفًا} ، والحنيفُ المُقْبِلُ على الله. ويلزمُ هذا المعنى ميلُه عمَّا سواه، فالمَيْلُ لازمُ معنى الحَنَف، لا أنه موضوعُه لغةً
(1)
.
الرابع: قولُه: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} ، والشكرُ للنِّعم مبنيٌّ على ثلاثة أركان:
* الإقرارُ بالنعمة.
* وإضافتُها إلى المُنْعِم بها.
* وصرفُها في مرضاته، والعملُ فيها بما يُحِبُّ.
فلا يكونُ العبدُ شاكرًا إلا بهذه الأشياء الثلاثة
(2)
.
والمقصودُ أنه مدح خليلَه بأربع صفاتٍ كلها ترجعُ إلى العلم، والعمل بمُوجَبه، وتعليمه ونشره؛ فعاد الكمالُ كلُّه إلى العلم والعمل بمُوجَبه ودعوة الخلق إليه.
الوجه الثامن والأربعون بعد المئة: قولُه سبحانه عن المسيح أنه قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 30 - 31].
قال سفيانُ بن عيينة: «{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} قال: معلِّمًا للخير»
(3)
.
(1)
انظر: «جلاء الأفهام» (306).
(2)
انظر: «مدارج السالكين» (2/ 254)، و «الوابل الصيب» (5، 6).
(3)
أخرجه الطبري (18/ 191).
وهذا يدلُّ على أنَّ تعليمَ الرجل الخيرَ هو البركةُ التي جعلها اللهُ فيه
(1)
؛ فإنَّ البركة حصولُ الخير ونماؤه ودوامه. وهذا في الحقيقة ليس إلا في العلم الموروث عن الأنبياء، وتعليمه.
ولهذا يسمِّي سبحانه كتابَه: مباركًا، كما قال تعالى:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]، وقال:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29]، ووصف رسولَه بأنه مبارك، كما في قول المسيح:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31]؛ فبركةُ كتابه ورسوله هي سببُ ما يحصلُ بهما
(2)
من العلم والهدى والدعوة إلى الله.
الوجه التاسع والأربعون بعد المئة: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتَفعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له» ، رواه مسلم في «الصحيح»
(3)
.
وهذا من أعظم الأدلة على شرف العلم وفضله وعِظَم ثمرته؛ فإنَّ ثوابَه يصلُ إلى الرجل بعد موته ما دام يُنتَفعُ به، فكأنه حيٌّ لم ينقطع عملُه، مع ما له من حياة الذِّكر والثناء؛ فجريانُ أجره عليه إذا انقطع عن الناس ثوابُ أعمالهم حياةٌ ثانية.
وخصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء الثلاثة بوصول الثواب منها إلى الميِّت
(1)
انظر: «الوابل الصيب» (99، 177)، و «جلاء الأفهام» (179)، و «رسالة ابن القيم إلى بعض إخوانه» (3).
(2)
(ح): «هي بسبب ما يحصل بهما» .
(3)
(1631).
لأنه سببٌ لحصولها، والعبدُ إذا باشر السببَ الذي يتعلَّقُ به الأمرُ والنهيُ ترتَّب
(1)
عليه مسبَّبه وإن كان خارجًا عن سعيه وكسبه؛ فلما كان هو السببَ في حصول هذا الولد الصالح والصدقة الجارية والعلم النافع جرى عليه ثوابُه وأجرُه لتسبُّبه فيه؛ فالعبدُ إنما يثابُ على ما باشَره أو على ما تولَّد منه
(2)
.
وقد ذكر تعالى هذين الأصلَيْن في كتابه في سورة براءة، فقال:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ؛ فهذه الأمورُ كلُّها متولِّداتٌ عن أفعالهم، غير مقدورةٍ لهم، وإنما المقدورُ لهم أسبابُها التي باشروها.
ثمَّ قال: {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ؛ فالنفقةُ وقَطْعُ الوادي أفعالٌ مقدورةٌ لهم.
وقال في القسم الأول: {كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} ؛ لأن المتولِّدَ حاصلٌ عن شيئين: أفعالهم وغيرها، فليست أفعالُهم سببًا مستقلًّا في حصول المتولِّد، بل هي جزءٌ من أجزاء السبب، فيُكتَبُ لهم من ذلك ما كان مقابلًا لأفعالهم.
وأيضًا؛ فإنَّ الظَّمأ والنَّصَب وغَيْظَ العدوِّ ليس من أفعالهم، فلا يُكتَبُ
لهم نفسُه، ولكن لمَّا تولَّد عن أفعالهم كُتِبَ لهم به عملٌ صالح.
وأما القسمُ الآخر، وهو الأفعالُ المقدورةُ نفسُها، كالإنفاق وقَطْع الوادي، فهو عملٌ صالح، فيكتبُ
(1)
لهم نفسُه؛ إذ هو مقدورٌ لهم حاصلٌ بإرادتهم وقدرتهم.
فعاد الثوابُ إلى الأسباب المقدورة والمتولِّد عنها، وبالله التوفيق.
الوجه الخمسون بعد المئة: ما ذكره ابن عبد البر
(2)
عن عبد الله بن داود
(3)
قال ابن عبد البر: وزاد غيرُه في هذا الخبر: «إنَّ الله يحبِسُ العلماء يوم القيامة في زُمرةٍ واحدة حتى يقضي بين الناس ويدخلَ أهلُ الجنة الجنةَ وأهلُ النار النار، ثم يدعو العلماء فيقول: يا معشر العلماء، إني لم أضع حكمتي فيكم وأنا أريدُ أن أعذِّبكم، قد علمتُ أنكم تَخْلِطون من المعاصي ما يَخْلِطُ غيرُكم، فسترتُها عليكم وغفرتُها لكم، وإنما كنتُ أُعْبَدُ بفُتْياكم وتعليمكم عبادي، ادخلوا الجنةَ بغير حساب» . ثمَّ قال: «لا معطي لما منع اللهُ ولا مانع لما أعطى» .
قال: ورُوِي نحو هذا المعنى بإسنادٍ متصلٍ مرفوع
(4)
.
(1)
(ت، ق): «فكتب» .
(2)
في «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 214).
(3)
الخُرَيبي الهمداني، الحافظ الزاهد (ت: 213). «السير» (9/ 346).
(4)
ثم ذكر حديث أبي موسى الأشعري، وتقدم تخريجُه وبيانُ ضعفه (ص: 343).
وقد روى حرب الكرماني في «مسائله» نحوه مرفوعًا
(1)
.
وقال إبراهيم: بلغني أنه إذا كان يومُ القيامة توضعُ حسناتُ الرَّجُل في كفَّةٍ وسيئاتُه في الكفَّة الأخرى، فتَشِيلُ حسناتُه
(2)
، فإذا يئس فظنَّ أنها النارُ جاء شيءٌ مثلُ السحاب حتى يقعَ مع حسناته، فتَشِيلُ سيئاتُه. قال: فيقال له: أتعرفُ هذا مِنْ عملك؟ فيقول: لا. فيقال: هذا ما علَّمتَ الناس من الخير فَعُمِلَ به من بعدك
(3)
.
فإن قيل: فقواعدُ الشرع تقتضي أن يُسامَحَ الجاهلُ بما لا يُسامَحُ به العالِم، وأنه يُغْفَرُ له ما لا يُغْفَرُ للعالِم؛ فإنَّ حُجَّةَ الله عليه أقْومُ منها على الجاهل، وعلمُه بقُبْح المعصية وبُغْض الله لها وعقوبته عليها أعظمُ من علم الجاهل، ونعمةُ الله عليه بما أودعه من العلم أعظمُ من نعمته على الجاهل.
وقد دلَّت الشريعةُ وحكمُ الله على أنَّ من حُبِيَ بالإنعام، وخُصَّ بالفضل والإكرام، ثمَّ أسامَ نفسَه مع هَمَل الشهوات، فأرتَعَها في مراتع الهَلَكات، وتجرَّأ على انتهاك الحرمات، واستخفَّ بالتَّبِعات والسيئات= أنه يقابلُ من الانتقام والعَتْب بما لا يقابَلُ به من ليس في مرتبته.
وعلى هذا جاء قولُه تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 30].
ولهذا كان حدُّ الحُرِّ ضعفي حدِّ العبد في الزِّنا والقذف وشُرْب الخمر؛
(1)
تقدم (ص: 343).
(2)
أي ترتفع كفَّتها، لخفَّتها.
(3)
أخرجه ابن عبد البر (1/ 209، 211). وإبراهيم هو النخعي.
لكمال النعمة على الحُر.
ومما يدلُّ على هذا الحديثُ المشهورُ الذي ثبَّته أبو نعيمٍ وغيرُه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة عالِمٌ لم ينفعه الله بعلمه»
(1)
.
وقال بعضُ السَّلف: «يُغفَرُ للجاهل سبعون ذنبًا قبل أن يُغفَرَ للعالِم ذنب»
(2)
.
