المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوجه الثالث والخمسون: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتبليغ العلم عنه - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الوجه الثاني عشر: أنه سبحانه جعلَ أهلَ الجهل بمنزلة العُميان الذين لا يبصرون

- ‌الوجه الرابع عشر: أنه سبحانه أمرَ بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم

- ‌الوجه الثامن عشر: أنه سبحانه أمرَ نبيَّه أن يسأله مزيدَ العلم

- ‌الوجه التاسع عشر: أنه سبحانه أخبرَ عن رِفْعة درجات أهل العلم والإيمان خاصَّة

- ‌الوجه العشرون: أنه سبحانه استشهَد بأهل العلم والإيمان يومَ القيامة على بطلان قول الكفار

- ‌الوجه الحادي والثلاثون: أنه سبحانه ذمَّ أهلَ الجهل في مواضع كثيرةٍ من كتابه:

- ‌الوجه الثاني والثلاثون: أنَّ العلمَ حياةٌ ونور، والجهلَ موتٌ وظُلمَة

- ‌الوجه التاسع والثلاثون: أنه سبحانه سمَّى الحُجَّة العلميةَ سلطانًا

- ‌الوجه الثاني والخمسون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع كلامَه ووعاه وبلَّغه بالنَّضرة

- ‌الوجه الثالث والخمسون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ بتبليغ العلم عنه

- ‌الوجه الخامس والستون: أنَّ الإنسانَ إنما يُمَيَّزُ على غيره من الحيوانات بفضيلة العلم والبيان

- ‌الوجه السادس والستون: أنَّ العلمَ حاكمٌ على ما سواه، ولا يَحْكُم عليه شيء

- ‌الوجه الثامن والستون: أنَّ صفات الكمال كلَّها ترجعُ إلى العلم والقدرة والإرادة، والإرادةُ فرعُ العلم

- ‌الوجه الحادي والسبعون: أنَّ حاجةَ العباد إلى العلم ضروريَّةٌ فوق حاجة الجسم إلى الغذاء

- ‌الوجه الثاني والسبعون: أنَّ صاحبَ العلم أقلُّ تعبًا وعملًا، وأكثرُ أجرًا

- ‌الوجه الثالث والسبعون: أنَّ العلمَ إمامُ العمل وقائدٌ له، والعملُ تابعٌ له ومؤتمٌّ به

- ‌الوجه الرابع والسبعون: أنَّ العاملَ بلا علمٍ كالسائر بلا دليل

- ‌الوجه التاسع والسبعون: أنَّ اللذَّة بالمحبوب تَضْعُفُ وتقوى بحسب قوَّة الحبِّ وضعفه

- ‌الوجه الحادي والثمانون: أنَّ فضيلةَ الشيء تُعْرَفُ بضدِّه

- ‌الوجه الثالث والثمانون: أنَّ أشرفَ ما في الإنسان محلُّ العلم منه، وهو قلبُه وسمعُه وبصرُه

- ‌الوجه التسعون: أنَّ كلَّ صفةٍ مدحَ الله بها العبدَ في القرآن فهي ثمرةُ العلم ونتيجتُه

- ‌الوجه الثامن والمئة: أنَّ كثيرًا من الأئمة صرَّحوا بأنَّ أفضلَ الأعمال بعد الفرائض طلبُ العلم

- ‌لا شيء أنفعُ للقلب من قراءة القرآن بالتدبُّر والتفكُّر

الفصل: ‌الوجه الثالث والخمسون: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتبليغ العلم عنه

وقولُه: «فإنَّ دعوتهم تحيطُ من ورائهم» هذا من أحسن الكلام وأوجزه وأفخمه معنى؛ شبَّه دعوةَ المسلمين بالسُّور والسِّياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوِّهم عليهم، فتلك الدعوةُ ــ التي هي دعوةُ الإسلام، وهم داخلوها ــ لمَّا كانت سُورًا وسياجًا عليهم أخبر أنَّ من لَزِمَ جماعةَ المسلمين أحاطت به تلك الدعوة ــ التي هي دعوةُ الإسلام ــ كما أحاطت بهم، فالدعوةُ تجمعُ شملَ الأمَّة، وتَلُمُّ شَعَثَها، وتحيطُ بها، فمن دخلَ في جماعتها أحاطت به وشَمِلَته.

‌الوجه الثالث والخمسون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ بتبليغ العلم عنه

؛ ففي «الصحيح» من حديث عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلِّغوا عنِّي ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذبَ عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعدَه من النار»

(1)

.

وقال: «ليبلِّغ الشاهدُ منكم الغائب» .

روى ذلك: أبو بكرة، ووابصةُ بن معبد، وعمارُ بن ياسر، وعبدُ الله بن عمر، وعبدُ الله بن عباس، وأسماءُ بنت يزيد بن السَّكن، وحُجَير

(2)

، وأبو قُريع

(3)

، وسَرَّاءُ بنت نبهان، ومعاويةُ بن حيدة القشيري، وعَمُّ أبي حُرَّة

(4)

،

(1)

«صحيح البخاري» (3461).

