المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الرعد أَرجح الآراءِ أَنها كلها مدنية وهي ثلاث وأَربعون آية - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌سورة الرعد أَرجح الآراءِ أَنها كلها مدنية وهي ثلاث وأَربعون آية

‌سورة الرعد

أَرجح الآراءِ أَنها كلها مدنية وهي ثلاث وأَربعون آية وسميت السورة بسورة الرعد إِشارة إِلى قوله تعالى فيها: "وَيُسَبِّحُ الرعْدُ بحَمْدِهِ"(1).

‌مقاصد السورة:

1 -

استهلت السورة بالإِشارة إِلى آيات القرآن الكريم المنزلة بالحق على سيد الخلق للهداية والإِرشاد.

2 -

ثم أَشارت إِلى ما بثه الله في السماوات والأَرض من آياته الكونية الدالة على وحدانيته وقدرته وعظمته، من سماءٍ مرفوعة وعرش عظيم وأَجرام فلكية مسخرة، وأَرض تجرى فيها الأَنهار وتزدان بالحدائق الغناءِ والمروجِ الفيحاءِ.

3 -

ثم تناولت أَحوال البشر وتنكر كثير منهم لآيات الله المنزلة وآياته الكونية، مع أَن الله مطلع على نياتهم وأَقوالهم وأفعالهم، وسيجزى كلا منهم بما يستحقه من جزاءِ.

4 -

ثم دعت البشر إِلى أَن يَفِيئوا إِلى الصواب، وأَن يبادروا بإِصلاح ما في نفوسهم من فساد وتغيير ما فيها من انحرافات، حتى يعينهم الله ويهديهم فإِنه سبحانه "لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ".

5 -

ثم عادت السورة لتذكِّر البشر بآيات الله الكونية -وأَنها كما تكون نِعمًا تكون نِقَمًا- مثل الرعد والصواعق، وكلها منقادة لإرادة الله خاضعة لمشيئته، وبينت أَن الذين يدعون من دونه -لا يستجيبون لهم بشيءٍ، ولا يملكون لهم ضرًا ولا نفعًا، وأَنه لا يستوى الأَعمى والبصير ولا الظلمات والنور.

6 -

ثم وعدت الذين يستجيبون لدعوة ربهم بالمثوبة الحسنى، وتوعدت من لا يسجيبون لهم سوءَ الحساب والخلود في جهنم وبئس المهاد.

(1) من الآية: 13

ص: 399

7 -

ثم تحدثت عن أَنه تعالى يبسط الرزق لمن يشاءُ ويضيِّقه على من يشاءُ، وأَن الحياة الدنيا بجانب الآخرةَ ونعيمها ما هى إلا متاع قليل.

8 -

ثم ذكرت عناد المشركين بطلبهم من الرسول آية من ربه -وبينت أَن هذا ضلال منهم وانحراف عن الآية الكبرى وهي القرآن، وأَنه تعالى يضل من يشاءُ من المنحرفين فلا يعينه، ويهدى إِليه من أَناب ويعينه، وأَن القرآن هو ذكر الله وأَنه تطمئن به القلوب.

9 -

ثم تحدثت عن عظمة القرآن وأَن الكفار لم يقدروه قدره حيث اقترحوا غيره، مع أنه جدير بأَن تسير به الجبال وتقطع به الأَرض ويكلم به الموتى.

10 -

ثم نهبت الذين آمنوا إِلى أَنه تعالى لوشاءَ لهدى الناس جميعًا، وتوعدت الكافرين بقارعة تصيبهم أَو تَحل قريبا من دارهم حتى يأتى وعد الله.

11 -

ثم تحدثت عن الجنة التى وعدها الله المتقين، ووصفتها بالصفات الجليلة، وبيَّنت أَن الذين آتاهم الله الكتاب من المخلصين يفرحون بالقرآن الذي أَنزَله الله إِلى محمد صلي الله عليه وسلم، وأَن من أَحزابهم من ينكر بعضه وهو مخالف ضلالاتهم، أَوْ يغاير ما كان مشروعا لهم -مع أَن لكل أُمة رسولها وكتابها "لِكلِّ أَجَلٍ كتَابٌ" ونهيته عن اتباع أَهوائِهم كالصلاة إلى بيت المقدس بعد تحويل القبلة، وبينت أَن الرسل السابقين جعل الله لهم أَزواجا وذرية كما جعل لمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا وجه لاعتراض أَهل الكتاب عليك يا محمد.

12 -

ثم توعدت الكافرين، وذكرت أَن على الرسول البلاغ وعلى الله الحساب، وأَنه تعالى يحكم ولا معقب لحكمه، (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ). إلى غير ذلك من المقاصد الشريفة.

ص: 400

بسم الله الرحمن الرحيم

(المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1))

المفردات:

(الْكِتَاب): الْقُرْآن. (الْحَقُّ): الثَّابت.

التفسير

1 -

(المر): تقدم الكلام على أَمثالها في أَوئل السور: البقرة وآل عمران، والأعراف، ويونس. وهود، ويوسف، وأَرجح الآراءِ فيها أنها تشير إِلى أَن القرآن الكريم مركب من كَلِمَاتٍ ذات حروف كهذه الحروف التي ينظم منها العرب كلامهم، فإِن كانوا صادقين في زعمهم أَن محمدا تقوله وافتراه فليأْتوا بمثله فهم أَئِمة الفصاحة والبلاغة فإِذا عجزوا فمُحمد مثلهم لا يستطيع أَن يأْتى بمثله وإِذا كان كذلك وجب الإِيمان بأَنه تنزيل من حكيم حميد.

هذا إِلى جانب ما في بدءِ الكلام بها من الغرابة الداعية إِلى الانتباه واستماع ما يليها من فنون الهدى والرشاد، لعلهم يهتدون ويكفون عن الإِعراض عن سماع القرآن العظيم.

(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ):

هذه آيات الكتاب العظيم الغنى عن الوصف من بين سائر الكتب، الجدير باختصاصه باسم الكتاب.

(وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ):

أَي وهذا الكتاب الذي أَنزله الله إِليك يا محمَّد هو الحق الثابت المطابق للواقع فلا مجال للشك والارتياب من قومك في صدوره إِليك من ربك أَيها النبي.

ص: 401

(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ):

أي ولكن أَكثر الناس الذين دعوتهم إِلى الإِيمان بهذا الكتاب الحق لا يؤمنون بأَنه أُنزل إِليك من ربك، لإِخلالهم بواجب النظر والتأَمل فيه، وانقيادهم لأَهوائهم وشهواتهم، وإِيثارهم الضلال على الهدى، والظلمات على النور فاصبر على أَذاهم "

وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ" (1)

{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)}

المفردات:

(الْعَمَدُ): بفتح العين والميم وضمهما هي الأَساطين التي تحمل السقف جمع عمود.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ): أَي يقضى فيه ويقدره بحكمته.

(يُفَصِّلُ الآيَاتِ): يأتى بها مفصلة مبينة للاستدلال بها على كمال قدرة الله وحكمته.

(تُوقِنُونَ): تصدقون تصديقًا جازمًا لا شك فيه.

التفسير

بعد أن ذكر الله أَن آيات القرآن أَنزلها على رسوله بالحق عقب ذلك بذكر آياته الكونية العقيمة التي تدل على وحدانيته وعظمته وقدرته وهيمنته على كل شيءٍ فقال تعالى:

2 -

(اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا):

(1) سورة النحل من الآية: 127

ص: 402

إِن الإِنسان لينظر إلى السماء وما فيها من نجوم وكواكب فيأْخذه الإِعجاب بِسُمُوّها وعظمتها وجمالها واتساعها وإبداعها، القرآن يذكرنا بأَن الله وحده هو الذي رفع هذه السماوات في آفاقها السامية الفسيحة بغير ارتكاز على عمد مرئية، ولكن الله سبحانه وتعالى يمسكها في أَفلاكها، ويدفعها في مداراتها طبقًا لسنن كونية ثابتة أَبدعتها قدرته سبحانه.

فقال جل شأْنه: "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ"(1) وقال تعالى: "وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ"(2)

(ثُمَّ استَوَى عَلَى الْعَرْشِ):

المراد من الاستواءِ هنا الاستيلاءُ والسيطرة؛ ومنه قول الشاعر:

استوى بشر على العراق من

غير سيف ودم مهراق

العرش هنا كناية عن الملك والسلطان، المعنى أَنه تعالى هيمن وسيطر على ملك السماوات بعد أَن رفعها بغير عمد، فلم يدع فيها لأَحد غيره سيطرة عليها ولا تدبيرًا لشىءٍ فيها، فكما كان له الأمر فيها حين تقديرها خلقًا وإِبداعًا فله الأَمر والسلطان فيها بعد ذلك حفظًا وتدبيرًا، لا يشاركه في ذلك كله شريك (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(3)

ومن العلماءِ من فسر العرش بأَنه شىءٌ عظيم لا يعلم كنهه غير الله، مع تنزيهه جل وعلا من الجلوس عليه، فإنه تعالى يستحيل عليه المكان وكل ما خطر ببالك فالله تعالى بخلاف ذلك، فإِذا عرفت أَنه تعالى لا أَول لوجوده، وأَنه سبحانه كان ولا شىءَ معه، وأَنه أَوجد العرش واستحدثه بعد أن لم يكن، عرفت أَنه ليس بحاجة إلى عرش يجلس عليه كما يفعل الملوك، فالعرش على تسليم أَنه جرم عظيم، خلقه الله لمصلحة ملكوته، وقد استند أَصحاب هذا الرأْى إِلى أَحاديث منها ما ذكره البيهقي وأَخرجه الآجرى وأَبو حاتم البستى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الكُرْسِىّ إِلا كَحَلقَةٍ مُلْقَاةٍ فِى أَرْض فَلاة،

(1) سورة فاطر، الآية: 41

(2)

سورة الحج، الآية: 65

(3)

سورة الأعراف، من الآية: 54

ص: 403

وَفَضْل الْعَرْش عَلَى الكُرسِىٌ كَفَضْل الفَلاة عَلَى الْحَلقَة" وتركوا علم ذلك وإِدراكه إلى الله علام الغيوب.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى):

أَي أَن الله سبحانه خلق الشمس وهي نجم كبير وخلق القمر وهو كوكب صغير وسخرهما لتنتفع البشر بنورهما وحرارة الشمس ذات المنافع الغزيرة، فانظر إِلى رحمة الله، حيث جعل الشمس إِذا غابت بالحجاب وغابت معها أنوارها، أَتبعها القمر حتى لا يحرم عباده من نور السماءِ ليلا ونهارًا، وجعل كلا منهما يجرى في فلكه المرسوم ومداره المعلوم إِلى أَمَد مقدر وزمن محدود يعلمه سبحانه.

وقال ابن عباس: الأَجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي ينتهيان إِليها ولا يتجاوزانها.

يريد بذلك أَن الشمس تقطع مدارها متنقلة في أَبراجها في سنة شمسية، والقمر يقطع مداره متنقلا في منازله في شهر قمرى، وفي ذلك يقول الله تعالى:"وَكُلُّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"(1). وذهب معظم المفسرين إِلى أَن الأَجل المسمى هو يوم القيامة يوم أَن تكون السماوات مطويات بيمينه سبحانه.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ):

والمعنى أَن الله سبحانه يقدر الأمور بمقتضى حكمته ويجريها طبقًا لسنته الكونية في أَرضه وسمائه فهو سبحانه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى، وغير ذلك من شئونه تعالى في سماواته وأَرضه، تلك الشئون التي تحير العقول والأَلباب ولا تدخل تحت حصر، وصدق الله تعالى إِذ يقول:(يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(2) وكما أَنه تعالى يدبر الأمر فِإنه يفصل الآيات ويبينها في كتبه المنزلة على رسله ويوجهنا إِلى التأَمل فيها، والاعتبار بدلالتها فإنها تَدُلُّكَ على عظيم قدرته، وجليل حكمته، ووافر رحمته ونعمته، وأَن الذي بدأ الخلق قادر على

(1) سورة يس، من الآية: 40

(2)

سورة الرحمن من الآية 29.

ص: 404

إِعادته، وأَن مصيرنا جميعًا إلى الله فنحن جميعًا كما منه وإِليه، فإِذا نتفعنا بما فضله الله لنا من الآيات، وعرفنا أَننا سنلقى الله طال الزمن أَم قصر، فإِننا نستعد لهذا اللقاءِ بالإِيمان الثابت والعمل الصالح والاستقامة على طريق الحق، لننال ثوابه وننجو من عقابه.

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)

المفردات:

(مَدَّ الْأَرْضَ): بسطها. (رَوَاسِيَ): الجبال. (يُغْشِى): يغطى.

التفسير

3 -

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا):

تابعت هذه الآية سرد آيات الله الكونية، فذكرت أَنه تعالى بسط الأَرض أَمام البصر، وسوى معظم سطحها ليسهل الانتقال عليه من مكان إِلى مكان، كما قال سبحانه:

"وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا"(1).

وليسهل على عباده زرعها والانتفاع بخيراتها، ولا يتنافى ذلك مع كروية الأَرض التي أَشارت إِليها الآية الكريمة:"يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ"(2).

وسنعرض لها بالشرح في موضعها إِن شاءَ اللهُ، وكما سوى الله سطح الَأرض جعل منها جبالا راسخة لتثبيتها فلا تموج ولا تضطرب، حتى لا يهلك من على سطحها من الكائنات أَثناءَ

(1) سورة نوح الآية 19.

(2)

سورة الزمر من الآية 5.

ص: 405

اضطرابها وزلزالها، قال تعالى:"أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا"(1). ومن آيات الله الكونية التي أَشارت الآية إليها تكوين الأَنهار من الأَمطار التي تهطل على سفوح الجبال، فتشق طريقها فوق سطح الأَرض ممتدة مئات أَو آلاف الأَميال، ليرتوى منها عالم الإِنسان وعالم الحيوان وعالم النبات.

"وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْن":

أَي وجعل الله في الأَرض من كل أَنواع الثمرات فردين متزاوجين، أَحدهما ذكرُ والآخر أَنثى، والذكر قد يكون منفصلًا عن الأَنثى كالنخل، وقد يكونان في شجرة واحدة كشجرة الذرة، وهنا يتجلى الإِعجاز العلمى في القرآن الكريم، فما كان العرب يعلمون أَن في كل نبات أَعضاءً للتذكير وأُخرى للتأْنيث، يتم بينهما التلاقح فتثمر أَطيب الثمرات، ما كانوا يعلمون ذلك إِلا في نبات واحد هو النخل، ولكن القرآن أَنبأَنا منذ أَربعة عشر قرنًا بما اهتدى إِليه العلم الحديث في العصر الحاضر "سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ"(2).