وقال بعضُهم أيضًا: «إنَّ الله يعافي الجهَّال ما لا يعافي العلماء»
(3)
.
فالجواب: أنَّ هذا الذي ذكرتموه حقٌّ لا ريب فيه، ولكنَّ من قواعد الشرع والحكمة أيضًا أنَّ من كَثُرَت حسناتُه وعَظُمَت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهر، فإنه يُحْتَمَلُ له ما لا يُحْتَمَلُ لغيره، ويُعفى عنه ما لا يُعفى عن غيره؛ فإنَّ المعصية خَبَث، والماءُ إذا بلغ قلَّتين لم يحمل الخَبَث
(4)
، بخلاف الماء القليل فإنه يَحْمِلُ أدنى خَبَثٍ يقعُ فيه.
(1)
تقدم تخريجه وبيانُ ضعفه (ص: 319).
(2)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (8/ 100)، والبيهقي في «المدخل» (563) عن الفضيل بن عياض.
(3)
أخرجه الرامهرمزي في «المحدث الفاصل» (605)، والخطيب في «اقتضاء العلم العمل» (80)، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 222)، والبيهقي في «المدخل» (565)، والضياء في «المختارة» (1609)، وغيرهم من حديث أنس بن مالك مرفوعًا.
قال عبد الله بن أحمد - في رواية أبي نعيم والبيهقي والضياء -: «قال أبي: هو حديثٌ منكر. ما حدَّثني به إلا مَرَّة» .
(4)
كما في الحديث المشهور الذي أخرجه أصحاب السنن، وفي سنده خلافٌ كثير، والأشبهُ صحته مرفوعًا، وعليه جمهور المحدثين. انظر:«البدر المنير» (1/ 404)، و «الإحسان» للحويني (2/ 13). وللعلائي جزءٌ في تصحيحه والكلام عليه.
ومن هذا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعمر: «وما يدريك لعلَّ الله اطلعَ على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم»
(1)
.
وهذا هو المانعُ له صلى الله عليه وسلم من قتل من جَسَّ عليه وعلى المسلمين وارتكبَ مثل ذلك الذَّنب العظيم
(2)
، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهدَ بدرًا؛ فدلَّ على أنَّ مقتضي عقوبته قائمٌ لكنْ منع من ترتُّب أثره
(3)
عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السَّقْطةُ العظيمةُ مغتفرةً في جنب ما له من الحسنات
(4)
.
ولمَّا حضَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فأخرج عثمانُ رضي الله عنه تلك الصدقة العظيمة، قال:«ما ضرَّ عثمانَ ما عَمِل بعدها»
(5)
.
وقال لطلحة لمَّا تطأطأ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم حتى صعدَ على ظهره إلى الصخرة: «أَوْجَبَ طلحة»
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري (3007)، ومسلم (2494) من حديث علي.
(2)
انظر: «بدائع الفوائد» (1536)، و «زاد المعاد» (3/ 115، 422، 426، 427).
(3)
(ت): «من ترتبه» .
(4)
(ق، د، ت): «الصدقات» .
(5)
أخرجه الترمذي (3701)، وأحمد (5/ 63)، وابن أبي عاصم في «السنة» (2/ 587)، وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن سمرة.
قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه» ، وصححه الحاكم (3/ 102) ولم يتعقبه الذهبي.
ورُوِي من وجوهٍ أخرى تزيدُه قوَّة.
(6)
أخرجه الترمذي (3738)، وأحمد (1/ 165)، والبزار (972)، وغيرهما من حديث الزبير بن العوام.
قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريب» ، وصححه ابن حبان (6979)، والحاكم (3/ 373) ولم يتعقبه الذهبي.
وهذا موسى كليمُ الرحمن عز وجل: ألقى الألواحَ التي فيها كلامُ الله الذي كتبه له، ألقاها على الأرض
(1)
حتى تكسَّرت، ولَطَمَ عينَ ملَك الموت ففَقأها
(2)
، وعاتبَ ربَّه ليلة الإسراء في النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال:«شابٌّ بُعِثَ بعدي يدخلُ الجنةَ من أمَّته أكثرُ ممن يدخلُها من أمَّتي»
(3)
، وأخذَ بلحية هارون وجَرَّه إليه
(4)
وهو نبيُّ الله، وكلُّ هذا لم يُنْقِص من قَدْرِه شيئًا عند ربِّه، وربُّه تعالى يُكْرِمُه ويحبُّه؛ فإنَّ الأمرَ الذي قام به موسى، والعدوَّ الذي بَرَز له، والصبرَ الذي صَبَره، والأذى الذي أُوذِيَه في الله= أمرٌ لا تؤثِّرُ [فيه] أمثالُ هذه الأمور، ولا يُغَبَّرُ به في وجهه
(5)
، ولا يخفضُ منزلتَه
(6)
.
وهذا أمرٌ معلومٌ عند الناس مستقرٌّ في فِطَرهم: أنَّ من له ألوفٌ من الحسنات فإنه يُسامَحُ بالسيئة والسيئتين ونحوها، حتى إنه ليَخْتَلِجُ داعي عقوبته على إساءته، وداعي شكره على إحسانه، فيغلبُ داعي الشكر لداعي
(1)
كما في سورة الأعراف: 150.
(2)
أخرجه البخاري (1334)، ومسلم (2372).
(3)
أخرجه البخاري (3207)، ومسلم (164).
(4)
كما في سورة طه: 94.
(5)
«به» ليست في (ت، ح، ن)، فيكون الفعل للمعلوم، أي: لا يعيبه ولا ينقص من قدره. كما قال البديع في «المقامات» (123): «غبَّر في وجهه الفقر» ، أي: أثَّر فيه. ويجوز أن يكون من قولهم: «غبَّر في وجه فلان» إذا سبقه. «الأساس» و «التاج» (غبر). أي: أن هذا الأمر ليس مما يؤخِّر رتبة موسى ومنزلته من ربه.
(6)
انظر: «الرد على البكري» (2/ 718)، و «مدارج السالكين» (2/ 456)، وما سيأتي (ص: 851).
العقوبة، كما قيل:
وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ
…
جاءت محاسنُه بألفِ شفيع
(1)
وقال آخر
(2)
:
فإنْ يكنِ الفعلُ الذي ساءَ واحدًا
…
فأفعالُه اللَّائي سَرَرْنَ كثيرُ
والله سبحانه يوازنُ يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته فأيهما غَلَبَ كان التأثيرُ له، فيَفعَلُ مع أهل
(3)
الحسنات الكثيرة الذين آثروا محابَّه ومَراضِيه وغلَبَتْهم دواعي طبعهم أحيانًا من العفو والمسامحة ما لا يفعلُه مع غيرهم.
وأيضًا؛ فإنَّ العالمَ إذا زلَّ فإنه يُحْسِنُ إسراعَ الفيئة
(4)
وتداركَ الفارِط ومداواةَ الجرح، فهو كالطبيب الحاذق البصير بالمرض وأسبابه وعلاجه، فإنَّ زوالَه على يده أسرعُ من زواله على يد الجاهل.
وأيضًا؛ فإنَّ معه من معرفته بأمر الله، وتصديقه بوعده ووعيده، وخشيته
(1)
كثير الورود في المصادر دون نسبة، وأقدمها:«لطائف الإشارات» للقشيري (ت: 465)(1/ 34)، وضمَّنه أبو البركات التكريتي (ت: 599) في أبيات، في ترجمته من «المستفاد من ذيل تاريخ بغداد» (7).
(2)
وهو المتنبي في ديوانه (241) من أبياتٍ فائيةٍ رقيقة. والروايةُ فيه وفي جمهرة المصادر: «ألوف» .
(3)
(ن، ح): «بأهل» .
(4)
كُتِبَ في (ق) بخطٍّ دقيق بين السطرين ــ تفسيرًا للكلمة ــ: «الرجوع» .
منه، وإزرائه على نفسه بارتكابه
(1)
، وإيمانه
(2)
بأنَّ الله حرَّمه، وأنَّ له ربًّا يغفرُ الذنبَ ويأخذُ به، إلى غير ذلك من الأمور المحبوبة للربِّ= ما يَغْمُرُ الذنب، ويُضْعِفُ اقتضاءه، ويزيلُ أثرَه، بخلاف الجاهل بذلك أو أكثره، فإنه ليس معه إلا ظلمةُ الخطيئة وقُبْحُها وآثارُها المُرْدِية، فلا سواءٌ
(3)
هذا وهذا.
