المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوجه الثالث والثمانون: أن أشرف ما في الإنسان محل العلم منه، وهو قلبه وسمعه وبصره - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الوجه الثاني عشر: أنه سبحانه جعلَ أهلَ الجهل بمنزلة العُميان الذين لا يبصرون

- ‌الوجه الرابع عشر: أنه سبحانه أمرَ بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم

- ‌الوجه الثامن عشر: أنه سبحانه أمرَ نبيَّه أن يسأله مزيدَ العلم

- ‌الوجه التاسع عشر: أنه سبحانه أخبرَ عن رِفْعة درجات أهل العلم والإيمان خاصَّة

- ‌الوجه العشرون: أنه سبحانه استشهَد بأهل العلم والإيمان يومَ القيامة على بطلان قول الكفار

- ‌الوجه الحادي والثلاثون: أنه سبحانه ذمَّ أهلَ الجهل في مواضع كثيرةٍ من كتابه:

- ‌الوجه الثاني والثلاثون: أنَّ العلمَ حياةٌ ونور، والجهلَ موتٌ وظُلمَة

- ‌الوجه التاسع والثلاثون: أنه سبحانه سمَّى الحُجَّة العلميةَ سلطانًا

- ‌الوجه الثاني والخمسون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع كلامَه ووعاه وبلَّغه بالنَّضرة

- ‌الوجه الثالث والخمسون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ بتبليغ العلم عنه

- ‌الوجه الخامس والستون: أنَّ الإنسانَ إنما يُمَيَّزُ على غيره من الحيوانات بفضيلة العلم والبيان

- ‌الوجه السادس والستون: أنَّ العلمَ حاكمٌ على ما سواه، ولا يَحْكُم عليه شيء

- ‌الوجه الثامن والستون: أنَّ صفات الكمال كلَّها ترجعُ إلى العلم والقدرة والإرادة، والإرادةُ فرعُ العلم

- ‌الوجه الحادي والسبعون: أنَّ حاجةَ العباد إلى العلم ضروريَّةٌ فوق حاجة الجسم إلى الغذاء

- ‌الوجه الثاني والسبعون: أنَّ صاحبَ العلم أقلُّ تعبًا وعملًا، وأكثرُ أجرًا

- ‌الوجه الثالث والسبعون: أنَّ العلمَ إمامُ العمل وقائدٌ له، والعملُ تابعٌ له ومؤتمٌّ به

- ‌الوجه الرابع والسبعون: أنَّ العاملَ بلا علمٍ كالسائر بلا دليل

- ‌الوجه التاسع والسبعون: أنَّ اللذَّة بالمحبوب تَضْعُفُ وتقوى بحسب قوَّة الحبِّ وضعفه

- ‌الوجه الحادي والثمانون: أنَّ فضيلةَ الشيء تُعْرَفُ بضدِّه

- ‌الوجه الثالث والثمانون: أنَّ أشرفَ ما في الإنسان محلُّ العلم منه، وهو قلبُه وسمعُه وبصرُه

- ‌الوجه التسعون: أنَّ كلَّ صفةٍ مدحَ الله بها العبدَ في القرآن فهي ثمرةُ العلم ونتيجتُه

- ‌الوجه الثامن والمئة: أنَّ كثيرًا من الأئمة صرَّحوا بأنَّ أفضلَ الأعمال بعد الفرائض طلبُ العلم

- ‌لا شيء أنفعُ للقلب من قراءة القرآن بالتدبُّر والتفكُّر

الفصل: ‌الوجه الثالث والثمانون: أن أشرف ما في الإنسان محل العلم منه، وهو قلبه وسمعه وبصره

والله سبحانه خَلَق الملائكةَ عقولًا بلا شهوات، وخَلَق الحيوانات ذوات شهواتٍ بلا عقول، وخَلَق الإنسانَ مركَّبًا من عقلٍ وشهوة؛ فمن غَلَب عقلُه شهوتَه كان خيرًا من الملائكة، ومن غَلَبَت شهوتُه عقلَه كان شرًّا من الحيوانات

(1)

.

وفاوتَ سبحانه بينهم في العلم؛ فجعلَ عالِمَهم معلِّمَ الملائكة، كما قال تعالى:{يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33]، وتلك مرتبةٌ لا مرتبةَ فوقها، وجعلَ جاهلَهم بحيثُ لا يرضى الشيطانُ به ولا يَصْلُح له، كما قال الشيطانُ لجاهلهم الذي أطاعه في الكفر:{إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر: 16]، وقال لجَهَلَتِهم الذين عصوا رسولَه:{إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} [الأنفال: 48].

فلِلَّه ما أشدَّ هذا التفاوت بين شخصين، أحدهما: تسجدُ له الملائكةُ ويعلِّمها مما علَّمه الله، والآخر: لا يرضى الشيطانُ به وليًّا!

وهذا التفاوتُ العظيمُ إنما حصلَ بالعلم وثمرته، ولو لم يكن في العلم إلا القُربُ من ربِّ العالمين، والالتحاقُ بعالَم الملائكة، وصحبةُ الملأ الأعلى؛ لكفى به فضلًا وشرفًا، فكيف وعزُّ الدُّنيا والآخرة منوطٌ به ومشروطٌ بحصوله؟!

‌الوجه الثالث والثمانون: أنَّ أشرفَ ما في الإنسان محلُّ العلم منه، وهو قلبُه وسمعُه وبصرُه

.

(1)

انظر: «التمثيل والمحاضرة» (172)، و «أدب الدنيا والدين» (28)، و «سراج الملوك» (275)، و «البدء والتاريخ» (1/ 180)، و «مجموع الفتاوى» (4/ 351، 15/ 428)، و «مدارج السالكين» (2/ 352)، و «عدة الصابرين» (37).

ص: 286

ولمَّا كان القلبُ هو محلَّ العلم، والسمعُ رسولُه الذي يأتيه به، والعينُ طليعتُه؛ كان مَلِكًا على سائر الأعضاء، يأمرُها فتأتمرُ لأمره، ويصرفُها فتنقادُ له طائعة، بما خُصَّ به من العلم دونها، فلذلك كان مَلِكَها والمطاع فيها.

وهكذا العالِمُ في الناس كالقلب في الأعضاء.

ولمَّا كان صلاحُ الأعضاء بصلاح مَلِكِها ومطاعها، وفسادُها بفساده؛ كانت هذه حال الناس مع علمائهم وملوكهم، كما قال بعض السلف: «صنفان إذا صلحا صلحَ الناس

(1)

، وإذا فسدا فسدَ الناس: العلماءُ والأمراء»

(2)

.

قال عبد الله بن المبارك:

وهل أفسدَ الدِّينَ إلا المُلوكُ

وأحبارُ سوءٍ ورهبانُها

(3)

ولمَّا كان للسمع والبصر من الإدراك ما ليس لغيرهما من الأعضاء كانا في أشرف جزءٍ من الإنسان وهو وجهُه، وكانا من أفضل ما في الإنسان من الأجزاء والأعضاء والمنافع.

(1)

(ق): «سائر الناس» . في الموضعين.

(2)

أخرجه بنحوه أبو نعيم في «الحلية» (7/ 5) عن سفيان الثوري.

ورُوِي بلفظه مرفوعًا من حديث ابن عباسٍ، أخرجه تمام في «الفوائد» (3/ 102 - الروض)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 96)، وابن عبد البر في «الجامع» (1/ 641) بإسنادٍ شديد الضعف.

وانظر: «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 13)، و «الضعيفة» (16).

(3)

من أبياتٍ مشهورة تروى عنه، في «الحلية» (8/ 279)، و «شعب الإيمان» (6918)، ومعجم ابن المقرئ (1205)، و «جامع بيان العلم» (1/ 638)، وغيرها.

ص: 287

واختلفَ الناسُ في الأفضل منهما

(1)

:

* فقالت طائفة، منهم أبو المعالي

(2)

وغيرُه: السمعُ أفضل.

قالوا: لأنَّ به تنالُ سعادةُ الدنيا والآخرة، فإنها إنما تحصلُ بمتابعة الرسل، وقبول رسالاتهم، وبالسمع عُرِفَ ذلك؛ فإنَّ من لا سَمْعَ له لا يعلمُ ما جاءوا به.

وأيضًا؛ فإنَّ السمعَ يُدْرَكُ به أجلُّ شيءٍ وأفضلُه، وهو كلامُ الله تعالى الذي فضلُه على الكلام كفضل الله على خلقه.

وأيضًا؛ فإنَّ العلومَ إنما تنالُ بالتفاهم والتخاطب، ولا يحصلُ ذلك إلا بالسمع.

وأيضًا؛ فإنَّ مُدْرَكه أعمُّ من مُدْرَكِ البصر؛ فإنَّه يدركُ الكلِّيَّات والجزئيَّات والشاهدَ والغائب والموجودَ والمعدوم، والبصرُ لا يدركُ إلا بعض المشاهَدات، والسمعُ يسمعُ كلَّ علم؛ فأين أحدُهما من الآخر؟!