(2)

ابن أبي حُجَيْر الهلالي. أخرج حديثه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (3/ 302)، والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» (386 - زوائده)، وغيرهما، وإسناده صالحٌ كما قال ابن حجر في «الإصابة» (2/ 41).

(3)

اسمه: شريح. أخرج حديثه ابن منده. «الإصابة» (7/ 332).

(4)

اسمه: حنيفة. وقيل غير ذلك. انظر: «المعجم الكبير» للطبراني (4/ 53)، و «الإصابة» (2/ 140). وحديثه عند أحمد (5/ 72) وغيره.

ص: 200

وغيرهم

(1)

.

فأمرَ صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه؛ لما في ذلك من حصول الهدى بالتبليغ، وله صلى الله عليه وسلم أجرُ من بَلَّغَ عنه وأجرُ من قَبِلَ ذلك البلاغ، وكلما كَثُرَ التبليغُ عنه تضاعفَ له الثواب، فله من الأجر بعدد كلِّ مبلَّغٍ وكلِّ مُهْتَدٍ بذلك البلاغ، سوى ما له من أجر عمله المختصِّ به، فكلُّ من هُدِيَ واهتدى بتبليغه فله أجرُه؛ لأنه هو الداعي إليه.

ولو لم يكن في تبليغ العلم عنه إلا حصولُ ما يحبُّه صلى الله عليه وسلم لكفى به فضلًا، وعلامةُ المحبِّ الصادق أن يسعى في حصول محبوب محبوبه، ويبذلَ جهدَه وطاقته فيها، ومعلومٌ أنه لا شيء أحبُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيصاله الهدى إلى جميع الأمَّة، فالمبلِّغُ عنه ساعٍ في حصول محابِّه، فهو أقربُ الناس منه وأحبُّهم إليه، وهو نائبُه وخليفتُه في أمَّته، وكفى بهذا فضلًا وشرفًا للعلم وأهله.

الوجه الرابع والخمسون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قدَّم بالفضائل العِلْميَّة في أعلى الولايات الدينيَّة وأشرفها، وقدَّم بالعلم بالأفضل

(2)

على غيره.

فروى مسلمٌ في «صحيحه»

(3)

حديثَ أبي مسعود البدريِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «يؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمُهم

(1)

وعُدَّ من المتواتر. انظر: «نظم المتناثر» للكتاني (34). وهو في «صحيح البخاري» (67) ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة. وحديثُ الباقين مشهورٌ لا نطيلُ بتخريجه.

(2)

(ت): «بالعلم الأفضل» .

(3)

(673).

ص: 201

بالسُّنَّة، فإن كانوا في السُّنَّة سواءً فأقدمهم سِلْمًا أو سنًّا

» وذكرَ الحديث.

فقدَّم في الإمامة بفضيلة العلم

(1)

على تقدُّم الإسلام والهجرة، ولما كان العلمُ بالقرآن أفضل من العلم بالسُّنَّة ــ لشرف معلومه على معلوم السُّنَّة ــ قدَّمَ العلمَ به، ثمَّ قدَّمَ العلمَ بالسُّنَّة على تقدُّم الهجرة، وفيه من زيادة العمل ما هو متميِّزٌ به، لكن إنما راعى التقديمَ بالعلم ثمَّ بالعمل، وراعى التقديمَ بالعلم بالأفضل على غيره، وهذا يدلُّ على شرف العلم وفضله، وأنَّ أهلَه هم أهلُ التقدُّم

(2)

إلى المراتب الدينيَّة.

الوجه الخامس والخمسون: ما ثبتَ في «صحيح البخاري»

(3)

من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلَّمه» .

وتعلُّمُ القرآن وتعليمُه يتناولُ تعلُّم حروفه وتعليمَها، وتعلُّمَ معانيه وتعليمَها، وهو أشرفُ قِسْمَي تعلُّمه وتعليمه؛ فإنَّ المعنى هو المقصود، واللفظُ وسيلةٌ إليه، فتعلُّم المعنى وتعليمُه تعلُّمُ الغاية وتعليمُها، وتعلُّمُ اللفظ المجرَّد وتعليمُه تعلُّمُ الوسائل وتعليمُها، وبينهما كما بين الغايات والوسائل.

الوجه السادس والخمسون: ما رواه الترمذي وغيرُه في نسخة عمرو ابن الحارث، عن درَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«لن يشبعَ المؤمنُ من خيرٍ يسمعُه حتى يكونَ منتهاه الجنة»

(4)

.

(1)

(ق): «تفضيله العلم» . وهو تحريف.

(2)

(ت، ن): «التقديم» .

(3)

(5027).

(4)

أخرجه الترمذي (2686)، والبيهقي في «الشعب» (3/ 430)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (897)، وغيرهم.

وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (903)، والحاكم (4/ 129) ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه ابنُ عدي في «الكامل» (3/ 114) في ترجمة دَرَّاج ضمن ما قد يُستنكَر من حديثه.

ص: 202

قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسنٌ غريب» .

وهذه نسخةٌ معروفةٌ رواها الناس

(1)

.

وساق أحمدُ في «المسند»

(2)

أكثرها أو كثيرًا منها.

ولهذا الحديث شواهد.

فجعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم النَّهمةَ في العلم وعدمَ الشِّبع منه من لوازم الإيمان وأوصاف المؤمنين، وأخبرَ أنَّ هذا لا يزالُ دأبَ المؤمن حتى دخوله الجنة.

ولهذا كان أئمَّةُ الإسلام إذا قيل لأحدهم: إلى متى تطلب العلم؟ فيقول: إلى الممات.

قال نعيمُ بن حماد: سمعتُ عبد الله بن المبارك رضي الله عنه يقول، وقد عابه قومٌ في كثرة طلبه للحديث؛ فقالوا له: إلى متى تسمَع؟!، قال: إلى الممات

(3)

.

(1)

واختُلِف في أحاديثها، تبعًا للاختلاف في راويها دَرَّاج؛ فمن الحفَّاظ من لم ير بها بأسًا: كابن معينٍ، وابن حبان، والحاكم، ومنهم من ضعَّفها: كأحمد، وأبي داود.

انظر: «تاريخ ابن معين» (4/ 413 - رواية الدوري)، و «سؤالات الأجري» (2/ 166)، و «الكامل» لابن عدي (3/ 112)، و «جامع الترمذي» (2033، 2617، 3093).

(2)

(3/ 8، 28 - 29، 69، 70 - 71، 75 - 76، 81، 83).

(3)

أخرجه ابن عدي في «الكامل» (1/ 103). وانظر: «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 406).

ص: 203

وقال الحسنُ بن منصور الجصَّاص: قلت لأحمد بن حنبل رضي الله عنه: إلى متى يكتبُ الرجلُ الحديث؟ قال: إلى الموت

(1)

.

وقال عبد الله بن محمد البغوي: سمعت أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول: أنا أطلبُ العلمَ إلى أن أدخل القبر

(2)

.

وقال محمد بن إسماعيل الصَّائغ: كنت أصُوغُ مع أبي ببغداد، فمرَّ بنا أحمدُ بن حنبل وهو يعدو، ونعلاه في يده، فأخَذ أبي بمجامع ثوبه، فقال: يا أبا عبد الله، ألا تستحي؟! إلى متى تعدو مع هؤلاء؟! قال: إلى الموت

(3)

.

وقال عبد الله بن بشر الطَّالْقاني: أرجو أن يأتيني أمرُ ربِّي والمحبرةُ بين يَدَيَّ، ولم يفارقني القلمُ والمحبرة

(4)

.

وقال حميد بن محمد بن يزيد البصري

(5)

: جاء ابنُ بسطام الحافظُ يسألني عن الحديث، فقلت له: ما أشدَّ حرصك على الحديث! فقال: أو ما أحبُّ أن أكون في قطار آل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

(6)

.

(1)

أخرجه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (144).

وانظر: «طبقات الحنابلة» (1/ 375)، و «الآداب الشرعية» (2/ 45)، و «المقصد الأرشد» (1/ 338).

(2)

أخرجه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (145). وانظر: «الآداب الشرعية» (2/ 58).

(3)

أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (2/ 39، 6/ 274).

(4)

أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (27/ 168).

(5)

(ق، د): «حميد بن يزيد المصري» .

(6)

وورد الجواب أيضًا عن الوزير نظام الملك. «وفيات الأعيان» (2/ 129).

ص: 204

وقيل لبعض العلماء: إلى متى يَحْسُنُ بالمرء أن يتعلَّم؟ قال: ما حَسُنَتْ به الحياة

(1)

.

وسئل الحسن عن الرجل له ثمانون سنة: أيحسُنُ أن يطلب العلم؟ قال: إن كان يَحْسُنُ به أن يعيش

(2)

.

الوجه السابع والخمسون: ما رواه الترمذي أيضًا من حديث إبراهيم بن الفضل، عن المَقْبُري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الكلمةُ الحكمةُ

(3)

ضالَّةُ المؤمن، فحيثُ وجدها فهو أحقُّ بها»

(4)

.

قال الترمذي: «هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المديني المخزومي يُضعَّفُ في الحديث من قِبَل حفظه» .

(1)

رُوِي هذا عن أبي عمرو بن العلاء، والمأمون. وحُكِي عن المسيح عليه السلام، وأنوشروان. انظر:«الفقيه والمتفقه» (2/ 166)، و «جامع بيان العلم» (1/ 406)، و «أمالي ابن الشجري» (1/ 63)، و «محاضرات الأدباء» (1/ 112)، و «المحاسن والأضداد» (12)، و «الموشى» (50).