وهذا فصلُ الخطاب في هذا الموضع، وبه يتبيَّنُ أنَّ الأمرين حق، وأنه لا منافاة بينهما، وأنَّ كلَّ واحدٍ من العالم والجاهل إنما زاد قبحُ الذنب منه على الآخر بسبب جهله، وتجرُّد خطيئته عمَّا يقاومها، ويُضْعِفُ تأثيرَها، ويزيلُ أثرها؛ فعاد القبحُ في الموضعين إلى الجهل وما يستلزمُه، وقلَّتُه وضعفُه إلى العلم وما يستلزمُه؛ وهذا دليلٌ ظاهرٌ على شرف العلم وفضله، وبالله التوفيق.
الوجه الحادي والخمسون بعد المئة: أن العالِم المشتغلَ بالعلم والتعليم لا يزالُ في عبادة، فنفسُ تعلُّمه وتعليمه عبادة.
قال ابن مسعود: «لا يزالُ الفقيهُ يصلِّي» . قالوا: وكيف يصلي؟ قال: «ذِكرُ الله على قلبه ولسانه» . ذكره ابنُ عبد البر
(4)
.
وفي حديث معاذٍ مرفوعًا وموقوفًا: «تعلَّموا العلم؛ فإنَّ تعلُّمَه لله خشية، وطلبَه عبادة، ومذاكرتَه تسبيح» ، وقد تقدَّم
(5)
، والصوابُ أنه موقوف.
(1)
أي: الذنب.
(2)
(ت): «وعلمه» .
(3)
كذا في الأصول، وهو فصيح. وغيِّرت في (ط) إلى:«فلا يستوي» .
(4)
في «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 233) معلَّقًا.
(5)
(ص: 337).
وذكر ابنُ عبد البر
(1)
عن معاذٍ مرفوعًا: «لأنْ تَغدُو فتتعلَّمَ بابًا من أبواب العلم خيرٌ لك من أن تصلِّي مئة ركعة» ، وهذا لا يثبتُ رفعُه.
وقال ابنُ وهب: كنتُ عند مالك بن أنس، فحانت صلاةُ الظُّهر أو العصر وأنا أقرأ عليه وأنظرُ في العلم بين يديه، فجمعتُ كتبي وقمتُ لأركع، فقال لي مالك: ما هذا؟ فقلت: أقومُ إلى الصلاة، فقال: إنَّ هذا لعجب! ما الذي قمتَ إليه أفضلَ من الذي كنتَ فيه إذا صحَّت في النيَّة
(2)
.
وقال الربيع: سمعتُ الشافعيَّ يقول: «طلبُ العلم أفضلُ من الصلاة النافلة»
(3)
.
وقال سفيانُ الثوري: «ما مِنْ عملٍ أفضلُ من طلب العلم إذا صحَّت فيه النيَّة» .
وقال رجلٌ للمعافى بن عمران
(4)
: أيما أحبُّ إليك؛ أقومُ أصلِّي الليلَ كلَّه أو أكتبُ الحديث؟ فقال: «حديثٌ تكتبه أحبُّ إليَّ من قيامك من أول الليل إلى آخره»
(5)
.
(1)
في «الجامع» (1/ 120)، وابن ماجه (219)، وابن شاهين في «شرح مذاهب أهل السنة» (54) ــ كلُّهم عن أبي ذر، ولم أجده عن معاذ ــ بإسنادٍ فيه ضعف. وضعَّفه العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 16).
(2)
تقدم الكلام عليه (ص: 334).
(3)
تقدم تخريج قول الشافعي والثوري (ص: 332).
(4)
أبو مسعود الأزدي، الحافظ، ياقوتة العلماء، من أئمة العلم والعمل (ت: 185). انظر: «السير» (9/ 80).
(5)
أخرجه ابن شاهين في «شرح مذاهب أهل السنة» (26)، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (184)، وغيرهما.
وقال أيضًا: «كتابةُ حديثٍ واحدٍ أحبُّ إليَّ من قيام ليلة»
(1)
.
وقال ابن عباس: «تذاكرُ العلم بعض ليلةٍ أحبُّ إليَّ من إحيائها»
(2)
.
(3)
: قلتُ لأحمد بن حنبل: قولُه: «تذاكرُ بعض ليلةٍ أحبُّ إليَّ من إحيائها» ، أيَّ علمٍ أراد؟ قال: هو العلمُ الذي ينتفعُ به الناسُ في أمر دينهم. قلت: في الوضوء والصلاة والصوم والحجِّ والطلاق ونحو هذا؟ قال: نعم.
قال إسحاق: وقال لي إسحاق بن راهويه: هو كما قال أحمد.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «لأنْ أجْلِسَ ساعةً فأفْقَهَ في ديني أحبُّ إليَّ من إحياء ليلةٍ إلى الصباح»
(4)
.
وذكر ابنُ عبد البر
(5)
من حديث أبي هريرة يرفعُه: «لكلِّ شيءٍ عِماد، وعِمادُ هذا الدِّين الفقه، وما عبد اللهُ بشيءٍ أفضل من فقهٍ في الدِّين» الحديث، وقد تقدم.
وقال محمد بن علي الباقر: «عالمٌ يُنْتفَعُ بعلمه أفضلُ من ألف عابد»
(6)
.
(1)
أخرجه ابن عبد البر في «الجامع» (1/ 120).
(2)
تقدم تخريجه (ص: 339).
(3)
(3309، 3310)، وتقدم طرفٌ منه (ص: 339).
(4)
تقدم تخريجه (ص: 186).
(5)
في «الجامع» (1/ 127) معلَّقًا. وتقدم تخريجه (ص: 186).
(6)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (3/ 183)، وعلَّقه ابن عبد البر في «الجامع» (1/ 131).
وقال أيضًا: «روايةُ الحديث وبثُّه في الناس أفضلُ من عبادة ألف عابد»
(1)
.
ولمَّا كان طلبُ العلم والبحثُ عنه وكتابتُه والتفتيشُ عليه من عمل القلب والجوارح كان من أفضل الأعمال، ومنزلتُه من عمل الجوارح كمنزلة أعمال القلب من الإخلاص والتوكُّل والمحبة والإنابة والخشية والرِّضا ونحوها من الأعمال الظاهرة.
فإن قيل: فالعلمُ إنما هو وسيلةٌ إلى العمل ومرادٌ له، والعملُ هو الغاية، ومعلومٌ أنَّ الغايةَ أشرفُ من الوسيلة، فكيف تُفَضَّلُ الوسائلُ على غاياتها؟
قيل: كلٌّ من العلم والعمل ينقسمُ قسمين: منه ما يكونُ وسيلة، ومنه ما يكونُ غاية.
فليس العلمُ كلُّه وسيلةً مرادةً لغيرها؛ فإنَّ العلمَ بالله وأسمائه وصفاته هو أشرفُ العلوم على الإطلاق، وهو مطلوبٌ لنفسه مرادٌ لذاته.
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]؛ فقد أخبر سبحانه أنه خلقَ السموات والأرض ونزَّل الأمرَ بينهنَّ ليَعْلَم عبادُه أنه بكلِّ شيءٍ عليم، وعلى كلِّ شيءٍ قدير؛ فهذا العلمُ هو غايةُ الخلق المطلوبة.
وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمَّد: 19]؛ فالعلمُ بوحدانيَّته تعالى وأنه لا إله إلا هو مطلوبٌ لذاته، وإن كان لا يُكتفى به وحده، بل لا بدَّ معه من عبادته وحده لا شريك له؛ فهما أمران مطلوبان لأنفسهما: أن يُعْرَفَ
(1)
علَّقه ابن عبد البر في «الجامع» (1/ 132) عن جعفر بن محمد.
الربُّ تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، وأن يُعْبَد بمُوجَبها ومقتضاها؛ فكما أنَّ عبادتَه مطلوبةٌ مرادةٌ لذاتها، فكذلك العلمُ به ومعرفتُه.
وأيضًا؛ فإنَّ العلمَ من أفضل أنواع العبادات ــ كما تقدَّم تقريره ــ؛ فهو متضمِّنٌ للغاية والوسيلة.
وقولُكم: «إنَّ العمل غاية» ، إمَّا أن تريدوا به العملَ الذي يدخلُ فيه عملُ القلب والجوارح، أو العملَ المختصَّ بالجوارح فقط.
فإن أريدَ الأول، فهو حق، وهو يدلُّ على أنَّ العلمَ غايةٌ مطلوبة؛ لأنه من أعمال القلب ــ كما تقدم ــ.
وإن أريدَ به الثاني ــ وهو عملُ الجوارح فقط ــ، فليس بصحيح؛ فإنَّ أعمالَ القلوب مقصودةٌ ومرادةٌ لذاتها، بل في الحقيقة أعمالُ الجوارح وسيلةٌ مرادةٌ لغيرها؛ فإنَّ الثوابَ والعقابَ والمدحَ والذمَّ وتوابعَها هو للقلب أصلًا وللجوارح تبعًا، وكذلك الأعمالُ المقصودُ بها أوَّلًا صلاحُ القلب واستقامتُه وعبوديتُه لربِّه ومليكه، وجُعِلَت أعمالُ الجوارح تابعةً لهذا المقصود مرادةً له، وإن كان كثيرًا
(1)
منها يرادُ
(2)
لأجل المصلحة المترتِّبة عليه، فمن أجلِّها: صلاحُ القلب وزكاؤه وطهارتُه واستقامتُه.