(يُغْشِى اللَّيْلَ النَّهَارَ):

أَي يجعل الليل يغطى ضوءَ النهار ويكسوه بظلامه ليستريح الناس من متاعبهم في النهار ويدركوا رحمة ربِّهم بهم وقدرته على هذا الكون العجيب، واكتفى بتغشية الليل النهار مع تحقق عكسه لأَنه معلوم، وتتابع الليل والنهار نعمة منَّ الله بها على خلقه ليتسنى لهم الكسب في ضوءِ النهار والراحة تحت أَسدال الظلام.

(إِنَّ فِى ذَلِكَ لآياتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَرُونَ): إِن في هذه الآيات الكونية العديدة في السماوات والأَرض لعلامات وبراهين دالة على وحدانية الله وقدرته وعظمته، يدركها من استعملوا عقولهم وتركوا تقليد أَهل الجهالة في جهالتهم، فمن شاءَ الهداية فأَمامه آيات الله المنزلة وآياته الكونية، وكلتاهما تدعو إِلى الإيمان العميق "فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يؤْمِنُونَ"(3)

(1) سورة النبأ الآيتان 6، 7

(2)

سورة يس، الآية 36

(3)

سورة الجاثية، من الآية 6

ص: 406

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4))

المفردات:

(صِنْوَانٌ): جمع صنو، وهو المثل، ومنه الحديث الشريف:"عم الرجل صنو أَبيه". الصِّنْوُ أَيضًا نخلتان أَو أَكثر تتشعب من أَصل واحد، وكما تُطلق كملة الصنو على ما ذكر، يطلق عليه أَيضًا:(صنوان): روى عن البراءِ: الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق، وقال النحاس: يقال للنخلة إِذا كانت فيها نخلة أُخرى أَو أَكثر صنوان اهـ. راجع القرطبى.

التفسير

4 -

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ) الآية.

واصلت الآية الحديث عن آيات الله الكونية.

والمعنى: أَنه يوجد في الأَرض قطع متجاورة متماثلة في تربتها وانتفاعها بأَشعة الشمس وفيها بساتين كثيرة مزروعة في قطع الأَرض المتجاورة، وتشتمل على أَشجار الكروم التي تثمر أَنواع العنب والزبيب. وتشتمل أَيضا على الزرع الذي يثمر أَنواع الحبوب والبقول، وفيها النخل الذي يثمر البلح والرطب والتمر.

وبعض النخيل مفرد وبعض متعدد على أَصل واحد، وهو الذي عبر عنه في الآية بكلمة (صنوان)، ونلاحظ في الآية أَنها لم تستوعب حاصلات البساتين، بل ذكرت نموذجًا لما يتسلق ويقوم على عرائش، وهو الأَعناب، وآخر للشجر الذي يقوم على ساق، وهو النخيل الذي له جذوع صلبة وطويلة، أَما الزرع فإن شامل لكل أَنواع الحبوب والبقول.

ص: 407

(يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ):

هذه الجملة مستأْنفة للتعجب من قدرة الله تعالى فيما يبدعه في عالم البساتين، حيث بينت أَن هذا النبات والشجر على اختلاف أَنواع كل منهما يسقى بماءٍ واحد في أَرض متجاورة ومتشابهة في التربة والجو، ولكن الثمرات متنوعة في الطعم والشكل واللون والرائحة، وربما كان ذلك في الشجرة الواحدة ولا شك أَن هذا ناشئٌ من أَن وراءَ الطبيعة ربا حكيمًا، هو الذي ينوع النواميس والطبائع ويبدع غير المأْلوف، ويخالف المأْلوف ليعرفه عباده بما يبدعه لهم من هذه المؤتلفات والمختلفات، ولو كانت الطبيعة هي الفاعلة لما وقع هذا الاختلاف، بل لما وجد من ذلك شىءٌ فإِن الطبيعة لا عقل لها ولا إِرادة، ولهذا عقب الله تلك الجملة بقوله:

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ):

إِن في هذا التنوع والتَّعدُّد -مع وحدة الأَصل والبيئة- لعلامات وشواهد يدركها أَصحاب العقول الراجحة فيعلمون أَن من ورائها قدرة الخلاق العظيم الذي أَحسن كل شيءٍ خلقه، فيؤْمنون وينقادون إِليه ويعبدونه على الوجه اللائق بما له من عظمة وجلال.

{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)}

المفردات:

(وَإِنْ تَعْجَبْ): العجب والتعجب كلاهما يستعمل على وجهين:

أَحدهما فيما يستحسن ويحمد. والثانى فيما يكره وينكر.

(الْأَغْلَالُ): جمع غُل بضم الغين. وهو طوق من حديد أَو غيره يوضع في العنق أَو في اليد فتشد به إِلى العنق.

ص: 408

التفسير

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا):

بينت الآيات السابقة دلائل قدرة الله في السماوات والأَرض وأَنها، آيات لأَصحاب العقول السليمة. الأَفهام المستقيمة على عظمة قدرة الله وحكمته، وأَن من هذا شأْنه فهو قادر على كل مقدور، وجاءَت هذه الآية للتعجب من إِنكارهم للبعث مع ما يشاهدون من المظاهر الكونية، ولإِنذارهم بالعذاب الدائم الذي لا غاية له جزاءِ تكذيبهم. والخطاب في الآية للرسول أَو لكل من يصلحُ للخطاب من العقلاءِ.

والمعنى: وإِن تعجب من تكذيب المشركين بأَمر المعاد مع ماشهدوه من دلائل قدرة الله فعجب لا يوجد أَشد منه قولهم في إِنكارهم للبعث

(أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)

هذا القول مشتمل على استفهامين من المشركين، يقصدون بهما أَقصى درجات الإِنكار، للعودة إِلى الحياة مرة أُخرى، حيث يخلقون خلقا جديدًا بعد أَن تحللت أَجسامهم، ونخرت عظامهم، وأَصبحوا ترابًا تذروه الرياح، ولو فكر هؤلاءِ المنكرون بعقولهم لعلموا أَن من قدر على إِنشاءِ تلك الكائنات وإِبداعها من تراب، فإِنه قادر على إِعادتها، بل الإِعادة في نظر القياس أَهون. وإِن كان كل شيءٍ أَمام قدرة الله سواءٌ. فهو الذي يقول للشيءِ كن فيكون.

وقد عقب الله هذه الجملة التي نعت عليهم تكذيبهم بقوله:

(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ): أَي هؤُلاءِ المكذبون للبعث هم الذين كفروا بربهم ولم يؤْمنوا به. إِذ لو آمنوا به وبأَنه خالق السماوات والأَرض -كما يجيبون إِذا سئلوا- لعلموا أَنه قادر علي بعث الأَجساد بعد استحالتها إِلى تراب تفرقت ذراته. فهم ليسوا أَشد خلقًا من السماءِ التي بناها ورفع سمكها وسواها، وأَغطش ليلها وأَخرج ضحاها.

ولما كان هذا الكفر مع وضوح الأَدلة أَمرًا منكرًا فظيعًا يستحقون عليه أَشد العقاب أَنذرهم الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ): أَي أَن جزاءَهم يوم الحساب أَن يسحبوا إِلى النار بأَطواق في أَعناقهم تحقيرًا لهم وتسفيهًا.

ص: 409

وقال بعض المفسرين هو تمثيل لحالهم الشنيعة في الضلال وتقليد الآباءَ بحال المقيدين بالأَغلال في أَعناقهم، فهم مثلهم في الحرمان من نعمة الحرية وكَبْتِ الإرادة، وضيق آفاقها، والحرمان من الخير، وسوء العاقبة.

ثم ختمت الآية بقوله تبارك تعالى:

(وَأولَئِكَ أصْحَابُ النارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ): أَي وأُولئك المكذبون بالبعث الكافرون بربِهم المكبلون بالأَغلال في أَعناقهم -أُولئِك الموصوفون بهذه الصفات- هم أَصحاب النار الملازمون لها -الماكثون فيها فلا ينفكون عنها ولا يخرجون منها أبدًا.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6))

المفردات:

(السَّيِّئَةِ): العقوبة. (الْحَسَنَة): العافية والسلامة.

(الْمَثُلَاتُ): جمع مثله -بفتح الميم وضم الثاء. وهي العقوبة؛ سميت بذلك لأنها تماثل الذنب، والمراد بالمثلات في الآية الكريمة عقوبات أَمثالهم المكذبين قبهم.

التفسير

6 -

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ

) الآية.

كان الرسول صلوات الله عليه ينذر المشركين بالعذاب في الدنيا والآخرة لإصرارهم علي الكفر، فكانوا يستعجلونه في وقوعه استهزاءً به وطعنًا في خبره فنزلت.

ص: 410

والمعنى: ويطلب منك المشركون يا محمد أن تعجل لهم بالعقوبة التي أنذرتهم بها. لإِصرارهم على الكفر وتكذيب ما جئتهم به من عند الله، وكان عليهم أَن يثوبوا إلى رشدهم ويعدلوا عن شركهم. ويطلبوا من الله سبحانه وتعالى السلامة والعافية. وما كان ينبغي لهم أَن يؤثروا العقوبة على السلامة، وهم يعلمون مما يشاهدونه حولهم من آثار ما أَنزله الله من العقوبات بالكافرين قبلهم. كما حدث لعاد قوم هود، ولثمود قوم صالح، ولقوم لوط ولغيرهم وإلى ذلك يشير قوله تعالى:

(وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ):

أَي أنهم قد مضت من قبلهم عقوبات الأُمم السابقة التي استأصلهم. فما لهؤلاء لم يعتبروا بتلك الأُمم؟ فيكفوا عن الكفر والتكذيب حتى لا يحل بهم ما حل بمن قبلهم من المكذبين.

ثم عقب الله سبحانه وتعالى هذه الجملة من الآية الكريمة بما يفتح باب الأَمل للتائبين المستغفرين -ويحذِّر من شدة العقوبة للعصاة المصرِّين فيقول:

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} :

أَي أَنه تعالى. صاحب مغفرة عظيمة وستر شامل لمن ظلموا أنفسهم بالذنوب والعاصى. فلا يعجل لهم بالعقوبة، بل يمهلهم ويؤَخرهم لعهم يتوبون ويستغفرون فيغفر لهم.

وكما أنه سبحانه صاحب مغفرة للناس وإن كانوا ظالمين. إن تابوا وأَنابوا؛ فإِنه شديد العقاب لمن أَصر على كفره وعصيانه كما قال تعالى في سورة الحجر: "نَبِّئ عِبَادِى أَنِّي أنا الْغَفُورُ الرحِيمُ * وَأن عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ". وفي سورة الأَنعام: "فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ". إلى غير ذلك من الآيات التي تجمع بين الرجاءَ والخوف.

ص: 411

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7))

المفردات:

(الَّذِينَ كَفَرُوا): المراد بهم هنا كفارُ أهل مكة.

(لَوْلَا أُنزِلَ): لولا بمعنى هلَاّ، فكلتاهما للحض والحث على فعل الشيءِ.

(آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ): الآية؛ العلامة، والمراد بها هنا ما طلبوه من الخوارق مثل تفجير الينابيع والأَنهار والرقى في السماء.

التفسير

7 -

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ):

بعد أَن حكى الله عن أَهل مكة كفرهم بالبعث، واستعجالهم بالعذاب الذي توعدهم الله به على لسان رسوله، جاءَت هذه الآية لبيان لون من أَلوان كفرهم وعنادهم.

والمعنى: ويقول الذين كفروا بالقرآن من أَهل مكة زاعمين أَنه لا يكفى للدلالة على نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم: هلَّا أنزل عليه آية من ربه، على منهاج الآيات الكونية التي أَيد الله بها رسله السابقين، كعصا موسى التي أبطلت سحر الساحرين، وناقة طالح، وإِحياءَ الموتى بإِذن الله على يد عيسى، ولما كان هذا المطلب لا يخرج إِلا من فم كافر لما فيه من التجنى على الحق، فلذا حكى الله مقالتهم موصوفين بالكفر بقوله:(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بدلا من أن يعبر عنهم بأُسلوب الإِضمار: (ويَقُولُونَ) والغرض من ذلك ذمهم بالكفر بهذا الكتاب المبين الذى تخر له صم الجبال، ولو تفتحت على الحق قلوبهم، وبرأَت من الحقد نفوسهم، لوجدوا السبيل إِلى الهدى ميسرة بآياته، فهي أَجدى على الحق من تحويل الصفا إِلى جبل من ذهب، وتحويل صحرائهم إِلى جنات تجرى من تحتها الأَنهار

ص: 412

كما طلبوا، فإِن العقل البشرى قد شب عن الطوق، والذى كان آية للأُمم السابقة، لا يصلح آية لأَمة محمد التي فتح القرآن لها أَبواب العلم، وكشف لها آفاق المعرفة فلم يعد يفيدها ناقة تخرج من الصخر، ولا يد تخرج من الجيب بيضاءَ من غير سوءٍ، ولا إِبراءِ الأَكمه والأَبرص وإِحياء ميت أَو ميتين، فكل ذلك لا يساوى إِحياءَ القلوب باليقين، وتنوير العقول بأَشعة المعرفة، ووضع المنارات على الطريق ليهتدى بها الناس إِلى الحق سبحانه وتبرئته من الشريك والنظير، وتنزيهه عن الصاحبة وعن الولد، وليهتدوا بها إِلى أَسرار الملك الملكوت، فيعملوا للدنيا في حدود ما هو حلال لهم، ولا عليهم من بأْس أَن يتوسعوا في نعمه وزينته والطيبات من الرزق ما داموا يؤدون حق الله وحق المجتمع فيما رزقهم ربهم، ويعملوا للآخرة، حيث لا ينفعهم مال ولا بنون، إِلا من أَتى الله بقلب سليم.

وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنَ الأنْبيَاءِ نَبِىّ إِلَّا أُعْطِىَ مِنَ الآياتِ مَا مِثلةُ آمَنَ عَلَيْهِ البشر، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا أَوحَاهُ اللهُ إِلَىَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". أَخرجه البخاري ومسلم والنسائي.

ومن مميزات معجزة القرآن أَنها باقية ما بقى الزمان. بخلاف معجزات الأَنبياءِ السابقين، فقد أَصبحت خبرًا بعد عين، وعرضة لإِنكار المنكرين وتكذيب المكذبين.

(إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ):

أَي ليس من شأْنك يا محمَّد أَن تقترح علينا الآيات، أَو تبلغنا اقتراح قومك لها، فما أَرسلناك إِلا لإِنذار الكفار سوءِ عاقبة ما هم عليه من الكفر، وقد أَيدناك بما يكفي الاستدلال به على نبوتك لمن كان له قلب أَو أَلقى السمع وهو شهيد، وهو القرآن العظيم، فما أَنت إِلا منذر لهم ولكل قوم كافرين، بما جاءَ فيه من القوارع والنوائب التي تحل بهم إِن أَصروا على كفرهم، وهاد مرشد إِلى طريق السلامة في الدنيا والآخرة بما جاءَ فيه من الآيات، فإِن سلكوه كانت غايتهم السلامة والسعادة الأَبدية، وإِن أَعرضوا عنه كانت غايتهم الندامة والشقاوة الأَبدية، فلا تكترث باقتراحهم الآيات عنادًا، فلكل أُمه رسولها مؤيدًا بالآيات اللائقة بها.

ص: 413

ثم عقب الله هذه الآية بما يدل على كمال قدرته وشمول علمه وقضائه وقدره المبنيين على الحكم والمصالح، تنبيهًا على أَن تخصيص كل قوم بنبي، وكل نبي بجنس معين من الآيات إِنما هو للحِكَم الداعية إِليها، وذلك بقوله سبحانه:

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)}

التفسير

8 -

(اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ):

لمَّا تقدم إِنكارهم البعث. وكان من أَقوى شبههم ما شهدوه من تفرق الأَجزاءِ وزوال صفاتها. نبه سبحانه بهذه الآية على إِحاطة علمه جل شأْنه، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأَرض ولا فى السماءِ دحضًا لشبهتهم. وإِزاحة لها.

والمعنى: الله يحيط علمه بما تحمله الحوامل من مبدإِ الحمل إِلى زمن الولادة فلا يخفى عليه شىءٌ مما يتعلق بذات الجنين أَو صفاته من كونه ذكرًا أَو أُنثى، أَو صبيحًا أَو قبيحًا أَو صالحًا أَو طالحًا أَو شقيًا أَو سعيدًا.

(وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ): أَي يعلم ما تنقصه الأَرحام في ذات المولود أَو مدته نتيجة لما يغيض له في أَطواره عن أَسباب تجعله ينزل سقطًا أَو لأَقل من مدة الحمل الغالبة أَو لأَكثر منها أَو لما أُلف وعهد فيها.

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ):

أَي وكل شيءٍ في علم الله وتقديره من الأَعيان والأعراض له في كل مرتبة من مراتب التكوين قدر معين في ذاته وفي زمنه، وحاله لا يتخطاه ولا يجاوزه بأَى حال من الأَحوال.

ص: 414

وذلك عام في الأَجنة والآجال والأَرزاق وغيرها. وفي الحديث الصحيح: "أَن إِحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم بعثت إِليه أَن ابنًا لها في الموت وأَنها تحب أَن تحضره فبعث إِليها: "إِنَّ لِلَّه ما أَخذ وله ما أَعطى وكل شيءٍ عنده بأَجل مسمى فمروها فلتصبر ولتحتسب". والحديث لمسلم ورواه البخاري في كتاب الجنائز بمخالفة يسيرة. والمقصود بإِحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم زينب امرأَة أَبي العاص بن الربيع.

9 -

(عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ .... ) الآية.

أَي يعلم سبحانه وتعالى الغائب عن الخلق والظاهر لهم. فينفرد بكل باطن خفى -لا يشاركه في علمه به أَحد، وأَما ما يقوله أَهل الطب من استدلالهم في طلبهم على ما خفى بأَمارات وعلامات فذلك ظنى لا يقينى (1). والتعبير عن الغائب والحاضر بالمصدر مبالغة في كون الغائب كأَنه نفس الغيب لشدة خفائه. وكون الحاضر لقوة وضوحه كأَنه نفس الشهادة والوضوح. وأَخرج ابن أَبي حاتم عن ابن عباس أَن الغيب السِّر والشهادة العلانية.

(الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ): الذىَ تعالى قدره وعظم شأْنه، واستعلى على سواه في ذاته وصفاته وأفعاله.

10 -

{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} :

بعد ما بين الله تعالى أَنه عالم بجميع أَحوال الإِنسان في مراتب فطرته ومحيط بعالمى الغيب والشهادة، جاءَت هذه الآية لبيان أَنه لا فرق في علمه بين السِّرِّ والعلن، والجلى والخفى، فيستوى في علمه من أَسر القول منهم وأَخفاه عن غيره، ومن جهر به وأَذاعه خيرًا كان أَو شرًّا، فيعلم سر الأَول كعلمه بجهر الثاني من غير تفاوت بينهما في كيفية علمه بهما ودرجته، كما يستوى في علمه من يبالغ في الاستتار والتخفى في ظلمة الليل، ومن هو سارب وبارز بالنهار.

(1) أما الآلات التي اخترعت لكشف ما في جوف الأَرض من معادن وبترول فإِن العلم بوساطتها لا يعتبر علما بالغيب، فقد أَصبح الغيب في حكم الظاهر بوساطة هذه الآلات ولذا يستوى في العلم بوساطتها كل من عرف طريقة استعمالها.

ص: 415

وقال الأَخفش وقطرب؛ المستخفى بالليل؛ الظاهر ومنه خَفَيْتُ الشَّىءَ وأَخفيته أي أَظهرته والسارب المختفى بالنهار يدخل سربًا يختفى فيه -انتهى بتصرف. وتلك عادة لبعض العابثين يختفون نهارًا، ويظهرون ليلًا، ليأْخذوا الناس على غرة وهؤلاءَ وأَمثالهم كغيرهم يحيط بهم علمه مهما تذرعوا به من إِحكام التخفى بمختلف الوسائل والأَساليب.

{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)}

التفسير

11 -

(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ):

أَي لله ملائكة يعتقبون على حفظ عبده من جميع جهاته يأْتى بعضهم إِثر بعض بدون إِبطاءٍ. كأَن كلا منهم يطأْ عقب الآخر لشدة قربه منه يتناوبون عليه بالليل والنهار لوقايته من كل ضرر يمسه. أَو سوء يلحق به وذلك الحفظ من أَمر الله، أَي بسبب أَمر الله لهم به. فإِذا جاءَ قدر الله تخلوا عنه (1). ويجوز أَن يكون المعنى: يحفظونه إِذا أذنب من بأْس الله بالاستمهال والاستغفار له. كما يتعاقب عليه ملائكة آخرون لإِحصاءِ كل عمل له خيرًا كان أَو شرًّا. فهو بين أَربعة من الملائكة حافظين وكاتبين بالليل ومثلهم بالنهار، يجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر. وفي الصحيح: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكم مَلائِكَةٌ باللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بالنَّهارِ وَيَجْتَمِعُونَ في صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الْعَصرِ، فيَصْعَدُ إلَيْه الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُم، فَيَسْأَلُهَم

(1) قال أبو مجلز: جاء رجل من مراد إلى على فقال: احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك، فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه ما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبين قدر الله، وإن الأجل حصن حصينة" أخرجه الإِمام مسلم.

ص: 416

وَهُو أعْلَمُ بِهمْ كَيفَ تَرَكتم عِبَادِى؟ فَيَقُولُونَ آتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلونَ وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلونَ".

أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة. باب فضل صلاة العصر.

وبعد أَن ذكر سبحانه وتعالى إِحاطة علمه بالعباد وأَن لهم معقبات يحفظونه من أَمره، نبَّه على أَن النجاة في لزوم الطاعة والوبال في اختيار المعصية فقال -جل شأْنه-:

(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ):

أَي جرت السنَّةُ الإِلهيةَ بأَنه تعالى لا يبدل ما بقومٍ من نعمةٍ وعافيةٍ وأَمنٍ ودعةٍ حتى يتركوا ما تعودوه واتصفوا به من عمل صالحٍ وخلق قويم متجهين إلى أَضداها، لأنهم بذلك قد أَهملوا الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وحينئذ يستحقون الحرمان من النعمة وقد يضم إِليه إِنزال العذاب بهم إِن عظمت ذنوبهم وقد يصاب به الصالحون الذين يعيشون بينهم، وذلك على سبيل الابتلاءِ لا على سيبل العقاب. كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ردًا على من سأَله. "أنَهْلِكُ وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إِذا كَثُرَ الخبثُ (1) ".

وقد يشتركون في استحقاق العقوبة، لتراخيهم في الأَمر بالمعرف والنهي عن المنكر، قال صلى الله عليه وسلم:"إذا رأوا الظالم ولم يأَخذوا على يديه يوشك أَن يعمهم الله بعقاب (2) ". ويصح أَن يكون المعنى: إِن الله لا يغير ما بقوم من العقاب والبلاءِ حتى يغيروا ما بأَنفسهم من المعاصي، ليكون أَهلا لعفوه ورحمته.

(وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا):

أَي وإِذا شاءَ الله بقوم بلاءً من مرض أَو فقر أَو هزيمة أَو عذاب أَو غير ذلك مما يسوءُ ويؤلم.

(فَلَا مَرَدَّ لَهُ):

أَي فلا دافع لبلائه على اختلاف أَنواعه، وَقيل إِذا أَراد الله بقوم سوءًا أَعمى أَبصارهم وبصائرهم فاختاروا ما فيه هلاكهم، وعملوه بأَنفسهم فيستحيل لذلك رده عنهم.

(1) الخبث: الفسق والفجور.

(2)

معنى ذلك أَن المصائب قد تنزل بشوْم ذنوب الآخرين.

ص: 417

(وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ):

أَي ليس لهم ملجأُ غيره يقيهم من أَخذ الله لهم ويتولى أَمورهم فيمنعهم ويدفع عنهم السوء الذي ينزله بهم، بسبب تغيير ما بأَنفسهم، وفي هذا دلالة قاطعة على أَن تخلف مراد الله محال، وإيذان بأَنهم بسبب إِنكارهم البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية، قد استحقوا العذاب الشديد، والعقاب الأَليم الذي لا يستطيع أَحد دفعه عنهم، إِذا أَراده الله بهم.

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)} .

المفردات:

(يُجَادِلُونَ): مفاعلة من الجدل بالتحريك وهو المناقشة والمخاصمة.

(المِحَالِ): بكسر الميم؛ الكيد والمكر، والمماحلة المكايدة، ويستعمل في الحيلة والقوة والجدال، يقال: ما حل عن رأْيه جادل، والمِحَالُ من الله معناه التدبير بالحق كما قاله النحاس.

التفسير

12 -

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا):

في هذه الآية الكريمة بيان لبعض الظواهر الكونية التي تنطق بكمال قدرته تعالى، وتبرز للحس عظيم صُنْعِهِ، فقد جاءَ فيها أَنه تعالى يرينا البرق لإِخافتنا من آثاره التي قد

ص: 418

تتمثل في صواعق حارقة، وبرق قوى يكاد عند انبعاثه يذهب بالأَبصار، ومطر غزير يشق على المسافر ويؤذيه، وقد ينفر منه المقيم ولا يبتغيه، كما يرينا البرق أَيضًا لإِطماع عباده في غيث نافع يغيث الزرع ويُدرُّ الضرع، وينشر الخصب والرخاءَ، قال الحسن: خوفا من صواعق البرق وطمعا في غيثه المزيل للقحط، وقال قتادة: خوفا للمسافر يخاف مشقته وأَذاه، وطمعا للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله.

(وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثَّقَالَ):

أَي السحب الممتلئة بالمطر. لذلك يعم نفعها ويعظم أَثرها، والثقال جمع ثقيلة لكثرة ما تحمل من ماء المطر.

13 -

(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بحَمْدِهِ

):

أَي أَن الرعد خاضع لله خضوعا تاما شأْنه شأْن جميع الكائنات فالتسبيح منه مجاز عن الخضوع، ويجوز أَن يكون تسبيحه تسبيحا مقاليا ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذا سمع صوت الرعد يقول:"سبحان من يسبح الرعد بحمده"(1). وإِسناد يسبح إِلى مضاف محذوف كما يقول بعض المفسرين والتقدير ويسبح ملك الرعد، مخالف لظاهر النص الذي ينطق بأَن الرعد هو الذي يسبح تسبيحا مجازيا أَو حقيقيا (2) كما تقدِم.

وللملائكة كذلك تسبيح وتنزيه إِذ هم ملأ ُسماوي لا يعصون الله ما أَمرهم ويفعلون ما يؤْمرون ينبىءُ بذلك قوله تعالى:

(وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ): أَي وتسبح الملائكة من هيبته تعالى وإجلاله.

(وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ):

أَي أَن الله سبحانه وتعالى ينزل الصواعق (3) فيصيب من يشاءُ هلاكه من عباده فيهلكه، وقد تكون مظهرًا من مظاهر قدرته وجبروته وهى في كلتا الحالتين آية من آيات الله تعالى.

(1) أَخرجه: ابن جرير عن أَبي هريرة

(2)

وليس هذا مستحيلا على الله، فإِن عباده اخترعوا الحاسبات الألكترونية وغيرها وهو الذي أقدرهم على ذلك، وهو الذي سخر الجبال مع داوود يسبحن بالعشي والإشراق، وجعل الطير تؤوب وتسبح معه.

(3)

مرَّ بيان الصواعق في تفسير الآية 19 من سورة البقرة، فارجع إِليه.

ص: 419

ولما نعى الله على المشركين عنادهم في اقتراح الآيات وإِنكارهم كون الذي جاءَ به الرسول من جنس الآيات، ولم يعتبروا بما شاهدوا من ظواهر هي آيات على قدرة الله، عقب ذلك ببيان طبيعتهم تسلية لرسوله فقال سبحانه:

(وَهُمْ يَجَادِلُونَ فيِ اللهِ):

أَي لا تحزن لما ترى منهم في شأْنك. فهم مع أمارات القدرة العظيمة، ودلائل التوحيد الباهرة. يجادلون في الله بادعاءِ الشركاءِ وإِثبات الأَولاد له تعالى، وإِنكار البعث، ويلحون في استعجال العذاب، ومع سلطانه القاهر يمعنون في العناد والمكابرة.

(وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ):

أَى أَنه سبحانه شديد القوة على أَعدائه يأْخذهم أَخذ عزيز مقتدر فَيصيبُ مِنْهُم من يشاءُ وفق إِرادته. وقال الحسن شديد الإِهلاك بالمحل وهو القحط.

