الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تبين لهم الحق فيما هم فيه مختلفون، فبعث أصحاب الكهف من رقودهم الطويل، فبعثوا أحدهم ليشتري لهم طعامًا، فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه التي يراها، وقد اختلفت عليه معالم المدينة كثيرًا، ورأى مظاهر الإيمان بادية على أهل المدينة، ثم أقبل متلطفا على رجل ليشترى منه طعامًا، فلما نظر الدراهم أنكرها، لأنها مضروبة من عهد بعيد، حيث كان يوجد ملك وثنيٌّ -قيل إنه يدعى دقيانوس- فاتهمه بكنز عثر عليه، وطلب منه أن يدله عليه حتى لا يرفع أَمره إلى الملك، فقال الفتى هي من ضربه، أليس ملككم فلانا؟ فقال الرجل: لا. بل هو فلان -وكان اسمه كما قيل (بندوسيس) فاجتمع الناس وذهبوا به إِلى الملك -وهو خائف- فسأله عن شأنه، فقص عليه القصة، وكان الملك قد سمع أن فِتْيةً خرجوا ولم يعودوا على عهد دقيانوس، فدعا مشيخة أهل بلده، وكان عند رجل منهم أسماؤهم وأنسابهم، فلما سألهم الملك عن هؤلاء الفتية، تقدم هذا الرجل، وذكر له ما عنده من أمرهم، فقال الفتى صدق، ثم قال الملك: أيها الناس. هذه آية بعثها الله لكم، لتؤمنوا بالبعث وأنه على نحو ما رأيتم، ثم خرج هو وطائفة من أهل المدينة ومعهم الفتى، فلما رأى الملك الفتية اعتنقهم وفرح بهم، ورآهم جلوسا مشرقة وجوههم، لم تَبْلَ ثِيابُهم، فأخبروه مما قوا من دقيانوس، فبينما هم بين يديه إذ قالوا له: نستودعك الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله، ودعوا له بخير، ثم رجعوا إلى مضاجعهم فتوفاهم الله تعالى ثم كان من أَمرهم ما قص الله تعالى.
تلك إحدى الروايات التي تحدثت عن قصتهم، اكتفينا بها فى فهم ما أجمله القرآن من أمرهم، انظر الآلوسي فى بيان هذه القصة.
حكم اتخاذ المساجد فوق القبور
استدل بعض الفقهاء بالآية على جواز اتخاذ المساجد فوق قبور الصلحاء والصلاة فيها، وهو استدلال باطل، فإننا لو سلمنا أن هؤلاء بنوا عليهم مسجدًا للصلاة وفق شرعهم، فإن شرع من قبلنا إنما يكون شرعا لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يَردُّه، وقد جاء فى شرعنا ما يحرمه ويرده، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
"لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ القُبُورِ وَالمُتَّخِذينَ عَلْيَهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ" أخرجه أَحمد وأبو داود والترمذي وغيره عن ابن عباس، وقال صلى الله عليه وسلم.
"لَعَنَ اللهُ تَعَالَى الْيَهُودَ وَالنصَارَى. اتخَذُوا قبُورَ أنْبِيَائِهِم مَسَاجِد" أَخرجه الشيخان والنسائي عن عائشة، ومُسلِم عن أبي هريرة، إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة الناهية عن اتخاذ المساجد فوق القبور.
ويرى بعض علماء الحنابلة وهدم المساجد التي تبنى على القبور، والقباب التي تبنى عليها، على أَن الآية ليست نصا في أنهم بنوها وفق شرعهم، فليس فيها سوى حكايته قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك، وليست خارجة مخرج المدح والحض على التأسي بهم، فحيث لم يثبت أن فيهم معصوما لا يدل فعلهم فضلا عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده، ولك أن تقول أَيضًا: إن اتخاذهم المسجد عليهم، يراد منه اتخاذهم إِياه عند قبرهم في كهفهم، وقريبًا منه، وقد جاء التصريح بالعندية في رواية السدي للقصة، ومثل هذا الاتخاذ ليس محظورًا، ويمكن أن يقال إن (على) في قولهم {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} يمكن أن تكون بمعنى لام التعليل، أَي لنتخذن لأجلهم مسجدًا، كما تقول لشخص أحَسن في صُنْعِه: لأعطينك عليه جائزة، أَي لأعطينك لأجله هذه الجائزة، ومن كل ذلك نفهم أَنه لا يوجد في الآية ما يستدل به على جواز بناء المساجد فوق الأضرحة.
المفردات:
{رَجْمًا بِالْغَيْبِ} : رميا بالخبر الغائب الخفى عنهم. {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ} : فلا تجادل فيهم، والمماراة المحاجة والجدال، قال الراغب: هي المحاجة فيما فيه مرية - أي تَرَدد - مأخوذ من مَرَيْتُ الناقة إِذا سمحت ضرعها للحَلْب. (إلَاّ مِرَاء ظَاهِرًا): إلَّا محاجة وجِدَالا بما هو ظاهر، وذلك بالاقتصار على ما نزل به الوحي من غير تجهيل لمن يحاورك فعهم، فقد يكون مصيبا والقرآن لم يستوعب قصتهم، بل جاءَ ببعضها.
{وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} : ولا تستفت في شأن أَهل الكهف أحدًا من الخائضين ولا ترجع إِليهم في قصتهم، ففيما أخبرناك به كفاية وغُنْية عن سؤالهم، فضلا عن أن ما يعرفون عنهم مشوب بالخطأِ.
{لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} : أي لأقرب وأظهر من نبأِ أصحاب الكهف من براهين نبوتك.
التفسير
22 -
أَجمل الله فيما تقدم قصة أهل الكهف، وآخرها العثور عليهم وموتهم عقب التعرف عليهم، واعتزام من غلب على الأمر في أمَّتِهِم في ذلك الوقت أَن يبنى عليهم مسجدًا، وجاءت هذه الآية، لتبين أن بعض معاصرى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب سيخوضون في قصتهم، وأنه تعالى نهاه عن أن يخوض معهم في أمرهم، وأن لا يزيد على ما أنزله الله إليه في شأنهم، وأن لا يستفتيهم في بيان أَمرهم أكثر بما نزل به الوحي، فليس بحاجة إلى ذلك، وليسوا هم على مستوى الفتوى في أَمر لا يعلمه إلا الله وقليل من عباده.
والمعنى: سيقول الخائضون في شأنهم من أهل الكتاب: أهْلُ الكهف ثلاثةُ أَشخاص من الرجال رابعهم كلبهم، ويقول آخرون منهم: هم خمسة سادسهم كلبهم، سيقول هؤلاء وأولئك ما قالوه في عددهم، رميا بالخبر الغائب من غير سند لما قالوه، ويقول جماعة
ثالثة منهم: أهلُ الكهف سبعة وثامنهم كلبهم، يقولون ذلك عن ثقة وطمأنينة نفس (1)، ولذلك لم يتبع الله عبارتهم بما أتبع به عبارة من سبقهم، من أَنهم يرجمون بالغيب، بل أشار إِلى علمهم بقوله تعالى:
{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} : فهم من القليل الذين يعلمون عدتهم.
قال ابن عباس: "حين وقعت الواو انقطعت العدة" أي لم يبق بعدها عدة لأحد يلتفت إليها، وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبت. وقد نص عطاءٌ على أن هذا القليل من أهل الكتاب، وقيل من البشر، فقد صح عن ابن عباس أنه قال:"أَنا من أولئك القليل".
وقيل إن المختلفين في عددهم هم نصارى نجران، تناظروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الملكانية: هم ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال اليعقوبية: هم خمسة سادسهم كلبهم، وقال النسطورية: هم سبعة وثامنهم كلبهم، وهذا القول في حكاية المختلفين مرْوِيٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أما أسماؤهم، فقد خاض بعضهم في ذكرها، وعزوها إلى ابن عباس تارة، وإلى الأمامِ عَليّ تارة أخرى وكل منهما يخالف الآخر.
ونحن نرى أن لا دليل على ما ذكر في الروايتين في أسمائهم، فإنها لم تصل إِلى - ابن عباس أو علي أَو غيرهما عن طريق معصوم، ولعل هذه الأسماء كانت تذكر على ألسنة أهل الكتاب، فتسربت إِلى المجتمع الإسلامي عنهم، فالكف عن التقيد بها أولى.
{فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} :
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يريد أَن يتحدث في أمرهم من أَهل العلم مع سواه ممن يخوض في شأنهم.
والمعنى: إذا كنت قد عرفت أن من يخوض في عددهم، منهم المخطىءُ ومنهم المصيب، فلا تجادلهم في شأن هؤلاء الفِتْية إلا جدالًا ظاهرًا لا عمق فيه، بأن تقتصر في أمرهم على ما نزل به الروح الأمين، من غير تجهيل للجاهل منهم ولا تفضيح لحاله، فإن ذلك يخل بمكارم
(1) ولهذا أكدوا عبارتهم بالواو في قولهم كما حكى الله عنهم "ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم" قال العلماء: هذه الواو تدخل علي الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الجملة الواقعة حالًا عن المعرفة في نحو قوله: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت يزيد وفي يده سيف، ومن الأول قوله تعالى:"وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم" وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف - انظر الآلوسي في هذه الج
الأخلاق التي جاء الإسلام ليتمها، ولا تستفت فيما لم يتعرض الوحي لبيانه من أحوال أهل الكهف -لا تستفت- أحدا من الخائضين فى شأنهم من أهل الكتاب، فلست بحاجة بعد ما أُوحي إليك إلى المزيد من التعريف بأحوالهم، فإن فيه العبرة للمعتبر، وليس مَنْ يُسْتَفْتَى في شأنهم من أهل الكتاب أهلا للفتوى لجهالتهم أو ضحالة ما عندهم من أَمرهم.