(2)

أخرجه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (146). وانظر: «الجامع» لابن عبد البر (1/ 407)، و «الفقيه والمتفقه» (2/ 167).

(3)

كذا في (د، ح، ن) والترمذي وابن ماجه. وفي (ت، ق) و «مسند الشهاب» (52): «كلمة الحكمة» . وفي «الضعفاء» للعقيلي، و «الكامل» لابن عدي، و «المجروحين»:«الكلمة الحكيمة ضالة الحكيم» .

(4)

أخرجه الترمذي (2687)، وابن ماجه (4169)، وغيرهما بإسنادٍ ضعيف.

وقد بيَّن علَّته الترمذيُّ وغيره.

انظر: «الضعفاء» للعقيلي (1/ 60)، و «المجروحين» (1/ 105)، و «الكامل» (1/ 231)، و «العلل المتناهية» (1/ 88).

ص: 205

وهذا أيضًا شاهدٌ لما تقدَّم، وله شواهد

(1)

.

والحكمةُ هي العلم؛ فإذا فَقَدَه المؤمنُ فهو بمنزلة من فقدَ ضالَّةً نفيسةً من نفائسه، فإذا وجدها قرَّ قلبُه وفَرِحَت نفسُه بوِجْدانها، كذلك المؤمنُ إذا وجدَ ضالَّةَ قلبه وروحه التي هو دائمًا في طلبها ونِشْدانها والتفتيش عليها.

وهذا من أحسن الأمثلة؛ فإنَّ قلبَ المؤمن يطلبُ العلمَ حيث وجده أعظمَ من طلب صاحب الضَّالَّة لها.

الوجه الثامن والخمسون: قال الترمذي: حدثنا أبو كريب: حدثنا خلف بن أيوب، عن عوف، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «خصلتان لا يجتمعان

(2)

في منافق: حُسْنُ سَمْتٍ، وفقهٌ في الدين»

(3)

.

(1)

مرفوعة، ولا يصحُّ منها شيء، وثبتَ من قول بعض التابعين.

انظر: «مسند الروياني» (1/ 75)، و «التدوين» للرافعي (4/ 95)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (14/ 51، 60)، و «المدخل» للبيهقي (2/ 293)، و «مسند الشهاب» (146)، و «حلية الأولياء» (3/ 354)، و «المقاصد الحسنة» (415)، و «تبييض الصحيفة» (21).

(2)

كذا في الأصول، حملًا على المعنى. وفي كتاب الترمذي وغيره:«تجتمعان» .

(3)

أخرجه الترمذي (2684)، والطبراني في «الأوسط» (8010)، وأبو إسماعيل الأنصاري في «ذم الكلام» (1/ 398)، وغيرهم.

قال العقيلي في «الضعفاء» (2/ 24): «ليس له أصلٌ من حديث عوف، وإنما يروى هذا عن أنسٍ بإسنادٍ لا يثبت» .

وخلف بن أيوب جهَّله الترمذي، وهو فقيهٌ زاهدٌ معروف، وضعَّفه يحيى بن معين. انظر:«التهذيب» (3/ 147).

وروي من مرسل محمد بن حمزة بن عبد الله بن سلام عند ابن المبارك في «الزهد» (459). وانظر: «مسند الشهاب» (318).

وانظر لحديث أنس الذي أشار إليه العقيلي: «ميزان الاعتدال» (4/ 461).

ص: 206

قال الترمذي: «هذا حديثٌ غريب، ولا يُعرفُ هذا الحديثُ من حديث عوفٍ إلا من حديث هذا الشيخ خلف بن أيوب العامري، ولم أر أحدًا يروي عنه غير أبي كُرَيب محمد بن العلاء، ولا أدري كيف هو» .

وهذه شهادةٌ بأنَّ من اجتمع فيه حُسْنُ السَّمت والفقهُ في الدين فهو مؤمن، وأحرى بهذا الحديث أن يكون حقًّا، وإن كان إسناده فيه جهالة؛ فإنَّ حُسْنَ السَّمت والفقهَ في الدين من أخصِّ علامات الإيمان، ولن يجمعهما الله في منافق؛ فإنَّ النفاق ينافيهما وينافيانه.

الوجه التاسع والخمسون: قال الترمذي: حدثنا مسلمُ بن حاتم الأنصاري أبو حاتم البصري

(1)

: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيِّب، قال: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يا بنيَّ، إن قَدرتَ أن تصبحَ وتمسي وليس في قلبك غِشٌّ لأحدٍ فافعَل» . ثمَّ قال: «يا بنيَّ، وذلك من سنَّتي، ومن أحيا سنَّتي فقد أحبَّني، ومن أحبَّني كان معي في الجنة»

(2)

، وفي الحديث قصَّةٌ طويلة.

(1)

(د، ت، ق): «الأنصاري حدثنا أبو حاتم البصري» . وهو خطأ.

