المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوجه الثاني والخمسون: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع كلامه ووعاه وبلغه بالنضرة - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الوجه الثاني عشر: أنه سبحانه جعلَ أهلَ الجهل بمنزلة العُميان الذين لا يبصرون

- ‌الوجه الرابع عشر: أنه سبحانه أمرَ بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم

- ‌الوجه الثامن عشر: أنه سبحانه أمرَ نبيَّه أن يسأله مزيدَ العلم

- ‌الوجه التاسع عشر: أنه سبحانه أخبرَ عن رِفْعة درجات أهل العلم والإيمان خاصَّة

- ‌الوجه العشرون: أنه سبحانه استشهَد بأهل العلم والإيمان يومَ القيامة على بطلان قول الكفار

- ‌الوجه الحادي والثلاثون: أنه سبحانه ذمَّ أهلَ الجهل في مواضع كثيرةٍ من كتابه:

- ‌الوجه الثاني والثلاثون: أنَّ العلمَ حياةٌ ونور، والجهلَ موتٌ وظُلمَة

- ‌الوجه التاسع والثلاثون: أنه سبحانه سمَّى الحُجَّة العلميةَ سلطانًا

- ‌الوجه الثاني والخمسون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع كلامَه ووعاه وبلَّغه بالنَّضرة

- ‌الوجه الثالث والخمسون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ بتبليغ العلم عنه

- ‌الوجه الخامس والستون: أنَّ الإنسانَ إنما يُمَيَّزُ على غيره من الحيوانات بفضيلة العلم والبيان

- ‌الوجه السادس والستون: أنَّ العلمَ حاكمٌ على ما سواه، ولا يَحْكُم عليه شيء

- ‌الوجه الثامن والستون: أنَّ صفات الكمال كلَّها ترجعُ إلى العلم والقدرة والإرادة، والإرادةُ فرعُ العلم

- ‌الوجه الحادي والسبعون: أنَّ حاجةَ العباد إلى العلم ضروريَّةٌ فوق حاجة الجسم إلى الغذاء

- ‌الوجه الثاني والسبعون: أنَّ صاحبَ العلم أقلُّ تعبًا وعملًا، وأكثرُ أجرًا

- ‌الوجه الثالث والسبعون: أنَّ العلمَ إمامُ العمل وقائدٌ له، والعملُ تابعٌ له ومؤتمٌّ به

- ‌الوجه الرابع والسبعون: أنَّ العاملَ بلا علمٍ كالسائر بلا دليل

- ‌الوجه التاسع والسبعون: أنَّ اللذَّة بالمحبوب تَضْعُفُ وتقوى بحسب قوَّة الحبِّ وضعفه

- ‌الوجه الحادي والثمانون: أنَّ فضيلةَ الشيء تُعْرَفُ بضدِّه

- ‌الوجه الثالث والثمانون: أنَّ أشرفَ ما في الإنسان محلُّ العلم منه، وهو قلبُه وسمعُه وبصرُه

- ‌الوجه التسعون: أنَّ كلَّ صفةٍ مدحَ الله بها العبدَ في القرآن فهي ثمرةُ العلم ونتيجتُه

- ‌الوجه الثامن والمئة: أنَّ كثيرًا من الأئمة صرَّحوا بأنَّ أفضلَ الأعمال بعد الفرائض طلبُ العلم

- ‌لا شيء أنفعُ للقلب من قراءة القرآن بالتدبُّر والتفكُّر

الفصل: ‌الوجه الثاني والخمسون: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع كلامه ووعاه وبلغه بالنضرة

وقد تقدَّم حديثُ أبي الدرداء في ذلك؛ فالحديث محفوظٌ وله أصل.

وقد تظاهرَ الشرعُ والقدرُ على أنَّ الجزاء من جنس العمل؛ فكما سلكَ طريقًا يطلبُ فيه حياةَ قلبه ونجاته من الهلاك، سلكَ اللهُ به طريقًا يحصِّلُ له ذلك.

وقد رُوِي من حديث عائشة رضي الله عنها، رواه ابن عدي من حديث محمد بن عبد الملك الأنصاري، عن الزهري، عن عروة، عنها مرفوعًا، ولفظُه:«أوحى اللهُ إليَّ: إنه من سلك مسلكًا يطلبُ العلمَ سهَّلتُ له طريقًا إلى الجنة»

(1)

.

‌الوجه الثاني والخمسون: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع كلامَه ووعاه وبلَّغه بالنَّضرة

، وهي البهجةُ ونضارةُ الوجه وتحسينُه، ففي الترمذي وغيره من حديث ابن مسعودٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«نَضَّرَ اللهُ امرءًا سمع مقالتي، فوعاها، وحَفِظَها، وبلَّغها، فربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه، ثلاثٌ لا يَغِلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم: إخلاصُ العمل لله، ومناصحةُ أئمَّة المسلمين، ولزومُ جماعتهم؛ فإنَّ دعوتهم تحيطُ مِنْ ورائهم»

(2)

.