فعُلِمَ أنَّ الأعمال منها غايةٌ ومنها وسيلة، وأنَّ العلمَ كذلك.
وأيضًا؛ فالعلمُ الذي هو وسيلةٌ إلى العمل فقط إذا تجرَّدَ عن العمل لم ينتفع به صاحبُه؛ فالعملُ أشرفُ منه.
(1)
كذا في الأصول، بالنصب.
(2)
(ن): «مرادا» .
وأما العلمُ المقصودُ الذي تنشأ ثمرتُه المطلوبةُ منه من نفسه فهذا لا يقال: إنَّ العمل المجرَّد أشرفُ منه.
فكيف يكونُ مجرَّدُ العبادة البدنيَّة أفضلَ من العلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكامه في خلقه وأمره، ومن العلم بأعمال القلوب، وآفاتِ النفوس، والطرقِ التي تُفسِدُ الأعمالَ وتمنعُ وصولها من القلب إلى الله، والمسافاتِ التي بين الأعمال والقلب وبين القلب والربِّ تعالى وبم تُقْطَعُ تلك المسافات، إلى غير ذلك من علم الإيمان وما يقوِّيه وما يُضْعِفُه؟!
فكيف يقال: إنَّ مجرَّد التعبُّد الظاهر بالجوارح أفضلُ من هذا العلم؟! بل من قام بالأمرين فهو أكمل، وإذا كان في أحدهما فضلٌ ففضلُ هذا العلم خيرٌ مِنْ فضل العبادة، فإذا كان في العبد فَضْلةٌ عن الواجب كان صرفُها إلى العلم الموروث عن الأنبياء أفضلَ من صرفها إلى مجرَّد العبادة.
فهذا فصلُ الخطاب في هذه المسألة والله أعلم.
الوجه الثاني والخمسون بعد المئة: ما رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الدنيا لأربعة نفر:
* عبد رزقه الله مالًا وعلمًا، فهو يتقي
(1)
في ماله ربَّه، ويَصِلُ فيه رَحِمَه، ويعلمُ لله فيه حقًّا؛ فهذا بأحسن المنازل عند الله.
* ورجلٍ آتاه اللهُ علمًا ولم يُؤْتِه مالًا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملتُ بعمل فلان؛ فهو بنيَّته، فهما
(2)
في الأجر سواء.
(1)
(ت): «يبغي» .
(2)
(ن، ح): «وهما» .
* ورجلٍ آتاه اللهُ مالًا ولم يُؤْتِه علمًا، فهو يَخْبِطُ في ماله، ولا يتقي فيه ربَّه، ولا يَصِلُ فيه رَحِمَه، ولا يعلمُ لله فيه حقًّا؛ فهذا بأسوأ المنازل عند الله.
* ورجلٍ لم يُؤْتِه اللهُ مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملتُ فيه بعمل فلان؛ فهو بنيَّته، وهما في الوزر سواء»
(1)
، حديثٌ صحيح؛ صحَّحه الترمذيُّ والحاكمُ وغيرهما.
فقسَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أهلَ الدنيا أربعة أقسام:
* خيرُهم من أوتي علمًا ومالًا؛ فهو محسنٌ إلى الناس وإلى نفسه بعلمه وماله.
* ويليه في المرتبة من أوتي علمًا ولم يُؤتَ مالًا، وإن كان أجرُهما سواءً فذلك إنما كان بالنيَّة، وإلا فالمنفقُ المتصدِّق فوقه بدرجة الإنفاق والصدقة، والعالِمُ الذي لا مال له إنما ساواه في الأجر بالنيَّة الجازمة المقترنِ بها مقدورُها، وهو القولُ المجرَّد.
* الثالث: من أوتي مالًا ولم يَصْرِفه في مصارف الخير
(2)
، ولم يُؤتَ علمًا؛ فهذا أسوأ الناس منزلةً عند الله؛ لأنَّ مالَه طريقٌ إلى هلاكه، فلو عَدِمَه لكان خيرًا له، فإنه أُعطِيَ ما يتزوَّدُ به إلى الجنة فجعله زادًا له إلى النار.
* الرابع: من لم يؤتَ مالًا ولا علمًا، ومِنْ نيَّته أنه لو كان له مالٌ لعمل
(1)
أخرجه أحمد (4/ 230)، والترمذي (2325)، وابن ماجه (4228)، وغيرهم من طرقٍ وقع فيها بعضُ الاختلاف. وقال الترمذي:«هذا حديثٌ حسنٌ صحيح» . ولم أقف عليه في «مستدرك الحاكم» .
(2)
قوله: «ولم يصرفه في مصارف الخير» من (ت).
فيه بمعصية الله؛ فهذا يلي الغنيَّ الجاهل في المرتبة ويساويه في الوِزْر بنيَّته الجازمة المقترن بها مقدورُها، وهو القولُ الذي لم يَقدِر على غيره.
فقسَّم السعداءَ قسمين، وجعل العلمَ والعمل بمُوجَبه سببَ سعادتهما، وقسَّم الأشقياءَ قسمين، وجعل الجهلَ وما يترتَّبُ عليه سببَ شقاوتهما؛ فعادت السعادةُ بجملتها إلى العلم ومُوجَبه، والشقاوةُ بجملتها إلى الجهل وثمرته.
الوجه الثالث والخمسون بعد المئة: ما ثبتَ عن بعض السَّلف أنه قال: «تفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة ستِّين سنة»
(1)
.
وسأل رجلٌ أمَّ الدرداء عن أبي الدرداء ــ بعد موته ــ عن عبادته؟ فقالت: كان نهارَه أجمَع في ناحيةٍ يتفكُّر
(2)
.
(1)
أخرجه أبو الشيخ الأصفهاني في «العظمة» (43)، ــ ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (1627) ــ من حديث أبي هريرة مرفوعًا بإسنادٍ شديد الضعف. وانظر:«السلسة الضعيفة» (173).
وأخرج أبو الشيخ (48) عن عمرو بن قيس الملائي قال: «بلغني أن تفكُّر ساعةٍ خيرٌ من عمل دهرٍ من الدهر» .
(2)
في الأصول: «بادية التفكر» . والكلمة الأولى مهملة في (د، ق). وهو تحريف عن المثبت. وفي «الإحياء» (4/ 424) وهو مصدر المصنف هنا: «في ناحية البيت يتفكر» . وأخرج أبو نعيم في «الحلية» (1/ 164) عن أم ذرٍّ أنها سئلت السؤال نفسه عن أبي ذر؛ فقالت: «كان النهارَ أجمع خاليًا يتفكر» ، وفي مختصره «صفة الصفوة» (1/ 591):«في ناحية يتفكر» .
وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (13/ 703)، وهناد (958)، وابن المبارك (286، 872)، وأحمد (135) جميعُهم في «الزهد» ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 208، 4/ 352)، وأبو الشيخ في «العظمة» (45، 46)، وغيرهم من طرقٍ عن أم الدرداء أنها سئلت: ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ فقالت: «التفكُّر» . زاد بعضُهم: «والاعتبار» .
وقال الحسن: «تفكُّر ساعةٍ خيرٌ من قيام ليلة»
(1)
.
وقال الفُضيل: «التفكُّر مرآةٌ تريك حسناتك وسيِّئاتك»
(2)
.
وقيل لإبراهيم: إنك تطيلُ الفكرة؟ فقال: «الفكرةُ مخُّ العقل»
(3)
.
وكان سفيانُ بن عيينة
(4)
كثيرًا ما يتمثَّل:
إذا المرءُ كانت له فِكرة
…
ففي كلِّ شيءٍ له عِبرة
(5)
وقال الحسنُ في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146]، قال:«أمنعُهم التفكُّرَ فيها»
(6)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (13/ 507)، وأحمد في «الزهد» (272)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 271). وورد كذلك عن أبي الدرداء.
(2)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (8/ 109)، وأبو الشيخ في «العظمة» (13) عن الفضيل عن الحسن البصري.
(3)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (8/ 109) بلفظ: «مخ العمل» . والمذكور هنا لفظ «الإحياء» (4/ 424). وإبراهيم هو ابن أدهم، الإمام الزاهد الثقة (ت: 162). ترجمته في «تاريخ دمشق» (6/ 277)، و «السير» (7/ 387).
(4)
(ح، ن): «سفيان الثوري» . وهو خطأ.
(5)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (7/ 306). والبيت في «المدهش» (368) دون نسبة. وانظر: «البصائر والذخائر» (9/ 80).
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (5/ 1567)، وأبو الشيخ في «العظمة» (11) عن السُّدِّي. وورد نحوه عن ابن عيينة وغيره. وعزو المصنف القول للحسن سهوٌ سببه سياق الكلام في «الإحياء» .