(2)

جزءٌ من حديثٍ طويلٍ أخرجه الترمذيُّ هنا (2678) مقتصرًا على هذا القَدْر، وروى طائفةً منه مفرَّقةً في مواضع أخرى، وأخرجه بطوله أبو يعلى (3624)، والطبراني في «الأوسط» (5991)، وغيرهما.

وهو حديثٌ معلول، وقد بيَّن الترمذيُّ علَّته، وله طرقٌ أخرى لا يصحُّ منها شيء، ولا تصلحُ لتقويته.

انظر: «الضعفاء» للعقيلي (1/ 148، 119، 2/ 106، 3/ 224)، و «علل ابن أبي حاتم» (1/ 52)، و «نتائج الأفكار» (1/ 168).

ص: 207

قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه، ومحمد بن عبد الله الأنصاري صدوق، وأبوه ثقة، وعلي بن زيدٍ صدوقٌ إلا أنه ربما يرفعُ الشيء الذي يُوقِفُه غيره، سمعت محمد بن بشار يقول: قال أبو الوليد: قال شعبة: حدثنا عليُّ بن زيدٍ وكان رفَّاعًا» .

قال الترمذي: «ولا يُعْرَفُ لسعيد بن المسيِّب عن أنس روايةٌ إلا هذا الحديثُ بطوله، وقد روى عبَّادُ المِنْقَري هذا الحديثَ عن عليِّ بن زيدٍ عن أنسٍ ولم يذكر فيه: عن سعيد بن المسيِّب، وذاكرتُ به محمد بن إسماعيل فلم يعرِفه، ولم يعرِف لسعيد بن المسيِّب عن أنسٍ هذا الحديثَ ولا غيره. ومات أنسٌ سنة ثلاثٍ وتسعين، وسعيدُ بن المسيِّب سنةَ خمسٍ وتسعين بعده بسنتين» .

قلت: ولهذا الحديث شواهد.

منها: ما رواه الدارميُّ عبد الله: حدثنا محمد بن عيينة، عن مروان بن معاوية الفزاري، عن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جدِّه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث:«اعلم» ، قال: ما أعلمُ يا رسول الله؟ قال: «اعلم، يا بلال» ، قال: ما أعلمُ يا رسول الله؟ قال: «إنه من أحيا سُنَّةً من سنَّتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثلُ من عملَ بها من غير أن ينقصَ من أجورهم شيء، ومن ابتدعَ بدعةَ ضلالةٍ لا يرضاها الله ورسولُه كان عليه من الإثم مثلُ آثام من عملَ بها لا ينقصُ ذلك من أوزار الناس شيئًا»

(1)

.

(1)

أخرجه الترمذي (2677)، وابن ماجه (209)، والبزار (3385)، وغيرهم.

وحسَّنه الترمذيُّ على مذهبه في تحسين حديث كثير بن عبد الله، ومن يضعِّفه ــ وهم الأكثر ــ يضعِّفُ الحديثَ به، وهو الصحيح.

ص: 208

رواه الترمذي عنه، وقال:«حديثٌ حسن» . قال: «ومحمد بن عيينة مِصِّيصيٌّ شامي، وكثيرُ بن عبد الله هو كثير بن عمرو بن عوف المزني» .

وفي حديثه

(1)

ثلاثة أقوالٍ لأهل الحديث

(2)

: منهم من يصحِّحه، ومنهم من يحسِّنه، وهما للترمذي، ومنهم من يضعِّفه ولا يراه حجَّة، كالإمام أحمد وغيره.

ولكنَّ هذا الأصل ثابتٌ من وجوه:

كحديث: «من دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثلُ أجور من اتبعه»

(3)

، وهو صحيحٌ من وجوه.

وحديث: «من دلَّ على خيرٍ فله مثلُ أجر فاعله»

(4)

، وهو حديثٌ حسنٌ رواه الترمذي وغيره.

فهذا الأصلُ

(5)

محفوظٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديثُ الضعيفُ فيه بمنزلة الشواهد والمتابعات، فلا يضرُّ ذِكْرُه.

الوجه الستون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أوصى بطلبة العلم خيرًا، وما ذاك إلا لفضل مطلوبهم وشرفه.

(1)

أي: حديث كثير بن عبد الله.

(2)

انظر: «التهذيب» (8/ 422)، و «الميزان» (3/ 406)، و «جامع الترمذي» (490، 536، 1352، 2630). وليعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (1/ 350) قولٌ عجيبٌ في من ذهب إلى تضعيفه.

(3)

تقدم تخريجه (ص: 167).

(4)

أخرجه مسلم (1893)، والترمذي (2671) من حديث أبي مسعود الأنصاري.

(5)

وهو فضلُ إحياء السُّنة، والدعوة إليها.

ص: 209

قال الترمذي: حدثنا سفيان بن وكيع: حدثنا أبو داود الحَفَري، عن سفيان، عن أبي هارون، قال: كنَّا نأتي أبا سعيد فيقول: مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ الناس لكم تَبَع، وإنَّ رجالًا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقَّهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرًا» .