23، 24 - {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
…
الخ}:
لا يزال الكلام متصلًّا بشأن أَهل الكهف، فإن هذه الآية نزلت حين سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فقال صلى الله عليه وسلم غَدًا أُخْبركم، فأبطأ عليه الوحي ثم نزل الوحى بعد الموعد، وقد نبَّه الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن لا يقول في أي شأن من الشئون سواءٌ كان فى أمر الشريعة أو سواها -أن لا يقول- إني فاعل ذلك غدًا إلا مرتبطًا بقوله إن شاء الله فإن أَمكنه أن يفعله غدًا فعله، وإِلا فقد وقع التخلف وفقًا لمشيئة الله الذي لا يقع فى ملكه إلا ما شاءه سبحانه، ونحن مكلفون بهذا التوجيه الإلهي لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه أُسوتنا وإمامنا.
والمعنى: ولا تقولن لأجل شيء تعزم على فعله: إني فاعل ذلك غدًا أو فيما يستقبل من الزمان إلا مُقْتَرِنًا بمشيئة الله، وذلك بقولك إِن شاء الله، لتخرج من العهدة بالتخلف عن الفعل فى الموعد المضروب، لعدم تحقق مشيئة الله به فيه، فإن حصل نسيان للمشيئة وقت الوعد بالفعل فليذكرها الإنسان عندما يتذكر، وفي ذلك يقول الله تعالى:
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} :
أي واذكر مشيئة ربك إِذا تذكرت أنك نسيتها، تداركًا لما فاتك من ذكرها، سواءٌ قصر الفصل أم طال، وهذا ما جنح إليه ابن عباس، فقد أَخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه كان يرى الاستثناءَ ولو بعد سنة ويقرأُ الآية، والمراد من الاستثناء التعليق بالمشيئة، وهذا هو مذهب أَهل البيت ونقل في رواية أنه رأي للإمام أَحمد.
وأَخرج ابن المنذر عن ابن جبير في رجل حلف ونسى الاستثناء -أي التعليق على المشيئة- فأفتى بأن له الاستثناء إلى شهر، ومذهب عطاء أن له الاستثناء بعد اليمين إلى مقدار حلب ناقة، أَما طاووس فإنه يرى ذلك ما دام في المجلس وجمهور الفقهاء يشترطون
لصحة الاستثناء في اليمين بالتعليق على مشيئة الله أن يكون متصلًا بالمحلوف عليه، قالوا: ولو صح جواز الفصل وعدم تأثيره في الأحكام، لما تقرر طلاق ولا عِتاقٌ ولا صح إقرار، ولم يعلم صدق ولا كذب. وكان أبو حنيفة لا يوافق على رأى ابن عباس، ويرى أَن التعليق بالمشيئة يجب اتصاله بما ارتبط به، فعلم بذلك أبو جعفر المنصور، فبعث إلى أَبي حنيفة ليلومه على مخالقته لرأى ابن عباس، فقال أبو حنيفة: هذا يرجع إِليك أَنت، إنك تأخذ البيعة على الناس بالأيمان، أَفَتَرْضَى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا قائلين: إن شاء الله، فيخرجوا عليك؟ فاستحسن كلامه.
والحق في هذه المسألة أن الآية ظاهرة في أمر تفويض العبد في أُموره التي عزم عليها إلى مشيئة الله، فِإن نسيها ثم ذكرها فليقلها مهما كان الفاصل من الزمان، أما الأحكام في نحو الطلاق والعتاق والبيع والشراء ونحوها، فالآية لا صلة لها بها، ومن ثمَّ فما قاله ابن عباس راجع إلى التفويض لا إلى الأحكام، وعلى هذا فإن التعليق بالمشيئة في الأحكام إنما يَرْفَعُها إذا اتصل بها، فإِن انفصل عنها فلا يرفعها، فمثلا، له قال لزوجته: أَنت طالق، وعقبه بقوله: إن شاء الله لم تطلق، فإن تأخر التعليق بالمشيئة على الطلاق وانفصل عنه، وقع الطلاق - ولا نظن ابن عباس يخفي عليه شيءٌ من ذلك - والله أعلم.
ومعنى هذه الجملة بعد أَن اتضح المقام، واذكر ربك بالتعليق على مشيئته إنْ تَذكرتَها بعد أن نسيتها فيما عَزَمْتَ عليه من المقاصد، وقيل أَرجو أَن يوفقنى الله لشيء أقرب رشدا وَخَيْرًا من هذا الذي نسيت التعليق على مشيئة الله تعالى بشأنه.
وعلى ارتباط هذا الجزء من الآية بسبب النزول يكون المعنى: وقيل أيها الرسول عسى أن يوفقني ربي لشيء أقرب من نبإ أصحاب الكهف إرشادًا للناس ودلالة على نبوتي.
وإِلى هذا المعنى ذهب الزجاج، وقد حقق الله لرسوله هذا فقد آتاه الله من الآيات ما هو أعظم من ذلك وأَبين، كقصص الأنبياء في الأعصار والدهور البعيدة، والحوادث التي سوف تنزل في المستقبل إلى يوم الساعة، إلى غير ذلك بما يبدو نبأ أَهل الكهف بالنسبة إِليه أمْرًا هينًا ضئيلًا - مع عظمة وَرفْعَةِ ش
المفردات:
{لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : له سبحانه ما غاب فيهما خلقا وملكا وتصرفا وعلما.
{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} : ما أعظم سمعه وبصره. {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} : ليس لهم من غيره تعالى من يتولى أمررهم. {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} : لا قدرة لأحد على تبديل كلماته سبحانه.
{مُلْتَحَدًا} : ملجأ تَلْجأ إِليه عند الملمات.
التفسير
25 -
{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} :
هذه الآية مبينة لما أجمل من مدة لبثهم في قوله تعالى -: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} وأخر هذا البيان عنها ليتخلل بينهما إجمال قصتهم، حتى تنتهي إلى أنهم تنازعوا واختلفوا في مدة لبثهم، واختلفوا في عددهم، فيأتي هذا البيان بعد الشوق إليه، ليعظم عجيب الناس من قدرة الله، ويشتد إيمانهم بقدرته على البعث، والمعنى:
ولبث أصحاب الكهف مَضْروبًا على آذانهم فيه ثلاثمائة سنة وتسع سنين ازدادوا بها فوقها، ولم يقل ثلاثمائة وتسع سنين مع أَنه أَخصر (من ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا) لكي يشير بالثلاثمائة إلى مدة لبثهم بالسنين الشمسية التي عليها أَهل الكتاب، وبزيادة
التسع عليها إلى ما عليه العرب من الحساب القمرى الذي يفرق تسع سنين زائدة عليها تقريبا، لأن السنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يوما تقريبا، والقمرية ثلاثمائة وأَربعة وخمسون يوما تقريبا، وهذا الرأي منسوب إلى الإمام علي.
وقيل: يجوز أَن أهل الكتاب اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم، فجاء قوله {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ} الخ رافعا للخلاف مبينًا للحق، ويكون {وَازْدَادُوا تِسْعًا} تقريرا للعدد، ودفعا للاحتمال، فكأنه قيل: وازدادوا تسعا فوق الثلثمائة، نظير الاستثناء في قوله تعالى:{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} وقيل إِنهم انتبهوا قليلًا بعد الثلاثمائة، ثم رُدُّوا إِلى النوم فبقوا نائمين تسع سنين زائدة على الثلاثمائة والرأي الأول في تفسير الآية أحرى بالقبول.
26 -
{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا
…
} الآية. أي قل يا محمد للناس: الله أَعلم بما لبثوا، فلذا حكى لكم أنهم لبثوا ثلاثمائة وازدادوا عليها تسع سنين، وفْقًا لما علمه الله من أَمرهم.
{لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} (1): أي للهِ تعالى علم جميع ما غاب في السموات والأرض وخفى من أحوالها وأحوال من فيهما، فضلا عن علمه بما ظهر فيهما، ما أَعظم بصره بالأشياء وسمعه لها وعلمه بها، فهو إذ ينبئك بمدة لبثهم، فما ينبئك إِلا بالحق {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .
{مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} : الضمير في "لهم" يرجع إلى أهل الكهف.
والمعنى: قل للناس أيضًا ليس لأهل الكهف من غيره من ولى تولى أَمر إنامتهم تلك المدة، وحفظهم فيها حتى يجعلهم أمارة على البعث، ولا يشرك في قضائه بشأنهم أحدا.
ويصح أَن يرجع الضمير لأهل السماوات والأرض المدلول عليهم بذكرهما أي ما لأهل السماوات والأَرض من غير الله ولى يتولى أمورهم، وفي جملتهم أهل الكهف.