(1)

انظر: «الصواعق المرسلة» (873)، و «مدارج السالكين» (2/ 409)، و «الصناعتين» لأبي هلال (423)، و «تفسير الرازي» (1/ 53، 17/ 101)، و «تفسير القرطبي» (1/ 189)، و «اللباب» لابن عادل (1/ 326)، و «روح المعاني» (1/ 138)، و «الحاوي» (12/ 244)، و «حاشية البجيرمي على الخطيب» (4/ 537)، و «الذخيرة» للقرافي (3/ 378)، و «حاشية قرة عيون الأخبار» تكملة «رد المحتار» (7/ 128)، و «نكت الهميان» (17)، و «تسلية الأعمى عن بلية العمى» للقاري (57)، والمصادر الآتية في التعليقات.

ولكمال الدين البكري (ت: 1196): «تشنيف السمع في تفضيل البصر على السمع» كما في ترجمته من «سلك الدرر» (4/ 19).

(2)

الجويني. انظر: «البرهان» (1/ 134).

ص: 288

ولو فرضنا شخصين: أحدهما يسمعُ كلام الرسول ولا يرى شخصَه، والآخر بصيرٌ يراه ولا يسمعُ كلامَه لصممه، هل كانا سواءً؟!

وأيضًا؛ ففاقدُ البصر إنما يفقدُ إدراكَ بعض الأمور الجزئية المشاهَدة، ويمكنُه معرفتُها بالصِّفة ولو تقريبًا، وأمَّا فاقدُ السمع فالذي فاته من العلم لا يمكنُ حصولُه بحاسَّة البصر ولا قريبًا.

وأيضًا؛ فإنَّ ذمَّ الله تعالى للكفار بعدم السمع في القرآن أكثرُ من ذمِّه لهم بعدم البصر، بل إنما يذمُّهم بعدم البصر تبعًا لعدم العقل والسمع.

وأيضًا؛ فإنَّ الذي يُورِدُه السمعُ على القلب من العلوم لا يلحقُه فيه كلالٌ ولا سآمةٌ ولا تعبٌ مع كثرته

(1)

وعِظَمِه، والذي يُورِدُه البصرُ عليه يلحقُه فيه الكَلالُ والضعفُ والنقص، وربَّما خشي صاحبُه على ذهابه مع قلَّته ونزارته بالنسبة إلى السمع.

* وقالت طائفة، منهم ابن قتيبة: بل البصرُ أفضل

(2)

؛ فإنَّ أعلى النعيم وأفضلَه وأعظمَه لذَّةً هو النظرُ إلى الله في الدار الآخرة، وهذا إنما ينالُ بالبصر، وهذه وحدها كافيةٌ في تفضيله.

قالوا: وهو مقدِّمةُ القلب وطليعتُه ورائدُه، فمنزلتُه منه أقربُ من منزلة السمع؛ ولهذا كثيرًا ما يُقْرَنُ بينهما في الذِّكر؛ كقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي

(1)

(ح): «من كثرته» .

(2)

كذا ذكر المصنفُ قول ابن قتيبة، ونقله في «بدائع الفوائد» (124) عن الجويني عنه. وهو وهم. والذي في «تأويل مشكل القرآن» (7) ــ ونقله الجوينيُّ وابن تيمية وغيرهما ــ هو القولُ بتفضيل السمع. ووقعت حكايته على الصواب في «بدائع الفوائد» (1106).

ص: 289

الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]؛ فالاعتبارُ بالقلب والبصرُ بالعين.

وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، ولم يقل: وأسماعَهم، وقال تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، وقال:{يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37]، وقال تعالى:{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات: 8 - 9]، وقال تعالى:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].

وقال في حقِّ رسوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، ثمَّ قال:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، وهذا يدلُّ على شدَّة الوُصْلَة والارتباط بين القلب والبصر، ولهذا يقرأ الإنسانُ ما في قلب الآخر مِنْ عَيْنِه، وهذا كثيرٌ في كلام الناس نَظْمِه ونثره، وهو أكثرُ من أن نذكره هنا

(1)

.

ولمَّا كان القلبُ أشرفَ الأعضاء كان أشدُّها ارتباطًا به أشرفَ

(2)

من غيره.

قالوا: ولهذا يأتمنُه القلبُ ما لا يأتمنُ السمعَ عليه، بل إذا ارتاب من جهته

(3)

عَرَض ما يأتيه به على البصر ليزكِّيه أم يردَّه، فالبصرُ حاكمٌ عليه

(1)

انظر: «روضة العقلاء» (199)، و «الوساطة بين المتنبي وخصومه» (298)، و «الزهرة» (422، 425)، و «معاهد التنصيص» (1/ 129)، و «غرر الخصائص» (1/ 108)[و"الأنس والعرس" للآبي (175)].

(2)

(ق): «وأشرف» . وهو تحريف.

(3)

(ح، ن): «جهة السمع» .

ص: 290

مؤتمَنٌ عليه.

قالوا: ومن هذا: الحديثُ الذي رواه أحمد في «مسنده» مرفوعًا: «ليس المُخْبَرُ كالمُعايِن»

(1)

.

قالوا: ولهذا أخبر اللهُ سبحانه موسى أنَّ قومَه افتَتَنوا من بعده، وعَبَدوا العجل، فلم يلحقه في ذلك ما لحقه عند رؤية ذلك ومعاينته من إلقاء الألواح وكَسْرِها؛ لقوَّة المعاينة

(2)

على الخبر.

قالوا: وهذا إبراهيمُ خليلُ الله يسألُ ربَّه أن يُرِيَه كيف يحيي الموتى، وقد عَلِم ذلك بخبر الله له ولكنْ طَلَبَ أفضلَ المنازل وهي طمأنينةُ القلب.

قالوا: ولليقين ثلاثُ مراتب:

* أولها: للسمع.

* وثانيها: للعين

(3)

. وهي المسمَّاة بعين اليقين، وهي أفضلُ من المرتبة الأولى وأكمل

(4)

.

(1)

أخرجه أحمد (1/ 215، 271)، والبزار (5062، 5063، 5155)، وغيرهما من حديث ابن عباس.

وصححه ابن حبان (6213، 6214)، والحاكم (2/ 321) ولم يتعقبه الذهبي.

وانظر: «علل الترمذي الكبير» (387)، و «الكامل» لابن عدي (7/ 136)، و «موافقة الخبر الخبر» (2/ 138)، و «المقاصد الحسنة» (415).

وروي من أوجهٍ أخرى لا تثبت.

(2)

(ق): «لفوت المعاينة» .

(3)

(ح): «أولها السمع، والثاني العين» .

(4)

والمرتبةُ الثالثة هي طمأنينةُ القلب الحاصلةُ عن مباشرة المعلوم وإدراكه إدراكًا تامًّا، وهي حقُّ اليقين، والمرتبةُ الثانيةُ تؤدِّي إليها، وقد طواها المصنفُ لتقدُّم ذكرها. وانظر ما سيأتي (ص: 419).

ص: 291

قالوا: وأيضًا؛ فالبصرُ يؤدِّي إلى القلب، ويؤدِّي عنه؛ فإنَّ العينَ مرآةُ القلب، يظهرُ فيها ما يُجِنُّه من المحبة والبغض، والموالاة والمعاداة، والسُّرور والحزن، وغيرها.

وأمَّا الأذنُ، فلا تؤدِّي عن القلب شيئًا البتَّة، وإنما مرتبتُها الإيصالُ إليه حَسْب؛ فالعينُ أشدُّ تعلُّقًا به.

* والصوابُ

(1)

أنَّ كلًّا منهما له خاصِّيَّةٌ فُضِّل بها على الآخر؛ فالمُدْرَكُ بالسمع أعمُّ وأشمل، والمُدْرَكُ بالبصر أتمُّ وأكمل؛ فالسمعُ له العمومُ والشمول، والبصرُ له الظهورُ والتمامُ وكمالُ الإدراك.

وأمَّا نعيمُ أهل الجنة فشيئان:

أحدهما: النظرُ إلى الله.

والثاني: سماعُ خطابه وكلامه؛ كما رواه عبد الله بن أحمد في «السُّنَّة»

(2)

وغيره: «كأنَّ الناسَ يوم القيامة لم يسمعوا القرآنَ إذا سمعوه من

(1)

هذا جوابُ شيخ الإسلام ابن تيمية، كما ذكر المصنفُ في «مدارج السالكين» (2/ 410)، و «بدائع الفوائد» (126، 1107). وانظر: «مجموع الفتاوى» (16/ 68)، و «درء التعارض» (7/ 325)، و «الرد على المنطقيين» (96). وذكر الصفديُّ في «نكت الهميان» (18) أن لشيخ الإسلام كراسةً في هذه المسألة.

(2)

(123)، والخلال في «السنة» (6/ 84، 85) كلاهما عن محمد بن كعب القرظيِّ قوله.

وأخرجه الرافعي في «التدوين» (4/ 403) عنه عن أبي هريرة مرفوعًا بإسنادٍ ضعيف، ورفعُه منكر.

ص: 292

الرحمن عز وجل».