حدثنا قتيبة: حدثنا رَوْح بن قيس، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«يأتيكم رجالٌ من قِبَل المشرق يتعلَّمون، فإذا جاؤوكم فاستوصوا بهم خيرًا» .

فكان أبو سعيدٍ إذا رآنا قال: «مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

قال الترمذي: «هذا حديثٌ لا نعرفُه إلا من حديث أبي هارون العَبْدي، عن أبي سعيد.

قال أبو بكر العطَّار

(2)

: قال علي بن المديني: قال يحيى بن سعيد: كان شعبةُ يضعِّف أبا هارون العَبْدي. قال يحيى: وما زال ابنُ عونٍ يروي عن أبي هارون حتى مات.

وأبو هارون: اسمه عِمارةُ بن جُوَين».

(1)

أخرجه الترمذي (2650، 2651)، وابن ماجه (249)، وغيرهما بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا؛ أبو هارون العبدي متروك.

ورُوِي من أوجهٍ أخرى عن أبي سعيد غيرُ محفوظة، إلا طريق شهر بن حوشب فإن ظاهر كلام ابن معين أنه محفوظ.

انظر: «مستدرك الحاكم» (1/ 88)، و «سؤالات ابن الجنيد» (17)، و «المنتخب من العلل للخلال» (131)، و «السلسلة الصحيحة» (280)، و «الروض البسام» (1/ 150).

(2)

سقطت هذه الواسطة من مطبوعة «جامع الترمذي» في هذا الموضع، وثبتت في مواضع أخرى. انظر:(424، 1950).

ص: 210

الوجه الحادي والستون: ما رواه الترمذي من حديث أبي داود، عن عبد الله بن سَخْبَرة، عن سَخْبَرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من طلب العلمَ كان كفَّارةً لما مضى»

(1)

.

هذا الأصلُ لم أجد فيه إلا هذا الحديث، وليس بشيء؛ فإنَّ أبا داود هو نُفَيع الأعمى غيرُ ثقة، ولكن قد تقدَّم أنَّ العالِمَ يستغفرُ له من في السموات ومن في الأرض.

وقد رُوِيَت آثارٌ عديدةٌ عن جماعةٍ من الصحابة في هذا المعنى:

منها: ما رواه الثوري، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن ابن عباس:«أنَّ مَلَكًا موكَّلًا بطالب العلم حتى يردَّه من حيث أبداه مغفورًا له»

(2)

.

ومنها: ما رواه فِطْرُ بن خليفة، عن أبي الطفيل، عن علي:«ما انتعَل عبد قطُّ ولا تخفَّف ولا لبسَ ثوبًا ليغدو في طلب العلم إلا غُفِرَت ذنوبُه حيث يخطو عند باب بيته»

(3)

.

(1)

أخرجه الترمذي (2648)، والدارمي (561)، وغيرهما.

قال الترمذي: «هذا حديثٌ ضعيفُ الإسناد؛ أبو داود يُضَعَّف، ولا نعرفُ لعبد الله بن سَخْبَرة كبيرَ شيءٍ ولا لأبيه، واسمُ أبي داود نُفَيْع الأعمى، تكلَّم فيه قتادة وغيرُ واحدٍ من أهل العلم» .

وقال البخاري عن سخبرة: «روى عنه ابنُه عبد الله، حديثُه ليس من وجهٍ صحيح» . «التاريخ الكبير» (4/ 210)، و «الضعفاء الصغير» (159).

(2)

أخرجه أبو الحسن النعالي في جزء من حديثه (41) مرفوعًا، وفي إسناده: الضحاك بن حجوة، وهو منكر الحديث متهمٌ بالوضع. وعبد الكريم هو ابن أبي المخارق، ضعيفُ الحديث.

(3)

لم أره موقوفًا. وانظر ما يأتي. وقوله: «تخفَّف» أي: لبس خُفَّه.

ص: 211

وقد رواه ابن عدي مرفوعًا

(1)

، وقال:«ليس يرويه عن فِطْرٍ غير إسماعيل بن يحيى التيمي» .

قلت: وقد رواه إسماعيل بن يحيى هذا عن الثوري: حدثنا محمد بن أيوب الجُوزْجاني، عن مجالد، عن الشعبي، عن الأسود، عن عائشة مرفوعًا: «من انتعَل

(2)

ليتعلَّم خيرًا غُفِرَ له قبل أن يخطو»

(3)

.

وقد رواه عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن فِطْر، عن أبي الطفيل، عن علي

(4)

.