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14))

المفردات:

(كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ): كمن مدهما مبسوطتين. (لِيَبْلُغَ فَاهُ): ليصل إِلَى فَمِه.

التفسير

14 -

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) الآية.

أَي أَن دعوة الحق تختص به تعالى، أَمَّا دعوة غيره كالأَصنام والكواكب، فليست دعوة حق، بل هي دعوة باطل، ولهذا فإِنه تعالى: يجيب دعاءَ من دعاه، فهو أَهل

ص: 420

للإِجابة كما هو أَهل للدعاءِ. أَما الذين يدعونهم من دونه من الشركاءِ، فإِنهم لا يجيبون دعاءَ من دعاهم بشيءٍ فهم ليسوا أَهلًا للإِجابة، كما أَنهم ليسوا أَهلا للدعاءِ.

وكيف يستجيبُون لهم وهم صمّ بكم عُمىٌ فلا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون، وكل من يتوقع من هذه الأَصنام الاستجابة وتحقيق أَي أَمل يرجوه ما هو إِلا (كَبَاسِطِ كَفيهِ إلَى الْماءَ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هوَ بِبَالِغِهِ): فكما أَن من بسط كفيه إِلى الماءِ يدعوه أَن يرتفع إِلى فمِهِ فلا يستجيب له فكذلك من بسط كفيه إِلى الأَصنام يدعوها لتحقيق أَمل له لا تستجيب دعاءَه.

(وَمَا هوَ بِبَالِغِهِ): أَي لا يصل الماءُ إِلى فمه أَبدا إِن دعاه وبسط كفيه إِليه، لأَنه جماد لا يشعر بظَمئه، ولا بِبَسْطِ الكفين إِليه وهم يدعوه أَن يصل إِلى فمه، ولا يستطيع بنفسه سلوك السبيل إِليه، فكذلك الآلهة لأنها لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرًّا، فإنها عاجزة فكيف تملك الاستجابة للذين يدعونها، ولذلك كان دعاؤُهم لها كما يقول جل شأْنه:

(وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَاّ في ضَلَالٍ):

أَي أَن دعاءَهم إِلى ضياع وخسار لأَنها غير أَهل للدعاءِ ولا للإِجابة، فكيف يعبدها المشركون، وهى غير أَهل للدعاءَ فضلا عن العبادة، وقد ضرب الله الماءَ مثلا رائعا ليأْس الكافرين من استجابة الأَصنام إِليهم، ويذكر القرطبى في معناه ثلاثة أَوجه:

الأَول: أَن الذي يدعو إِلها غير الله كالظمآن الذي يدعو الماءَ إِلي فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه، ويشير إِليه بيديه فلا يأْتيه أَبدًا لأَن الماء لا يستجيب وما الماءُ ببالغ إِليه، قاله مجاهد.

الثاني: أَنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماءِ وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه لكذب ظنه وفساد توهمه، قاله ابن عباس.

الثالث: أَنه كباسط كفيه إِلى الماءِ ليقبض عليه فلا يجمد في كفيه شىءٌ منه اهـ.

والوجه الذي ذكرناه أَوضح من هذا كله والله تعالى أَعلم.

ص: 421

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)}

المفردات:

(يَسْجُدُ): يخضع وينقاد. (طَوْعًا): اختيارًا.

(وَكَرْهًا): بفتح الكاف؛ إِكراهًا. وبضمها؛ مشقة.

(الغُدُوّ): جمع غداة لمقابلته بالآصال، وقيل مصدر غدا، يقال غَدَا غدوًّا بمعنى دخل في الغدوة. والغدوة والغداة من صلاة الفجر إِلى طلوع الشمس. (وَالْآصالِ): جمع أصيل، والأصيل ما بين العصر وغروب الشمس.

التفسير

15 -

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا

) الآية.

أَي أَن جميع من فيهما من الإِنس والجن والملائكة وغيرهم خاضعون لعظمته منقادون لإِرادته شاءُوا أو أَبوا، يستوى في ذلك مؤْمنهم وكافرهم، ومن له عقل وإرادة وما لا

ص: 422

عقل له ولا إِرادة والتعبير بِمَنْ وهي للعقلاء لتغليبهم على غيرهم، وجميع هؤُلاءِ َيسجدون لله (طَوْعًا وَكَرْهًا): فانقياد المؤْمن يقع منه اختيارًا طائعا لأَنه خاضع لله بظاهره وباطنه وانقياد الكافر يقع منه اضطرارا، فإِنه خاضع لله في تربيتهِ ورزقه، وصحته ومرضه وغير ذلك. فمشيئته تعالى ماضية فيه. (وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَاْلآصَالِ): أَي تنقاد لله كذلك ظلال من له ظل منهم فهى تحت سلطانه ومشيئته في الامتداد والتقلص والرجوع والزوال. خاضعة له منقادة لإِرادته بالغدو والآصال. لأَن ظلال الأَشياءِ تظهر في هذين الوقتين وتتضح حركتها زيادة ونقصا وميلا من ناحية إِلى أَخرى بتصريف الله. إِذ الحركة والسكون بيده تعالى، والمتحرك والساكن في قبضته.

16 -

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ

) الآية.

أَمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله عليه أَن يبين للمشركين طريق الهداية بمحاورتهم سائلًا ومجيبًا، ليلفت أَنظارهم إلى البحث والتأَمل فقال له: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ): أَي قل يا محمَّد لأُولئك. الكفار الذين اتخذوا الشركاءَ لله والأَولياءَ من دونه: مَن ربُّ هذه الأَجرام العظيمة التي ترونها فيبهركم ما فيهما من دقة وكمال وجمال؟ ثم أَمره أَن يذكر لهم الجواب فقال: (قُلِ اللَّهُ): للإِيذان بأَنه جواب متعين إِذْ لا جواب سواه، ولهذا فالسائل والمجيب في تقريره سواءٌ، وَفِى ذلك إِشعار لهم بمخالفتهم لما علموه مما لا يصح إِخفاؤه بدليل قوله تعالى:"وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ": ثم أَمره أَن يبين لهم خطأَهم الفاضح فيما سلكوه بجانبه تعالى فقال:

(قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا):

أَي قل لهم تبكيتًا وتقريعًا أبعد أَن علمتم أَنه رب السماوات والأَرض الذي ينقاد لسلطانه وتقديره كل من فيهما، أَبعد أَن علمتم هذا عميت قلوبكم فاتخذتم من دونه تعالى

ص: 423

أَولياءَ عاجزين لا يملكون لأَنفسهم نفعًا يأْتون به أَو ضررًا يدفعونه فهم عن جلب النفع ودفع الضر عن غيرهم أَضعف وأَعجز.

ثم ضرب لهم مثلا يصور آراءَهم الفاسدة بصورة المُحَس فقال جل شأْنه:

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ): أَي قل لهم مُقَرِّعًا هل يستوى الأَعمى وهو مثل المشرك الجاهل بالعبادة وبمستحقها، والبصير وهو مثل الموحد العالم بذلك، والمراد لا يستوى المؤمن والكافر.

(أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ): ويراد من الظلمات الكفر والضلال ومن النور الإِيمان والتوحيد أَي هما لا يستويان.

ثم إِنه تعالى أَكد ما أَشارت إِليه الآية فيما سبق من تخطئة المشركين فقال:

(أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ): أَي بل أجعلوا لله شركاءَ خلقوا مثل خلقه فتشابه الخلق عليهم فلا يميزون بين خلق الله وخلق آلهتهم، فاستحقوا بذلك العبادة عندهم كما استحقها سبحانه ليكون ذلك منشأَ خطئهم. ولكن الأَمر ليس كذلك لأَنهم جعلوا له شركاءَ عاجزين لا يقدرون على نفع أَنفسهم أَو دفع الضر عنها، فكيف يقدرون على ما يقدر عليه الخالق من الإِيجاد والإِبداع؟

وإِجمال المعنى أَن الله تعالى نعى عليهم اتخاذهم الشركاءَ، ووصفها بأَنها عاجزة ذليلة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا، وأَنها ليس لها شىءُ من الخلق، وعقب ذلك بأَمر نبيه أَن يخبرهم أَنه تعالى هو الخالق وحده، فقال:

(قُلِ الله ُخَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ): أَي قل يا محمد؛ الله خالق كل شيءٍ؛ فلهذا لزم أَن تَعبدُوه وحده لأَنه لا خالق غيره.

ص: 424

(وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ): وهو سبحانه المختص بالأُلوهية المنفرد بالربوبية، القهار لكل متكبر، الغالب لما سواه، فكيف يتوهم أَن يكون المغلوب شريكًا له، تعالى الله عن ذلك علوَّا كبيرًا.

(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18))

المفردات:

(أَوْدِيَةٌ): جمع واد، وهو كل مُنفَرَجٍ بين جبال أَو آكام. ويكون مَنْفَذًا للسيل.

(الزَّبَدُ): ما يعلو وجه الماءِ كالرغوةِ، (رَابِيًا): مرتفعًا فوق الماءِ.

(الْحِلْية): ما يتخذ للزينة من الذهب والفضة وغيرهما.

ص: 425

(مَتَاعٍ): الْمتَاع كل ما ينتفع به من الطعام والثياب وأَثاث البيت. ويراد بالمتاع هنا أَثاث البيت المتخذ من نحو الحديد والنحاس والرصاص.

(جُفَاءً): مرميَّا به؛ يقال: جفأَ الماءُ بالزبد إِذا قذفه ورمى به، وجَفَأَتِ القِدرُ: رمت بزبدها عند الغليان. (اسْتَجَابُوا): أَجابُوا بصدق.

(الْحُسْنَى): مُؤنَّث الأَحسن، والمراد بها المثوبة الحسنى وهي الجنة وما فيها من نعيم مقيم.

التفسير

17 -

(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا

) الآية.

ضرب الله جل ثناؤه بهذه الآية الكريمة مثلا للحق في عموم فائدته وعظيم بركته، بالماءِ الصافى الذي أَنزله الله من السماءِ فسالت به أَودية بين الجبال والآكام بالقدر الذي عينه الله تعالى واقتضته حكمته لنَفْع الناس؛ يسيل مندفعًا في مجاريه حتى يصل إلى غايته، وجعل الباطل في اضمحلاله وزواله كالزبد وهو الرغوة التي تعلو سطح الماءِ ثم تكون نهايته أَنْ يضمحل ويذهب، ويشير جل شأْنه إِلى مثل ثان للحق والباطل بقوله:

(وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ): ففي هذا المثل جعل الله الحق كالمعادن التي يوقد عليها في النَّار لصهرها وإِذابتها لتصفيتها وتَنْقِيتها من كل الشرائب، تيسيرًا للانتفاع بها في اتخاذ الحلى من الذهب والفضة ونحوهما، وفي أَثناءِ صهر هذه المعادن يعلو فوقها زبد كزبد الماءِ في كونه رابيا فوقه ولا ينتفع به، وقد جعله الله مثلا للباطل في الفلزات المذابة، كما جعله مثلا له في الماءِ، فالزبد في كليهما يشير إِلى الباطل.

(كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحقَّ والْبَاطِلَ): أَي مثل ذلك يضرب الله للناس مثل الحق ومثل الباطل، ثم بَيّن الله ذهاب الباطل وثبات الحق فقال:

ص: 426

(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ):

أَي أَن الباطل الشبيه بالزبد مهما علا وظهر فإِن مآله إِلى اضمحلال وفناءٍ حيث يرمى به وينبذ كما يذهب الزبد جفاءً.

والجُفاءُ ما أَجفأَه الوادى أَي رمى به وما أَجفأَته القدر إِذا غلت أَي رمت به وصبته وأَما ما ينفع الناس من الماءِ الخالص الصافى، وما خلص من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص وسائر المعادن فيمكث في الأَرض، فالماءُ يبقى بعضه فوق سطحها لينتفع به ويذهب بعضه الآخر إِلى جوف الأَرض، لينتفع به في العيون والآبار، وأَما المعادن فيصاغ من بعضها أَنواع الحلى ويؤْخذ من بعضها الأَوانى وأَصناف الآلات والأَدوات، فهذا هو المقصود من مكثها في الأَرض.

(كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ):

أَي كهذين المثلين في الوضوح والجلاءِ يضرب الله الأَمثال للناس دائما ليبصرهم بالخير والشر، إِظهارا لكمال العناية بالتوجيه والإِرشاد. ولما بين الله شأْن كل من الحق والباطل شرع يبين حال أَهل كل منهما فقال سبحانه:

18 -

(لِلَّذِينَ استَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنىَ

) الآية.

أَي للذين استجابوا لله فأَطاعوه، وأَطاعوا رسوله، إِذا دعاهم إِلى الحق بطرق الدعوة المتنوعة ومن بينها ضرب الأَمثال الذي يوصل المعانى إِلى القلوب في يسر وسهولة، لما له من تأْثير بليغ في النفوس لتصويره المعقول بصورة المحسوس، لهؤُلاءِ المهتدين المثوبة الحسنى وهي الجنة كما قال قتادة وغيره. وعن مجاهد أَنها الحياة الحسنى التي لا يشوبها كدر أَصلًا، أَو هي النصر في الدنيا والنعيم المقيم غدًا.

ص: 427

(وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ):

أَي أَن الذين عاندوا وأَعرضوا عن الحق مع وضوحه وجلائه لو أَنهم يملكون ما في الأَرض جميعًا من أَصناف الأموال المتنوعة، ويملكون مثل ذلك معه، لقدموه افتداءً لأَنفسهم، ليتخلصوا مما هم فيه من عذاب ونكال، وفيه من تهويل ما ينزل بهم ما لا يحيط به بيان.

(أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ): فلا تقبل منهم حسنة، ولا يتجاور لهم عن سيئة، ويحاسب كل منهم على ذنبه كله لا يترك منه شىءٌ.

(وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ): أَي أَن مقامهم ومسكنهم جهنم يتخذون منها فراشا لهم وإِنه لبئس الفراش الذي أَعدوه لأَنفسهم، يسيل عليه ما ينساب من جلودهم مما يصْلَونه من نارها وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودًا غيرها ليذوقوا أَشد العذاب وأَقساه.

ص: 428

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)}

التفسير

19 -

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى

) الآية.

قبل هذه الآية ضرب الله مثلا للحق بماءٍ أَنزله من السماءِ، فسالت به أَودية بقدرها وانتفع به الناس، وضرب مثلا للباطل بالزَّبَد الذي يعلو فوق الماءِ ولا يلبث أَن يضْمَحِل ويزول، وبيَّن أَن الذين استجابوا لربهم لهم الحسنى والذين لم يستجيبوا لربهم لهم سوءُ الحساب ومأْواهم جهنم وبئس المهاد.