وقال بعض العارفين
(1)
: «لو طالعَت قلوبُ المتقينَ بفِكْرها إلى ما قُدِّرَ
(2)
في حُجُب الغيب من خير الآخرة، لم يَصْفُ لهم في الدنيا عَيْش، ولم تَقَرَّ لهم فيها عين».
وقال الحسن
(3)
: «طولُ الوحدة أتمُّ
(4)
للفكرة، وطولُ الفكرة دليلٌ على طريق الجنة».
وقال وهب
(5)
: «ما طالت فكرةُ أحدٍ قطُّ إلا عَلِمَ، وما عَلِمَ امرؤٌ قطُّ إلا عَمِل»
(6)
.
وقال عمر بن عبد العزيز: «الفكرةُ في نِعَم الله من أعظم
(7)
العبادة»
(8)
.
وقال عبد الله بن المبارك لبعض أصحابه
(9)
، وقد رآه مفكِّرًا: أين
(1)
امرأة كانت تسكن البادية قريبًا من مكة، كما في «إحياء علوم الدين» (4/ 424)، وقال الزبيدي في شرحه (13/ 311):«رواه ابن أبي الدنيا» . ولعله في كتاب «التفكر» ، ولم يعثر عليه بعد.
(2)
«الإحياء» : «قد ادُّخِر لها» .
(3)
كذا في الأصول. وفي «الإحياء» (4/ 425)، و «تفسير ابن كثير» (2/ 825):«لقمان» .
(4)
«الإحياء» : «أفهم» . «تفسير ابن كثير» : «ألهمُ» .
(5)
وهب بن منبِّه الصنعاني؛ تابعيٌّ ثقة، كثير الرواية عن بني إسرائيل (ت: 114). انظر: «السير» (4/ 544).
(6)
أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» (56).
(7)
«الإحياء» ، و «الحلية»:«أفضل» .
(8)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (5/ 314).
(9)
«الإحياء» : «لسهل بن علي» .
بَلَغْت؟ قال: الصِّراط
(1)
.
وقال بِشْر
(2)
: «لو فكَّر الناسُ في عظمة الله ما عصوه»
(3)
.
وقال ابنُ عباس: «ركعتان مقتصدتان في تفكُّرٍ خيرٌ من قيام ليلةٍ بلا قلب»
(4)
.
وقال أبو سليمان
(5)
(6)
.
وقال ابنُ عباس: «التفكُّرُ في الخير يدعو إلى العمل به»
(7)
.
وقال الحسن: «إنَّ أهلَ العلم
(8)
لم يزالوا يعودون بالذِّكر على الفكر وبالفكر على الذِّكر، ويُناطِقونَ القلوب، حتى نَطَقَت
(9)
بالحكمة»
(10)
.
(1)
عزاه الزبيدي في شرحه (13/ 312) إلى «الحلية» ، ولم أره فيه.
(2)
بشر بن الحارث الحافي، الإمام الرباني، العابد الزاهد (ت: 227). انظر: «السير» (10/ 469).
(3)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (8/ 337).
(4)
أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (288، 1147)، ومحمد بن نصر في «قيام الليل» (149 - مختصره)، وأبو الشيخ في «العظمة» (44).
(5)
الداراني، الإمام الزاهد (ت: 215). انظر: «السير» (10/ 182).
(6)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (9/ 278).
(7)
عزاه في شرح الإحياء (13/ 313) إلى «التفكر» لابن أبي الدنيا. وانظر: «البصائر والذخائر» (1/ 221).
(8)
«الإحياء» : «أهل العقل» .
(9)
«الإحياء» : «حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت» .
(10)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (10/ 19)، وابن أبي الدنيا في «التفكر» كما في شرح الإحياء (13/ 313). وبنحوه في «المجالسة» (2672).
ومن كلام الشافعي: «استعينوا على الكلام بالصمت، وعلى الاستنباط بالفكرة»
(1)
.
وهذا
(2)
لأنَّ الفكر عملُ القلب، والعبادةَ عملُ الجوارح، والقلبُ أشرفُ من الجوارح؛ فكان عملُه أشرفَ من عمل الجوارح.
وأيضًا؛ فالتفكُّرُ يُوقِعُ صاحبَه من الإيمان على ما لا يُوقِعُه عليه
(3)
العملُ المجرَّد؛ فإنَّ التفكُّرَ يوجبُ له من انكشاف حقائق الأمور وظهورها له، وتمييزها
(4)
في الخير والشر، ومعرفة مفضولها من فاضلها وأقبحها من قبيحها، ومعرفة أسبابها الموصلة إليها، وما يقاومُ تلك الأسبابَ ويدفعُ مُوجَبَها، والتمييز بين ما ينبغي السعيُ في تحصيله وما ينبغي السعيُ في دفع أسبابه، والفرق بين الوهم والخيال المانع لأكثر النفوس من انتهاز الفُرص بعد إمكانها وبين السبب المانع حقيقةً
(5)
فيشتغلُ به دون الأول، فما قطعَ العبدَ عن كماله وفلاحه وسعادته العاجلة والآجلة قاطعٌ أعظمُ من الوهم الغالب على النفس والخيال الذي هو مَرْكبُها، بل بَحْرُها الذي لا تنفكُّ
(1)
«الإحياء» (4/ 425)، و «صفة الصفوة» (2/ 253). ونسبه الجاحظ في «البيان والتبين» (1/ 327) إلى قسامة بن زهير.
(2)
أي: كون تفكر ساعةٍ خيرًا من عبادة ستين سنة. وهو الوجه الثالث والخمسون بعد المئة من أوجه تفضيل العلم وأهله.
(3)
(د، ت، ق): «ما لا يوقع» .
(4)
(ن، ح): «وتميز مراتبها» .
(5)
(ت، ح، ن): «حقيقته» .
سابحةً فيه، وإنما يُقْطَعُ هذا العارضُ بفكرةٍ صحيحةٍ وعزمٍ صادقٍ يميَّزُ به
(1)
بين الوهم والحقيقة.
وكذلك إذا فكَّر في عواقب الأمور وتجاوزَ فكرُه مَبَاديها؛ وَضَعها
(2)
مواضعَها، وعلم مراتبَها.
فإذا وردَ عليه واردُ الذنب والشهوة، فتجاوزَ فكرُه لذَّتَه
(3)
وفرحَ النفس به إلى سوء عاقبته وما يترتبُ عليه من الألم والحزن الذي لا يقاومُ تلك اللذَّة والفرحة؛ ومن فكَّر في ذلك فإنه لا يكادُ يُقْدِمُ عليه.
وكذلك إذا وردَ على قلبه واردُ الراحة والدَّعة والكسل والتقاعُد عن مشقَّة الطَّاعات وتعبها، حتى عبَر بفكره إلى ما يترتبُ عليها من اللذات والخيرات والأفراح التي تنغمرُ
(4)
تلك الآلام التي في مَبَاديها بالنسبة إلى كمال عواقبها، وكلَّما غاص فكرُه في ذلك اشتدَّ طلبُه لها، وسَهُل عليه معاناتُها، واستقبلها بنشاطٍ وقوَّةٍ وعزيمة.
وكذلك إذا فكَّر في منتهى ما يستعبِدُه من المال والجاه والصُّوَر، ونظرَ إلى غاية ذلك بعين فكره، استحيى من عقله ونفسه أن يكون عبدًا لذلك، كما قيل:
لو فَكَّرَ العاشقُ في منتهى
…
حُسْنِ الذي يَسْبِيه لم يَسْبِهِ
(5)
(1)
(د، ق): «فيه» .
(2)
(ت): «ووضعها» .
(3)
(ق، د): «فكرة لذته» . وهو تحريف.
(4)
(ح، ن): «تغمر» .
(5)
البيت للمتنبي، في ديوانه (573).
وكذلك إذا فكَّر في آخر الأطعمة المُفْتَخَرة
(1)
التي تفانت عليها نفوسُ أشباه الأنعام، وما يصيرُ أمرُها إليه عند خروجها؛ ارتفعت همَّتُه عن صرفها إلى الاعتناء بها، وجَعْلِها معبودَ قلبه
(2)
الذي إليه يتوجَّه، وله يرضى ويغضب، ويسعى ويكدح، ويوالي ويعادي؛ كما جاء في «المسند»
(3)
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ الله جَعَل طعامَ ابن آدم مَثَل الدنيا وإنْ قَزَحَه
(4)
ومَلَّحَه فإنه يعلمُ إلى ما يصير» أو كما قال صلى الله عليه وسلم؛ فإذا وقع فكرُه على عاقبة ذلك وآخر أمره، وكانت نفسُه حُرَّةً أبيَّة، ربأ بها أن يجعلها عبدًا لما آخرُه أنتنُ شيءٍ وأخبثُه وأفحشُه.