ومعلومٌ أنَّ سلامَه عليهم وخطابَه لهم ومحاضرتَه إياهم ــ كما في الترمذي

(1)

وغيره ــ لا يُشْبِهها شيءٌ قطُّ، ولا يكونُ أطيب عندهم منها، ولهذا يذكرُ سبحانه في وعيد أعدائه أنه لا يكلِّمهم، كما يذكرُ احتجابَه عنهم وأنهم لا يرونه، فكلامُه ورؤيتُه أعلى نعيم أهل الجنة، والله أعلم.

الوجه الرابع والثمانون: أنَّ الله سبحانه في القرآن يعدِّدُ على عباده من نعمه عليهم أنْ أعطاهم آلات العلم، فيذكرُ الفؤادَ والسمعَ والأبصار، ومرةً يذكرُ اللسانَ الذي يُتَرْجِمُ عن القلب.

فقال تعالى في سورة النِّعم ــ وهي سورة النحل ــ التي ذكر فيها أصولَ النِّعم وفروعَها ومتمِّماتها ومكمِّلاتها، فعدَّدَ نعمَه فيها على عباده، وتعرَّف بها إليهم، واقتضاهم شكرَها

(2)

، وأخبر أنه يتمُّها عليهم ليعرفوها ويذكروها ويشكروها، فأوَّلها في أصول النِّعم، وآخرُها في مكمِّلاتها، قال تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]؛ فذكر سبحانه نعمته عليهم بأنْ أخرجَهم لا علمَ لهم، ثمَّ أعطاهم الأسماعَ والأبصارَ والأفئدةَ التي نالوا بها من العلم ما نالوه، وأنه فَعَل بهم ذلك ليشكروه.

(1)

(2549)، وقال: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه

».

وصححه ابنُ حبان (7438)، وابن تيمية في «الفتاوى» (6/ 419).

وروي من وجهٍ آخر فيه انقطاع، وهو أصح، وبه أعلَّه الدارقطنيُّ في «العلل» (7/ 275)، [والنخشبي في تخريج فوائد الحنائي] (ق: 12/أ).

(2)

(ت): «وأوصاهم شكرها» .

ص: 293

وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف: 26].

وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10]، فذكر هنا العينين اللَّتين

(1)

يُبْصِرُ بهما فيعلَم المشاهَدات، وذكر هدايةَ النجدَين، وهما طريقا الخير والشرِّ، وفي ذلك حديثٌ مرفوعٌ مرسل

(2)

،

وهو قولُ أكثر المفسِّرين، ويدلُّ عليه الآيةُ الأخرى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3].

والهدايةُ تكونُ بالقلب والسمع؛ فقد دخلَ السمعُ في ذلك لزومًا، وذكر اللسانَ والشفتَيْن اللَّتين هما آلةُ التعليم، فذكر آلات العلم والتعليم، وجعلها من آياته الدالَّة عليه وعلى قدرته ووحدانيته ونِعَمه التي تعرَّف بها إلى عباده.

ولمَّا كانت هذه الأعضاءُ الثلاثةُ هي أشرفَ الأعضاء وملوكَها والمتصرِّفةَ فيها والحاكمةَ عليها، خصَّها سبحانه وتعالى بالذِّكر في السؤال عنها؛ فقال:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، فسعادةُ

(1)

(ق، ن، ت، د): «التي» . والمثبت من (ح)، وأخشى أن يكون من إصلاح الناسخ.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (3/ 374)، والطبري (24/ 438) من مرسل الحسن. وأخرجه الطبري (24/ 439) من مرسل قتادة.

وأخرجه عبد الرزاق (3/ 374)، والطبري (24/ 437)، والطبراني في «الكبير» (9/ 225)، واللالكائي في «السنة» (956)، وغيرهم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا، وصححه الحاكم (2/ 523)، وحسنه ابن حجر في «الفتح» (8/ 541).

ورُوِي من وجوهٍ أخرى مرفوعًا وموقوفًا، فانظر:«الدر المنثور» (6/ 353).

ص: 294

الإنسان بصحة هذه الأعضاء الثلاثة، وشقاوتُه بفسادها.

قال ابن عباس: «يسألُ اللهُ العبادَ فيما استعملوا هذه الثلاثة: السمع والبصر والفؤاد»

(1)

.

والله تعالى أعطى العبدَ السمعَ ليسمعَ به أوامرَ ربِّه ونواهيه وعُهودَه، والقلبَ ليعقلها ويَفْقَهها، والبصرَ ليرى آياته فيستدلَّ بها على وحدانيته وربوبيته؛ فالمقصودُ بإعطائه هذه الآلات العلمُ وثمرتُه ومقتضاه.

الوجه الخامس والثمانون: أنَّ أنواع السعادات التي تُؤْثِرُها النفوسُ ثلاثة:

* سعادةٌ خارجيةٌ عن ذات الإنسان، بل هي مستعارةٌ له من غيره، تزولُ باسترداد العاريَّة، وهي سعادةُ المال والجاه وتوابعهما، فبينا المرءُ بها سعيدٌ ملحوظٌ بالعناية مرموقٌ بالأبصار، إذ أصبح في اليوم الواحد أذلَّ مِنْ وَتِدٍ بقاعٍ يُشَجِّجُ رأسَه بالفِهْر واجي

(2)

.

(1)

أخرجه الطبري (24/ 582)، والبيهقي في «الشعب» (8/ 492) من طريق علي بن أبي طلحة عنه.

(2)

هذا مثلٌ سائر. انظر: «المستقصى» (1/ 199)، و «جمهرة الأمثال» (1/ 468). وأصلُه بيتٌ لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، من كلمةٍ يهجو فيها عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص، في «الكامل» (341، 627). قال:

وكنتَ أذلَّ من وتدٍ بقاعٍ

يشجِّجُ رأسَه بالفِهْر واجِي

وهو من شواهد «الكتاب» (3/ 555)، و «شرح المفصَّل» (9/ 114)، و «شرح الشافية» (3/ 49)، وغيرها.

والقاع: المستوي من الأرض. ويُشَجِّج: مبالغةٌ من يشُجُّ. والفِهْر: الحجرُ ملء الكفِّ. و «واجي» أصلُها: «واجاء» ، اسمُ فاعلٍ من وَجَأ، خفَّف الهمزَ اضطرارًا.

ص: 295

فالسعادةُ والفرحُ بهذه كفرح الأقرع بجُمَّة ابن عمِّه، والجمالُ بها كجمال المرء بثيابه وبِزَّته، فإذا جاوز بصرُك كسوتَه فليس وراء عَبَّادان قرية

(1)

.

ويحكى عن بعض العلماء أنه ركبَ مع تجَّارٍ في مركب، فانكسرت بهم السفينة، فأصبحوا بعد عزِّ الغنى في ذلِّ الفقر، ووصلَ العالِمُ إلى البلد، فأُكرِمَ وقُصِدَ بأنواع التُّحف والكرامات، فلمَّا أرادوا الرجوع إلى بلادهم قالوا له: هل لك إلى قومك كتابٌ أو حاجة؟ فقال: نعم، تقولون لهم: إذا اتخذتم مالًا فاتخذوا مالًا لا يغرقُ إذا انكسرت السفينة

(2)

.

واجتمعَ رجلٌ ذو هيئةٍ حسنةٍ ولباسٍ جميلٍ ورُوَاءٍ

(3)

برجلٍ عالِم،

(1)

عبَّادان: بلدةٌ على الضفَّة الغربية لدجلة، تحت البصرة، ليس وراءها قريةٌ غير البحر (الخليج العربي)، وهي الآن ميناءٌ كبير تنتهي فيه أنابيب النفط الإيراني. انظر:«معجم البلدان» (عبادان)، و «الروض المعطار» (407)، و «بلدان الخلافة الشرقية» (70).

والعبارةُ مثلٌ سائر. وتطلقُ كنايةً عن الرجل الحسن الصورة وليس وراءه حاصل. انظر: «مجمع الأمثال» (2/ 257)، و «الكناية والتعريض» (115)، و «تتمة يتيمة الدهر» (5/ 235).

وسياقُ المصنف مأخوذٌ من قول الخوارزمي أو غيره:

أبو سعدٍ له ثوبٌ نفيسٌ

ولكن تحت ذاك الثوب عرية

فإن جاوزت كسوتَه إليه

فليس وراء عبادان قرية

انظر: «محاضرات الأدباء» (4/ 16)، و «رسائل الثعالبي» (137).

(2)

انظر: «الكلم الروحانية» لابن هندو (90)، و «مختار الحكم» للمبشر بن فاتك (32)، ومنتخب «صوان الحكمة» (217)، و «نزهة الأرواح» للشهرزوري (1/ 306).

(3)

بضمِّ الراء. وهو المنظر الحسن. «اللسان» (روي).

ص: 296

فجَسَّ المَخاضَةَ

(1)

فلم ير شيئًا، فقالوا: كيف رأيته؟ فقال: رأيتُ دارًا حسنةً مزخرفةً ولكنْ ليس بها ساكن!