وجاءَت هذه الآية لتقرير استحقاق المسِتجيب لربه أَحسن الجزاءِ، واستحقاق المعرض عنه سوءَ الحساب وشر العقاب.

والمعنى: أيستوى في الجزاءِ مؤْمن وكافر؟ -كلا- فمن هو بصير يعلم بنور قلبه وإِرشاد عقله وهداية ربه أَن القرآن الذي أَنزله إِليك ربك يا محمد هو الحق الذي لا يشوبه باطل، مَنْ كان هذا شأْنه -لا يتساوى عقلا مع من هو أَعمى القلب لا يتبين الرشد من الغى، والهدى من الضلال، فلهذا أحسن الله جزاءَ من استجاب له وآمن بكتابه، وأساءَ حساب وجزاء من أَعرض عن دعائه، وكذَّب برسوله وكتابه.

ثُمَّ ختم الله الآية بقوله:

(إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ): ليبين أَن أَصحاب العقول النظيفة والأفكار المستنيرة، هم الذين يتذكُّرون ويتَّعظون بما يسمعونه من آيات الله البينات، دون سواهم من أَصحاب العقول المغطاة بحجب الباطل، وغياهب التقليد.

ص: 429

روى أَن هذه الآية نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأَبي جهل لعنه الله، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)}

المفردات:

(بعَهْدِ اللهِ): بما عاهدوه عليه من الإِيمان به، والعمل بما أَمرهم به في كتبه التي أَنزلها إِليهم.

(وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ): المراد بالميثاق ما أَخذوه على أنفسهم من العهود نحو ربهم ونحو عباده وقال القفال: هو ما ركب في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات والشرائع، ونقض الميثاق: عدم العمل به.

(ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ): الابتغاءُ معناه الطلب، والمراد بالوجه: الذات.

(وَيَدْرَءُونَ): أَي يدفعون.

(عُقْبىَ الدَّارِ): عاقبة دار الدنيا التي أُعدت للصالحين -وهي الجنة.

التفسير

20 -

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ):

بعد أَن بيّنت الآية السابقة أَن الذين يذكرون ويتعظون بالمواعظ هم أَصحاب العقول الصافية من عوامل الهوى، جاءَت هذه الآية والآيتان بعدها لبيان أَوصافهم.

ص: 430

والمعنى: وما يتذكر إِلا أُولو العقول الصافية الذين يوفون بما عاهدوا الله عليه من الاعتراف بربوبيته بقولهم: "بلى" جوابا لسؤَاله البشر "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ": وذلك حين أَخرج منِ ظهورهم ذريتهم وأَشهدهم على أَنفسهم.

ويحتمل أَن يكون المراد من عهده تعالى ما خَلَقَه فيهم من القوى العقلية والجسدية التي توجب عليهم عبادة الله، ويتمكنون بها من أَداءِ ما كلفهم به، فإِن ذلك بمنزلة العهد بينهم وبين ربهم، ومن العلماءِ من فسر عهد الله بتكاليفه التي عهد إِليهم بها في كتبه التي أَنزلها إِليهم.

ثم ختم الآية بقوله: (وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ): وهو تعميم بعد تخصيص إِن أُريد من العهد الاعتراف بالربوبية، أَي ولا ينقضون ما وثقوه على أَنفسهم من إيمانهم بربهم ومواثيقهم مع خلقه سبحانه مؤْمنين أَو كافرين، فإِن أُريد من كُلِّ من العهد والميثاق العموم كانت هذه الجملة مؤَكدة للأُولى.

21 -

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ):

هذه هي الصفة الثانية لأُولى الأَلباب الذين مدحهم الله بأَنهم هم الذين يتذكرون.

والمعنى: وما يتذكر بالمواعظ إِلا أُولو الأَلباب الأَوفياء والذين يصلون ما أَمر الله بوصله من الطاعات كَبِرِّ الأَرحام، والعطف على الأَيتام، وأَداءِ الحقوق للناس، والإِيمان بجميع الأَنبياء دون تفريق بينهم، والإِحسان إِلى جميع الحيوانات، فكل ذلك وأَمثاله من الطاعات يعتبر وصلا لما أَمر الله به أَن يوصل.

(وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ): أَي ويخافون إلَههم ومالكهم وخالقهم ومربِّيهم، يخافونه خوف إِجلال وإِعظام، ويخافون أَيضا سوءَ حسابه تعالى لهم فيبعثهم هذا الخوف على أَن يصلوا ما أَمر الله بوصله، ويبتعدوا عما يغضبه عليهم، وسوءُ الحساب يكون بالمناقشة والاستيفاءِ وعدم التجاوز، ومن نوقش الحساب عذب -نعوذ باللهِ من ذلك- فلا طوق لأَحد بعذابه.

ص: 431

22 -

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً):

هذه هي الصفة الثالثة لأُولى الأَلباب.

والمعنى: وما يتذكر إِلَّا أُولو الأَلباب الذين صبروا على التكاليف، وقهروا النفس الأَمارة بالسوءِ حتى أخضعوها لطاعة ربها، وكان صبرهم هذا طلبا لرضا ذات ربهم، من غير نظر منهم إِلى جانب الخلق رياءً وسمعة، ولا إِلى جانب النفس زينة وعجبًا، وأقاموا الصلاة المفروضة فأَدَّوْها مستوفية الأَركان والشروط، وأنفقوا بعض ما رزقناهم بحيث لا يقل عما فرضه الله عليهم في الزكاة، وكان إِنفاقهم له سرًّا. حينما يكون السر أَولى في الإِنفاق من الجهر، وجهرًا حينما يكون الجهر أَرجح من السر. والإِنفاق سرًّا أَولى فيما إِذا كان المنفِق لا يتَّهم بترك الزكاة، أَو كان الآخذ مستور الحال خشية أَن يخدش حياؤُه بأَخذه الزكاة جهرًا، وكما في صدقة التطوع -إِلى غير ذلك من المقتضيات. والإنفاق جهرا أولى إِذا كان لحمل المياسير على الاقتِداءِ به، أَو خوفا من أَن يتَّهم بالشحّ، أَو لغير ذلك من الأَغراض الشريفة.

(وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ):

أَي ويقابلون السيئة بالحسنة ليمنعوا تكرارها، فإِنك إِذا أَحسنت إِلى من أَساءَ إِليك، يستحى أَن يكرر مساءته بعد أَن قابلتها بإِحسانك ما لم يكن المسيءُ لئيمًا لا يَثْنِيه الإِحسانُ عن المساءَة فإِن مقابلة شره بمثله تكون أَولى، فإِن من لم يتذأَب أَكلته الذئاب، وفسرها بعضُهم بأَنهم يتبعون السيئةَ الحسنة فتمحوها كما جاءَ في السُّنَّة.

(أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبىَ الدَّارِ):

أَي أُولئك الموصوفون بهذه الصفات الجليلة، لهم عاقبة دار الدنيا التي ينبغي أَن تكون عاقبة لهم بالنسبة للمكلفين فيها، وهي الجنة.

ص: 432

{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)}

المفردات:

(جَنَّاتُ عَدْنٍ): العدن في اللغة؛ الإِقامة، ومنه عدن بالمكان أَي أَقام به، وفي عرف الشرع اسم لجنة من جنان الآخرة. والمراد هنا المعنى الأَول، أَي جنات إِقامة، فهم يقيمون فيها لا يبرحونها.

(سَلَامٌ عَلَيْكُمْ): أَمان لكم من المحن والآفات.

التفسير

23 -

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ): لما بيَّن الله تعالى في الآية السابقة أَن الصابرين ابتغاءَ وجه ربهم المتصفين بما جاءَ فيها من الصفات الجليلة، لهم عاقبة حسنة بعد دار الدنيا، جاءَت هذه الآية لبيان أَن هذه العاقبة هي الجنة، وبيان من يدخلها معهم وما يقال لهم فيها.

والمعنى: والذين صبروا ابتغاءَ وجه ربهم واتصفوا بتلك الصفات الجليلة، لهم عاقبة الدار الدنيوية، وهذه العاقبة هي جنات إِقامة واستقرار يدخلونها، ويدخلها معهم الصالحون من أَبائهم وأَزواجهم وأَولادهم وإِن لم يبلغوا في الصلاح مبلغهم، إِكراما لهم وتعظيما لشأْنهم، وزيادة في أُنسهم، وهذا الفضل يشهد به ما جاءَ في قوله تعالى في سورة الطور:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) وقد فهم من هذه الآية وتلك، أَن في دخول الجنة أَولا بالصلاح، وأَساس الصلاح الإِيمان ويكمله العمل الصالح، وأَما إِلحاقهم بأَقاربهم في منازلهم العالية فيكون بالانتساب إِليهم أُصولًا أُو فروعا أَو أَزواجا. ولا يحدث هذا الإِلحاق إِلا بعد استيفاء هؤلاءِ جزاءَ أَعمالهم، كما يصرح به قوله تعالى: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ

ص: 433

مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ).ولا يقتصر أَمرهم على ذلك بل تبشرهم الملائكة بالأَمن والسلام، وذلك ما جاءَ في قوله سبحانه:"وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ" أَي تلك المنازل في منازلهم الكريمة بالجنة، يدخل عليهم الملائكة من كل باب من أَبوابها قائلين لهم:

24 -

(سَلامٌ عَلَيكُمْ بِمَا صَبَرتُمْ): أَي أَن الملائكة يبشرونهم بدوام السلامة من المخاوف بسبب صبرم على التكاليف واحتمالهم آلام الحياة ومتاعبها، وكأَنهم يقولون لهم لئن تعبتم في دنياكم فقد استرحتم ونعمتم وسعدتم في أُخراكم، ولم يعد للخوف والمشقة سبيل إِليكم.

(فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ):

يحتمل أَن تكون هذه الجملة مما يقوله الملائكة للصابرين، ويحتمل أَنها ثناءٌ من الله على الجنة التي جعلت عاقبة لدنياهم، ومدح منه لها، أَي فنعم عاقبة الدار التي كنتم فيها حين التكليف، هذه الجنة التي آل أَمركم إِليها حين الجزاءِ، وكيف لا تكون كذلك وفيها ما لا عين رأَت ولا أُذن سمعت لا خطر على قلب بشر.

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26))

المفردات:

(يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ): المراد بعهد الله ما أَوجبه عليهم من طاعته، وبنقضه عصيانه.

(مِن بَعْدِ مِيثَاقِه): من بعد توثيقه وتوكيده. (اللَّعْنَةُ): الطرد من رحمة الله.

ص: 434

(سُوءُ الدَّارِ): أَي سوءُ عاقبة الدار الدنيا، أَو هو من إِضافة الصفة للموصوف، أَي الدار السيئة، وهي جهنم فهي دارهم ومأْواهم -وبئست الدار والمأْوى. (يبْسُطُ الرزْق): يوسعه. (ويَقْدِرُ): يضيق. (مَتَاعُ): شىءٌ قليل يتمتع به، كزاد الراكب.

التفسير

25 -

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ .. ) الآية.

بعد أَن بينت الآيات السابقة حال أَهل الوفاءِ بعهد الله وحسن مآلهم، جاءَت هذه الآية لتبين سوءَ حال من يتصفون بنقائض صفاتهم وسوءَ مآلهم يوم الجزاءِ، وقد تحدثنا في الآيات السابقة عن الوفاءِ بعهد الله بشيءٍ من التفصيل، وتحدثنا هنا في المفردات عن معنى هذا العهد إِجمالا، ونَزِيد عليه ما ذكره الإِمام الرازى فنقول: فسر الرازى عهد الله بما أَلزمه عباده عن طريق الأَدلة العقلية؛ لأَن ذلك أَوْكَدُ من كل عهد ومن كُلِّ أَيْمان، إِذ الأَيمانُ إنما تفيد التوكيد بواسطة الدلائل الدالة على أنها توجب الوفاءَ بمقتضاها، ثم قال والمراد من نقضها أَن لا ينظر المرءُ فيها فلا يمكنه حينئذ العمل بموجبها أَو بأَن ينظر ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعِلمه، أَو بأَن ينظر في الشبه فلا يعتقد الحق، والمراد بقوله سبحانه:(مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ) من بعد أَن أَوثق الله تلك الأَدلة وأَحكمها بدلائل أُخرى عقلية أَو سمعية، لأَنه "شيء أقوى مما دَل على وجوبه في أَنه ينفع فعله ويضر تركه": اهـ باختصار، ونقل الآلوسى عن بعض العلماءِ تفسيره للعهد بما أَوصى الله به عباده من التكاليف، وتفسيره للميثاق بالإِقرار والقبول -أَي من بعد إِقراره وقبوله.

ومعنى الآية إِجمالا: والذين لا يعملون بما كلفهم الله به عن طريق الأَدلة العقلية والنقلية، من بعد ما أَكد الله تلك التكاليف بمختلف الأَدلة، ويقطعون ما أَمر الله بوصله من الإِيمان بجميع الأَنبياءِ الذين بعثهم الله بالحق هُدَاةً إِلى البشر، فتراهم يؤمنون ببعضهم ويكفرون ببعض آخر، كما يفعله أَهل الكتاب حيث يكفر اليهود بعيسى ومحمد

ص: 435

عليهما السلام، ويكفر النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويقطعون أَيضا ما أَمر الله بوصله من حقوق الأَرحام ومحبة المؤْمنين وموالاتهم وغير ذلك مما تقدم بيانه في صفات أَهل الوفاءِ من الصبر والصلاة والإِنفاق في وجوه البر، ودرءِ السيئة بالحسنة ويضيفون إِلى قطعهم ما أَمر الله به أَن يوصل أَنهم يفسدون في الأَرض بالظلم وإِثارة الفتن، فهؤُلاءِ الموصوفون بتلك الِصفات السيئة لهم بسبب ذلك الطرد من رحمة الله، ولهم الدار السيئة التي جعلها الله مقرَّا لهم، وهي جهنم وبئست دارًا ومقرَّا.

26 -

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ

) الآية.

نزلت هذه الآية في أَهل مكة كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما -نقول: وكأَنها نزلت لتنعى عليهم فرحهم بالحياة الدنيا مع أَنها إِلى زوال، وليبين أَن سعة الرزق على الكافر ليست لإِكرامه، وتضييقه على المؤمن ليس لإِهانته، فكلا الأَمرين صادر من الله تعالى لحكم إِلهية يعلمها سبحانه، فقد يوسع على الكافر إِملاءً واستدراجا، فلا وجه لفرحه، وقد يضيق على المؤْمن زيادة في أَجَره، والآية دستور عام. وإِن نزلت بسبب خاص.