27 -
(1) هذه الجملة من ضمن ما أمر الرسول أن يقوله للناس بشأن أهل الكهف فهي متممة لما أمر به من قوله لهم: "الله أعلم بما لبث
{وَاتْلُ} : يجوز أن يكون أمرا من التلاوة بمعنى القراءة، أو من التُّلُوّ بمعنى الاتباع.
والمعنى على الأول: وَدَاوِمْ أيها الرَسول على تلاوة ما أوحى إليك من القرآن بشأن أصحاب الكهف وغيرهم - أوْ دُم على قراءته - لأصحابك وغيرهم، ليهتدى به الراشدون، فقد اشتمل على بيان الغيب الذي لا سبيل لك إلى معرفته، وتضمن من الآيات والمعجزات ما لا سبيل للبشر إِلى الإتيان بمثله، واتضح من أسلوبه الإلهي نداء الحق الذي تستجيب له القلوب والأرواح، لا يستطيع أَحد أن يبدل كلمات الله تعالى التي أنزلها عليك وتولى حفظها بنفسه، ولم يستحفظها سواه، ولن تجد من دونه ملجأ تلوذ به عند الملمات، فاعتمد عليه في تبليغ رسالة ربك ومعونته إياك بالنصر والتأييد.
المفردات:
{بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} : الغداة أَول النهار والعشي آخره، وقد تطلق العشي على الوقت من غروب الشمس إلى العَتمةِ، والعتمة وقت صلاة العشاء، وتمتد لغة إلى ثلث الليل كما قال الخليل، والمراد من عبادتهم ربهم بالغداة والعشي أنهم يعبدونه دائمًا.
(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ): أَي يقصدون بعبادتهم ذات الله مخلصين دون رياء.
(ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ): أي لا تجاوزهم عيناك إِلى غيرهم ولا تقتحمهم، يقال: عدا الأمر وعدا عنه، إِذا جاوزه وتركه. (فُرطاً): ضُيَاعًا.
(سُرَادِقُهَا): السرادق معروف كالفسطاط: هو ما يحيط بالشيء، وهو هنا مستعمل فى لهب جهنم على سبيل المجاز بالاستعارة المصرحة.
(كَالمُهْلِ): المهل ماءٌ غليظ كدردي الزيت -أي عكره-.
(مُرْتَفَقًا): متَّكأً، والارتفاق في الأصل الاتكاءُ على مرفق اليد، يقال بات فلان مرتفقا، أَي متكئًا على مرفق يده.
التفسير
38 -
فى الآية السابقة أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن قرآن ربه ويتلوه على الناس مؤمنهم وكافرهم، وجاءت هذه الآية آمرة له أن يهتم بفقراء المؤمنين ويحرص عليهم، ويدع حرصه على إيمان وجهاء الكافرين، ولا يسمع ما اقترحوه في حق هؤُلَاء الفقراء، فإنهم غير جادين فيما زعموه من الرغبة في الإيمان. وسبب نزول هذه الآية: أن زعماءَ كفار قريش كأُمية بن خلف وغيره من صناديدهم: قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أَبعدت هؤُلاء الفقراء عن نفسك لجالسناك، فإن ريح جبابهم تؤْذينا فنزلت هذه الآية، وكانوا يقصدون إبعاد أهل الصفة من الفقراء المنقطعين للعبادة، والتلقي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، كعمار وصهيب وابن مسعود وبلال، والآية على هذا مكية، وهو الذي رجحه أبو حيان، ويؤَيده ما أخرجه ابن مردويه من طريق جبير عن الضحاك عن ابن عباس، كما تؤَيده الآيات التي بعده وهو المناسب للسورة فهي مكية. وهذا يخالف ما أخرجه ابن مردويه وأَبو نعيم فى الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان عن سلمان قال: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، فقالوا:(يا رسول الله: لو جلست في صدر المجلس، وتغيبت عن هؤُلاء وأرواح جبابهم -يعنون سلمان وأَبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف، جالسناك -أو حدثناك- وأخذنا عنك، فأنزل الله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} إلى قوله سبحانه: {أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} يتهددهم بالنار) وعلى هذا تكون تلك الآيات مدنية في وسط السورة المكية، والظاهر الأول لما قدمناه
والمعنى: واصبر نفسك وثَبِّتْها مع أولئك الفقراء المخلصين الذين يعبدون ربهم في كل وقت تَتَيَسَّرُ لهم العبادة فيه، يريدون بتلك العبادة ذاته ورضاه، دون رياء للناس ورغبة في ثنائهم.
أَي ولا تجاوزهم عيناك يا محمد ولا تقتحمهم، فتبعدهم عن مجلسك استهانة بهم - كما اقترح عليك رؤَساءُ قريش ليجالسوك ويستمعوا إليك - لا تفعل ذلك - تريد بتركهم وإِغفالهم زينة الحياة الدنيا، بأن يكون جلساؤُك من الأشراف، ولا تطع في تنحيتهم عن مجلسك، مَنْ جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا ومعرفتنا، بسبب انصرافه عن الحق وبعده عن الهدى، واتباعه لهواه، وكان أمره ضَياعًا وهلاكا، حيث ترك الإيمان، وتعلل بأسباب واهية، فمثل هذا لا وزن له عندنا، والوزن كل الوزن لأهل الحق الثابتين عليه وإِن كانوا فقراء، فدع هؤُلاء، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .
29 -
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} :
وقيل أيها الرسول لهؤُلاء المشركين الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا واتبعوا هواهم وكان أمرهم ضياعًا - قل لهم - هذا القرآن الذي أدعوكم إلى الإيمان به هو الحق من ربكم لا ريب فيه، ولست عليكم بجبار، فمن أَراد الإيمان به حق اعتقاد راسخ، دون اشتراط إِبعاد الفقراء فليؤْمن، وله ثوابه، ومن أراد الكفر به عن هوى وحقد وعنادٍ فليكفر وعليه عقابه.
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} :
هذه الجملة تعليل للأمر السابق، أَي قل لهم أيها الرسول: ما أَمرناك به من دعوتهم إِلى الإيمان بما أَنت عليه من الحق وتخييرهم بين الإيمان والكفر به على سبيل، الوعيد، لأنا هيأنا لهؤلاء الظالمين المعاندين المستكبرين إن استمروا على كفرهم - هيأنا وأعددنا لهم - نارًا هائلة أَحاط بهم لهبها الذي يشبه السرادق في إحاطته بهم.
وإن يستغيثوا من شدة العطش ولهيب الأجواف يغاثوا بماء كعكر الزيت، شديد الحرارة بحيث إذا قرب من أَفواههم يشوي وجوههم وينضجها، فما ظنك بأجوافهم؟ بئس الشراب هذا الماءُ الذي يشبه المهل، وساءت النار منزلا ومقرًّا. أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم وصححه وآخرون عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى - كالمهل - (كعَكَرِ الزيت، فإذا قربَ إِليه سقطت فروة وجهه فيه).
المفردات:
{جَنَّاتُ عَدْنٍ} : جنات إقامة واستقرار، من عَدَنَ بالمكان أقام به واستقر فيه.
{أَسَاوِرَ} : جمع أسورة، جمع سوار بكسر السين وضمها، وهو ما في الذراع من الحلي.
{مِنْ سُنْدُسٍ} : السندس رقيق الديباج وهو مُعَرَّب بلا خلاف، قيل أصلة بالهندية سندون وغيرته الروم إلى سندوس، ثم عرب بحذف الواو، وقيل أصله فارسى.
{وَإِسْتَبْرَقٍ} : هو غليظ الديباج كما قال قتادة وعكرمة، أو هو ديباج منْسُوج بذهب كما قال ابن بحر.
{الْأَرَائِكِ} : السُّرُرُ في الحجال، فإن لم توجد في الحجال فهي سُرُرٌ وليست أَرائك، أَخرجه البيهقى عن ابن عباس.
التفسير
30 -
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} :
بين الله في الآية السابقة سوء مصير الكافرين، وبين في هذه الآية والتي تليها حسن مصير المؤمِنين، وبضدها تتميز الأشياءُ.
والمعنى: إن الذين صدقوا بما أنزل الله عليك من الحق، وعملوا بعد إيمانهم الأعمال الصالحات التي دعوتهم إِليها حسبما أوحى إليك ربك، إنا لا نضيع أجر من أحسن منهم عملا من تلك الأعمال بل نحسن جزاءه عليه، فكيف بالذى تَرَقَّى في عمل الصالحات، وشغل نفسه بالطاعات والخيرات، إن أجره لا شك عظيم، كما يصوره قوله سبحانه:
31 -
فهذه الجملة مستأنفة لبيان عظمة أجور المؤْمنين الصالحين.
والمعنى: أولئك المؤْمنون المواظبون على عمل الصالحات، لهم ثوابًا على إيمانهم وصلاحهم جناتُ إقامةٍ واستقرار، لا يبرحونها بأنفسهم ولا يخرجهم منها غيرهم، فهم فيها خالدون تجري من تحت غرفهم وقصورهم الأنهار وهم فيها آمنون ناعمون، يحلون فيها بأذرعتهم من أساور من ذهب لتزداد رفاهتهم ومتاعهم ونعيمهم، وليس الأساور في الآخرة للرجال لا عيب فيه؛ لأنه بين قوم يعتادونه، بخلافه في الدنيا فإنه بين قوم لا يعتادونه، فلهذا يعيبونه، فالشيءُ يكون مستحسنًا في حال، ومستهجنًا في حال آخر.
{وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} :
ويلبس أهل الجنة ثيابًا خضرًا من رقيق الديباج وغليظه، فوق تحليتهم بأساور من ذهب، زيادة في بهائهم ومتعتهم، فإن الخضرة تمنح البهاء وتسر النفس أكثر من غيرها من الألوان، ولهذا قال القائل: ثلاثة يذهبن الحزن. الماءُ والخضرة والوجه الحسن.
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} :
أي أنهم يتمتعون هذا المتاع في الجنة، في حال كونهم متكئين فيها على السُّرُرِ داخل الحجَال (1) نِعْمَ الثواب ذلك الذي وعدوا به، من الجنة ونعيمها المقيم، وحسنت الجنة دار إقامة، بما اشتملت عليه من فنون الجمال، وألوان النعيم.
المفردات:
{وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} : أَي أحطناهما بنخل. يقال حَفَّ القومُ بفلان يحُفُّون حفًّا طافوا به والحِفاف الجانب. {بِنَخْلٍ} : النخْل يؤنث ويُذَكَّر اسم جمع، واحدته نخلة وجمعه نخيل.
{أُكُلَهَا} : الأكل بسكون الكاف وبضمها التمر والرزق والحظ من الدنيا.
{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} : الثمرُ محركة حمْل الشجرة، وأنواع المال، الواحدة ثَمرةٌ بفَتحاتِ وثَمرةٌ كَسَمُرةٍ، والجمع ثِمار كرجال، وجمع الجمع ثُمُرٌ بضمتين.
(1) الحجال جمع حجلة. وهي بيت يزين بالثياب والستور للعروس - مختار الصحاح.
{وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} : يُراجعه، يقال تحاوروا أَي تراجعوا الكلام بينهم.
{وَأَعَزُّ نَفَرًا} : النفر محركة جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل إلى سبعة.
{أَنْ تَبِيدَ} : أن تهلك وتفنى. {خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} : المنقلب العاقبة والمصير.
التفسير
32 -
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ
…
} الآية.
المعنى: واضرب أيها النبي مثلا للمؤْمنين الذين يدعون وبهم بالغداة والعشي مع مكابدتهم ألم الحرمان والفقر، وللكافرين الذين استنكفوا عن مجالسة الفقراء من المؤْمنين. وجحدوا فضل معطِيهم مع تقلبهم في نعيمه، لتبين بهذا المثل للفريقين ولكل من يتعزز بالدنيا ويغترّ بها - لتبيّن - حالًا فيها عبرة للمعتبرين، وتبصرة للمستبصرين.
قال الكلبى: نزلت هذه الآية في أخوين مخزوميين من أهل مكة أحدهما مؤْمن وهو مسلمة عبد الله بن عبد الأسود. والآخر كافر هو الأسود بن عبد الأسود. وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إِسرائيل، أنفق أَحدهما ماله في سبيل الله تعالى وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله. ونظرا لهذا الخلاف نرى عدم التقيد برواية منهما، فكما يحتمل أن القصة واقعية يعلم الله صاحبيها، يحتمل أيضًا أَن تكون مثلا ضربه الله لهذه الأمة لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، وجعله زجرا وإنذارا - ذكره الماوردي.
32 -
أَي جعل الله لأحد الرجلين - وهو الكافر - بستانيْنِ من كروم طابت أصولها، وتنوعت ثمارها مذاقا ولونًا، وكلام الراغب يشير إِلى أَن العنب مشترك بين الثمر والكرم وهو شجرها وفق إطلاق اللغة، وقد أَفادت الآية الكريمة أن النخل محيط بالجنتين من جميع جهاتهما لتصون الأعناب وتحفظها، وأن الزرع وسطها، لتكونا جامعتين للفواكه والأقوات على هذه الصورة الرائعة والوضع الأنيق.
33 -
المعنى أَن كل واحدة من الجنتين أَعطت ثمرها تامًّا كاملًا طيبًا، ولم تنقص منه شيئًا، فليست كسائر البساتين، فإنها غالبا يكثر ثمرها في عام ويقل في آخر بسبب ما يحدث
فيه من تقلبات جوية، وآفات أرضية أو سماوية، وربما لا تثمر أصلًا في بعض الأعوام نتيجة لما ينزل بها من نوازل، تعوقها عن التفتح وإخراج الزهر المفضي إلى الثمر.
{وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} : وأَجرينا بين الجنتين نهرًا غزيرَ الماء، تيسيرًا لسقيهما، وزيادة في جمالهما وطيب هوائهما، وتقديم إيتاء الأكل في قوله تعالى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} على تفجير النهر في قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} من باب تقديم الغاية على الوسيلة، والمنفعة على سببها لأنها هي المقصودة من إنشاء البساتين، وتفجير الأنهار.
34 -
المعنى: وكان لصاحب الجنتين ثمر من أحمال أشجار أُخرى، وكذا من أنواع المال المثمر من ذهب وفضة وحيوان وغير ذلك كما فسره ابن عباس وقتادة وغيرهما، وعلى هذا فالثمر لفظ عام، يطلق على ثمار الاشجار، وعلى جميع أنواع المال المثمر.
وهذا الكافر بدل أن يشكر نعم الله عليه. دفعه غروره وتعلقه بمباهج الحياة الدنيا إلى أَن يقول لصاحبه المؤْمن:
{أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} : قال له ذلك وهو يراجعه الكلام في إنكاره البعث وفي تَعْييره له بالفقر، وفخره عليه بالقوة والمنعة، أي أنا أَوْفر منك مالًا تعدَّدت مصادره، وتنوعت موارده، وأعز حشما وأَعوانا.
قال قتادة "تلك والله أمنية الفاجر - كثرة المال وعزة النَّفَر".
35 -
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} :
أي أَنه تابع اعتزازه وغروره، وتمادى في إعراضه وكفره، ودخل جنته وهو ضار لنفسه حيث عرضها للهلاك، وعرض النعمة للزوال. لوضعه الشيء في غير موضعه. فكان اللائق به أن يعرف للنعمة حقها من شكر المنعم بها، والتواضع لمجريها جل شأنه. لا ما وقع منه من إنكارٍ وكفر، حكاه الله عنه بقوله سبحانه:
{قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} : وهذا استئناف أجيب به عن سؤَال مقدر نشأ من ذكر دخول جنته وهو ظالم لنفسه، كأنه قيل: فماذا قال حينئذ، فقيل: {قال مَا أَظنُّ
أن تبيد هذِهِ أبدا}: أي ما أعتقد أن تهلك هذه الجنة مدى الحياة، فالمراد بالأبديّة طول المكث .. لا معناها المتبادر، وإنما قال ذلك لطول أمله فى الحياة، وغفلته عن نعمة الله.
والعدول عن التَّثْنية إلى الإفراد فى قوله سبحانه: {وَدَخَل جَنتَهُ} لاتصال إحداهما بالأُخرى كأنهما جنة واحدة. أو لأن الدخول لا يمكن أن يكون فى الجنتين معا في وقت واحد وإِنما يكون في واحدة فواحدة.
36 -
أي أنه تمادى فى كفره بإنكاره البعث اعتقادًا منه، وردا على صاحبه لما وعظه وخوّفه قيام الساعة، حيث قال:{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أي لا أَحسبها كائنة وقائمة فيما سيأتي. {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} : أَي أَنه إِن رد إِلى ربه مبعوثًا -على سبيل الفرض والتقدير- كما زعم صاحبه ليجدنَّ في الآخرة خيرًا من جنته في الدنيا مرجعًا ومصيرًا تمنيًا على الله وادعاءً لكرامته عليه، ومكانته عنده، واعتقادًا بأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه. يقول هذا ولم يدر بخلده أَنه إمهال واستدراج. حتى إذا أَخذه لم يفلته (1).
(1) اقتباس من حديث الشيخين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".
المفردات:
{ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} : أي ثم جعلَكَ سَوِيًّا معتدلًا.
{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} : أصله لكن أنا هو الله ربي، فحذفت همزة أنا، وأدغمت نون {لَكِنَّ} في نون {أَنَا} بعد حذف همزتها - قاله الكسائي والفراءُ وغيرهما.
{وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} : أي ينزل الله عليها عذابًا مقدرًا محسوبًا - ينزله - من السماء، كالثلج والبرد ونحوهما. {صَعِيدًا زَلَقًا}: أي أرضًا لا نبات فيها ولا تثبت عليها قدم، لما فيها من الوحل أو من الرمال التي تزل فيها الأقدام {مَاؤُهَا غَوْرًا}: أَي غائرا فيها وذاهبا في طبقاتها البعيدة. {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} : أي لا تقدر أن ترد الماء الغائر بأية حيلة من الحيل.
التفسير
37 -
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ
…
} الآية.
استئناف كما سبق في قوله سبحانه: {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ
…
} كان سائلًا سأل عما راجعه به صاحبه المؤْمن واعظًا له، وزاجرًا إياه عما هو فيه من الكفر بالله عُجْبًا وغرورًا فأجيب السائل بالآية.