وهذه الأسانيدُ وإن لم تكن بمفردها حجَّةً فطلبُ العلم من أفضل الحسنات، والحسناتُ يُذْهِبْنَ السيئات، فجديرٌ أن يكون طلبُ العلم ابتغاء وجه الله يكفِّر ما مضى من السيِّئات، فقد دلَّت النصوصُ أنَّ إتباعَ السيِّئة

(1)

في «الكامل» (1/ 307)، والطبراني في «الأوسط» (5722)، وتمام في «الفوائد» (66 - الروض)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (8/ 181).

قال ابن عدي: «وهذا الحديثُ عن فِطْر بإسناده باطل؛ ليس يرويه

» العبارة التي نقلها المصنف، وأورده ابن حبان في ترجمة إسماعيل بن يحيى من «المجروحين» (1/ 126) مستدلًّا به على شدَّة ضعفه وروايته للموضوعات عن الثقات.

(2)

تحرَّف في بعض المصادر إلى: «انتقل» بالقاف، وبه شرحه المناويُّ في «فيض القدير» (6/ 115)!

(3)

أخرجه ابن شاهين في «الترغيب في فضائل الأعمال» (219)، وابن النجار في «التاريخ المجدِّد لمدينة السلام» (5/ 216)، وغيرهما من حديث إسماعيل عن الثوري عن مجالدٍ به، ليس فيه ذِكْر محمد بن أيوب الجوزجاني.

(4)

أخرجه عفيف الدين في «فضل العلم» (122/ 2)، كما في «السلسلة الضعيفة» (2676).

ص: 212

الحسنةَ تمحوها، فكيف بما هو من أفضل الحسنات وأجلِّ الطَّاعات؟! فالعمدةُ على ذلك لا على حديث أبي داود

(1)

، والله أعلم.

وقد رُوِي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنَّ الرجل ليخرجُ من منزله وعليه من الذنوب مثلُ جبل تهامة، فإذا سمعَ العلمَ خاف ورجعَ وتاب؛ فانصرفَ إلى منزله وليس عليه ذنب، فلا تفارقوا مجالسَ العلماء»

(2)

.

الوجه الثاني والستون: ما رواه ابن ماجه في «سننه» من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فإذا في المسجد مجلسان: مجلسٌ يتفقَّهون، ومجلسٌ يَدْعُون الله تعالى ويسألونه؛ فقال:«كلا المجلسين إلى خير؛ أمَّا هؤلاء فيَدْعُون الله، وأمَّا هؤلاء فيتعلَّمون ويفقِّهون الجاهل، هؤلاء أفضل، بالتعليم أُرْسِلْتُ» ، ثمَّ قعدَ معهم

(3)

.

الوجه الثالث والستون: أنَّ الله تبارك وتعالى يباهي ملائكتَه بالقوم الذين يتذاكرون العلم، ويذكرون اللهَ ويحمدُونه على ما منَّ عليهم به منه.

قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار: حدثنا مرحوم بن عبد العزيز العطَّار: حدثنا أبو نَعامة، عن أبي عثمان، عن أبي سعيد، قال: خرج معاويةُ

(1)

نُفَيع الأعمى، المتقدِّم، وهو:«من طلب العلم كان كفارة لما مضى» .

(2)

أورده الغزالي في «الإحياء» (1/ 349). ولم أجده مسندًا.

(3)

أخرجه ابن ماجه (229)، وابن المبارك في «الزهد» (1388)، والطيالسي (2365)، والبزار (2458)، وغيرهم بإسنادٍ فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وهو ضعيفُ الحديث، وقد اضطرب في تسمية شيخه.

ص: 213

إلى المسجد فقال: ما يُجْلِسُكم؟ قالوا: جلسنا نذكرُ الله عز وجل، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك. قال: أمَا إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، وما كان أحدٌ بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلَّ حديثًا عنه منِّي؛ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقةٍ من أصحابه، قال:«ما يُجْلِسُكم؟» قالوا: جلسنا نذكرُ الله ونحمدُه لِمَا هدانا للإسلام ومنَّ علينا بك. قال: «آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟» قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك. قال: «أمَا إني لم أستحلفكم تهمةً لكم؛ إنه أتاني جبريل فأخبرني أنَّ الله تعالى يباهي بكم الملائكة»

(1)

.

قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وأبو نَعامة السَّعدي اسمه عمرو بن عيسى، وأبو عثمان النهدي اسمه عبد الرحمن بن مُلّ» .

فهؤلاء كانوا قد جلسوا يحمدونَ الله بذكر أوصافه وآلائه، ويُثْنونَ عليه بذلك، ويذكرونَ حُسْنَ الإسلام، ويعترفونَ لله بالفضل العظيم إذ هداهم له ومنَّ عليهم برسوله.

وهذا أشرفُ علمٍ على الإطلاق، ولا يُعنى به إلا الراسخون في العلم؛ فإنه يتضمَّنُ معرفة الله وصفاته وأفعاله ودينه ورسوله، ومحبَّة ذلك وتعظيمَه والفرحَ به، وأحرى بأصحاب

(2)

هذا العلم أن يباهي اللهُ بهم الملائكة.