* السعادة الثانية: سعادةٌ في جسمه وبدنه؛ كصحته واعتدال مِزاجه، وتناسُب أعضائه، وحُسْن تركيبه، وصفاء لونه، وقوَّة أعصابه

(2)

.

فهذه ألصقُ به من الأولى، ولكن هي في الحقيقة خارجةٌ عن ذاته وحقيقته؛ فإنَّ الإنسانَ إنسانٌ بروحه وقلبه لا بجسمه وبدنه، كما قيل:

يا خادمَ الجسم كم تشقى بخدمته

فأنت بالرُّوح لا بالجِسْم إنسانُ

(3)

فنسبةُ هذه إلى روحه وقلبه كنسبة ثيابه ولباسه إلى بدنه؛ فإنَّ البدنَ أيضًا عاريةٌ للرُّوح وآلةٌ لها ومركبٌ من مراكبها، فسعادتُها بصحَّته، وجمالُه وحُسْنُه سعادةٌ خارجةٌ عن ذاتها وحقيقتها.

* السعادة الثالثة: هي السعادةُ الحقيقية، وهي سعادةٌ نفسانيةٌ روحيةٌ قلبية، وهي سعادةُ العلم النافع وثمرتُه؛ فإنها هي الباقيةُ على تقلُّب الأحوال،

(1)

كنايةٌ عن اختبار المرء لكشف دخيلته. ويرادفه: سَبْر الغَوْر. انظر: «المعجم الكبير» لتيمور (5/ 322)، و «التصوف الإسلامي» لزكي مبارك (286).

(2)

(ت، د، ق): «أعضائه» .

(3)

البيت لأبي الفتح البستي في «ديوانه» (311)، وهو في بعض المصادر ضمن نونيَّته المشهورة، وورد مع آخر في نسخ الديوان منفردين عنها.

وفي (ح، ن) بعد البيت زيادة: «وفي رواية:

يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته

لتطلب الربح مما فيه خسران

أقبل على النفس فاستكمل فضائلها

فأنت بالروح لا بالجسم إنسان»

وهي رواية الديوان، وأظنها كانت تعليقًا لأحد القرَّاء، فأدخله الناسخ في الأصل.

ص: 297

والمُصاحِبةُ للعبد في جميع أسفاره، وفي دُوره الثلاثة ــ أعني دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار ــ، وبها يترقَّى في معارج الفضل ودرجات الكمال.

أمَّا الأولى، فإنما

(1)

تصحبُه في البقعة التي فيها مالُه وجاهُه.

والثانية، فعُرضةٌ للزوال والتبدُّل بِنَكْس الخَلْق والردِّ إلى الضَّعف.

فلا سعادةَ في الحقيقة إلا هذه الثالثة، التي كلَّما طال عليها الأمدُ ازدادت قوةً وعلوًّا، وإذا عُدِمَ المالُ والجاهُ فهي مالُ العبد وجاهُه، وتظهرُ قوتُها وأثرُها بعد مفارقة البدن

(2)

إذا انقطعت السعادتان الأوَّلتان

(3)

.

وهذه السعادةُ لا يعرفُ قَدْرَها ويبعثُ على طلبها إلا العلمُ بها؛ فعادت السعادةُ كلُّها إلى العلم وما يقتضيه، والله يوفِّقُ من يشاء، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.

وإنما رَغِبَ أكثرُ الخلق عن اكتساب هذه السعادة وتحصيلها لوعورة طريقها، ومرارة مَباديها، وتعب تحصيلها، وأنها لا تنالُ إلا على جسرٍ من التعب

(4)

؛ فإنها لا تُحَصَّلُ إلا بالجدِّ المحض، بخلاف الأوَّلتَين

(5)

، فإنهما حظٌّ قد يَحُوزُه

(1)

(ت، د، ق، ح): «فإنها» .

(2)

أي: مفارقة الروح البدن.

(3)

كذا في الأصول، مثنى: الأوَّلة. لغةٌ حكاها ثعلب، وعدَّها طائفةٌ من لحن العوام. والمشهور الفصيح: الأُولَيان، مثنى: الأُولى. انظر: «اللسان» (وأل)، و «تصحيح التصحيف» (139)، و «المصباح المنير» (آل). وتقع في مواضع من كتب المصنف بالتاء، وفي مواضع بالياء، ويصعب تمييز قلمه من اجتهادات النساخ في مثل هذا مما لم يصلنا بخطه.

(4)

(ن): «التعب والمشقة» .

(5)

مهملة في (د). (ق): «الأوليين» .

ص: 298

غيرُ طالبه، وبَخْتٌ قد يحرزُه

(1)

غيرُ جالبِه من ميراثٍ أو هبةٍ أو غير ذلك، وأمَّا سعادةُ العلم فلا يورثُك إياها إلا بذلُ الوسع، وصدقُ الطَّلب، وصحةُ النية.

وقد أحسنَ القائلُ في ذلك

(2)

:

فقُلْ لِمُرجِّي معالي الأمور

بغيرِ اجتهادٍ رَجَوْتَ المُحالا

وقال الآخر

(3)

:

لولا المشقَّةُ سادَ الناسُ كلُّهم

الجُودُ يُفْقِرُ والإقدامُ قتَّالُ

ومن طمَحَت همَّته إلى الأمور العَلِيَّة، فواجبٌ عليه أن يَسُدَّ على همَّته الطُّرقَ الدنيَّة.

وهذه السعادةُ وإن كانت في ابتدائها لا تنفكُّ عن ضربٍ من المشقَّة والكَرْه والتأذِّي، فإنها متى أُكرِهَت النفسُ عليها، وسِيقَت طائعةً وكارهةً إليها، وصبرَت على لأوائها وشدَّتها، أفضتْ منها إلى رياضٍ مُونِقَة، ومقاعدِ صدقٍ ومقامٍ كريم، تجدُ كلَّ لذَّةٍ دونها كلذَّة لعب الصَّبيِّ بالعصفور بالنسبة إلى لذَّة الملوك؛ فحينئذٍ حالُ صاحبها كما قيل:

وكنتُ أرى أنْ قد تناهى بيَ الهوى

إلى غايةٍ ما بعدَها ليَ مذهبُ

(1)

(ت، ق، د، ح): «يحوزه» . والبَخْت: فارسية، بمعنى الحظِّ.

(2)

وهو الخُبْزأرُزِّي (ت: 327)، في مستدرك ديوانه المنشور بمجلة المجمع العلمي العراقي (3/ 42/141)، وشعره المجموع في مجلة معهد المخطوطات (2/ 39/135)، كلاهما عن «محاضرات الأدباء» (1/ 156، 2/ 446).

(3)

وهو المتنبي، في ديوانه (505)، من كلمةٍ يمدح فيها فاتكًا، هي عندي من أصدق مدائحه.

ص: 299

فلمَّا تلاقينا وعايَنْتُ حُسْنَها

تيقَّنتُ أني إنما كنتُ ألعبُ

(1)

فالمكارمُ مَنُوطةٌ بالمكاره، والسعادةُ لا يُعْبَرُ إليها إلا على جسر المشقَّة، ولا تُقْطَعُ مسافتُها إلا في سفينة الجدِّ والاجتهاد.

قال مسلمٌ في «صحيحه»

(2)

: «قال يحيى بن أبي كثير: لا يُنالُ العلمُ براحة الجسم» .

وقد قيل: «من طلبَ الراحةَ تركَ الراحة»

(3)

.

فيا وَصْلَ الحبيب أمَا إليه

بغيرِ مشقَّةٍ أبدًا طريقُ

(4)

ولولا جهلُ الأكثرين بحلاوة هذه اللذَّة وعِظَم قدرها لتَجالدوا عليها بالسيوف، ولكن حُفَّت بحجابٍ من المكاره، وحُجِبوا عنها بحجابٍ من الجهل؛ ليختصَّ اللهُ بها من يشاء من عباده، والله ذوالفضل العظيم.

الوجه السادس والثمانون: أنَّ اللهَ سبحانه خلقَ الموجودات، وجَعَل

(1)

نسبهما محمد بن داود في «الزهرة» (274) لبعض أهل العصر، على عادته في عزو شعره لبعض أهل عصره، كما ذكر المسعوديُّ في «مروج الذهب» (5/ 196)، وتصديقُه فيما كتب نوري القيسي في «أوراق من ديوان محمد بن داود» (10 - 12).

(2)

(612). ولإيراد مسلم له في صحيحه في هذا الموضع منه نكتةٌ لطيفة، انظر:«إكمال المعلم» (2/ 577)، و «شرح النووي» (5/ 113).

(3)

انظر: «الزهد» للبيهقي (83)، و «أدب الدنيا والدين» (65).

وقال مِهْيار، ديوانه (1/ 80):

أتعبَه تغليسُه في العُلا

من طلبَ الراحةَ فليتعبِ

(4)

لم أجده، ويشبه نظم المصنف.