والمعنى: أن صاحبه المؤمن - حال محاورته له توجه إليه منكرًا عليه ما وقع فيه من جحود وكفر، فقال له:{أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} : أي كيف تكفر بالذي خلقك من تراب في ضمن خلق أصلك آدم عليه السلام، لما أن خلق كل فرد من أَفراد البشر له حظ من خلق أَصله، فيكون ذلك الكافر مخلوقًا من تراب لأنه مادة أَصله الذي تناسل منه، وقيل {خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} لأنه أصل مادتك التي نشأت منها إذ أنها ناشئة عن أَغذية نبتت من التراب {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ}: وهي مادة خلقك القريبة بعد خلق أصلك. وقد بدأَ سبحانه خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين.
{ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} : أي جعلك رجلًا في أَحسن تقويم حيث أنشأك. معتدل القامة سوِيَّ الخَلْق. منذ طفولتك حتى أَصبحت رجلًا، تلى أَمورك وتصرف شئونك.
38 -
{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} :
المعنى: أَنا لا أَقول بمقالتك الدالة على الكفر من إنكار البعث وغيره. لكن أنا أقول هو الله ربي. فأنا مؤمن مُوحِّد، أَعترف له سبحانه بالربوبية والوحدانية.
وبقوله هذا أثبت لصاحبه الشرك تعريضا. للإيذان بأن كفره كان بطريق الشرك. لأنه لمَّا أَنكر البعث فقد عجَّز البارى ومن عجَّزه فقد سوَّاه بخلقه في العجز وهو شِرك. أو المراد من الشرك مطلق الكفر، وقد أُطلق الشرك عليه كثيرا وجعلوا منه قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} فأريد من الشرك الكفر الشامل لما عليه اليهود والنصارى وما عليه غيرهم، ويقوِّي هذا الإِطلاق قوله تعالى فيما سبق حكاية عن الصاحب الكافر:{وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} فهو مُقِرٌّ بعدم الشرك والله سبحانه هو ربه لا سواه. ومع ذلك أُطْلق عليه الشرك هنا تعريضا نظرا لأنه يراد منه مطلق الكفر.
39 -
{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ
…
} الآية.
في هذه الآية حث وتحضيض من المؤمن للكافر على ما تضمَّنته من النصيحة، وتوبيخ له على تركها. أَي هلا قلت حين دخلت جنتك ونظرت إلى كمال تنسيقها ومختلف ثمارها.
{مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} فحمدت الله على ما أنعم به عليك، حيث أعطاك من المال والولد والرجال ما لم يعط غيرك، اعترافا منك بقوته، وإِقرارا بعجزك، وإِيمانا بأنه لو شاء لسلبك هذا العطاء الذي جعلته موضع فخرك واعتزازك، لأَن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. كما قال بعض السلف: من أَعجبه شيءٌ من ماله وولده فليقل ما شاء الله لا قوة إِلا باللهِ .. وروى الإِمام أَحمد بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أَدلك على كنز من كنوز الجنة لا حول ولا قوة إلا باللهِ).
{إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} :
40 -
{فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} :
أَي إن ترني أَمامك أَقل منك مالا وأولادًا وأعوانًا، فأَملى في فضل الله يجعلني أتوقع أَن يبدل ما بي وبك من الفقر والغنى فيرزقنى لإيماني جنة خيرا من جنتك التي كانت سببًا في طغيانك وكفرك بربك.
{وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} : ويبعث على جنَّتك من السماءَ قَدَرا محسوبا يكون سببا في هلا
{فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} : أي أرضًا بلقاء لا نبات فيها ملساء لا تثبت عليها قدم حيث تزلق وتزول عن مكانها. بمعنى أنها تصبح مسلوبة المنافع حتى منفعة المشي عليها. فتكون بذلك أضرّ أرض بعد أن كانت أنفع أرض.
41 -
{أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} : أَو يُصبح ماؤُها غائرًا أَو ذاهبًا فيها بحيث لا يمكنه استخراجه من جوفها، ولا تقدر على تفجيره بمختلف الوسائل والحيل، والتعبير بغَوْرًا .. بدل غائرًا .. للمبالغة في ذهاب مائها .. كرجل عدْل بدل عادل، للمبالغة في عدله - وإلى هنا انتهت مناظرة المؤمن لصاحبه الكافر وإِنذاره. ويحكي الله عاقبة كفره وغروره فيقول سبحانه:
المفردات:
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} : أهلك ماله كله. مأخوذ من الإحاطة والاستدارة حول الشيء من جميع جهاته، تمكنًا منه وغلبة عليه، ثم استعمل في كل إهلاك. {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ}: يضرب باطن إحدى يديه على ظاهر الأخرى. ثم يعكس الأمر مرارا ندمًا على ما حدث ويجوز في معناها غير ذلك. وسنعرض له في الشرح. {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} : ساقطة على أعمدتها التي هوت قبلها. {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} : أي جماعة وليس للفِئة واحد من لفظها.
{وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} : أَي ممتنعًا عما ينزله الله به. {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ} : الولاية بفتح الواو وكسرها: النصرة والغلبة.
التفسير
42 -
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا
…
} الآية.
الآية عطف على مقدر. أَي وقع بهذا الكافر ما خوَّفَهُ منه صاحبه المؤمن {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} بإهلاك جنته وما فيها من نخيل وأعناب وزروع. والظاهر أن ذلك كان ليلًا لقوله سبحانه:
{فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} (1) أي فأصبح يضرب باطن إحدى يديه على ظاهر الآخرى، ثم يعكس صنيعه ويكرره مرارًا ندمًا وحسرة على ما أنفق في عمارتها من مال وما بذل في تنسيقها من جهد، وما علق على بقائها الدائم من أَمل حيث كان يقول:{مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} ويفسر أبو حيان تقليبه كفيه بأنه يبدى باطن كلتيهما، ثم يعكس ليبْدو ظاهرهما، ويكرر ذلك من شدة الندم.
فَعَلَ ذلك حين رآها {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} : أي حين رأَى أشجار الكروم ساقطة على أعمدتها التي تصنع لحملها حفاظًا عليها وذلك لسقوط تلك الأعمدة لما أصاب الجنة من عذاب السماء الذي جعلها صعيدا زلقا.
وذِكْرُ هلاك الكروم مُغْن عن ذكر هلاك النخيل والزروع لأنها حيث هلكت وهي على عروش تسندها وتقويها. فهلاك غيرها بالطريق الأولى.
{وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} : أي يا ليتنى عرفت نعم الله عليّ وعرفت أنها كانت بقدرته فلم أُشرك به، وكأنه تذكر موعظة أَخيه له. لمَّا أبصر ما نزل بجنته، وعلم أن هلاكهما من قبل الشرك وبسببه، لذلك تمنى لو لم يكن مشركا فلم يصبه ما أَصابه. وقيل هذا القول منه توبةٌ عن الشرك. وندمٌ على ما وقع منه. فيكون استحداثا للإيمان. لأن ندمه على الشرك فيما مضى. يشعر بأنه آمن في الحال. فكأنه قال آمنت الآن وليت ذلك كان أولًا.
43 -
{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
…
} الآية.
المعنى: ولم يكن لهذا الكافر ولد ولا عشيرة ممن افتخر بهم واستعز، يقدرون على
(1) هذا إذا لم تكن أصبح بمعنى صار، فإن كانت كذلك فلا تشير الآية إلى زمن الهلاك حينئذ.
نصرته بدفع الإهلاك عن جنته أو ردِّ ما هلك، أَو الإتيان بمثله من دون الله. لأنه سبحانه هو الفعال لذلك كله. فهو القادر وحده وبيده مقاليد السماوات والأرض.
{وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} : أَي وما كان ممتنعا عن انتقام الله بما زعم لنفسه من قوة وجاه.
44 -
{هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ
…
} (1) الآية.
هذه الجملة تأكيد وتقرير للآية السابقة والمعنى في هذا الموطن وتلك الحال التي حلَّت بجنته. لن يجد مُنْقِذا له يدفع عنه ما نزل به. لأن النصرة والغلبة لله الحق. فلا يقدر عليها أحد غيره.
واستظهر أبو حيان كون هنالك إشارة إلى الدار الآخرة. ويكون الكلام تم عند قوله: {مُنْتَصِرًا} أَي تقع الموالاة لله الحق يوم القيامة من كل أحد - مؤْمن أو كافر - حين يقع العذاب لقوله سبحانه: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} (2). {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} : أي الله خير جزاءً في الدنيا والآخرة لمن آمن به واتبع سبيله، وخير عاقبة لأوليائه، بمعنى أَن الأعمال التي تكون له سبحانه. ثوابها خير، وعاقبتها حميدة.
وليس ثَمَّ غير الله يُرْجى منه نافع حتى يكون رجاءُ الله خيرا، من رجائه ولكنه ورد حسبما يقع في ظن الجهال لا بحسب الواقع تقريعا لهم وتوبيخا، وقد يقال إن التفضيل هنا على غير بابه، فلا ثواب ولا خير يومئذ إلا لله ظاهرًا وباطنًا.
(1) قرأ الأعمش وحمزة والكسائي الولاية. بكسر الواو والباقون بفتحها وهما بمعنى واحد بمعنى النصرة والغلبة وقيل الولاية بالفتح من الموالاة كقوله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} من الآية 257 البقرة، وبالكسر بمعنى السلطان والقوة، وقال أبو عبيدة إنها بفتح الواو للخالق وبكسرها للمخلوق.
(2)
سورة غافر: آية 84.