(1)

أخرجه ابنُ عدي في «الكامل» (6/ 160) مع أحاديث أخرى، ثم قال:«هذه الأحاديث عن الزهري عن عروة عن عائشة بهذا الإسناد مناكيرُ كلُّها، لا يرويها عن الزهري غير محمد بن عبد الملك» .

وانظر: «شعب الإيمان» للبيهقي (10/ 325).

(2)

أخرجه الترمذي (2657)، وابن ماجه (232)، وأحمد (1/ 437)، وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 331)، وغيرهم بإسنادٍ حسن.

وصححه الترمذي، وابن حبان (66، 68، 69)، وأبو نعيم.

وانظر: «شرف أصحاب الحديث» للخطيب (18)، و «موافقة الخُبْر الخَبَر» لابن حجر (1/ 364).

ص: 195

وروى هذا الأصلَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ابنُ مسعود، ومعاذُ بن جبل، وأبو الدرداء، وجبيرُ بن مُطْعِم، وأنسُ بن مالك، وزيدُ بن ثابت، والنعمانُ بن بشير

(1)

.

قال الترمذي: «حديثُ ابن مسعودٍ حديثٌ حسنٌ، وحديثُ زيد بن ثابتٍ حديثٌ حسن»

(2)

.

وأخرج الحاكمُ في «صحيحه» حديثَ جبير بن مطعم والنعمان بن بشير، وقال في حديث جبير:«على شرط البخاري ومسلم»

(3)

.

ولو لم يكن في فضل العلم إلا هذا وحدَه لكفى به شرفًا؛ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمعَ كلامَه، ووعاه، وحَفِظه، وبلَّغه. وهذه هي مراتبُ العلم:

* أوَّلها: سماعُه.

* فإذا سمعه وعاهُ بقلبه

(4)

؛ أي: عَقَلَه واستقرَّ في قلبه، كما يستقرُّ الشيءُ الذي يُوعى في وعائه ولا يخرجُ منه، وكذلك عَقْلُه هو بمنزلة عَقْلِ البعير والدابَّة ونحوها حتى لا تَشْرُدَ وتَذْهَب، ولهذا كان الوعيُ والعقلُ قدرًا زائدًا على مجرَّد إدراك المعلوم.

(1)

وغيرُهم، وعَدَّه جماعةٌ من المتواتر. انظر:«قطف الأزهار المتناثرة» (2)، و «مفتاح الجنة» (9) كلاهما للسيوطي، و «لقط اللآلاء المتناثرة» للزبيدي (48)، و «نظم المتناثر» للكتاني (33).

(2)

«الجامع» (5/ 33). إلا أنَّ فيه قوله عن حديث ابن مسعود: «حسن صحيح» ، وكذا هو في «تحفة الأشراف» (7/ 75).

(3)

«المستدرك» (1/ 86 - 88)، ولم يتعقبه الذهبي.

(4)

وهذه المرتبةُ الثانية.

ص: 196

* المرتبة الثالثة: تعاهدُه وحفظُه، حتى لا ينساه فيَذْهَب.

* المرتبة الرابعة: تبليغُه وبثُّه في الأمَّة؛ ليحصلَ به ثمرتُه ومقصودُه؛ فما لم يُبَلَّغْ ويُبَثَّ في الأمَّة فهو بمنزلة الكنز المدفون في الأرض الذي لا يُنْفَقُ منه، وهو مُعَرَّضٌ لذهابه، فإنَّ العلمَ ما لم يُنْفَقْ منه ويُعَلَّمْ فإنه يوشكُ أن يذهب، فإذا أُنفِقَ منه نما وزكا على الإنفاق.

فمن قام بهذه المراتب الأربع دخلَ تحت هذه الدعوة النبويَّة المتضمِّنة لجمال الظاهر والباطن، فإنَّ النَّضرةَ هي البهجةُ والحُسْنُ الذي يُكساهُ الوجهُ من آثار الإيمان وابتهاج الباطن به وفرح القلب وسروره والتذاذه به، فتظهرُ هذه البهجةُ والسرورُ والفرحةُ نضارةً على الوجه.

ولهذا يجمعُ سبحانه بين السُّرور والنَّضرة، كما في قوله تعالى:{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]؛ فالنَّضرةُ في وجوههم، والسرورُ في قلوبهم.

فالنعيمُ وطِيبُ القلب يظهرُ نضارةً في الوجه، كما قال تعالى:{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطفِّفين: 24].