ص: 300

لكلِّ شيءٍ منها كمالًا يختصُّ به هو غايةُ شرفه، فإذا عَدِمَ كمالَه انتقل إلى الرتبة التي دونه واستُعمِلَ فيها، فكان استعمالُه فيها كمالَ أمثاله، فإذا عَدِمَ تلك أيضًا نُقِلَ إلى ما دونها، ولا يُعَطَّلُ

(1)

، وهكذا أبدًا، حتى إذا عَدِمَ كلَّ فضيلةٍ صار كالشَّوك وكالحطب الذي لا يصلحُ إلا للوقود.

فالفَرسُ إذا كانت فيه فروسيَّتُه التامَّةُ أُعِدَّ لمراكب الملوك، وأُكرِمَ إكرامَ مثله، فإذا نزل عنها قليلًا أُعِدَّ لمن دون المَلِك، فإن ازداد تقصيرُه فيها أُعِدَّ لآحاد الأجناد، فإن تقاصر عنها جملةً استُعمِلَ استعمالَ الحمار، إمَّا حولَ المَدار، وإمَّا لنقل الزِّبْل ونحوه، فإن عَدِمَ ذلك استُعمِلَ استعمالَ الأغنام للذبح والإعدام.

كما يقال في المثل

(2)

: إن فرسَيْن التقيا؛ أحدُهما تحت مَلِكٍ والآخرُ تحت الرَّوايا

(3)

، فقال فرسُ الملك: أمَا أنت صاحبي وكنتُ أنا وأنت في مكانٍ واحد، فما الذي نزَل بك إلى هذه المرتبة؟! فقال: ما ذاك إلا أنك هَمْلَجْتَ قليلًا وتَكسَّعتُ

(4)

أنا!

وهكذا السيفُ إذا نبا عمَّا هُيِّاء له ولم يصلُح له، ضُرِبَ منه فأسٌ أو

(1)

(ق، د): «ولا تعطل» .

(2)

انظر هذا المعنى في: «البيان والتبين» (2/ 103)، و «عيون الأخبار» (1/ 235)، و «المدهش» (300).

(3)

جمعُ راوية، وهي المزادةُ فيها الماء. «اللسان» (روي).

(4)

تكسَّع في ضلاله: ذهبَ، كتسكَّع. وربما أراد: شابهتُ الحمير، سُمِّيت الحميرُ كُسعةً لأنها تُكْسَعُ في أدبارها، أي: تُضرب. «اللسان» (كسع). وفي (ت): «وأينعت» . (د): «تلسعت» ، وفوقها بخطٍّ دقيق: كذا.

ص: 301

منشارٌ أو نحوه

(1)

، وهكذا الدُّورُ العِظامُ الحِسانُ إذا خَرِبَت وتهدَّمت اتُّخِذَت حظائرَ للغنم أو الإبل وغيرها.

وهكذا الآدميُّ إذا كان صالحًا لاصطفاء الله له برسالته ونبوَّته اتخذه رسولًا ونبيًّا، كما قال تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، فإذا كان جوهرُه قاصرًا عن هذه الدرجة صالحًا لخلافة النبوَّة وميراثها رشَّحه لذلك وبلَّغه إياه، فإذا كان قاصرًا عن ذلك قابلًا لدرجة الوَلاية رُشِّحَ لها، وإن كان ممَّن يصلحُ للعمل والعبادة دونَ المعرفة والعلم جُعِلَ من أهله، حتى ينتهي إلى درجة عموم المؤمنين، فإن نقصَ عن هذه الدرجة ولم تكن نفسُه قابلةً لشيءٍ من الخير أصلًا استُعْمِلَ حطبًا ووقودًا للنار.

وفي أثرٍ إسرائيلي: أنَّ موسى سأل ربَّه عن شأن من يعذِّبهم من خلقه؛ فقال: يا موسى، ازرع زرعًا، فزَرَعه، فأوحى الله إليه أن احصُده، ثمَّ أوحى إليه أن انسِفْه واذْرُه

(2)

، ففعل، وخَلَصَ الحبُّ وحده والتِّبنُ والعيدانُ والعَصْفُ وحده، فأوحى الله إليه: إني لا أجعلُ في النار من العباد إلا من لا خير فيه، بمنزلة العيدان والشَّوك التي لا تصلحُ إلا للنار

(3)

.

وهكذا الإنسانُ يترقَّى في درجات الكمال درجةً بعد درجة، حتى يَبْلُغَ

(1)

انظر: «الذريعة إلى مكارم الشريعة» (91).

(2)

النَّسْفُ والذَّرْو: تنقيةُ الحَبِّ.

(3)

أخرجه ابن المبارك (351)، وأحمد (88) كلاهما في «الزهد» ، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 91) عن عمار بن ياسر بإسنادٍ فيه ضعف.

وأخرجه الطبراني في «الأوسط» (642)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 286) عن سعيد بن جبير. وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 201):«رجاله رجال الصحيح» .

ص: 302

نهايةَ ما ينالُه أمثالُه منها، فكم بين حاله في أول كونه نطفةً وبين حاله والربُّ يُسَلِّمُ عليه في داره، وينظرُ إلى وجهه بكرةً وعشيًّا؟!

والنبيُّ صلى الله عليه وسلم في أول أمره لمَّا جاءه الملَك فقال له: اقرأ، فقال:«ما أنا بقاراء»

(1)

، وفي آخر أمره يقولُ الله له

(2)

: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]، ويقولُ له خاصَّة:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].

ويحكى أنَّ جماعةً من النصارى تحدَّثوا بينهم، فقال قائلٌ منهم: ما أقلَّ عقولَ المسلمين! يزعمونَ أنَّ نبيَّهم كان راعي الغنم، فكيف يصلُح راعي الغنم للنبوَّة؟! فقال له آخرُ من بينهم: أمَّا هم فوالله أعقلُ منَّا؛ فإنَّ الله بحكمته يسترعي النبيَّ الحيوانَ البهيم، فإذا أحسنَ رعايتَه والقيامَ عليه نقله منه إلى رعاية الحيوان الناطق؛ حكمةً من الله وتدريجًا لعبده

(3)

، ولكن نحن جئنا إلى مولودٍ خرج من امرأة، يأكلُ ويشربُ ويبولُ ويبكي، فقلنا: هذا إلهنا الذي خلقَ السموات والأرض! فأمسكَ القومُ عنه.

فكيف يَحْسُنُ بذي همَّةٍ قد أزاحَ اللهُ عنه عِلَلَه، وعرَّفَه السعادةَ والشقاوة، أن يرضى بأن يكون حيوانًا وقد أمكنه أن يصير إنسانًا، وبأن يكون إنسانًا وقد أمكنه أن يصير مَلَكًا

(4)

في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، فتقومُ

(1)

أخرجه البخاري (3)، ومسلم (160) من حديث عائشة.

(2)

(ق): «وفي آخره أمره بقول الله له» . وهو تحريف.

(3)

انظر: «فتح الباري» (4/ 441)، و «الرد على الإخنائي» (72).

(4)

وذلك أن أهل الجنة لا تقع منهم معصية، فأشبهوا الملائكة من هذا الوجه.

ص: 303

الملائكةُ بخدمته، وتدخلُ عليهم من كلِّ باب، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ؟!

(1)

.

وهذا الكمالُ إنما ينالُ بالعلم ورعايته، والقيام بمُوجَبه؛ فعادَ الأمرُ إلى العلم وثمرته، والله الموفِّق.

وأعظمُ النقص وأشدُّ الحسرة: نقصُ القادر على التمام، وحسرتُه على تفويته، كما قال بعض السلف: «إذا كَثُرَت طرقُ الخير كان الخارجُ منها

(2)

أشدَّ حسرة»

(3)

.

وصدق القائل

(4)

:

ولم أرَ في عيوب الناسِ عيبًا

كنقصِ القادرينَ على التمام

فثبت أنه لا شيء أقبحُ بالإنسان من أن يكون غافلًا عن الفضائل الدينية والعلوم النافعة والأعمال الصالحة، فمن كان كذلك فهو من الهَمَج الرَّعاع الذين يُكدِّرون الماءَ ويُغْلُون الأسعار، إنْ عاشَ عاشَ غيرَ حَمِيد، وإن مات مات غيرَ فَقِيد، ففقدُهم راحةٌ للبلاد والعباد، ولا تبكي عليهم السماء، ولا تستوحشُ لهم الغبراء.

الوجه السابع والثمانون: أنَّ القلبَ يعترضُه مرضان يتواردان عليه، إذا

(1)

انظر: «تفصيل النشأتين» (56)، و «الذريعة إلى مكارم الشريعة» (61)، و «شرح نهج البلاغة» (20/ 306).

(2)

أي: دون اغتنام لها.

(3)

انظر: «سراج الملوك» (200).

(4)

وهو المتنبي، في ديوانه (476).

ص: 304

استحكما فيه كان هلاكُه وموتُه، وهما: مرض الشهوات، ومرض الشبهات؛ وهذان أصلُ داء الخلق إلا من عافاه الله.

وقد ذكرَ اللهُ تعالى هذين المرضَيْن في كتابه:

* أمَّا مرض الشبهات، وهو أصعبُهما وأقتلُهما للقلب، ففي قوله تعالى في حقِّ المنافقين:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقوله:{وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدَّثر: 31]، وقال تعالى:{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 53].