والمعنى: الله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يوسع الرزق على من يشاء من عباده، ويضيق الرزق على من يشاءُ، دون أَن يجعل الأَول برهانا على الرضا، ولا أَن يجعل الثاني أَمارة على المقت والغضب، فكلاهما يخضع لمشيئته، وحقُّ لربوبتيه لعباده، وهو أَعلم بحكمته، فلا يسأَل عما يفعل ولا يفترى عليه بالأَسباب والعلل، وقد فرح أَهلُ مكة وَمَنْ على شاكلتهم بما أُوتوا من نعيم الحياة الدنيا وسعة الرزق فيها فركنوا إِليها، ولم يعملوا لما بعدها، وما نعيم الحياة الدنيا في جانب نعيم الآخرة إِلا شيء قليل يتمتع به وليس له بقاءٌ، كعجالة الراكب وزاد الراعى، ولهذا لا يهتم بنعيمها أَصحاب المقامات العالية إِذا غاب عنهم. أَخرج الترمذي وصححَه عن عبد الله بن مسعود قال:"نَامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلى حَصَيرٍ فَقَامَ وقَدْ أَثر في جَنْبه، فقُلنَا يا رسولَ الله: لو اتَّخَذْنَا لك وِطاء، فقال: مَا لىِ وللدُّنيا، مَا أَنَا في الدُّنيا إلَاّ كَراكِبٍ استَظَل تَحْت شَجَرَةٍ ثم راحَ وَتركَهَا".

ص: 436

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29))

المفردات:

(مَنْ أَنَابَ): من رجع إِلى الحق. (تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ): تستقر وتستريح وتستأْنس. (طُوبَى لَهُمْ): قال الزجاج؛ طوبى فُعْلىَ من الطيب، وهي الحالة المستطابةُ لهم. وقال ابن عباس: فرحٌ لهم وَقُرَّةُ عين. وقال قتاده: حسنى لهم، إِلى غير ذلك من المعانى التي ترجع إِلى ما ذكره الزجاج، وقيل: هي اسم للجنة، أَو لشجرة فيها. (وَحُسْنُ مآبٍ): وحسن مرجع.

التفسير

27 -

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ

) الآية.

لا يزال الحديث مُتَّصلا في شأْن أَهل مكة، وذكرهم بعنوان الكفر لذمهم وتقبيح حالهم، وبيان أَنه السبب في مقالتهم الآتية، والمراد بهم عبد الله بن أَبي أُمَيَّة وأَصحابه حين طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات الكونية.

والمعنى: ويقول الذين كفروا من أهل مكة: هلا أُنزل على محمد آية من ربه كالتى اقترحوها عليه من سقوط السماءِ كِسَفًا عليهم، وتحويل الصحراء إِلى بساتين كأَرض الشام وإِحياءَ جدهم قصى، وغير ذلك بما يتنافى مع الحكمة ولا يناسب عصر رسالة القرآن.

وهؤلاءِ المقترحون لم يشعروا بأَن القرآن الذي يتلى عليهم هو آية الآيات، وأَبقى المعجزات فما من آية جاءَ بها رسول قبله إِلا أَصبحت خبرا ولم تترك أَثرا، وهي لذلك مجال

ص: 437

لإِنكار المنكرين، وزعم أَنها ضرب من الحكايات والأَساطير، يقولها أَرباب الديانات ولا أَساس لها من الصحة، ولو صحت لكانت سحرا، أَما القرآنُ فهو باق ما بقى الزمان، وإِعجازه عام للإِنْسِ والجان، وهو الذي أَيد معجزات الأَنبياءِ، وحماها من إِنكار المكذبين.

(قُلْ إْنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إلَيْهِ مَنْ أنَابَ):

قل لهم أَيها الرسول: إِن الله تعالى يتخلى عن هداية من يشاءُ من أَهل الإِصرار على الكفر، فلا يوفقهم إِلى معرفة ما في القرآن من آيات وإِعجاز، ولا إِلى الإِيمان بِهِ وبِمَا أَظهر الله على يدي رسوله من سائر الآيات، ويهدى إِليه سبحانه من رجع عن العناد والمكابرة، وأَلقى السمع وهو شهيد، ثم بين حال من أَناب إِليه فقال:

28 -

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ): المقصود من الذين آمنوا الذين اتَّجهُوا إِلى الإِيمان لحسن استعدادهم عندما سمعوا آيات الله، لرقة قلوبهم وصفاءِ نفوسهم، وانعدام مكابرتهم، فهؤلاءِ هم الذين يهديهم الله إِليه.

والمعنى: ويهدى الله إِليه من أَناب ورجع إِليه بعد الكفر حين سمعوا مناديا ينادى للإيمان أَن آمنوا بربكم فآمنوا، وهم الذين استعدت للإِيمان نفوسهم، واطمأَنت قلوبهم بذكر الله وآياته، أَلا بذكر الله وقرآنه تطمئن القلوب الصافية، وتسكن النفوس الحائرة، واستعمال الإِيمان في الآية بمعنى الاستعداد له والتأَهب للوصول إِليه يماثل استعمال المتقين في قوله تعالى:"هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ". بمعنى هدى للصائرين إلى التقوى لحسن استعدادهم.

29 -

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ):

جاءَت هذه الآية لتبشر الذين اهتدوا إِلى الله فآمنوا وعملوا الصالحات،.

والمعنى: الذين آمنوا بربهم ونبيهم وعملوا الأَعمال الصالحة بعد أَن هداهم الله إِليه لحسن استعدادهم وصفاءِ قلوبهم، هؤلاءِ لهم فرح وكرامة، وحسن مرجع في الدار الآخرة، فإِن مرجعهم إلى جنة الله ورضوانه.

ص: 438

{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)}

التفسير

30 -

(كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ

) الآية (1).

أَي كما أَرسلنا المرسلين قبلك يا محمد أَرسلناك في أَمة قد مضت من قبلها أُممُ أُولئك المرسلين -أَرسلناك في هذه الأُمة- لكي تقرأَ عليها القرآن الذي أَوحيناه إِليك -وحالهم أَنهم يكفرون بالرحمن لعلهم بعد سماع القرآن يثوبون إِلى رشدهم، فيؤْمنون بوحدانيته تعالى، ويدركون مبلغ نعمته ورحمته، ومن أَعظم مظاهرها إِرسالك يا محمد بالهدى ودين الحق إِليهم، قل لهم أَيها الرسول: الرحمن الذي كفرتم به وعبدتم سواه هو ربى وحده دون غيره، فإِنه لا يستحق الأُلوهية أَو العبادة إِلا هو، عليه اعتمدت في الأَمر كله، وإِليه مرجعى ومرجعكم، فكيف تكفرون به وهو محاسبكم ومجازيكم، والتعبير بقوله تعالى:"كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ"، إِيذان بأَنه صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل وليسوا بدعا من الأُمم- هذا: وقد جاءَ في سبب نزول الآية أَقوال. فمقاتل وابن جريج يقولان: نزلت في صلح الحديبية حين أَرادوا كتابة وثيقة، فقال صلى الله عليه وسلم لعلىٍّ: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل بن عمرو والمشركون: ما نعرف الرحمن إِلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب اكتب باسمك اللهم -وهكذا كان أَهل

(1) الإشارة في (كذلك) راجعة إِلى إِرسال الرسل قبله وإِن لم يجر لهم ذكر، لدلالة قوله:(قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم) قاله الحسن، وقيل الإشارة راجعة إِلى إِرسال محمد مؤيدا بمعجزة القرآن، فكأنه قيل: مثل هذا الإِرسال العظيم المؤيد بالقرآن أَرسلناك يا محمد في أمة

الخ.

ص: 439

الجاهلية يكتبون- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلى: "اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" فقال مشركو قريش: لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك وصددناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب. هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، فقال أَصحاب النبي: دعنا نقاتلهم، فقال:"لا ولكن اكتب ما يريدون" فنزلت. وابن عباس يقول: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي: "اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ". (1)

وقيل: سمع أَبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الحجر قائلا: "يا الله يا رحمن" فقال: كان محمد ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إِلهين، فنزلت هذه الآية ونزل أَيضا قوله تعالى:"قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الحسنى".

{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)}

المفردات:

(سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ): أُزيلت من أَماكنها. (يَيْئَس): بمعنى يعلم، كما حكاه القشيرى عن ابن عباس، وذكره بهذا المعنى الجوهرى في الصحاح ويرى هذا الرأْى مجاهد والحسن وأَبو عبيدة، وأَنشد في ذلك أَبو عبيدة لمالك بن عوف النَّصْرى.

أَقول لهم بالشعب إذْ يَيسَرُونَنىَ .. أَلم تيئسوا أنِّي ابنُ فَارِسِ زَهْدم

وييسروننى من الميسر -ويُرْوَى يأْسروننى من الأَسر (2) - انظر القرطبى. وقال رباح بن عدى

(1) سورة الإسراء، من الآية110.

(2)

وكان الشاعر قد أسر؛ فضربوا عليه بالميسر يتقاسمون فداءه.

ص: 440

أَلم ييئس الأَقوام أَنى أَنا ابنه: وإِن كنت عن أَرض العشيرة نائيا.

وهو بهذا المعنى في لغة النخع -كما حكاه الفَرَّاءُ عن الكلبي- انظر القرطبى -وقيل في لغة هوازن كما قاله القاسم بن مِعْن، وسيأتى لذلك مزيد بيان في التفسير. (قارِعةٌ): مصيبة تصيبهم -من قَرعه إِذا أَصابه، والأَصل في القرع- الضرب، فكأَنها إِذ تصيبهم تدق قلوبهم وتضربها.

التفسير

31 -

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا):

حكت الآية (27) من هذه السورة اقتراحهم آيات كونية على الرسول، إِذ قالوا:"لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ"، ثم نعتْ تلك الآية المذكورة وما بعدها عليهم ضلالهم، وبينت أَن ذكر الله -وهو القرآن- تطمئن به القلوب، فهو خير لهم مما اقترحوه من الآيات، ووعدت المؤْمنين الصالحين بالجنة، وبينت لهم أَن الرسول إِنما أُرسل بمعجزة القرآن ليتلو عليهم الذي أُوحاه الله إِليهم، فهو المعجزة الباقية ما بقى الزمان دون سائر المعجزات، فإِنها تصبح خبرا بعد عين، وحكاية ترْوَى بعد الرسول الذي جاءَ بها. فتكون في الأَجيال التالية عرضة للتصديق والتكذيب: وما كذلك القرآن.

وجاءَت هذه الآية لتبين عظمة القرآن ورجحانه على ما يقترحونه من الآيات. يروى أَن نفرا من مشركى قريش فيهم أَبو جهل وعبد الله بن أَبي أَمية المخزوميان جلسوا خلف الكعبة، ثم أرسلوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَتاهم فقال له عبد الله: إِنْ سَرَّك أَن نَتَّبعِك فَسَيِّر لنا جبال مكة بالقرآن، فأَذهبها عنا حتى تتسع أَرضنا الضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأَنهارا حتى نغرس ونزرع، فلست كما زعمت -بأَهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه، وسخِّر لنا الريح فنركبها إِلى الشام نقضى عليها مِيرتَنَا وحوائجنا ثم نرجع من يومنا، فقد سخرت لسليمان الريح كما زعمت، فلست بأَهون على ربك من سليمان بن داود، وأَحْي لنا قَصَب (1) جدك أَو مَنْ شئت من موتانا نسأَله، أَحقٌّ

(1) القصب: العظم المستطيل الأجوف.

ص: 441

ما تقول أَم باطل، فإِن عيسى كان يحيى الموتى، ولست بأَهون على الله منه، فأَنزل الله هذه الآية والآيات التي قبلها للرد عليهم.

والمعنى: ولو أَن أَيَّ قرآنٍ تسير به الجبال وتزول عن أَماكنها حين يقرأُ عليها، أَو تقطع وتُشَقَّقُ به الأَرض أَنهار وعيونا تروى بمائها الأَرض بعد إِزالة جبالها، أَو تكلم به الموتى لتصبح أَحياءَ، لكان الذي يحدث عنده كل هذا هو القرآن الذي أَنزله الله علىّ لأُبلغكم إِياه، لانطوائه على بيان عجائب قدرة الله وعظيم جلاله، ولأَنه كلام الحق سبحانه، الذي يقول للشىءِ "كن فيكون" ولكن القرآن لم ينزل ليحقق لكم بذاته هذه المطالب الكونية من الينابيع وتسخير الرياح وغيرهما، بل نزِل ليرشدكم إِلى وسائل تحقيقها، ويعلمكم بذل الجهد العقلى والعملى لكي تحصلوا عليها، فإِن العالم الأَكبر ينطوى في الإِنسان بعقله وذكائه وقدرته وقواه التي أَودعها الله فيه.

وليعلم العاقل أَن الهدف الأَول للقرآن هو معرفة الله وأَداءُ واجبابه، والعمل للدنيا والآخرة، فقد مضى الزمن الذي كان يرتزق فيه الكسالى من دعاءَ أَنبيائهم، حيث كانوا يحصلون به على المن والسلوى ونحوهما، ويحصلون على الماء بالمعجزات، وجاءَ الزمن الذي يبرز فيه المولى سبحانه خيرات الأَرض والماءِ والهواءِ والطاقة بجهد الإِنسان وعرقه، واستخدام الطاقات التي أَودعها الله فيه، وهذا ما عني القرآن بتوجيه البشر إليه، كما في قوله تعالى "فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ". وقوله:"وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ"."وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وفِي السَّمَاءِ رِزْقكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ". وقوله: "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" وقوله: "قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" وقوله "فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ".

وغير ذلك من الآيات التي تحض على النظر والاستنباط، والانتفاع بخيرات الله ونعمه بالجد والاجتهاد والكدح.

ومن أَجل هذا المنهج السديد الذي رسمه القرآن لأُمة القرآن، امتلك المسلمون مفاتيح العلم، وتمكنوا من ولوج أَبوابه إِلى معاقد العز والرفعة والمجد في كل ناحية من نواحى الكرامة، والأُمم من حولهم يغطون في سبات عميق، وينتظرون موائد تنزل لهم من السماءِ، أَو يفسدون في الأَرض بغير الحق.

ص: 442

ذلك هو شأْن القرآن الذي لم يحرك قلوب قريش ليؤمنوا به، ويكتفوا بمعجزته، مع أَنه تعالى يقول في شأْنه:"لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ".