والمقصودُ أنَّ هذه النَّضرةَ في وجه من سمع سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعاها، وحَفِظها، وبلَّغها، هي أثرُ تلك الحلاوة والبهجة والسرور الذي في قلبه وباطنه.

وقولُه صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه» تنبيهٌ على فائدة التبليغ، وأنَّ المبلَّغَ قد يكونُ أفهَمَ من المبلِّغ؛ فيحصُل له في تلك المقالة ما لم يحصُل للمبلِّغ.

ص: 197

أو يكونُ المعنى: أنَّ المبلَّغ قد يكونُ أفقهَ من المبلِّغ، فإذا سمع تلك المقالةَ حملها على أحسن وجوهها، واستنبطَ فقهَها، وعَلِمَ المرادَ منها.

وقولُه صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ لا يَغِلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم

» إلى آخره؛ أي: لا يحملُ الغِلَّ ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة؛ فإنها تنفي الغِلَّ والغِشَّ، وهو فسادُ القلب

(1)

وسخائمُه.

فالمخلصُ لله إخلاصُه يمنعُ غِلَّ قلبه، ويخرجُه ويزيلُه جملةً؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربِّه، فلم يبقَ فيه موضعٌ للغِلِّ والغش؛ كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلِصين

(2)

} [يوسف: 24]، فلمَّا أخلصَ لربِّه صرفَ عنه دواعي السوء والفحشاء؛ فانصرف عنه السوءُ والفحشاء.

ولهذا لمَّا علمَ إبليسُ أنه لا سبيلَ له على أهل الإخلاص استثناهُم من شُرْطتِه

(3)

التي اشترطها للغواية والإهلاك، فقال:{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلِصين} [ص: 82، 83]، وقال:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلِصين} [الحجر: 39، 40]، قال الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ

(1)

(ح، ن): «وفساد القلب» .

(2)

كذا قرأ أبو عمرو في المواضع الثلاثة، وهي قراءة المصنف، وبها يستقيم احتجاجه. انظر:«الحجة» لابن خالويه (194)، و «السبعة» لابن مجاهد (348)، و «الحجة» لأبي علي (4/ 421)، و «الكشف عن وجوه القراءات السبع» لمكِّي (2/ 10).

(3)

قال الصَّغاني في «العُباب» و «التكملة» (شرط): «والشُّرْطة ــ بالضمِّ ــ: ما اشْترَطْتَ، يقال: خُذ شُرْطتك» . ولم أر هذا الحرفَ عند غيره.

ص: 198

سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42].

فالإخلاصُ هو سبيلُ الخَلاص، والإسلامُ مركبُ السلامة، والإيمانُ خاتمُ الأمان.

وقولُه: «ومناصحةُ أئمَّة المسلمين» هذا أيضًا مُنافٍ للغِلِّ والغِشِّ؛ فإنَّ النصيحةَ لا تجامِعُ الغِلَّ، إذ هي ضدُّه، فمن نصَح الأئمَّة والأمَّة فقد براء من الغِلِّ.

وقولُه: «ولزوم جماعتهم» هذا أيضًا مما يطهِّر القلبَ من الغِلِّ والغِشِّ؛ فإنَّ صاحبَه للزومه جماعةَ المسلمين يحبُّ لهم ما يحبُّ لنفسه، ويكرهُ لهم ما يكرهُ لها، ويسوؤه ما يسوؤهم، ويسرُّه ما يسرُّهم.

وهذا بخلاف من انحاز عنهم، واشتغل بالطَّعن عليهم، والعَيْب والذَّمِّ لهم؛ كفعل الرافضة والخوارج والمعتزلة وغيرهم؛ فإنَّ قلوبهم ممتلئةٌ غِلًا وغِشًّا، ولهذا تجدُ الرافضة أبعدَ الناس من الإخلاص، وأغشَّهم للأئمَّة والأمَّة، وأشدَّهم بعدًا عن جماعة المسلمين؛ فهؤلاء أشدُّ الناس غِلًا وغِشًّا بشهادة الرسول والأمَّة عليهم، وشهادتِهم على أنفسهم بذلك، فإنهم لا يكونونَ قطُّ إلا أعوانًا وظَهْرًا على أهل الإسلام، فأيُّ عدوٍّ قام للمسلمين كانوا أعوانَ ذلك العدوِّ وبطانتَه، وهذا أمرٌ قد شاهدَته الأمَّةُ منهم، ومن لم يشاهده فقد سمعَ منه ما يُصِمُّ الآذانَ ويُشْجِي القلوب

(1)

.

(1)

انظر: «منهاج السنة» (5/ 154، 6/ 370، 374، 7/ 414)، و «مجموع الفتاوى» (4/ 22)، و «البداية والنهاية» (17/ 357 - 360، 379)، و «أصول مذهب الشيعة» للقفاري (3/ 1212 - 1245).

ص: 199