فهذه ثلاثةُ مواضع، المرادُ بمرض القلب فيها مرضُ الجهل والشُّبهة.

* وأمَّا مرض الشهوة، ففي قوله:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، أي: لا تَلِنَّ بالكلام فيطمعَ الذي في قلبه فجورٌ وزنا.

قالوا: والمرأةُ ينبغي لها إذا خاطبت الأجانبَ أن تُغْلِظَ كلامَها وتقوِّيه ولا تُليِّنه وتكسِّره؛ فإنَّ ذلك أبعدُ من الرِّيبة والطمع فيها.

وللقلب أمراضٌ أُخر من: الرِّياء، والكِبْر، والعُجْب، والحسد، والفخر، والخُيلاء، وحبِّ الرِّياسة والعلوِّ في الأرض.

وهذا المرض

(1)

مركَّبٌ من مرض الشبهة والشهوة؛ فإنه لا بدَّ فيه من تخيُّلٍ فاسد، وإرادةٍ باطلة، كالعُجْب والفخر والخيلاء والكِبْر المركَّب من

(1)

يعني المذكور آخرًا.

ص: 305

تخيُّل عظمته وفضله وإرادة تعظيم الخلق له ومَحْمَدَتِهم

(1)

.

فلا يخرجُ مرضه عن شهوةٍ، أو شبهةٍ، أو مركَّبٍ منهما.

وهذه الأمراضُ كلُّها متولِّدةٌ عن الجهل، ودواؤها العلم، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديث صاحب الشَّجَّة الذي أفتوه بالغسل، فمات:«قتَلوه قتَلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟! إنما شفاءُ العِيِّ السؤال»

(2)

؛ فجعلَ العِيَّ ــ وهو عِيُّ القلب عن العلم، واللسان عن النطق به ــ مرضًا، وشفاؤه سؤالُ العلماء.

فأمراضُ القلوب أصعبُ من أمراض الأبدان؛ لأنَّ غايةَ مرض البدن أن يُفْضِي بصاحبه إلى الموت، وأمَّا مرضُ القلب فيُفْضِي بصاحبه إلى الشقاء الأبديِّ، ولا شفاءَ لهذا المرض إلا بالعلم.

ولهذا سمَّى اللهُ تعالى كتابَه شفاءً لأمراض الصدور، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].

ولهذا السبب نسبةُ العلماء إلى القلوب كنسبة الأطبَّاء إلى الأبدان، وما

(1)

(ح): «ومدحتهم» .

(2)

أخرجه أحمد (1/ 330)، وأبو داود (572)، وغيرهما من حديث ابن عباس.

وفيه اختلافٌ كثير، والأشبه صحة القدر الذي أورده المصنف وهو أصل الحديث، أما آخره فمعلول.

انظر: «الأوسط» لابن المنذر (2/ 22)، و «علل ابن أبي حاتم» (1/ 37)، و «سنن الدارقطني» (1/ 189)، و «الخلافيات» (2/ 490)، و «بيان الوهم والإيهام» (2/ 236).

ص: 306

يقالُ للعلماء: «أطبَّاءُ القلوب»

(1)

فهو لقَدْرٍ ما جامعٍ بينهما، وإلا فالأمرُ أعظمُ من ذلك؛ فإنَّ كثيرًا من الأمم يستغنون عن الأطبَّاء، ولا يوجدُ الأطبَّاء إلا في اليسير من البلاد، وقد يعيشُ الرجلُ عمره أو برهةً منه لا يحتاجُ إلى طبيب، وأما العلماءُ بالله وأمره فهم حياةُ الوجود وروحُه، ولا يستغنى عنهم طرفةَ عين.

فحاجةُ القلب إلى العلم ليست كالحاجة إلى التنفُّس في الهواء، بل أعظَم.

وبالجملة؛ فالعلمُ للقلب مثلُ الماء للسَّمك، إذا فقده مات، فنسبةُ العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها، وكنسبة سمع الأذن إليها، وكنسبة كلام اللِّسان إليه؛ فإذا عَدِمَه كان كالعين العمياء، والأذن الصَّمَّاء، واللِّسان الأخرس.

ولهذا يصفُ سبحانه أهلَ الجهل بالعمى والصَّمَم والبَكَم، وذلك صفةُ قلوبهم، فَقَدَت العلمَ النافعَ فبَقِيَت على عماها وصَمَمها وبَكَمِها، قال تعالى:{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72]، والمراد: عمى القلب في الدنيا، وقال تعالى:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [الإسراء: 97]؛ لأنهم هكذا كانوا في الدنيا، والعبدُ يُبْعَثُ على ما مات عليه.

واختُلِفَ في هذا العمى في الآخرة

(2)

.

(1)

انظر: «الإحياء» (1/ 31)، و «مجموع الفتاوى» (34/ 210)، و «زاد المعاد» (4/ 31)، و «إغاثة اللهفان» (1/ 248)، و «مدارج السالكين» (1/ 426، 439، 2/ 315).

(2)

انظر ما مضى (ص: 120).

ص: 307

فقيل: هو عمى البصيرة؛ بدليل إخباره تعالى عن رؤية الكفار ما في القيامة ورؤية الملائكة ورؤية النار.

وقيل: هو عمى البصر؛ ورُجِّحَ هذا بأنَّ الإطلاقَ ينصرفُ إليه، وبقوله {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} [طه: 125]، وهذا عمى العين؛ فإنَّ الكافرَ لم يكن بصيرًا بحجَّته.

وأجاب هؤلاء عن رؤية الكفَّار في القيامة بأنَّ الله يخرجهم من قبورهم إلى موقف القيامة بُصَرَاء، ويُحْشَرون من الموقف إلى النار عُمْيًا. قاله الفرَّاءُ وغيره

(1)

.

الوجه الثامن والثمانون: أنَّ الله سبحانه بحكمته سَلَّط على العبد عدوًّا عالمًا بطرق هلاكه وأسباب الشرِّ الذي يلقيه فيه، متفنِّنًا فيها، خبيرًا بها، حريصًا عليها، لا يَفْتُرُ عنه يقظةً ولا منامًا، ولا بدَّ له من واحدةٍ من ستٍّ ينالها منه

(2)

:

* أحدُها

(3)

ــ وهي غايةُ مراده منه ــ: أن يحُول بينه وبين العلم والإيمان، فيلقيه في الكفر. فإذا ظفر بذلك فرغ منه واستراح.

* فإن فاتته هذه وهُدِيَ للإسلام حرصَ على تِلْو الكفر، وهي البدعة، وهي أحبُّ إليه من المعصية؛ فإنَّ المعصية يُتابُ منها والبدعةُ لا يُتابُ منها؛ لأنَّ صاحبها يرى أنه على هدى.

(1)

انظر: «معاني القرآن» (2/ 194)، و «زاد المسير» (5/ 332).

(2)

انظر: «بدائع الفوائد» (799 - 802).

(3)

كذا في الأصول.

ص: 308

وفي بعض الآثار: «يقولُ إبليس: أهلكتُ بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله، فلمَّا رأيتُ ذلك بثثتُ فيهم الأهواء فهم يُذْنِبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا»

(1)

.

فإذا ظفر منه بهذه صَيَّره من دعاته وأمرائه.

* فإن أعجزَته ألقاه في الثالثة، وهي الكبائر.

* فإن أعجزَته ألقاه في اللَّمَم، وهي الرابعة، وهي الصغائر.

* فإن أعجزَته شَغَله بالعمل المفضول عما هو أفضلُ منه، ليَرْبَح عليه الفضلَ الذي بينهما؛ وهي الخامسة.

* فإن أعجزه ذلك صار إلى السادسة، وهي تسليطُ حزبه عليه يؤذونه ويشتمونه ويَبْهَتونه ويرمونه بالعظائم؛ ليَحْزُنَه ويشغلَ قلبه عن العلم والإرادة وسائر أعماله.

فكيف يمكنُ أن يحترز منه من لا علم له بهذه الأمور، ولا بعدوِّه، ولا بما يحصِّنُه منه؟! فإنه لا ينجو من عدوِّه إلا من عرفه وعرفَ طرقَه التي يأتيه منها وجيشَه الذي يستعينُ به عليه، وعرفَ مداخلَه ومخارجَه، وكيفيَّةَ محاربته، وبأيِّ شيءٍ يحاربه، وبماذا يداوي جِراحتَه

(2)

، وبأيِّ شيءٍ يستمدُّ

(1)

أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (1/ 40)، وأبو يعلى في «مسنده» (1/ 123) - ومن طريقه تاج الدين السبكي في «طبقات الشافعية» (1/ 28) -، والطبراني في «الدعاء» (1780) من حديث أبي بكر الصديق مرفوعًا بإسنادٍ شديد الضعف.

وانظر: «تفسير ابن كثير» (2/ 775)، و «مجمع الزوائد» (10/ 207)، و «إتحاف الخيرة» للبوصيري (7/ 422).

(2)

(ح، ن): «جراحاته» .