فصل
(5)
إذا عُرِفَ هذا، فالفكرُ هو إحضارُ معرفتين في القلب، ليستثمر
(6)
منهما معرفة ثالثة.
ومثالُ ذلك: إذا أَحْضَرَ في قلبه العاجلةَ وعيشَها ونعيمَها وما يقترنُ به من الآفات وانقطاعه وزواله، ثمَّ أَحْضَرَ في قلبه الآخرةَ ونعيمَها ولذَّتها
(1)
أي: الفاخرة، من الافتخار. تعبيرٌ مولَّد.
(2)
(ت): «معبودة قلبه» .
(3)
(5/ 136) من زوائد عبد الله، و «الحلية» لأبي نعيم (1/ 254)، وغيرهما من حديث أبي بن كعب.
وصححه ابن حبان (702)، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (1245).
ورُوِي موقوفًا من وجهٍ أصح. انظر: «المرسل الخفي» (2/ 632).
(4)
أي: جعل فيه الأقزاح (جمع قِزْح)، وهي التوابل والأبازير. «اللسان» .
(5)
مستفاد من «الإحياء» (4/ 425).
(6)
(ت): «تستثمر» .
ودوامَه وفضلَه على نعيم الدنيا، وجَزَم بهذين العِلمَين= أثمرَ له ذلك علمًا ثالثًا، وهو أنَّ الآخرةَ ونعيمَها الفاضلَ الدائمَ أولى عند كلِّ عاقلٍ بإيثاره من العاجلة المنقطعة المنغَّصة.
ثمَّ له في معرفة الآخرة حالتان:
إحداهما: أن يكون قد سمع ذلك من غيره، من غير أن يُباشِرَ قلبَه بَرْدُ اليقين به، ولم يُفْضِ قلبُه إلى مُكافَحة
(1)
حقيقة الآخرة. وهذا حالُ أكثر الناس.
فيتجاذبُه داعيان:
* أحدهما: داعي العاجلة وإيثارها، وهو أقوى الداعيَيْن؛ لأنه مُشاهَدٌ له محسوس.
* وداعي الآخرة، وهو أضعفُ الداعيَيْن عنده؛ لأنه داعٍ عن سماع، لم يُباشِر قلبَه اليقينُ به، ولا كافحَه حقيقتُه العلمية.
فإذا تركَ العاجلةَ للآخرة تُرِيه نفسُه بأنه قد تركَ معلومًا لمظنون، أو متحقِّقًا لموهوم، فلسانُ الحال ينادي عليه: لا أدعُ ذَرَّةً مَنْقودةً لدُرَّةٍ موعودة
(2)
.
وهذه الآفةُ هي التي منعت النفوسَ من الاستعداد للآخرة وأن تسعى لها سعيَها، وهي مِنْ ضعف العلم بها وتيقُّنها، وإلا فمع الجزم التامِّ الذي لا
(1)
كافحه مكافحةً وكفاحًا: لقيه مواجهةً. «اللسان» (كفح).
(2)
انظر: «شرح مقامات الحريري» (5/ 338)، و «الداء والدواء» (79)، و «مدارج السالكين» (3/ 350)، و «عدة الصابرين» (466).
يتخالجُ القلبَ فيه شكٌّ لا يقعُ التهاونُ بها وعدمُ الرغبة فيها.
ولهذا لو قُدِّمَ لرجلٍ طعامٌ في غاية الطِّيبة
(1)
واللذَّة، وهو شديدُ الحاجة، ثمَّ قيل له: إنه مسموم؛ فإنه لا يُقْدِمُ عليه؛ لعلمه بأنَّ سوء ما تجني عاقبةُ تناوله
(2)
تُرْبِي في المضرة على لذَّة أكله
(3)
، فما بالُ الإيمان بالآخرة لا يكونُ في قلبه بهذه المنزلة؟! ما ذاك إلا لضعف شجرة العلم والإيمان بها في القلب، وعدم استقرارها فيه.
وكذلك إذا كان سائرًا في طريق، فقيل له: إنَّ بها قُطَّاعًا ولصوصًا يقتلون من وجدوه ويأخذون متاعَه؛ فإنه لا يسلكها إلا على أحد وجهين: إمَّا أن لا يصدِّق المُخْبِر، وإمَّا أن يَثِقَ من نفسه بغلبتهم وقهرهم والانتصار عليهم؛ وإلا فمع تصديقه للمُخْبِر تصديقًا لا يتمارى فيه، وعلمه مِنْ نفسه بضعفه وعجزه عن مقاومتهم، فإنه لا يسلكها.
ولو حصلَ له هذان العِلْمان فيما يرتكبُه من إيثار الدنيا وشهواتها لم يُقْدِم على ذلك؛ فعُلِمَ أنَّ إيثاره للعاجلة
(4)
وتركَ استعداده للآخرة لا يكون قطُّ مع كمال تصديقه وإيمانه أبدًا.
الحالة الثانية: أن يتيقَّنَ ويجزمَ جزمًا لا شكَّ فيه بأنَّ له دارًا غير هذه الدار، ومعادًا له خُلِق، وأنَّ هذه الدَّار طريقٌ إلى ذلك المعاد ومنزلٌ من منازل السائرين إليه، ويعلمُ مع ذلك أنها باقية، ونعيمَها وعذابها لا يزول، ولا نسبة
(1)
كذا في الأصول. وهو صحيح. طاب الشيء يطيب طيبًا وطيبةً. «اللسان» .
(2)
(ت): «عاقبته بتناوله» .
(3)
انظر ما مضى (ص: 242).
(4)
(ت، ق): «للدنيا» . (د): «للآخرة» ، وفي الطرَّة:«لعله: الدنيا» .
لهذا النعيم والعذاب العاجل إليه إلا كما يُدْخِلُ الرجلُ إصبعَه في اليمِّ ثمَّ ينزعُها، فالذي يَعْلَق بها منه هو كالدنيا بالنسبة إلى الآخرة؛ فيثمرُ له هذا العلمُ إيثارَ الآخرة وطلبها، والاستعدادَ التامَّ لها، وأن يسعى لها سعيها.
وهذا يسمَّى: تفكُّرًا، وتذكُّرًا، ونظرًا، وتأمُّلًا، واعتبارًا، وتدبُّرًا، واستبصارًا. وهذه معانٍ متقاربةٌ تجتمعُ في شيءٍ وتفترقُ في آخر.
* فيسمَّى: تفكُّرًا؛ لأنه استعمالُ الفكرة
(1)
في ذلك وإحضارُه
(2)
عنده.
* ويسمَّى: تذكُّرًا؛ لأنه إحضارٌ للعلم الذي يجبُ مراعاتُه بعد ذهوله وغيبته عنه، ومنه قولُه تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
* ويسمَّى: نظرًا؛ لأنه التفاتٌ بالقلب إلى المنظور فيه.
* ويسمَّى: تأمُّلًا؛ لأنه مراجعةٌ للنظر
(3)
كرَّةً بعد كرَّة، حتى يتجلى له وينكشفَ لقلبه.
* ويسمَّى: اعتبارًا، وهو افتعالٌ من العبور؛ لأنه يَعْبُرُ منه إلى غيره، فيعبُر من ذلك الذي قد فكَّر فيه إلى معرفةٍ ثالثة، وهي المقصودُ من الاعتبار.
ولهذا يسمَّى: عِبْرة؛ وهي على بناء الحالات، كالجِلْسة والرِّكْبة والقِتْلة، إيذانًا بأنَّ هذا العلم والمعرفة قد صار حالًا لصاحبه يعبُر منه إلى المقصود به، قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]،
(1)
(ت): «استعمل الفكر» .
(2)
كذا في الأصول. أي: الفكر.
(3)
(ت): «النظر» . (ح): «إلى النظر» .
وقال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 26]، وقال:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13، النور: 44].
* ويسمَّى: تدبُّرًا؛ لأنه نظرٌ في أدبار الأمور وهي أواخرُها وعواقبُها. ومنه: تدبُّر القول، قال تعالى:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، وقال:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وتدبُّرُ الكلام أن ينظرَ في أوَّله وآخره، ثمَّ يعيدَ نظره مرَّةً بعد مرَّة؛ ولهذا جاء على بناء التفعُّل، كالتجرُّع والتفهُّم والتبيُّن.
* ويسمَّى: استبصارًا؛ وهو استفعالٌ من التبصُّر، وهو تبيُّنُ الأمر
(1)
وانكشافُه وتجلِّيه للبصيرة.
وكلٌّ من التذكُّر والتفكُّر له فائدةٌ غيرُ فائدة الآخر؛ فالتذكُّر يفيدُ تكرارَ القلب على ما علمه وعرفه ليرسَخ فيه ويثبت، ولا ينمحي فيذهبَ أثرُه من القلب جملة، والتفكُّرُ يفيدُ تكثيرَ العلم واستجلابَ ما ليس حاصلًا عند القلب؛ فالتفكُّرُ يحصِّلُه والتذكُّرُ يحفظُه
(2)
.