المفردات:
{فَأَصْبَحَ هَشِيمًا} : يابسا متفتتا من الهشْم وهو كسر الشيء اليابس.
{تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} : تفرقه وتنسِفه. يقال ذَرَتْه الريح تذْروه ذرْوا: إذا طارت به وفرَّقته، ومثله أذرته تُذْرِيه إِذراء.
التفسير
45 -
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
…
} الآية: أَي اذكر للناس. ولا سيما هؤلاء المتكبرون الذين سألوك طرد فقراء المؤمنين - اذكر لهم - مثل الحياة الدنيا، ببيان ما يُشبهها في زهرتها ونضارتها. وعدم اسقرارها. وسرعة زوالها حتى لا يطمئنوا إليها ولا يعكفُوا على التعلق بها، ولا يعرضوا عن الآخرة دار الجزاء والبقاء.
أوْ بيِّنْ لهم صفتها العجيبة التي تشبه المثل في غرابتها، هذه الحياة:
{كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} : أَي أَنها تشبه حال النبات الذي أنبته الله بماءٍ كثير أَنزله من السماء، فاختلط بهذا الماء نَباتُ الأرض بعد أن روى منه وامتلأت به عروقه، فما وكثر أو اختلط بسبب الماء نباتُ الأرض. فالتف بعضه ببعض بعد أن كثر واستوى على سوقه. هذا النبات الجميل الناضر لم يلبث حتى أسرع إِليه الفناءُ بدون إبطاءٍ.
ويشير إِلى ذلك الإِتيان بالفاء في قوله سبحانه:
{فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} : أي فأصبح متكسرا متفتتا من اليُبْسِ، تفرقه الرياح وتنسفه وتذهب به وتجىءُ، فالمشبه في الآية: الحياة الدنيا في جمالها وزينتها ثم فنائها، والمشبه به: الهيئة المنتزعة من الجملة وهي حال النبات يكون أخضر مهتزا ثم يصير هشيما تطيره الرياح حتى كأنه لم يكن.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} : أي أنه سبحانه على كل شيء من الأشياء - ومن جملتها الإيجاد والإفناءُ - كامل القدرة يفعل ما يشاءُ جل شأنه.
التفسير
46 -
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
…
} الآية.
في هذه الآية بيان لما كانوا يفتخرون به من زينة الحياة الدنيا متمثلة في المال والبنين لأنَّ في المال جمالا ونفعا يصلون به إِلى مآربهم وكل ما تقتضيه حياتهم، وفي الأولاد قوةً ودفعا يبلغون بهما إِلى ما ينشدونه من عزة ومنعة. كما وقع في محاورة الصاحب الكافر لصاحبه المؤْمن حيث قال له على سبيل التعالى والفخر:{أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} .
والمعنى: إن ما تفتخرون به من المال والبنين شيء يتزين به في الحياة الدنيا وقد عرفتم شأنها في سرعة زوالها. وقرب اضمحلالها، فكيف زينتها التي هي صفة من صفاتها، إنها تزول وتفنى قبل زوالها - فلا تجعلوها كل همكم، وتعرضوا عن الآخرة دار الكرامة والجزاء بل اعملوا لخيري الدنيا والآخرة مصداقا لقوله تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (1).
والآية ردٌّ على عيينة بن حصن وأمثاله، الذين افتخروا بالغنى والشرف على الفقراء والمستضعفين من المؤمنين. إِذ بينت لهم أن ما كان من زينة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى، وإنما يبقى ما كان زادًا في القبر، وعدة في الآخرة، حيث قال سبحانه:
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} :
قال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة: الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس وقال ابن عباس في رواية أخرى: هي كل عمل صالح من قول أَو فعل يبقى للآخرة: اهـ
(1) سورة القصص، من الآية 77
فيدخل فيه كل عمل جادٍّ لخدمة الإِسلام والذود عنه بالنفس والمال والمقال، وكل عمل ينصر حقا أَو يدفع باطلا. أَو يعاون محتاجا أو ينشر علمًا - وقال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إِلا بالله العلى العظيم. خرجه مالك في موطئه عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات: إنها قول العبد الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأخرج الإمام أَحمد والحاكم وصححه، وغيرهما عن أبي سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(استكثروا من الباقيات الصالحات. قيل وما هي يا رسول الله قال: التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله).
وهناك أَقوال أخرى في معنى الباقيات الصالحات، وحسبنا ما ذكرناه.
ويدخل في عموم معنى الباقيات الصالحات. أعمال فقراء المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي دخولا أوليًّا، فإن لهم من كل نوع من أنواع الخيرات الحظ الأوفر، وتلك الأعمال باقية دائمة لبقاء عوائدها عند فناء ما تطمح إليه النفس من حُظوظ الدنيا، وحسبها أنها عند ربك وفي كنفه. وتتحقق خيريتها في ثواب جزيل يعود على صاحبها، وأمل عظيم ينال به في الآخرة ما كان يؤمله في الدنيا، كما يشير إلى ذلك قوله جل شأنه:{خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} ، أما زينة الدنيا من المال والبنين فليس لها ذلك إذ هي مضمحلة زائلة حيث نسبت إِلى الحياة الدنيا وهي بما فيها ومن فيها إِلى فناء، فمن اهتم بزينتها وقصَّر في عمل الآخرة. باء بالخيبة والخسران.
وتقديم المال في الآية على البنين لأن الزينة به أظهر، وهوميسور لكل أَحد، في أَي وقت وحين غالبًا.
المفردات:
{نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} : ننقلها ونزيلها من أَماكنها على وجه الأرض. {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} : ظاهرة ليس عليها ما يسترها من جبل وشجر ونبات وبناء {وَحَشَرْنَاهُمْ} : جمعناهم من كل صوب. {فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} : فلم نترك منهم أحدا دون حشر.
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ} : "أل" في الكتاب لجنس الكتب، والمقصود كتب صحائف الأعمال.
{مُشْفِقِينَ} : خائفين مما في كتبهم. {يَا وَيْلَتَنَا} : الويلة الهلاك وحلول الشر والحسرة.
{إِلَّا أَحْصَاهَا} : أي عدها وأحاط بها.
التفسير
47 -
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ
…
} الآية.
يخبر الله سبحانه بهذه الآية وما بعدها عن أَهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، تحذيرا للمشركين وترهيبا.
والمعنى: واذكر لهم أيها النبي يوم ننقل الجبال. ونزيلها من أماكنها. ونسِّيرها على هيئاتها كما نسير السحاب يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ
تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (1). ثم تتشقق وتتفتت فتكون كحبات الرمل المتناثرة كما قال سبحانه:
{وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} (2). ثم تصير غبارا منتشرا تسوقه الرياح حيث أراد الله كما قال تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} (3) وفي نهاية أَمرها. تصبح كسراب يُرى من بعيد حتى إذا جئته لم تجد شيئًا، وذلك لتفرق أجزائها تفرقا تاما كما قال سبحانه:{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} (4). بعد هذا الصنيع من القوى القادر، يظهر سطح الأرض مستويا، لا عوج فيه ولا أَمتا أي لا انخفاض به ولا ارتفاع. ويشير إلى ذلك قوله جل شأنه:
{وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أولكل من تتأتي منه الرؤية، أي وترى الأرض من جميع جهاتها بادية ظاهرة، ليس عليها ما يسترها أويحجب جزءا منها من أودية وكُثْبان، وجبال وأشجار وأبنية وبحار، وزروع وأعشاب، حيث اجتثت جبالها وهدمت أبنيتها، واقتلعت أشجارها، وغاضت بحارها، وانمحت زروعا وأَعشابها وغدت قاعا صفصفا (5). أي أرضا مستوية جرداء.
وقيل بارزة أي برز ما فيها من الكنوز والأموات، كما قال تعالى:{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} (6). واستغنى بذكر زوال الجبال في الآية عن ذكر زوال غيرها. لأنه يُعلم من ذكر زوالها، زوال غيرها بطريق الأولى: إذ هي أعظمها وأَثبتها وأضخمها.
{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} : أَي وجمعناهم إلى الموقف من كل حدب وصوب بعد قيامهم من قبورهم، فلم نترك منهم أَحدا، هانَ شأنه أوعَظُم كما قال سبحانه:{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (7). وأَثر التعبير بالماضى في قوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ} للدلالة على تحقق وقوع الحشر التابع للبعث الذي أنكروه حيث قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} تكذيبا لهم وتقريعا؟.
(1) سورة النمل من الآية - 88
(2)
سورة المزمل الآية 14
(3)
سورة الواقعة الآيتان - 5، 6
(4)
سورة النبأ الآية - 20
(5)
القاع: المستوى من الأرض، وزاد ابن حارس الذي لا ينبت.
(6)
سورة الانشقاق الآية 4
(7)
سورة الواقعة الآيتان 49،
48 -
{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا
…
} الآية.
أي أنهم يُحَضرُون يوم الموقف العظيم لا يتخلف منهم أحد فيقفون مجتمعين غير متفرقين، ليقضى الله بينهم بالحق وفي قوله:{صَفًّا} ما يشير إِلى اجتماعهم صفوفا، وفي الحديث الصحيح:"يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفًا".
وقال مقاتل يعرضون صفا بعد صف لا أنهم صف واحد.
{لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} : تقريع للمشركين المنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رءُوس الأَشهاد، وذلك بأن يقال لهم لقد جئتمونا على هيئة تشبه الهيئة التي كنتم عليها عند خلقكم أَول مرة، حفاة عراة غُرْلا أَي غير مختونين، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرْلا. قلت يا رسول الله الرجال والنساءُ، ينظر بعضهم إِلى بعض قال: يا عائشة الأمر أَشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض". وفي رواية أُخرى "الأمر أشد من أَن يهمهم ذلك".
أَو يقال لهم: لقد جئتم وليس معكم شيء مما كنتم تفتخرون به من الأموال والأنصار لقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (1). أي بعثناكم بعد الموت فرادى كهيئتكم عند خلقكم وإحيائكم أول مرة بلا مال ولا ولد ولا سلطان.
{بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} : انتقال لمواجهة منكري البعث بالتوبيخ والتقريع أي ادعيتم في الدنيا أن لن تبعثوا، ولن نجعل لكم موعدا نُنْجِزُ فيه ما وعدنا من البعث وتوابعه، وقد خاب ظنكم، وكذب زعمكم، وتحقق عيانا ما أَنكرتموه، فقد أَحييناكم بعد موتكم وجئتمونا للحساب.
49 -
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ
…
} الآية.
الآية معطوفة على قوله: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} داخلة تحت الأمور الهائلة العظيمة من أهوال يوم القيامة التي أريد تذكيرهم بها.
(1) سورة الأنعام من الآية - 94
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يضع الكتاب. ويُقصَد به صحائف الأعمال وكتبها، وذلك بِجَعلها في أَيدى أصحابها يأخذ كل منهم كتابه بيمينه أَوبشماله، وحينئذ تُبْصِر العصاة جميعًا خائفين مما في الكتاب من الجرائم التي اقترفوها. والذنوب التي باءُوا بإِثمها، ويدخل فيهم منكروالبعث دخولا أوليًّا.
أي أنهم عند وقوفهم على كل ما فيه وعلمهم بما في تضاعيفه. ترتفع منهم أَصوات الحسرة والحيرة. ويتمنون الموت والهلاك حتى لا يروا العذاب الأليم، وقد دعاهم إلى ما صنعوا، ما وجدوه في الكتاب الذي وضع في يد كل منهم بما يدعوإلى العجب والفزع الذي أشار إِليه قولهم:{مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ} إلخ حيث إنه ليس له نظير ولا مثيل من الكتب الأخرى. فهوعلى حال لم يَتْرك معها صغيرة ولا كبيرة إلا عدها وأحاط بها. قال سعيد بن جبير: إن الصَّغِيرة اللَّمم كالمسيس والقُبَل، والكبيرة كالمواقعة والزنى.
قال قتادة: اشتكى القوم الإحصاء وما اشتكى أَحد ظلما، فإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه، وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتاه ضجوا إِلى الله تعالى من الصغائر قَبْلَ الكبائر.
{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} : أي ما عملوه في الدنيا وجدوه مسطورا في كتاب كل منهم أووجدوه حاضرا بين أَيديهم حالًا غير مؤَجل، أووجدوا جزاء أعمالهم.
{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} :
أَي لا يأخذ أَحدا بجرم أَحد، ولا يأخذه بما لم يعمله، وقد وعد سبحانه بإثابة المطيع والزيادة في ثواب ما عمله مما أمَرَهُ بهِ، وارتضاه منه، كما وعد بتعذيب العاصى بمقدار جرمه من غير زيادة على ما عمل، وأنه قد يغفر له ما عدا الكفر كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1). سبُحانه جل وعلا يفعل ما يشاءُ ويختار.
(1) سورة النساء من الآية 116
المفردات:
{اسْجُدُوا لِآدَمَ} : للسجود معنيان؛ معنى لغوي وهو: التواضع والخضوع تحية وتعظيما بانحناء وغيره لا بوضع الجبهة على الأرض. ومعنى شرعي: بوضع الجبهة على الأرض للعبادة ولا يكون هذا إلا لله تعالى.
{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} : أَي نخرج عن أَمره. لأن معنى الفسق الخروج، من قولهم فسق الرطب فسوقًا إِذا خرج عن قِشْرِه. وفعله فسق كنصر وضرب وكرُم فسقا وفسوقا. وقيل صار فاسقًا بسبب عصيانه أَمر ربه فعن للسببية.
التفسير
50 -
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
…
} الآية.
أي. واذكر أيها الرسول وقت قولنا لهم {اسْجُدُوا لِآدَمَ} سجود تشريف وتكريم وفق المعنى اللغوي للسجود؛ وهو يحصل بانحناء ونحوه دون وضع الجبهة على الأرض، وهذه تحية أبطلها الإِسلام. وأَحل السلام والمصافحة محلها.
أما وفق المعنى الشرعي فلا لأنه لا يتحقق إلا بوضع الجبهة على الأرض قصدا إِلى العبادة وهومأمور به لله وحده. {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} : أَي سجد الملائكة جميعًا امتثالا وطاعة ما عدا إبليس، فإنه لم يكن من الساجدين إباءً منه واستكبارا، وقد حمله على هذا التمرد أَنه {كَانَ مِنَ الْجِنِّ}: فهوأجنبي عنهم حيث خلق من مارج من نار. وخلقوا من نور. فقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"خُلِقَت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار" وهذا ظاهر في أنه ليس منهم بل كان معهم ومعتبرا في عدادهم لوجوده بينهم، ولذا قال الحسن فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أَبي حاتم: "قاتل الله أَقوامًا زعموا أَن إِبليس من الملائكة والله يقول: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} وأخرج عنه ابن جرير وابن الأنبارى في كتاب الأضواء وأَبو الشيخ في كتاب العظمة أَنه ما كان إِبليس من الملائكة طرفة عين، وإنه لأصل الجن كما أن آدم عليه السلام أَصل الإِنس.
ولكون إِبليس عليه اللعنة من الجن، وليس من الملائكة استكبر فاستحب العمى على الهدى، وتنكب الطريق.
{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} : أي فخرج عن طاعته سبحانه - قاله الفراءُ، وأصله مِنْ فسق الرطب إذا خرج عن قشره، وقيل معناه فاسقا كافرا بسبب أمر ربه. بمعنى أَتاه الفسق لما أمر فَعَصَى: فعن للسببية، وقيل ففسَق عن رَدِّ أمر ربه بخروجه عن الطاعة، ففي الكلام مضاف مقدر والفسق يقع على القليل والكثير من الذنوب، ولكن تُعُورف فيما كان كثيرا، وهو أَعم من الكفر.
وذُكِرتْ قصة إبليس هنا لتشديد النكير عليه والتنفير منه، تبعيدا عن المعاصي، وعن امتثال ما يوسوس به، وذلك لا يعد تكرارا مع ذكرها قبلُ، حيث إِن لها فائدة غير الفائدة التي كانت لذكرها قبلا وهي أنه سبحانه لما ذكر يوم القيامة والحشر، وذكر خوف المجرمين ورهبتهم مما سُجِّل في كتبهم من كل صغيرة أَو كبيرة، ناسب الإتيان بها تذكيرا لهم بأن إِبليس اللعين هو الذي حملهم على المعاصي، واقتراف الآثام، واتخاذ الشركاء والأنداد، فهم في ذلك تابعون لتسويله وإغرائه كما ينبىءُ عنه قوله تعالى:
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} : بهذا الاستفهام وبَّخ الله المشركين وأنكر عليهم بعد علمهم بقبائح الشيطان وأباطيله أَن يستجيبوا له فيتخذوه وذريته أولياء وأعوانا لهم من دونه. مع أنهم لا يجهلون حالهم من العداوة والبغضاء لهم، والمراد من {ذُرِّيَّتَهُ} أَعوانه وأشياعه ممن سلك طريقه في الإضلال والإفساد مِنْ شياطين الجن والإنس، وقال ابن عطية في قوله:{وَذُرِّيَّتَهُ} ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسي
الشياطين الذين يأتون بالمنكر، ويحملون على الباطل، ونقل الآلوسي في تفسيره، أَن بعضهم قال: لا ولد له والمراد من الذرية الأتباع من الشياطين وعُبِّر عنهم بذلك مجازًا تشبيهًا بالأولاد اهـ.
وأعدل الأقوال وأَسلمها في المسألة قول القشيرى أبو نصر كما نقله القرطبي: إِن الله أخبر أَن لإِبليس أَتباعًا وذرية، وأَنهم يوسوسون إلى بني آدم وهم أعداؤُهم. ولا يثبت عندنا كيفيةٌ في كيفية التوالد منهم وحدوث الذرية عن إبليس. فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح: اهـ. وهو يتمثل ويتصور، ويظهر ويختفي، ويَرى من حَيْثُ لا يُرى. ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال:"إِن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي فيُحَدِّثهم بحديث الكذب. فيتفرقون يقول الرجل منهم سمعت رجلًا أَعرف وجهه ولا أَعرف ما اسمه يُحَدِّث". وفي التنزيل يقول الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (1).
{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} : أي بئس البدل عن الله تعالى للظالمين: إبليس وذريته، أَو بئس عبادة الشيطان، بدلا عن عبادة الله.