ص: 309

القوةَ لقتاله ودفعه. وهذا كلُّه لا يحصلُ إلا بالعلم. فالجاهلُ في غفلةٍ وعمًى عن هذا الأمر العظيم والخَطب الجسيم.

ولهذا جاء ذكرُ هذا العدوِّ وشأنه وجنوده ومكايده في القرآن كثيرًا جدًّا؛ لحاجة النفوس إلى معرفة عدوِّها، وطرق محاربته ومجاهدته، فلولا العلمُ يكشفُ عن هذا لما نجا من نجا منه؛ فالعلمُ وثمرتُه

(1)

هو الذي تحصلُ به النجاة منه.

الوجه التاسع والثمانون: أنَّ أعظمَ الأسباب التي يُحْرَمُ بها العبدُ خيرَ الدنيا والآخرة ولذَّة النعيم في الدَّارين، ويدخلُ عليه عدوُّه منها، هو:

* الغفلةُ المضادَّة للعلم.

* والكسلُ المضادُّ للإرادة والعزيمة.

هذان أصلُ بلاء العبد وحِرْمانه منازلَ السُّعداء، وهما من عدم العلم.

* أمَّا الغفلة، فمضادَّةٌ للعلم منافيةٌ له.

وقد ذمَّ سبحانه أهلها، ونهى عن الكَوْن منهم

(2)

، وعن طاعتهم والقبول منهم، قال تعالى:{وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، وقال تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

(1)

«وثمرته» ليست في (ق).

(2)

(ن): «معهم» . والمثبت موافقٌ للفظ الآية.

ص: 310

وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في وصيَّته لنساء المؤمنين: «ولا تَغْفُلْنَ فتَنْسَيْنَ الرَّحمة»

(1)

.

وسئل بعضُ العلماء عن عشق الصُّوَر، فقال:«قلوبٌ غَفَلت عن ذكر الله، فابتلاها بعبوديَّة غيره»

(2)

.

فالقلبُ الغافلُ مأوى الشيطان؛ فإنه وسواسٌ خنَّاس، قد التقمَ قلبَ الغافل

(3)

يقرأ عليه أنواعَ الوساوس والخيالات الباطلة، فإذا تذكَّر وذكر اللهَ انجَمَع

(4)

وانضمَّ وخَنَسَ وتضاءلَ لذكر الله، فهو دائمًا بين الوسوسة والخَنْس.

وقال عروةُ بن رُوَيْم: «إنَّ المسيحَ عليه السلام سأل ربَّه أن يُرِيَه موضعَ الشيطان من ابن آدم، فجلَّى له، فإذا رأسُه رأسُ الحَيَّة، واضعٌ رأسَه على ثمرة القلب، فإذا ذكر العبدُ ربَّه خَنَس، وإذا لم يذكر وَضَع رأسَه على ثمرة قلبه فمَنَّاه وحَدَّثه»

(5)

.

(1)

أخرجه الترمذي (3583)، وأبو دود (1501)، وأحمد (6/ 370)، وغيرهم.

قال الترمذي ــ كما في المطبوعة، ولم يرد في «تحفة الأشراف» (13/ 67) ــ:«هذا حديث غريب» .

وصححه ابن حبان (842)، والحاكم (1/ 547) ولم يتعقبه الذهبي ــ وانظر:«إتحاف المهرة» (18/ 229) ــ، وحسنه النووي في «الأذكار» ، وابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 87).

(2)

انظر: «جامع المسائل» (1/ 178) رسالة العشق المنسوبة لابن تيمية.

(3)

(ن): «القلب الغافل» .

(4)

في طرَّة (ح) إشارةٌ إلى أن في نسخة: «انقمع» .

(5)

أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (6/ 123)، وغيره. وانظر:«فتح الباري» (6/ 563، 8/ 742)، و «الدر المنثور» (6/ 420).

ص: 311

وقد روي في هذا المعنى حديثٌ مرفوع

(1)

.

فهو دائمًا يترقَّبُ غفلةَ العبد، فيبذُر في قلبه بذرَ الأماني والشهوات والخيالات الباطلة، فيثمرُ كلَّ حنظلةٍ وكلَّ شوكٍ وكلَّ بلاء، ولا يزالُ يمدُّه بسَقْيِه حتى يغطِّي القلبَ ويُعْمِيه.

* وأمَّا الكسل، فيتولَّد عنه الإضاعةُ والتفريطُ والحرمانُ وأشدُّ الندامة وهو منافٍ للإرادة والعزيمة التي هي ثمرةُ العلم؛ فإنَّ من علمَ أنَّ كمالَه ونعيمَه في شيءٍ طلبه بجهده وعزم عليه بقلبه كلِّه، فإنَّ كلَّ أحدٍ يسعى في تكميل نفسه ولذَّته، ولكنَّ أكثرهم أخطأ الطَّريق لعدم علمه بما ينبغي أن يطلبه.

فالإرادةُ مسبوقةٌ بالعلم والتصوُّر، فتخلُّفها في الغالب إنما يكونُ لتخلُّف العلم والإدراك، وإلا فمع العلم التامِّ بأنَّ سعادة العبد في هذا المَطْلب ونجاتَه وفوزَه كيف يلحقُه كسلٌ في النهوض إليه؟!

ولهذا استعاذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الكسل؛ ففي «الصحيح»

(2)

عنه أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذُ بك من الهمِّ والحَزَن، والعجز والكسل، والجُبْن والبخل، وضِلَع الدَّين وغلبة الرجال» .

(1)

أخرجه أبو يعلى (4301)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 268)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 186)، والبيهقي في «الشعب» (2/ 435)، وغيرهم من حديث أنسٍ بإسنادٍ ضعيف.

وضعفه ابن حجر في «الفتح» (8/ 742).

وانظر: «مجمع الزوائد» (7/ 149)، و «إتحاف الخيرة» (6/ 315، 384).

(2)

«البخاري» (2893)، واللفظ له، و «مسلم» (2706) من حديث أنس.

ص: 312

فاستعاذ من ثمانية أشياء

(1)

، كلُّ شيئين منها قرينان:

* فالهمُّ والحزنُ قرينان.

والفرقُ بينهما: أنَّ المكروه الوارد على القلب إمَّا أن يكون على ما مضى أو لما يُسْتَقْبَل؛ فالأول هو الحزن، والثاني الهمُّ.

وإن شئتَ قلتَ: الحزنُ على المكروه الذي فات ولا يُتَوقَّعُ دفعُه، والهمُّ على المكروه المنتَظَر الذي يُتَوقَّعُ دفعُه. فتأمَّلْه.

* والعجزُ والكسلُ قرينان.

فإنَّ تخلُّف مصلحة العبد وكماله ولذَّته وسروره عنه، إمَّا أن يكون مصدرُه عدمَ القدرة، فهو العجز، أو يكون قادرًا عليه لكن تخلَّف لعدم إرادته، فهو الكسل، وصاحبُه يلامُ عليه ما لا يلامُ على العجز.

وقد يكونُ العجزُ ثمرةَ الكسل، فيلامُ عليه أيضًا؛ فكثيرًا ما يكسلُ المرءُ عن الشيء الذي هو قادرٌ عليه، وتَضْعُفُ عنه إرادتُه؛ فيفضي به إلى العجز عنه. وهذا هو العجزُ الذي يلومُ اللهُ عليه في قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الله يلومُ على العجز»

(2)

، وإلا فالعجزُ الذي لم تُخْلَق له قدرةٌ على دفعه ولا يدخلُ

(1)

انظر: «طريق الهجرتين» (606)، و «بدائع الفوائد» (714)، و «زاد المعاد» (2/ 358)، و «روضة المحبين» (61).

(2)

أخرجه أحمد (6/ 24)، وأبو داود (3627)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (626)، وغيرهم من حديث سيف الشامي عن عوف بن مالكٍ رضي الله عنه.

قال النسائي: «سيفٌ لا أعرفه» . وعرفه العجليُّ، فقال في «الثقات» (1/ 644):«شاميٌّ تابعيٌّ ثقة» . وذكره ابنُ حبان في «الثقات» (4/ 339)، وابنُ خلَفون في «الثقات» ، كما في «إكمال تهذيب الكمال» (6/ 198).

ص: 313

مَعْجُوزُه تحت القدرة لا يلامُ عليه.

قال بعض الحكماء في وصيَّته: «إياك والكسلَ والضَّجر؛ فإنَّ الكسلَ لا ينهض لمَكْرُمَة، والضجرُ إذا نهض إليها لا يصبرُ عليها»

(1)

.

والضَّجرُ متولِّدٌ عن الكسل والعجز، فلم يُفْرِده في الحديث بلفظ.

* ثمَّ ذكر الجُبْنَ والبخل.

فإنَّ الإحسانَ المتوقَّعَ من العبد إمَّا بماله وإمَّا ببدنه، فالبخيلُ مانعٌ لنفع ماله، والجبانُ مانعٌ لنفع بدنه.