ولهذا قال الحسن: «ما زال أهلُ العلم يعودون بالتذكُّر على التفكُّر، وبالتفكُّر على التذكُّر، ويُناطِقون القلوب، حتى نَطَقَت بالحكمة»
(3)
.
فالتفكُّرُ والتذكُّرُ بِذَارُ العلم، وسَقْيُه مطارحتُه، ومذاكرتُه تلقيحُه، كما
(1)
(ق، ح): «تبيين الأمر» . خطأ.
(2)
(ق، د): «فالتفكر تحصيلُه والتذكر تحفُّظه» .
(3)
تقدَّم تخريجه قريبًا.
قال بعض السَّلف: «ملاقاةُ الرجال تلقيحٌ لألبابها»
(1)
؛ فالمذاكرةُ به لِقاحُ العقل.
فالخيرُ والسعادةُ في خزانةٍ مفتاحُها التفكُّر؛ فإنه لا بد من تفكُّرٍ وعلمٍ يكونُ نتيجة الفكر
(2)
، وحالٍ يحدثُ للقلب من ذلك العلم؛ فإنَّ كلَّ من عَلِمَ شيئًا من المحبوب أو المكروه لا بدَّ أن يبقى لقلبه حالةٌ
(3)
وينصبغَ
(4)
بصبغةٍ من علمه، وتلك الحالُ توجبُ له إرادة، وتلك الإرادةُ توجبُ وقوعَ العمل.
فهاهنا خمسةُ أمور: الفكر، وثمرتُه العلم، وثمرتُهما الحالةُ التي تحدثُ للقلب، وثمرةُ ذلك الإرادة، وثمرتُها العمل.
فالفكرُ إذًا هو المبدأ والمفتاحُ للخيرات كلِّها.
وهذا يكشفُ لك
(5)
عن فضل التفكُّر وشرفه، وأنه من أفضل أعمال القلب وأنفعها له، حتى قيل:«تفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة سنة»
(6)
.
فالفكرُ هو الذي ينقلُ من موت الغفلة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره
(1)
أخرجه الدينوري في «المجالسة» (1924) عن الأحنف بن قيس. وهو في «بهجة المجالس» (1/ 54)، وغيره.
(2)
(ق): «التفكر» .
(3)
(د): «حاله» .
(4)
(ت): «لا بد أن يبقى بقلبه وينطبع» .
(5)
ليست في (ق، ت).
(6)
من كلام السَّري السقطي. ويروى مرفوعًا، ولا يصح. انظر:«المغني عن حمل الأسفار» (1193)، و «المصنوع» (82)، و «السلسة الضعيفة» (173).
إلى المحابِّ، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة، ومن ضيق الجهل إلى سَعة العلم ورَحْبه، ومن مرض الشهوة والإخلاد إلى هذه الدار إلى شفاء الإنابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور، ومن مصيبة العمى والصَّمَم والبَكَم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه، ومن أمراض الشبهات إلى بَرْد اليقين وثَلَج الصَّدر.
وبالجملة؛ فأصلُ كلِّ طاعةٍ إنما هو الفكر.
وكذلك أصلُ كلِّ معصيةٍ إنما يحدثُ من جانب الفكرة؛ فإنَّ الشيطانَ يصادفُ أرضَ القلب خاليةً فارغة، فيَبْذُرُ فيها حَبَّ الأفكار الرديَّة، فيتولَّدُ منه الإراداتُ والعُزوم
(1)
، فيتولَّدُ منها العمل. فإذا صادفَ أرضَ القلب مشغولةً ببَذْر الأفكار النافعة فيما خُلِقَ له وفيما أُمِرَ به وفيما هُيِّاء له وأُعِدَّ له من النعيم المقيم أو العذاب الأليم لم يجد لبَذْره موضعًا، وهذا كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرفَ الهوى
…
فصادفَ قلبًا فارغًا فتمكَّنا
(2)
فإن قيل: فقد ذكرتم الفكرَ ومنفعته وعِظَمَ تأثيره في الخير والشر، فما متعلَّقُه الذي ينبغي أن يُوقَعَ عليه ويجري فيه؟ فإنه لا يتمُّ المقصودُ منه إلا بذكر متعلَّقه الذي يقعُ الفكرُ فيه، وإلا ففكرٌ في غير
(3)
متفكَّرٍ فيه محال.
(1)
جمع عزم. محدثة.
(2)
البيت ليزيد بن الطثرية في «أخبار أبي تمام» (264)، و «الموازنة» (1/ 69)، وترجمته من «وفيات الأعيان» (6/ 370). ولمجنون بني عامر في ديوانه (219) عن «البيان والتبين» (2/ 42)، و «الحيوان» (1/ 169، 4/ 167)، وغيرهما. ولعمر بن أبي ربيعة في «عيون الأخبار» (3/ 9).
(3)
(ن): «ففكر بغير» .
قيل: مجرى الفكر ومتعلَّقُه أربعةُ أمور:
أحدُها: غايةٌ محبوبةٌ مرادةُ الحصول.
الثاني: طريقٌ موصلةٌ إلى تلك الغاية.
الثالث: مضرَّةٌ مطلوبةُ الإعدام مكروهةُ الحصول.
الرابع: الطريقُ المفضي إليها المُوقِعُ عليها.
فلا تتجاوزُ أفكارُ العقلاء هذه الأمورَ الأربعة، وأيُّ فكرٍ تخطَّاها فهو من الأفكار الرديَّة والخيالات والأماني الباطلة، كما يُمثِّلُ الفقيرُ المُعْدِمُ نفسَه من أغنى البشر وهو يأخذُ ويعطي ويُنعِمُ ويحرِم، وكما يُمثِّلُ العاجزُ نفسَه من أقوى الملوك وهو يتصرَّفُ في البلاد والرعيَّة، ونظائرُ ذلك من أفكار القلوب الباطوليَّة
(1)
التي من جنس أفكار السَّكران والمَحْشوش
(2)
والضعيف العقل.
فالأفكارُ الرديَّةُ هي قُوتُ الأنفس الخسيسة
(3)
التي هي في غاية الدناءة؛ فإنها قد قَنِعَت بالخيال ورضيت بالمُحال، ثمَّ لا تزالُ هذه الأفكارُ تقوى بها وتتزايدُ حتى تُوجِبَ لها آثارًا رديَّةً ووساوسَ وأمراضًا بطيئةَ الزوال.
وإذا كان الفكرُ النافعُ لا يخرجُ عن الأقسام الأربعة التي ذكرناها، فله
(1)
راجع ما تقدم (ص: 110).
(2)
من الحشيش (وهو نباتٌ مخدِّر)، كقولهم:«مخمور» من الخمر. انظر: «المعجم الكبير» لتيمور (2/ 110). ووقع مثله في «الداء والدواء» (359).
(3)
(ت): «الخبيثة» .
أيضًا محلَّان ومنزلان: أحدهما: هذه الدار، والآخر: دار القرار.
* فأبناءُ الدنيا الذين ليس لهم في الآخرة مِنْ خَلاقٍ عمَّروا بيوتَ أفكارهم بتلك الأقسام الأربعة في هذه الدار، فأثمرت لهم أفكارُهم فيها ما أثمرت، ولكن إذا حَقَّت الحقائق، وبطلت الدنيا، وقامت الآخرة؛ تبيَّن الرابحُ من المَغْبون، وخسر هنالك المبطلون.
* وأبناءُ الآخرة الذين خُلِقوا لها عمَّروا بيوتَ أفكارهم على تلك الأقسام الأربعة فيها.
ونحن نفصِّلُ ذلك بعون الله وفضله، فنقول: كلُّ طالبٍ لشيءٍ فهو محبٌّ له، مُؤثِرٌ لقُربه، ساعٍ في طريق تحصيله، متوصِّلٌ إليه بجهده، وهذا يوجبُ له تعلُّقَ أفكاره بجمال محبوبه وكماله وصفاته
(1)
التي يُحَبُّ لأجلها، وتعلُّقها بما ينالُه به من الخير والفرحة والسرور.
ففكرُه في حال محبوبه دائرٌ بين الجمال والإجمال
(2)
، والحُسْن والإحسان، فكلَّما قويت محبَّتُه له ازدادَ هذا الفكرُ وقَوِيَ وتضاعف، حتى يستغرقَ أجزاءَ القلب فلا يبقى فيه فضلٌ لغيره، بل يصيرُ بين الناس بقالبه، وقلبُه كلُّه في حضرة محبوبه.
فإن كان هذا المحبوبُ هو المحبوبَ الحقَّ الذي لا تنبغي المحبةُ إلا له، ولا يُحَبُّ غيرُه إلا تبعًا لمحبَّته، فهو أسعدُ المحبِّين به، وقد وضعَ الحبَّ موضعَه، وتهيَّأت نفسُه لكمالها الذي خُلِقَت له الذي لا كمال لها بدونه
(1)
(ت): «وكمال صفاته» .