وقد بشَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الرجلَ الذي كان يحبُّ سورةَ الإخلاص، وقال:

(1)

«جامع الترمذي» (3379). وأخرجه مسلم في «صحيحه» (2701)، وابن حبان في «صحيحه» (813) بالإسناد نفسه.

(2)

(ن): «وأحر بأصحاب» . (ت): «وأجر أصحاب» .

ص: 214

أحبُّها لأنها صفةُ الرحمن عز وجل؛ فقال: «حبُّك إيَّاها أدخلك الجنة»

(1)

.

وفي لفظٍ آخر: «أخبِروه أنَّ الله يحبُّه»

(2)

؛ فدلَّ على أنَّ من أحبَّ صفات الله أحبَّه الله وأدخله الجنة.

والجهميةُ أشدُّ الناس نفرةً وتنفيرًا عن صفاته ونعوت كماله، يُعاقِبونَ ويذمُّون من يذكرها ويقرؤها ويجمعُها ويعتني بها، ولهذا لهم المَقْتُ والذَّمُّ عند الأمَّة، وعلى لسان كلِّ عالمٍ من علماء الإسلام، والله تعالى أشدُّ بغضًا ومقتًا لهم، جزاءً وفاقًا.

الوجه الرابع والستون: أنَّ أفضلَ منازل الخلق عند الله منزلةُ الرسالة والنبوَّة؛ فاللهُ يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس.

وكيف لا يكونُ أفضلَ الخلق عند الله من جعلَهم وسائطَ بينه وبين عباده في تبليغ رسالاته، وتعريف أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، ومَراضِيه ومَساخِطه، وثوابه وعقابه، وخصَّهم بوحيه، واختصَّهم بتفضيله، وارتضاهم لرسالته إلى عباده، وجعلَهم أزكى العالمين نفوسًا، وأشرفَهم أخلاقًا، وأكملَهم علومًا وأعمالًا، وأحسنَهم

(3)

خِلْقَة، وأعظمَهم محبَّةً وقبولًا في قلوب الناس، وبرَّأهم من كلِّ وَصْمٍ وكلِّ عيبٍ وكلِّ خُلُقٍ دنيء؟!

(1)

أخرجه البخاري في «صحيحه» (774) تعليقًا مجزومًا به، ووصله أحمد (3/ 141، 150)، والترمذي (2901)، وغيرهما من حديث أنس بن مالك.

وصححه الترمذي، وابن خزيمة (537)، وابن حبان (792)، والحاكم (1/ 240)، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (1750).

وانظر: «الفتح» (2/ 301)، و «التغليق» (2/ 314).

(2)

أخرجه البخاري (7375)، ومسلم (813) من حديث عائشة.

(3)

(ت): «وأكرمهم» .

ص: 215

وجعَل أشرفَ مراتب الناس بعدهم مرتبةَ خلافتهم ونيابتهم في أممهم؛ فإنهم يخلُفونهم على منهاجهم وطريقتهم: مِنْ نصيحتهم الأمَّة، وإرشادهم الضالَّ، وتعليمهم الجاهل، ونَصْرِهم المظلوم، وأخْذِهم على يد الظَّالم، وأمرِهم بالمعروف وفعلِه، ونَهْيِهم عن المنكر وتركِه، والدَّعوة إلى الله بالحكمة للمستجيبين، والموعظة الحسنة للمعرضين الغافلين، والجدال بالتي هي أحسنُ للمعاندين المعارضين.

فهذه حالُ أتباع المرسلين وورثة النبيِّين؛ قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].

وسواءٌ كان المعنى: أنا ومن اتبعني على بصيرةٍ وأنا أدعو إلى الله، أو المعنى: أدعو إلى الله على بصيرة

(1)

؛ فالقولان

(2)

متلازمان؛ فإنه لا يكون من أتباعه حقًّا إلا من دعا إلى الله على بصيرة، كما كان متبوعُه صلى الله عليه وسلم يفعل

(3)

.

فهؤلاء خلفاءُ الرسل حقًّا، وورثتُهم دون الناس، وهم أولو العلم الذين قاموا بما جاء به: علمًا وعملًا، وهدايةً وإرشادًا، وصبرًا وجهادًا، وهؤلاء هم الصدِّيقون، وهم أفضلُ أتباع الأنبياء، ورأسُهم وإمامُهم الصِّدِّيق الأكبر أبو بكرٍ رضي الله عنه.

(1)

أي: ومن اتبعني يدعو كذلك.

(2)

(د، ح، ن): «والقولان» . وسقطت من (ت، ق) مع ما بعدها إلى كلمة «بصيرة» ؛ لانتقال النظر.

(3)

انظر: «مدارج السالكين» (2/ 482)، و «الصواعق المرسلة» (1/ 155)، و «جلاء الأفهام» (581)، و «رسالة ابن القيم إلى بعض إخوانه» (25)، وما سيأتي من الكتاب (ص: 434).

ص: 216