واعلم أَن لكل نبى معجزة أَيده الله بها تناسب أُمته ومدة بقائها على شريعته، واختار الله لأُمة محمد صلى الله عليه وسلم معجزة القرآن ليكون دستورا لها وآية إِلى أن تقوم الساعة، فإِن الله تعالى جعلها الأُمة الخاتمة للرسالات، فكانت معجزةُ نبيِّها صلى الله عليه وسلم، باقيةً ببقائها، وهاديًا بهديها ما بقى الزمان. ولقد أُوتى النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن معجزات كثيرة، ولكنها لم تكن للتحدى، بل لتكريمه صلى الله عليه وسلم، ورحمة بالمؤمنين في مواقف الشدة، ومعظمها ظهر في المدينة كإِنزال الغيث ونبع الماءِ من بين أَصابعه، وتكثير الطعام القليل.

وقليل منها ظهر بمكة كانشقاق القمر، ووصْفِه لبيت المقدس وأَحوال عير قريش صباح ليلة الإِسراءِ والمعراج ولكن الله لم يأْذن له بالتحدي بشيء من ذلك، ولم يجعل تلك الخوارق آية رسالته الحاسمة، بل جعل آيتها دستورها الباقى بقاء الزمان، وهو القرآن، قال صلى الله عليه وسلم:"مَا مِنَ الأَنبِيَاءِ نَبىُّ إِلَّا أُعْطِىَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُه آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ. وإنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وحْيًا أَوْحاهُ اللهُ إِلىَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثرَهُم تَابِعًا يَوْم القِيَامَةِ"، أَخرجه البخاري في صحيحه.

(بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا): أَي لو أَن قرآنا سيرت به الجبال أَو قطعت به الأَرض أَو كُلم به الوتى لكان هذا القرآن، لكنَّ هذا لم يحدث بل حدث سواه، لأَن الأَمر لله وحده يفعل ما يريد وفقا لمشيئته وحكمته، التي اقتضت أَن تكون آية النبوة في الإِسلام هي دستوره، وهو القرآن لا غيره من الخوارق، ولهذا لم يأْذن الله للرسول بأَن يتحدى بما ظهر على يده من الخوارق سواه.

(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا):

لم ينزل القرآن بلغة قريش وحدها. بل اشتمل عليها وعلى غيرها حتى يعلم العرب أَن القرآن بلغتهم جميعًا. وهذا ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن على سبعة أَحرف

ص: 443

وكلمة "ييئس" هنا بمعنى يعلم في لغة النخع -كما حكاه الفراءُ (1) -وفي لغة هوازن -كما حكاه مجاهد والحسن والقاسم بن معين. (2)

والمعنى على هذا: أَفلم يعلم الذين آمنوا أَنه لو يشاءُ الله هداية الناس جميعًا لفعل. ولكنه جعل سبيل الهداية إِلى الحق اختيار العبد وفعله، بعد أَن يسر الله له أَسبابها وأَزاح موانعها.

ومن العلماءَ من حملها على معناها المعروف وفسر الآية عليه كما يلي: أَفلم ييئس الذين آمنُوا من إِيمان المشركين لأَنه لو يشاء الله لهداهم جميعًا، وهم لم يهتدوا بل أصروا على الكفر فكان حقُّ المؤمنين أَن ييئسوا من إيمانهم، ويدركوا أَنه تعالى لم يشأْ هدايتهم.

(وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ):

أَي ولا يزال الكافرون من أَهل مكة تنزل بهم بسبب ما فعلوه من الكفر بالله وإِيذاءَ المؤمنين وإِخراجم من ديارهم -تنزل بهم بسب ذلك- داهية تقرعهم وتقلقهم من آن لآخر، كالذى كان يحدث لهم حينا بعد حين من القتل وَالأسْر وأَخذ غنائمهم في غزوات المسلمين وسراياهم، أَو تحل تلك الداهية في مكان قريب من دارهم (مكة) فيتطاير إِليهم شررها ويصابون بلهبها (3)، حتى يأْتى وعد الله بفتح مكة وسقوط معقل الشرك، فيتم للمؤمنين النصر، ويدخل الناس في دين الله أَفواجا، إِن الله لا يخلف وعده في الأَمر كله.

ويصح أَن يراد من الذين كفروا، كل من كفر بالإِسلام، فتكون الآية وعيدا لمن يؤذى المسلمين بانتقام الله في الدنيا من آن لآخر، حتى يأْتى وعد الله بموتهم أَو بالقيامة فيجزيهم شر الجزاءِ، وإِلى هذا الرأْى مال الحسن وابن السائب.

(1) عن الكلبي، وحكاه الآلوسى عن ابن الكلبي.

(2)

انظر القرطبى والآلوسى.

(3)

ومن ذلك ما كان من صلح الحديبية، حيث عاد عليهم بالضرر وعلى المسلمين بالخير.

ص: 444

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)}

المفردات:

(فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا): أَي أَمهلتهم وتركتهم ملاوة (1) من الزمان دون عقاب.

(قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ): رقيب ومهيمن عليها.

التفسير

32 -

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ):

في هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما لقى من المشركين من الاستهزاءِ والتكذيب واقتراح الآيات.

والمعنى: ولقد استهزأَ الكفار السابقون، برسل كثيرين بعثناهم من قبلك إِليهم لهدايتهم، وأَيدناهم بالمعجزات الشاهدة بصدقهم، فلم يؤمنوا بهم بل كذبوهم وأَهانوهم فلست وحدك

(1) الملاوة: الفترة من الزمان وهي مثلثة الميم.

ص: 445

في استهزاءِ الكافرين بك فإِن ذلك أَمر مطرد يلقاه رسلنا من أَقوامهم، فأَمهلت أَولئك المستهزئين لعملهم يثوبون إِلى رشدهم، ثم أَخذتهم بعقابى حين لم ينفعهم الإِمهال، وكان عقابى لهم هائلا، حيث لم يبق من الكافرين ديارٌ.

والمقصود من الاستفهام في قوله تعالى: "فَكَيْفَ كَانَ عِقَاب" التَّعَجِيب من شدة العقاب وفظاعته.

33 -

(أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ):

هذا الاستفهام مترتب على بما سبق بيانه، من أَن الأَمر كله لله وأَنه يهدى من يشاءُ ويخذل من يشاءُ من أَهل الضلال، وأَنه يملى للكافرين ثم يأْخذهم بذنوبهم إِلى غير ذلك بما تقدم.

والمعنى: أَفمن كان شأْنه ما تقدم من هيمنته على كل نفس يعلم سرها ونجواها، ويجزيها بما كسبت من خير أَو شر. أَفمن كان كذلك يشبه الأَصنام التي ليس لها عليهم من سبيل وقد جعلوها له شركاءَ مع ضعفها وعدم فائدتها، ثم أَمر الله رسوله أَن يبكتهم فقال:(قُلْ سَمُّوهُمْ): أَي قل لهم أَيها الرسول تأْنيبًا وتقريعًا: اذكروا لي أَسماءَهم وأَوصافهم التي جعلتهم في نظركم يستحقون العبادة مع الله، ولن يجدوا لهم من الأَوصاف ما يستحقون به شيئًا من التكريم فضلا عن العبادة.

(أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ):

أَي بل أَتخبرون الله بشركاء زاعمين استحقاقها للعبادة وهو لا يعلمها في أَرضه، مع أَنه سبحانه لا تغيب عن علمه ذرة في الأَرض ولا في السماء، بل أَتخبرونه عن ألوهيتها ظاهر من القول من غير أَن يكون لها حقيقة ولا دليل، كتسمية القبيح وَسيمًا والزنجى كافورا.

(بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ): بل زين الشيطان لهؤلاءِ المشركين باطلهم وصدهم عن سبيل الحق.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ): ومن يتخل الله عن معونته بسبب إِصراره على الكفر فليس له من هاد يوصله إلِى الحق، وينجيه من عاقبة ضلاله.

ص: 446

34 -

(لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ):

أَي لأولئك المشركين عذاب في الحياة الدنيا بالقتل والأَسر والمصائب والمحن، ولعذاب الآخرة أَكثر من عذاب الدنيا مشقة لشدته ودوامه، وما لهم من عذاب الله من حافظ يعصمهم ويقيهم، نسأَل الله السلامة وحسن العاقبة.

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)}

المفردات:

(مَثَلُ الْجَنَّةِ): المثل هنا بمعنى الصفة العجيبة، وأَصله بمعنى الشبيه والنظير.

(أُكُلُهَا دَائِمٌ): أَي ثمرها باقى لا يغيب ولا ينقطع.

(عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا): أَي مآلهم وعاقبتهم.

التفسير

35 -

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ

) الآية.

لما ذكر الله سبحانه في الآية السابقة عقاب الكفار في الدنيا والآخرة، عقبها بهذه الآية لبيان ثواب المتقين في الآخرة، والمقارنة بين عاقبتهم وعاقبة الكافرين.

والمعنى: صفة الجنة التي وعدها الله عباده المتقين وحالتها العجيبة الشأْن أَنها تجرى من تحت أَشجارها وقصورها الأَنهار بين جوانبها وحيث شاءَ أَهلها، كما قال تعالى:"يُفَجِّرُونَهَا تَفجِيرًا".

ص: 447

فهم يصرفونها حيث شاءُوا وكيف أرادوا، وتلك الأَنهار كما قال سبحانه في سورة محمد:(فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى).

ومن صفتها: (أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا): أَي ثمرها باق لا ينقطع في أَي وقت من الأوقات وظلالها باقية لا تنحسر، مع اعتدال مناخها، وطيب هوائها. كما قال سبحانه:(لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا)(1)

(تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ): أَي هذه الجنة العظيمة الشأْن عاقبة الذين اتقوا ربهم فتجنبوا الكفر والمعاصي، وعاقبة الكافرين به وبنبيه النار، وشتان بين العاقبتين، فما بال الكافرين لا يعقلون.

{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)}

المفردات:

(الْكِتَابَ): المراد به هنا التوراة والإِنجيل.

(الْأَحْزَابِ): الجماعات القوية والأَقوام المتشابهون في ميولهم وعقائدهم.

(مَئَاب): مرجع ومصير.

(1) الآيتين 13، 14 من سورة الإنسان.

ص: 448

التفسير

36 -

(وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ

) الآية.

يرى الإِمام ابن عباس رضي الله عنه أَن المقصود من الذين آتيناهم الكتاب هم مؤْمنو أَهل الكتاب من اليهود والنصارى، كعبد الله بن سلام وكعب، ومؤمني نجران والحبشة فهؤْلاءِ كانوا يفرحون بالقرآن حين يسمعونه إِيمانًا منهم بأَنه كتاب الله الذي أَنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأْمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر -وقيل: إِن المراد بالذين آتيناهم الكتاب هم المسلمون وقد كانوا يفرحون بنور القرآن الكريم وتوالى نزول آياته.

(وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ): المراد بالأَحزاب على رأَى ابن عباس: كفرة اليهود والنصارى الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة والبغضاء، ككعب ابن الأَشرف والسيد والعاقب أَسقفى نجران وأَتباعهما، أَما على الرأْى الثاني القائل بأَن الذي يفرح هم المسلمون فالمراد بالأَحزاب كفار اليهود والنصارى، والمراد من (بعضه) الذي ينكره أَهل الكتاب هو الشرائِعُ التي جاءَت مخالفة للتوراة والإِنجيل تبعًا لتغير الزمان والأَجيال، أَو هو ما لا يوافق ما غيروه وبدلوه في كتبهم، وأَما ما يوافق ما في كتبهم فأَنهم لا ينكرونه وإِن لم يفرحوا به.

(قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ): أَي قُل يا محمد صادعًا بالحق غير مكترث بإنكارهم بعض القرآن، قل لهم: ما أَمرنى الله في القرآن الذي تنكرونه أَو تنكرون بعضه إِلا بأَن أَعبد الله وحده ولا أُشرك به شيئًا في عبادته، وقد أَمرنى أَن أَدعوكم إِلى ذلك بقوله سبحانه:"قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ".

(إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ): أَي إِلى عبادة الله وحده أَدعو الناس جميعًا، وإِليه وحده مرجعى ومرجعهم للجزاءِ فلذلك لا أُقِرُّ ما أَنتم عليه من اتخاذ اليهود عزيرا ابْنًا لله واتخاذ النصارى

ص: 449

المسيح ابنًا له كذلك لاستحالة ذلك على الله تعالى، وإِذا كنت أَدعوكم إِلى وحدانيته، ولا برهان لكم على مزاعمكم، فلماذا لا تستجيبون لما دعوتكم إِليه، وكل الآيات تدل عليه وترشد إِليه.

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)}

المفردات:

(أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا): أَي أَنزلنا القرآن حاكمًا للناس في قضاياهم بلسان العرب

(وَلَا وَاقٍ): أَي ولا حافظ. عن وقاه يقيه وقاية، أَي حفظه.

التفسير

37 -

(وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا

) الآية.

أَي وكما أَرسلنا قبلك المرسلين وأَنزلنا عليهم الكتاب بلغاتهم وأَلسنتهم، أَرسلناك وأَنزلنا عليك القرآن عربيا بلسانك ولسان قومك، ليسهل عليهم تفهم معناه واستظهاره والرجوع إِليه في الأَحكام، وإِنما سمى القرآن حكمًا لما فيه من الأَحكام والشرائع التي يحتاج إليها المكلفون، وتقتضيها الحكمة ليصلوا بها إِلى السعادة في الدنيا والآخرة، وكان عربيا لأَن الأُمة التي بعث منها الرسول لغتها العربية، فجاء القرآن بلغتهم ليفهموه ويبلغوه لغيرهم.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ): أَي ولئن اتبعت يا محمد أَهواء الكافرين التي يدعونك إِليها مخالفة لما أُنزل إِليك من الحق كاستقبال بيت المقدس بعد تحويل القبلة، وعبادة غير الله ابتغاءَ مرضاتهم.

(بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ): أَي بعد ثبوت العلم عن طريق الوحى والحجج الساطعة والبراهين القاطعة.

(مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ): أَي ليس لك من دون الله ولى ولا ناصر ينصرك فينقذك منه، ويقيك من عذابه إِن أَراد عذابك. والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأُمة، وفي هذا وعيد لأَهل العلم إِن هم حادوا عن الطريق واتبعوا سبل أَهل الضلالة.

