الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهل القرون الماضية، فلا مجال لأن يقولوا لصاحبهم في شأن الطعام ما قالوا، ولأنه لما ذهب إلى المدينة لم ينكر حال نفسه وإنما أَنكر معالم المدينة وأَهلها، فالحق أَن الله تعالى لم يغير حالهم بعد مئات السنين، ليكون ذلك آية بينة لمن يراهم بعد يقظتهم كما سنشرحه إن شاءَ الله تعالى.
أَين الكهف ومن أَيِّ البلاد أصحابه
يقول بعض المفسرين إنه في بلاد الروم، وإن أَصحابه منها، ويضيفون إلى ذلك أَنهم باقون على الحالة التي توجب فِرَارَ مَنْ يطَّلع عليهم ورُعْبَهُ منهم، ويستدلون لذلك بما أَخرجه ابن أَبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس قال:"غزوْنَا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم، فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذين ذكرَهم اللهُ تعالى في القرآن، فقال معاوية: لَوْ كُشِف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس: ليس ذلك لك، قد منع الله تعالى ذلك مَنْ هَوُ خيرٌ منك فقال: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} فقال معاوية: لا أَنتهي حتى أَعْلَمَ عِلْمَهُمْ، فبعث رجالًا وقال اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا، فذهبوا فلما دخلوه بعث الله تعالى عليهم ريحًا - فأَخرجتهم" وأصحابُ هذا الرأْى يقولون إن الخطاب في قوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} للرسول خاصة.
وقد روى عن ابن عباس عكس ما تقدم، فقد أَخرج عبد الرازق وابن إلى حاتم عن عكرمة أَن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة، فمروا بالكهف فإذا فيه عظام، فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف، فقال ابن عباس: لقد ذهبت عظامهم منذ أَكثر من ثلاثمائة سنة، فهذا الأثر ينفى ما دَلّ عليه الخبر السابق، من بقاءِ أجسادهم سليمة.
ونحن نرى أَن الخطاب في قوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} لكل من يصلح أن يُخَاطَبَ، وإن المراد من الآية الكريمة حكايته حالهم وقت رقودهم وقبل بعثهم، وأما أمرهم بعد موتهم واتخاذ مسجد عليهم، فهو من الغيبيات التي لم يكشف النقاب عنها على وجه تطمئن إليه القلوب.
ومن المفسريين من نقل أنهم بالشام، قال أَبو حيان: إِن في الشام كَهْفَ موتى، ويزعم مُجَاوروه أَنهم أَصحاب الكهف، وعليهم مسجد وبناءٌ يسمى الرقيم، ومعهم كلب رمة: اهـ
ولعل أَبا حيان يشير بكونهم في الشام إلى أنهم في الأردن، فإن الأردن من الشام، فقد كان إقليم الشام يعم سوريا والأردن وفلسطين ولبنان، وقد صرح بوجودهم في الأردن الهروي، إذ قال: إن البلقاء بلد به الكهف والرقيم، عند مدينة يقال لهاَ عَمَّان، بها آثار قديمة، ووافقه ياقوت، وقال القدسي: الرقيم قرية على فرسخ من عمان على تخوم البادية، فيها مغارة لها بابان صغير وكبير وقد روى عن ابن عباس أن الرقيم واد بين غَضبان وأيْلَة دون فلسطين، وفيه أَصحاب الكهف: اهـ
وغَضْبَانُ بالضاد المعجمة واد بالشام، وهذه الرواية تخالف ما روى عنه سابقًا من أَنهم وكهفهم في بلاد الروم، ولعلها أقرب منها إِلى الصواب. وقد دفَعت هذه الرواية وغيرها مصلحة الآثار بالمملكة الأردنية إلى التنقيب في هذه المنطقة حتى كشفوا كهفا وآثارًا، وظنوا أن هذا هو الكهف الذي جاءَ ذكره في سورة الكهف؛ بل لقد أَكد الأستاذ رفيق الدجاني المساعد الفني لمدير الآثار العربية بالأردن أَنه هو بعينه، والله أعلم بصحة هذا أو مخالفته للحقيقة، فقد علمت ما تقدم نقله من وجودهم ببلاد الروم، ونقل الآلوسي أن بالأندلس في جهة غرناطة كهف موتى ومعهم كلب رمة، وأَكثرهم قد ذهب لحمه، وبعضهم متماسك، وهم بقرب قرية تسمى لوشة، ويزعم ناس أنهم أَصحاب الكهف. قال ابن عطية: دخلت عليهمُ فرأَيتهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة، وعليهم مسجد، وقريب منهم بناء رومى يسمى الرقيم، كأنه قَصْر مخلق قد بقى بعض جدرانه، وهم في فلاة من الأرض خربة، وبأَعلى حصن غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس وجدنا في آثارها غرائب: اهـ.