والمشهورُ عند الناس أنَّ البخلَ يستلزم الجُبْنَ، من غير عكس؛ لأنَّ من بَخِلَ بماله فهو بنفسه أبخَل، والشجاعةُ تستلزمُ الكرم، من غير عكس؛ لأنَّ من جاد بنفسه فهو بماله أسمَحُ وأجوَد.

وهذا الذي قالوه ليس بلازمٍ وإن كان أكثريًّا؛ فإنَّ الشجاعةَ والكرمَ وأضدادها أخلاقٌ وغرائزُ قد تجتمعُ في الرجل، وقد يعطى بعضَها دون بعض

(2)

.

وقد شاهدَ الناسُ من أهل الإقدام والشجاعة والبأس من هو أبخلُ الناس، وهذا كثيرًا ما يوجدُ في أمَّة التُّرك؛ يكونُ أشجعَ من لَيْثٍ وأبخلَ من كلب

(3)

.

فالرجلُ قد يسمحُ بنفسه ويَضِنُّ بماله، ولهذا يقاتِلُ عليه حتى يُقْتَل،

(1)

انظر: «البيان والتبيُّن» (2/ 252)، و «محاضرات الأدباء» (1/ 275).

(2)

انظر: «الجليس والأنيس» (2/ 450).

(3)

انظر: «جمهرة الأمثال» (1/ 247، 538).

ص: 314

فيبذُل نفسَه

(1)

دونه.

فمن الناس من يسمحُ بنفسه وماله، ومنهم من يبخلُ بنفسه وماله، ومنهم من يسمحُ بماله ويبخلُ بنفسه، وعكسُه. والأقسامُ الأربعةُ موجودةٌ في الناس.

* ثمَّ ذكر ضِلَعَ الدَّين وغلبةَ الرجال.

فإنَّ القهرَ الذي ينالُ العبدَ نوعان:

أحدهما: قهرٌ بحقٍّ؛ وهو ضِلَعُ الدَّين.

والثاني: قهرٌ بباطل؛ وهو غلبةُ الرجال.

فصلواتُ الله وسلامُه على من أوتيَ جوامعَ الكلم، واقتُبِسَت كنوزُ العلم والحكمة من ألفاظه.

والمقصودُ أنَّ الغفلةَ والكسلَ ــ اللذَين هما أصلُ الحرمان ــ سببهما عدمُ العلم؛ فعاد النقصُ كلُّه إلى عدم العلم والعزيمة، والكمالُ كلُّه إلى العلم والعزيمة.

والناسُ في هذا على أربعةِ أضرُب:

الضربُ الأول: من رُزِقَ علمًا، وأُعِينَ مع ذلك

(2)

بقوَّة العزيمة على العمل به؛ وهذا الضربُ هم خلاصةُ الخلق، وهم الموصوفون في القرآن بقوله:{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، وقوله:{أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]، وبقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي

(1)

في الأصول: «فيبدا بنفسه» . وفي طرَّة (ح): «لعله: فيفدا» . والمثبت أشبه.

(2)

(ت، ق، ح): «على ذلك» .

ص: 315

النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]؛ فبالحياة نالَ العزيمة، وبالنُّور نالَ العلم.

وأئمةُ هذا الضرب هم أولو العزم من الرسل.

الضربُ الثاني: من حُرِمَ هذا وهذا؛ وهم الموصوفون بقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]، وبقوله:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وبقوله:{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم: 52]، وقوله:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22].

وهذا الضربُ شرُّ البريَّة، يضيِّقون الدِّيار، ويُغْلُون الأسعار.

وعند أنفسهم أنهم يعلمون، ولكنْ ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون.

ويتعلَّمون، ولكنْ ما يضرُّهم ولا ينفعهم.

وينطقون، ولكنْ عن الهوى ينطقون.

ويتكلَّمون، ولكنْ بالجهل يتكلَّمون.

ويؤمنون، ولكنْ بالجِبْت والطاغوت يؤمنون.

ويعبدون، ولكنْ يعبدون من دون الله ما لا يضرُّهم ولا ينفعهم.

ويجادِلون، ولكنْ بالباطل ليدحضوا به الحقَّ.

ويتفكرون ويبيِّتون

(1)

، ولكنْ ما لا يرضى من القول يبيِّتون.

(1)

«ويتفكرون» ليست في (ن).

ص: 316

ويَدْعُون، ولكن مع الله إلهًا آخر يَدْعُون.

ويَذْكُرون، ولكن إذا ذُكِّروا لا يَذْكُرون.

ويصلُّون، ولكنهم من المصلِّين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراؤون، ويمنعون الماعون.

ويَحْكمون، ولكن حُكْمَ الجاهلية يبغون.

ويكتبون، ولكن يكتبونَ الكتابَ بأيديهم، ثمَّ يقولون: هذا من عند الله؛ ليشتروا به ثمنًا قليلًا، فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون.

ويقولون: إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس، قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء؟! ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون!

(1)

. فهذا الضربُ ناسٌ بالصُّورة وشياطينُ بالحقيقة

(2)

.

وجُلُّهمُ إذا فَكَّرْتَ فيهم

حميرٌ أو كلابٌ أو ذئابُ

(3)

وصدق البحتريُّ في قوله

(4)

:

لم يبقَ من جُلِّ هذا الناس باقيةٌ

ينالُها الوَهْمُ إلا هذه الصُّوَرُ

(1)

اقتبس المصنفُ هاهنا بعض الآيات، فلم أرسمها برسم المصحف.

(2)

انظر: «تفصيل النشأتين» (51).

(3)

البيت لصالح بن عبد القدوس في «تاريخ دمشق» (23/ 353). وفي «تفصيل النشأتين» (53)، و «معارج القدس» (16) دون نسبة.

(4)

في ديوانه (2/ 954)، و «الموازنة» (2/ 259).

ص: 317

وقال آخر

(1)

:

لا تَخْدَعنْكَ اللِّحى ولا الصُّوَرُ

تِسْعةُ أعشارِ من ترى بَقَرُ

في شجَرِ السَّرْوِ منهمُ مَثَلٌ

لها رُواءٌ وما لها ثَمَرُ

وأحسنُ من هذا كلِّه قولُه تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4].

عالِمُهم كما قيل فيه:

زَوامِلُ للأسْفارِ

(2)

لا علمَ عندهم

بجيِّدها إلا كعِلْمِ الأباعرِ

لعَمرُك ما يدري البعيرُ إذا غدا

بأوْسَاقِه أو راحَ ما في الغَرائرِ

(3)

وأحسنُ من هذا وأبلغُ وأوجزُ وأفصحُ قولُه تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5].

(1)

وهو ابن لَنْكَك. والبيتان في «اليتيمة» (2/ 410) ومعهما ثالث. والثاني وحده في «أسرار البلاغة» (117)، و «ثمار القلوب» (846)، وغيرهما. وهما في شعره المجموع (27).

(2)

جمعُ «سِفْر» ، وهو الكتاب. وفي المصادر الآتية:«للأشعار» . والزوامل: الإبلُ يحمِلُ عليها الرجلُ زاده ومتاعه. والأباعر: جمعُ بعير. والأوساق: الأحمال. والغرائر: أوعيةٌ من خَيْشٍ ونحوه.

(3)

البيتان لمروان بن أبي حفصة في «الكامل» (1037)، و «العقد» (2/ 484)، وفي شعره المجموع (58)، يهجو قومًا من رُواة الشِّعر لا يَعْلَمُون ما هو، على استكثارهم من روايته.

ص: 318

الضربُ الثالث: من فُتِحَ له بابُ العلم وأُغلِقَ عنه بابُ العزم والعمل؛ فهذا في رتبة الجاهل أو شرٌّ منه.

وفي الحديث المرفوع: «أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة عالمٌ لم ينفعه اللهُ بعلمه»

(1)

، ثبَّته أبو نعيمٍ وغيرُه.

فهذا جهلُه كان خيرًا له وأخفَّ لعذابه من علمه، فما زاده العلمُ إلا وبالًا وعذابًا، ومع هذا

(2)

لا مطمعَ في صلاحه، فإنَّ التائه عن الطريق يُرجى له العَوْدُ إليها إذا أبصرها، فإذا عرفها وحاد عنها عمدًا فمتى تُرجى هدايته؟! قال تعالى:{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86].

الضربُ الرابع: من رُزِقَ حظًّا من العزيمة والإرادة، ولكن قلَّ نصيبُه من العلم والمعرفة؛ فهذا إذا وُفِّق له الاقتداءُ بداعٍ من دعاة الله ورسوله كان من الذين قال الله فيهم:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69 - 70].

(1)

أخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» (1/ 305)، والبيهقي في «الشعب» (4/ 405)، وغيرهما من حديث أبي هريرة بإسنادٍ ضعيف.

قال ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 628): «هو حديثٌ انفرد به عثمان البرِّي، لم يرفعه غيره، وهو ضعيف الحديث» . وأخرجه ابنُ عدي في ترجمته من «الكامل» (5/ 158)، وقال في (3/ 40):«هو معروفٌ به، والبلاء منه» . وضعَّفه العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 11).

(2)

(ح، ن): «وهذا» .

ص: 319