(2)
انظر: «المدارج» (3/ 288)، و «القوانين الفقهية» لابن جزي (285).
بوجه.
وإن كانت تلك المحبةُ لغيره من المحبوبات الباطلة المتلاشية التي تفنى وتبقى حزازاتُ النفوس
(1)
بها على حالها، فقد وضعَ المحبةَ في غير موضعها، وظلمَ نفسَه أعظمَ ظلمٍ وأقبحَه، وتهيَّأت بذلك نفسُه لغاية شقائها وألمها.
وإذا عُرِفَ هذا عُرِفَ أنَّ تعلُّقَ المحبة بغير الإله الحقِّ هو عينُ شقاء العبد وخسرانه، فأفكارُه المتعلِّقةُ بها كلُّها باطلة، وهي مضرَّةٌ عليه في حياته وبعد موته.
والمحبُّ الذي قد ملكَ المحبوبُ أفكارَ قلبه لا يخرجُ فكرُه عن تعلُّقه بمحبوبه أو بنفسه.
ثمَّ فكرُه في محبوبه لا يخرجُ عن حالتين:
إحداهما: فكرتُه في جماله وأوصافه.
الثانية: فكرتُه في أفعاله وإحسانه وبِرِّه ولطفه الدالَّة على كمال صفاته.
وإن تعلَّقَ فكرُه بنفسه لم يخرج ــ أيضًا ــ عن حالتين:
* إمَّا أن يفكِّر في أوصافه المسخوطة التي يبغضُها محبوبُه ويمقتُه عليها ويُسْقِطُه من عينه، فهو دائمًا يتوقَّعُ بفكره عليها ليجتنبها ويبعدَ منها.
* والثانية: أن يفكِّر في الصفات والأخلاق والأفعال التي تقرِّبُه منه وتحبِّبه إليه حتى يتصفَ بها.
(1)
(ح، ن): «القلوب» .
فالفكرتان الأوَّلتان
(1)
توجبُ له زيادةَ محبَّته وقوَّتها وتضاعُفَها، والفكرتان الآخرتان
(2)
توجبُ محبةَ محبوبه له، وإقبالَه عليه، وقربَه منه، وعطفَه عليه، وإيثارَه على غيره.
فالمحبةُ التامَّةُ مستلزمةٌ لهذه الأفكار الأربعة.
فالفكرةُ الأولى والثانيةُ: تتعلَّقُ بعلم التوحيد وصفات الإله المعبود ــ سبحانه ــ وأفعاله، والثالثةُ والرابعةُ: تتعلَّقُ بالطريق الموصلة إليه وقواطعها وآفاتها وما يمنعُ من السَّير فيها إليه.
فتفكُّره في صفات نفسه يميِّزُ له المحبوبَ لربِّه منها من المكروه له.
وهذه الفكرةُ توجبُ ثلاثةَ أمور:
أحدها: أنَّ هذا الوصفَ هل هو مكروهٌ مبغوضٌ لله أم لا؟
والثاني: إذا كان مكروهًا، فهل العبدُ متصفٌ به أم لا؟
(1)
(ت): «الاوليتان» . وتقدم التعليق عليها (ص: 298).
(2)
كذا في الأصول، مثنى آخرة. انظر:«بصائر ذوي التمييز» (2/ 89).
والثالث: إذا كان متصفًا به، فما طريقُ رفعه
(1)
والعافية منه؟ وإن لم يكن متصفًا به فما طريقُ حفظ الصِّحة وبقائه على العافية والاحتراز منه؟
وكذلك الفكرةُ في الصفة المحبوبة تستدعي ثلاثةَ أمور:
هل هي محبوبةٌ لله مرضيَّةٌ له أم لا؟
الثاني: هل العبدُ متصفٌ بها أم لا؟
الثالث: أنه إذا كان متصفًا بها، فما طريقُ حفظها ودوامها؟ وإن لم يكن متصفًا بها فما طريقُ اجتلابها والتخلُّق بها؟
ثمَّ فكرتُه في الأفعال على هذين الوجهين أيضًا سواء.
ومجاري هذه الأفكار ومواقعُها كثيرةٌ جدًّا لا تكادُ تنضبط، وإنما يحصرها ستةُ أجناس: الطاعاتُ الظاهرةُ والباطنة، والمعاصي الظاهرةُ والباطنة، والصفاتُ والأخلاقُ الحميدة، والأخلاقُ والصفاتُ الذميمة. فهذه مجاري الفكرة في صفات نفسه وأفعالها
(2)
.
وأمَّا الفكرةُ في صفات المعبود وأفعاله وأحكامه، فتوجبُ له التمييزَ بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والإقرار والتعطيل، وتنزيه الربِّ عمَّا لا يليقُ به، ووصفه بما هو أهلُه من الجلال والإكرام.
ومجاري هذه الفكرة: تدبُّرُ كلامه، وما تعرَّف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما نزَّه نفسَه عنه مما لا ينبغي له ولا يليقُ به سبحانه، وتدبُّرُ أفعاله وأيامه في أوليائه وأعدائه التي قَصَّها على عباده وأشهدهم إيَّاها؛ ليستدلُّوا بها على أنه إلههم الحقُّ المبينُ الذي لا تنبغي العبادةُ إلا له، ويستدلُّوا بها على أنه على كلِّ شيءٍ قدير، وأنه بكلِّ شيءٍ عليم، وأنه شديدُ العقاب، وأنه غفورٌ رحيم، وأنه العزيزُ الحكيم، وأنه الفعَّالُ لما يريد، وأنه الذي وَسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وأنَّ أفعالَه كلَّها دائرةٌ بين الحكمة والرحمة، والعدل والمصلحة، لا يخرجُ شيءٌ منها عن ذلك.
وهذه الثمرةُ لا سبيل إلى تحصيلها إلا بتدبُّر كلامه والنظر في آثار أفعاله.
(1)
(ح، ن): «دفعه» .
(2)
(ت): «وأفعاله» .
وإلى هذين الأصلين
(1)
نَدَبَ عبادَه في القرآن:
* فقال في الأصل الأول: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82]، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3].
* وقال في الأصل الثاني: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190 - 191]، وقال:{إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 3 - 5]، {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} [غافر: 21]، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} [الروم: 42]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} إلى قوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 20 - 25].
(1)
تدبُّر كلامه، والنظر في آثار أفعاله.
ونوَّع سبحانه الآيات في هذه السورة
(1)
:
* فجَعَل خلقَ السموات والأرض واختلافَ لغات الأمم وألوانهم آياتٍ للعالمين كلِّهم؛ لاشتراكهم في العلم بذلك وظهوره ووضوح دلالته.
* وجعل خَلْقَ الأزواج التي يسكنُ إليها الرجالُ وإلقاءَ المودَّة والرحمة بينهم آياتٍ لقومٍ يتفكرون؛ فإنَّ سكونَ الرجل إلى امرأته وما يكونُ بينهما من المودَّة والتعاطف والتراحم أمرٌ باطنٌ مشهودٌ بعين الفكرة والبصيرة، فمتى نظر بهذه العين إلى الحكمة والرحمة والقدرة التي صدرَ عنها ذلك، دَلَّه فكرُه على أنه الإله الحقُّ المبين الذي أقرَّت الفِطرُ بربوبيته وإلهيته وحكمته ورحمته.
* وجعل المنامَ بالليل والنهار والتصرُّفَ
(2)
في المعاش وابتغاءَ فضله آياتٍ لقومٍ يسمعون، وهو سمعُ الفهم وتدبُّر هذه الآيات وارتباطها
(3)
بما جُعِلَت آيةً له مما أخبرت به الرسلُ من حياة العباد بعد موتهم وقيامهم من قبورهم، كما أحياهم سبحانه بعد موتهم وأقامهم للتصرُّف في معاشهم؛ فهذه الآيةُ إنما ينتفعُ بها من سمع ما جاءت به الرسل، وأصغى إليه، واستدلَّ بهذه الآية عليه.
* وجعل إراءتَهم البرقَ
(4)
وإنزالَ الماء من السماء وإحياءَ الأرض به آياتٍ لقومٍ يعقلون؛ فإنَّ هذه أمورٌ مرئيَّةٌ بالأبصار مشاهدةٌ بالحِسِّ، فإذا نظر فيها ببصر قلبه ــ وهو عقلُه ــ استدلَّ بها على وجود الربِّ تعالى وقدرته
(1)
سورة الروم.
(2)
(ح، ن): «للتصرف» . وهو تحريفٌ ظاهرٌ من سياق الآية.
(3)
(ح): «ارتباطها» .
(4)
قال ابن الأعرابي: «أَرَيتُه الشيءَ إراءةً وإرايةً وإرءاءةً» . «اللسان» .