ص: 450

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)}

المفردات:

(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)؛ الأَجل: الوقت والمدة، والكتاب؛ الحكم المعين الذي يكتب على العباد حسب ما تقتضيه الحكمة.

التفسير

38 -

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً

) الآية.

في هذه الآية جواب عن شبهات أَوردها أعداءُ النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من ذلك قولهم: ما نرى لهذا الرجل همة إِلا النساء، ولو كان رسولا من عند الله حقًّا لما اشتغل عن رسالته بالنساءِ، فأَجاب الله عن هذه الشبهة بقوله:"وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً". وفي هذا تذكير بما كان عليه سليمان وداود عليهما السلام حيث كانت لهما أَزواج كثيرات وذرية كثيرة، ولم يقدح ذلك في نبوتهما، على أَن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اقتصرت حياته الأُول على زوجة واحدة إِلى سن الثالثة والخمسين فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة حدثت ظروف ودواع اقتضت الإِصهار إِلى القبائل لمصلحة الإِسلام، فكان من الخير أَن تتعدد زوجاته، بذلك تظهر الحكمة في هذا التعدد فلا مجال لإِثارة الشبه حول هذا التعدد في أَواخر حياته، لأَنه لا يعقل أَن يكون ذلك لدواعى الشهوة في سن الشيخوخة.

ص: 451

والمعنى: ولقد أَرسلنا رسلا كثيرين من قبلك أَيها الرسول شأْنهم كشأْنك، حيث جعلنا لهم أَزواجًا كثيرات وذرية كثيرة، فلست في ذلك بدعًا من الرسل.

وحين قالوا: لو كان رسولا لجاءَ بالآيات التي طلبناها منه. رد الله عليهم بقوله سبحانه: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ): أَي ليس في وسع رسول من الرسل أَن يأْتى بمعجزة وفق ما يقترحه قومه إِلا متى شاءَ الله، فهو وحده يحكم ما يشاءُ ويفعل ما يريد. ثم بين الله سبحانه الحكمة في تغيير الشرائع بقوله جل شأنه:

(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ): أَي لكل وقت من الزمان شرع كتبه الله يناب حال أَهله. وينتهى بانتهاءِ الحاجة إِلى هذا الشرع، فِإن الشرائع كلها لإِصلاح أَحوال العباد في المبدأ والمعاد، ويترتب على ذلك أَن الشريعة تختلف على حسب اختلاف أَحوال الناس التي تتغير بتغير الأَوقات وتتابع الأَزمان والأَجيال. ومثل ذلك كمثل اختلاف العلاج باختلاف أَحوال المرضى وبحسب الأَوقات.

{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)}

المفردات:

(يَمْحُو): المحو الإِزالة، والمراد به هنا نسخ الشرائع والأَحكام وتغييرها.

(أُمُّ الْكِتَابِ): أَصل الكتاب، والمراد به علم الله تعالى أَو اللوح المحفوظ.

التفسير

39 -

(يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ

) الآية.

أَي يمحو الله ما يشاءُ من الشرائع بالنسخ، ويبقى ما يشاءُ منها ثابتًا كما هو فلا ينسخه ولا يبدله، أَو يَأْتى بشرع جديد مكان شرع سابق ينسخه به، فإِن الحكمة تقتضى أَن ينسخ الله ما يشاءُ أَن ينسخه من الأَحكام والشرائع بحسب الوقت ويثبت بدله أَو يبقيه على حاله من غير نسخ، لأَن الشرائع كلها لأَصلاح أَحوال العباد في المبدأ والمعاد.

ص: 452

واعلم أَنه سبحانه وتعالى جعل الشرائع كلها فتفقة في الأَصول، فكلما أَتى نبي جاءَ بشريعة متفقة مع الشرائع السابقة في تلك الأَصول التي لا سبيل إِلى تغييرها، ومن ذلك ما تضمنه قوله تبارك وتعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا

) الآيات من سورة الأَنعام. فهذه الأَصول وأَمثالها لا تتغير ولا تتبدل بتغير الرسالات والكتب السماوية، أَما الفروع فإِنها عرضة للتغيير والتبديل، كطريقة الصيام وزمنه، ومقادير الزكاة والأَصناف التي تزكى، وكتحليل بعض المحرمات، وفي ذلك يقول الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام: "وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ

". وغير ذلك مما يتغير بتغير الأَجيال وأَحوالهم. هذا، ويمكن أَن تكون الآية الكريمة عامة في كل ما يمحوه الله ويثبته من شئون الكون، فالأمر كله لله يفعل ما يشاءُ بقدرته ويحكم ما يريد بحكمته.

(وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ): أَي وعند الله تعالى أَصل الكتاب وقد فصل فيه كل ما يجريه سبحانه في الشرائع من المحو والإِثبات، وفي الكون من التغيير والتبديل، فكل ذلك لا يثبته الله ابتداءً، وإِنما هو قضاءٌ عنده قديم يبرزه في وقته وحينه الذي حدده سبحانه وتعالى طبقًا لحكمته، وقد عرفت في المفردات أَن المراد بأُم الكتاب علم الله تعالى أَو اللوح المحفوظ.

{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)}

المفردات:

(وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ): ما هنا لتأْكيد معنى الشرط، أَي وإِن أَريناك، والتعبير بالمضارع لحكاية الحال الماضية أَو لإِفادة تجدد الوعيد.

ص: 453

(مِنْ أَطْرَافِهَا): الأطراف؛ الجوانب.

(لا َمُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ): أَي لا راد له. والمعقب هو الذي يكر على الشيءِ فيبطله. ويقال لصاحب الحق الذي يطالب به معقب، لأَنه يتتبع غريمه بالاقتضاءِ والطلب.

التفسير

40 -

(وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ): أَي إِن أَريناك يا محمد مصارع أَعدائك المصرين على الكفر وما وعدناهم من إِنزال العذاب بهم، فذلك انتقام عاجل لك من أعدائك، وإِن توفيناك قبل حلول وعيدنا بهم، فلا تجزع لذلك، فما عليك إِلا تبليغ الدعوة وتبليغ الوعيد على الكفر بها، وعلينا وحدنا حسابهم وجزاؤهم على كفرهم ومعاصيهم، في الوقت الذي تقتضيه الحكمة فإِننا نعلم من المصالح الخفية ما لا تعلم، فدع الأَمر لنا وبلغ ما أَنزل إِليك من ربك، وفي التعبير بقوله:"نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ" إِشارة إِلى أَنه صلى الله عليه وسلم سيرى بعض الموعود، ولهذا بشره الله عقب هذه الآية بظهور تباشير النصر بقوله:

41 -

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا): أَي أَينكر المشركون تنفيذ وعيدنا ونصرنا لرسولنا، ولم يروا أَننا ننقص أَرض الكفر من جوانبها ونواحيها، بفتحها على المسلمين شيئًا فشيئًا وإِلحاقها بأَرض الإِسلام، وقتل بعض من يقف في سبيل الدعوة أَو أسرهم أَو إِجلاءِ البعض الآخر، أَليس هذا بعض الذي نعدهم؟

(وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ): أَي والله يحكم في خلقه بما يشاءُ لا يتعقب حكمه أَحد ينقض ولا تغيير، وقد جرت سنته أَن الأَرض يستعمرها عباده الصالحون، بإِقامة موازين العدل فيها والسير على نهج الحق -وقد حكم للإِسلام وأَهله بالغلبة والإِقبال ما داموا في طاعة الله، يجاهدون في سبيله، واثقين من صدق وعده بالنصر لمن ينصرونه، وكما حكم للإِسلام وأَهله بالإِقبال والنصر لأَنهم أَهل الحق، حكم على الكفر وأَهله بالإِدبار والانتكاس، لما سلكوه من الظلم والفساد في الأَرض.

ص: 454

(وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ): أَي سيحاسبهم ويجازيهم بعد قليل في الآخرة بأَلوان العذاب، وكل آت قريب، وذلك بعد تحقيق الوعيد عليهم في دنياهم بالقتل والأَسر والِإجلاءِ.

{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)}

المفردات:

(مَكَرَ): المكر، هو تدبير المكروه في خفية.

(فَلِلَّهِ المَكْرُ جَمِيعًا): أَي أَنه تعالى يعلم المكر كله، فلا تخفى منه خافية عليه سبحانه.

(عُقْبَى الدَّارِ): أَي عاقبة دار الدنيا.

(عِلْمُ الكِتَابِ): أَي علم القرآن وما هو عليه من البيان المعجز، والحكمة التي لا تضارع، أَو علم التوراة والإِنجيل وما فيها من البشارات برسول الله والإِسلام.

التفسير

42 -

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): أَي مكر الذين كفروا من قبل مشركى مكة بِرُسُلِهم، وكادوا لهم. وكفروا بهم، كما فعل نمروذ وقومه بإِبراهيم، وفرعون وقومه بموسى، واليهود بعيسى ثم دارت الدائرة على الظالمين المفسدين.

(فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا): أَي فالله تعالى محيط بمكرهم كله، فلا يغيب عن علمه شيءٌ منه، وهو قادر على إِحباطه والانتقام من مدبريه، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتأْمين له من مكرهم، وقد صارحه الله بذلك حيث قال له:(وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(1)

(1) المائدة؛ 67

ص: 455

(يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ): من خير أَو شر، فيثبت أولياءه، ويحميهم من شرور أَعدائهم، ويعاقب الماكرين بهم بما يستحقونه من عقاب، وفي هذا تهديد ووعيد للكافرين الماكرين أَكده بقوله.

(وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ): أَي وسيعلم الكفار إِذا قدموا على ربهم يوم القيامة لمن العاقبة المحمودة، لهذه الدار الدنيا، أَهى لهم؟ أَم للنبي صلي الله عليه وسلم، ومن تبعه من المؤمنين، ولا شك أنهم سيعلمون يومئذ أَن العاقبة الحميدة للمتقين، كما قال تعالى:(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(1).

43 -

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا): أَي ويقول المشركون من العرب، الجاحدون لنبوتك: يا محمد لَسْتَ برسَول من عند الله، وإِنما أَنت متقول على الله تعالى، يقولون له ذلك بعد أَن تحداهم أَن يأْتوا بسورة من مثل القرآن فعجزوا، ليعالجوا بهذا الإِنكار قصورهم وضعف حجتهم، فهم حينما ينكرون لا مستند لهم في إِنكارهم، بل قامت الأَدلة الواضحة على أَنه مرسل من عند ربه، فما أَكثر المعجزات التي أَيده الله بها

(قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ): أَي حسبى الله شاهدا لي بتأْييد رسالتى وصدقى أَنَّنى قد بلَّغت، وشاهدا عليكم أَيُّها المكذبون فيما تفترونه من البهتان.

(وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ): مِمَّن أَسلم من أَهل الكتابين التوراة والإِنجيل فإِنهم، كانوا يجدون البشارات عنه في كتبهم، وحاصل الجواب بذلك: لستم بأَهل للحكم في شأْنى، فاسأَلوا أَهله من أَهل الكتاب فإِنهم بجواركم، كما قال تعالى:"فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"(2).

والله أَعلم

(1) سورة القصص 63

(2)

سورة الأنبياء 77

ص: 456

سورة إبراهيم

آياتها اثنتان وخمسون، وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر، وهو الذي عليه الجمهور، وقال ابن عباس وقتادة مكية إِلا آيتين منها فهما مدنيتان، وهما قوله تعالى:"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) "

فقد نزلتا في قتلى بدر من المشركين، أَخرجه البخاري عن ابن عباس وأَبو الشيخ عن قتادة.

المقاصد التي تناولتها السورة

اشتملت سورة إِبراهيم على المقاصد التالية:

1 -

الحديث عن القرآن الكريم وعن الرسول صلى الله عليه وسلم وأَثرهما في إِخراج الناس من الظلمات إِلى النور بفضل الله وهداه، وإِنذار الذين ينصرفون عن الهدى بالهلاك إِذا أَصروا على الكفر والضلال.

2 -

تقرير أَن الله سبحانه أَرسل الرسل بلغات أَقوامهم حتى يستطيعوا فهمها وأَداءَ شعائرها ولتقوم عليهم حُجة الله.

3 -

ذكر نبذة من قصة موسى عليه السلام مع قومه، وتذكيره إِياهم بنعم الله وما يجب عليهم له سبحانه من عبادة وشكر.

4 -

ذكر نبذة من أَخبار الرسل مع أَقوامهم، وما قابلوا به رسالاتهم من جحود وإِنكار وانتقام الله من هؤلاءِ المعاندين المكابرين.

5 -

تقرير ضلال الكفار وحبوط ما قدموه من أَعمال طيبة؛ لأَنها لا تقوم على الإِيمان.

ص: 457

6 -

ذكر مشهد من مشاهد يوم القيامة حيث يتبَّرأُ أتباع الكفار من رؤَسائهم وحيث يتبرأُ الشيطان مِمن أَغواهم ودفعهم إِلى الفساد. على حين يَمُنُّ الله على عباده الأتقياءِ بأَحسن الجزاء.

7 -

ذكر الآثار الطَّيبة للكلمة الطيبة، وأَن الله يبارك فيها وفيمَنْ دعا إِليها ومن استجاب لها، وذكر الآثار السيئة للكلمة الخبيثة وأَن الله يمحقُها ويمحق من دعا إِليها ومن استجاب لها من المنحرفين.

8 -

الدعوة إلى التعجب ممن يقابلون نعم الله بالجحود والكفران، ويضلون أَقوامهم فيقودونهم إلى النار.

9 -

دعوة المؤمنين إلى التمسك بِإيمانهم وأَداءَ شعائر دينهم، وإِلى شكر نعم الله العديدة عليهم، وأنها لا يمكن إِحصاؤها سواءٌ في أَرجاءَ الأرض أَم آفاق السماوات.

10 -

تذكير قريش بنعم الله عليهم، واستجابته لدعاءِ إِبراهيم عليه السلام من أَجلهم وأَن عليهم أَن يعْبُدوا رب هذا البيت الذي أَطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.

11 -

إِنذار المشركين بما أَعَدَّه الله لهم من عذاب أَليم يوم القيامة، وتأْكيد هذا الإِنذار وأَنه واقع بهم لا محالة "يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ".

12 -

تقرير ما ورد في السورة الكريمة من تبشير للمؤمنين وإِنذار لِلْكَافرين، وأَنَّ في هذا بلاغًا للجميع ليسرعوا بالعودة إِلى توحيد الله وعبادته، وليعلموا أَنما هو إِله واحد، وإِيقاظ العقول لتتجه إلى الإِيمان قبل فوات الأَوان.

ص: 458