فمن تضارب الروايات في مكان كهفهم، فإننا لا نستطييع الجزم به، كما لا نستطيع الجزم بالأمة التي نشأوا منها، وكل ما نستطيع القطع به هو قصتهم وواقعيتها، وأنهم من آيات الله تعالى، فلندع العلم بما وراء ذلك إِلى علام الغيوب.
المفردات:
{بَعَثْنَاهُمْ} : أَيقظناهم. {لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} : ليسأل بعضهم بعضا.
{كَمْ لَبِثْتُمْ} : كم زمنا أَقمتم نائمين. {بِوَرِقِكُمْ} : الورِق بكسر الراء الفضة المضروبة كالدراهم، وقيل يطلق على الفِضَّة وإِن لم تكن مضروبة. {أَزْكَى طَعَامًا}: أَطيب طعاما أو أطهره. {وَلْيَتَلَطَّفْ} : وليستعمل اللطف في المعاملة حتى لا تقع خصومة تكشف أَمرهم.
{إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} : إن يطلعوا عليكم ويعرفوكم.
{يَرْجُمُوكُمْ} : يقتلوكم رجما بالحجارة، أَو يقذفوكم بألفاظ السباب.
التفسير
19 -
بينت الآيتان السابقتان حالهم في الكهف الذي أوَوْا إليه، بعد أن فارقوا أهلهم المشركين، وأن الله تولى حفظ أَجسادهم فيه حتى لا يفنيهم تعاقب السنين عليهم، فجعل الشمس لا تصيبهم طوال نهارهم مع أنهم في فجوة من الكهف بحيث تتمكن الشمس من إصابتهم، وجعل يقلب أَجسادهم ذات اليمين وذات الشمال، وجعل أَجسادهم تعيش
مئات السنين بلا طعام ولا شراب، وجعل منظرهم يبعث الرعب والفرار منهم، ليكون ذلك أَدعى إلى سلامتهم، وأَدفع للشر عنهم، وأَبعد للوحوش المفترسة عن إيذائهم، وكل ذلك من آيات الله. وجاءت هذه الآية الكريمة لشرح حالهم بعد يقظتهم من هذا الرقاد الطويل الذي لم يغير شيئًا من ثيابهم ولا من شعورهم وأَجسادهم، فقد بينت أَنهم استيقظوا فتساءَلوا كم من الزمن لبثتم؟، فأجاب المسئول منهم سائِلَهُ بأنهم لبثوا نائمين يوما أَو بعض يوم، ولو طالت لحاهم أَو أظافرهم أَو بليت ثيابهم أو ضرب بياض الشيب شعرهم لما كان جواب المسئول لبثنا يوما أو بعض يوم، ولما بعثوا بعضهم ليشترى لهم طعاهًا بدراهمهم التي مضى على ضَرْبها مئات السنين، وقد حدثت هذه الآية على هذا النحو العجيب، ليُعْرفَ أمرهم، ويتبين للناس من حالهم أن الله يبعث من في القبور، كما سنعرض له في موضعه إن شاءَ الله تعالى.
والمعنى: أَنمناهم علي هذا النحو العجيب الدال على قدرتنا، ثم أَيقظناهم من نومهم على هيئة لا تغير فيها لشيءٍ من أحوالهم، لكي يسأل بعضهم بعضا: كم من الوقت لبثنا نائمين بعد أَن أَوينا إلى هذا الكهف مرهقين من رحلة الهرب من أهلينا المشركين، قال بعضهم جوابا للسائل: لبثنا يوم أَو بعض يوم، فاستراحت بذلك أجسادنا المكدودة.
والمشهور أَن نومهم كان غدوة وانتباههم كان آخر النهار، وحرف (أَو) في قول المجيب على السائل {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} يحتمل أَن يكون للشك في مدة لبثهم أهى يوم أو بعض يوم، لأنهم في جوف الغار ولوثةُ النوم لم تفارقهم بعد، وقال أَبو حيان إنها للتفصيل على معنى: قال بعضهم: لبثنا يوما، وقال آخرون: لبثنا بعض يوم، وقول كليْهما مبنى على غلبة الظن.
{قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} : قال بعض آخر التبس عليه الأمر: ربكم أَعلم بالوقت الذي مكثتم فيه نائمين، فلا سبيل إِلى التحقق من أَنه
يوم أَو بعض يوم، فدعوا الحديث عنه، فابعثوا أَحدكم بدراهمكم هذه التي أحملها، ليذهب بها إلى المدينة التي خرجنا منها مهاجرين إِلى الله، فلينظر أي البائعين بالمدينة أَطيب طعاما، وأبعده عن الإثم، فقد كان أَهلها يذبحون للطواغيت، فليأتكم برزق من أطيب الطعام، وليتلطف في معاملته مع بائع الطعام حتى لا تقع خصومة بينه وبينه ويَنكشف بها أمركم، ولا يفعلن ما يؤدى إِلى شعور أحد من أهل المدينة بكم، لننجو من العواقب الوخيمة التي تترتب على معرفتهم بمخبئكم عن طريقه. وفي إِقرارهم في النص الشريف على حملهم للدراهم معهم دليل أَن التأهب لأسباب المعاش لمن خرج من منزله، يحمل النفقة ونحوها لا ينافي التوكل على الله، فإن الحياة بنيت على اتخاذ الأسباب ثم يأتي التوكل على الله بعد ذلك ليساعد من استعان به على نجاح أسبابه، قال تعالى في سورة الملك:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} . وقال صلى الله عليه وسلم لمن أَناخ ناقته ولم يعقلها، قائلا إني متوكل على الله - قال له الرسول - "اعْقِلْهَا وَتَوَكَّل".
20 -
إن قوْمكُم الذين هجرتموهم وتركتم دينهم إن يطلعوا عليكم ويظفروا بكم يرجموكم بالحجارة فيقتلوكم لمخالفتكم إياهم فيما هم عليه من الدين، واعتزالكم إِياهم وما يعبدون، وشق عصا الطاعة ومخالفة الجماعة في أقدس أمُورها يوجب القتل عندها إِلا إن تعودوا إِلى ملتهم وتستجيبوا إِلى فتنتهم مكرهين، ولن تفلحوا أبدا إن دخلتموها ولو مكرهين، فإنهم سيستدرجونكم مع الشيطان إلى استحسانها والاستمرار عليها، وسيحيطونكم بمختلف الفتن والمغريات حتى يطفئوا نور الإيمان في قلوبكم.
ثم إن هؤُلاء الفتية بعثوا أحدهم بدراهمهم ليأتيهم برزق طيب من المدينة بعد أن سمع من إخوانه نصيحتهم، واشتهر أَن اسمه يمليخا، ولما ذهب إِلى المدينة حدث ما أَشار إليه بقوله:
المفردات:
{أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} : أجل العثور السقوط لِجِهة الوجه، كما قال الراغب، ثم تجوز به عن الحصول أو الاطلاع على أَمر مصادفةً، وأَعثرنا عليهم معناها في الآية أطلعنا عليهم أَهل مدينتهم. {لَا رَيْبَ فِيهَا}: لا يصح أن يرتاب فيها أحد. {السَّاعَةَ} : القيامة، وسميت بذلك لأنها تفجأ الناس في ساعة يجهلونها، ويختص الله بعلمها.
{يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} : يتخاصمون في نومهم ثانيا بعثهم، فمِنْهم مُقِر بدلالته على البعث الأخروى، ومنهم نافٍ له، أو يتخاصمون في نومهم ثانيا بعد يقظتهم أَهو موت أم هو رقود كما كانوا.
التفسير
21 -
تحكى هذه الآية ما آل إليه أَمرهم بعد يقظتهم من رقدة لم يعرف لها التاريخ مثيلا، حيث مكثوا نياما "ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا" ثم كان من قصتهم ما سنذكره إِجمالا ثم نفصله، والمعنى:
وكما أَنَمْنَاهُم هذه النومة الطويلة العجيبة، وأيقظناهم بعدها بحالة عادية ظنوا معها أَنهم لبثوا نائمين يومًا أَو بعض يوم - كما فعلنا ذلك - أطلعنا الناس عليهم بعد تلك الأجيال العديدة التي ظلوا فيها نائمين، ليعلموا بما عرفوه من أحوالهم العجيبة، أن وعد الله تعالى