والالتفات من الخطاب في قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ} إلى الغيبة في قوله تعالى:
{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ} مع وضع الظاهر موضع ضمير المخاطبين، ليشير اللفظ الظاهر إِلى أن ما فعلوه ظلم قبيح يؤْذِن بأنهم أَهل لشدة السخط، وبالغ الازدراء.
المفردات:
{مَا أَشْهَدْتُهُمْ} : ما أَريتهم. {عَضُدًا} : العضد ما بين المرفق والكتف من الذراع، والمقصود هنا. المعين أو النصير.
(1) الأعراف: من الآية 27
التفسير
51 -
{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} :
بعد أَن أَبرزت الآية السابقة موضع العجب من اتخاذ هؤُلاء الظالمين إِبَليسَ وذريته أَولياء لهم من دون الله أوضَحت هذه الآية الكريمة عدم صلاحية إبليس وجنوده لأن يكونوا شركاء لله وأَعوانًا له، كما بينت ضلال تابعيهم وغباءهم، حين اتخذوهم أولياء لهم. والمعنى:
أَن الله سبحانه هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما وحده ولم يهيئ لإبليس وذريته مشاهدة هذا الخلق ولا المشاركة فيه. حيث خلقت السماوات والأرض قبل خلق إِبليس وذريته فكيف جعلهم أتباعهم الظالمون أولياء لهم من دون الله، وهم عاجزون عن الخلق والتدبير ولا يعلمون شيئا عن كيفية خلقهم وتدبير أمورهم فإنهم:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (1).
{وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} : ولا ينبغي لي - وأنا القوى العزيز - أن أحتاج إِلى مُعِين أَو نصير يساعدني في الخلق والتدبير من هؤُلاء الضالين المضلين.
المفردات:
{مَوْبِقًا} : أَي مهلكًا يشتركون فيه وهو النار، والموبق اسم مكان من وَبَقَ - كوثب - بمعنى هلك. {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا}: الظن هنا بمعنى التوقع والعلم، أي ترقعوا وأَيقنوا أَنهم مخالطوها واقعون فيها، ومثل ذلك قوله تعالى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُورَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2). أي يوقنون أنهم ملاقوه. {مَصْرِفًا} : مجالا للانصراف أَو الهرب والفرار.
(1) سورة الفرقان: الآية 3
(2)
سورة البقرة: الآية 46
التفسير
52 -
{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} :
واذكر لهم يا محمد يوم الجزاء الذي ينتظرهم طال الزمن أو قصر، يوم يقول لهم العليُّ الأعلى مؤَنِّبًا لهم على اتخاذهم إِبليس وذريته أَولياء لهم من دونه - اذكر يوم يقول لهم - ادعوا شركاءكم الذين عبدتموهم من دوني لينقذوكم من العذاب المحيط بكم؛ وفي هول الموقف ينادي الظالمون شركَاءهم فلا يلبون نداءَهم ولا يستجيبون لاستغاثتهم؛ لأنهم في مهلكهم مشتركون، وفي جهنم خالدون، فكيف يستجيبون؟ ولهذا قال سبحانه:
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} : أي وجعلنا بين الداعين من المشركين والمدعوين من الشياطين، موبقًا ومهلكًا مشتركا وهو النار التي يصلونها جميعًا.
53 -
{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} : وشاهد المجرمون النار فأيقنوا أَنهم واقعون فيها لا محالة. قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الكافر ليرى جهنم ويظن أَنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة". رواه أَحمد وابن جرير.
{وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} : ولم يجدوا مجالا للهرب من هذا المصير الأليم قال تعالى:
(1) سورة العنكبوت، الآية 54
المفردات:
{صَرَّفْنَا} : نَوَّعنا ووضحنا. {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} : المثلُ الحكمة أَو الموعظة.
{جَدَلًا} : مُمَاراةً ومخاصمة. {سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} : أي طريقة الله في المشركين السابقين، والمراد بها العذاب الذي حل بالأمم السابقة حينما أصروا على الكفر والعناد.
{قُبُلًا} : بضمتين جمع قبيل أي أَنواعًا، وأجاز أبو عبيدة أن يكون معناه مقابلة وعيانًا كقراءته قِبَلًا بكسْر ففَتح، فإن معناه كذلك عند ابن عباس.
التفسير
54 -
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ
…
} الآية.
ولقد بينا ووضحنا في القرآن الكريم من التوجيهات الرشيدة والمواعظ الحكيمة، بطرق عديدة وأساليب متنوعة، من القصص والعبر والحكم التي يثْبُتُ بها الحق في الأذهان، ولا تدعُ مجالا للشك والإنكار. وتملك على القارئِ مشاعره؛ لأنها في الغرابة والحسن واستمالة النفس كالأمثال ليتلقوها بالقبول، فلم يمتثلوا.
{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} : وكان الإنسان منذ نشْأته حسب فطرته، أَكثر شيءٍ جدالا في الدفاع عن رأيه بالباطل متلمسًا المعاذير التي يبررها تصرفاته (1)، إلا من عصم الله.
أَخرج الإِمام أحمد والشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه طرق بيت علي وفاطمة ليلًا فقال: ألا تصليان؟ فقال على: يا رسول الله إِنما أنفسنا بيد الله تعالى، إِن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك، ولم يرجع إليّ ثم سمعته يضرب فخذه ويقول:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} .
55 -
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ
…
} الآية.
ساقت الآية الكريمة مثلا من أَمثلة الإِمعان في الضلال واللجاج والجدال بالباطل، مع وضوح الحق وأَسباب الهداية.
(1) يذكر علماء النفس أن كل مخطيء يتلمس تبرير خطئه بما يسمونه "نظرية التبرير" وقد ساق القرآن الكريم أمثلة عديدة مما برر به المشركون عقائدهم وأعمالهم.
والمعنى: وما حمل الناس على ترك الإيمان بعد قيام أَدلته ووضوح حجته، إِلا إِصرارهم على العناد واللجاج، وتحديهم للرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزل بهم العقاب الذي توعدهم الله به، كما أنزله بالأمم السابقة التي أَصرت على الكفر والعناد، وقد حكى الله طلبهم العذاب بقوله:{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1).
{أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} : أو يحل بهم العذاب الأليم عِيانا جزاء إِمعانهم في الكفر والضلال في صور شتى من النكال والوبال، ويجوز أن يكون المعنى أَن الله حال بينهم وبين الإِيمان، لأنهم غير أهل له بما جبلوا عليه من عناد ولجاج، فقد انصرفوا عن دواعي الهدى والرشاد كما قال سبحانه:{ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (2).
المفردات:
{لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} : ليزيلوه ويبطلوه.
{أَكِنَّةً} : أَغطية - جمع كنان.
{وَقْرًا} : ثقلا في السمع، يقال: وَقِرَت أذُنُه وَقْرًا، كفَهم فهِما إذا أصابها ثقل في السمع أَو صمم وَوَقَرَها الله وقرا من باب وَعَدهُ وعْدا.
(1) سورة الأنفال، الآية 32.
(2)
سورة التوبة، من الآية: 126
التفسير
56 -
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} :
وما نبعث الرسل إلى الناس إِلا لتبشيرهم بالمثوبة الحسنى إِن آمنوا باللهِ وأَطاعوه فيما شرعه لهم على ألسنتهم، وإنذارهم بالعقاب الخالد إِن كفروا به وعصوا رسله.
{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (1). فلم يبعثهم الله ليقترح أَقوامهم الآيات عليهم بعد ظهور المعجزات التي أَيدهم الله بها.
{وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} : ولكن الكافرين يستقبلون دعوات الرسل بالإنكار والعناد والمكابرة والمجادلة بالباطل، للقضاء على الحق بعد وضوحه، دون استناد إلى دليل أو برهان، كما قال سبحانه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} (2). ومن أمثلة هذا الجدل الباطل قول مشركي قريش في القرآن الكريم:
{لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (3). وقولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (4). يعنون أَن الرسول ليس من عظماء القريتين، فلا يصح أَن يكون رسولا أنزل عليه القرآن.
{وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} : أَي قابلوا آيات الله البينات بالسخرية والاستهزاء فقد سخروا بحديث القرآن الكريم عن شجرة الزقوم (راجع شرح الآية 60 من سورة الإسراء) كما سخروا بالقرآن، فزعموا أنه سحر وشعر وأَساطير الأولين، كما سخروا بوعيده بالبعث والنشور فقالوا:{أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} (5).
57 -
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} :
ولا أَحد أَشد ظلما لنفسه وللحق مِمَّن أَعرض عن آيات الله البينات وانصرف عن أدلتها الواضحات إِلى الباطل، فأمعن في ارتكاب الذنوب والآثام ناسيا ما جناه على نفسه وعلى الناس من بغي وعدوان.
{إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} : إن الحق واضح، وأصحاب العقول السليمة يدركون الرشد من الغي ويميزون الحق من الضلال، والله سبحانه حال بين
(1) سورة النساء، الآية: 165
(2)
سورة الحج، الآية: 8
(3)
سورة الأنفال، الآية 31
(4)
سورة الزخرف الآية - 31
(5)
سورة الإسراء، الآية: 49
هؤُلاء المشركين وبين الإدراك السليم، فجعل على عقولهم أغشية كراهة أن يفهموه فهمًا يؤَدِّي بهم إلى السلوك السوِيِّ؛ لأنهم طبعوا على الخبث والضلال، وجعل الله في آذانهم صَمَمًا عن الاستماع إلى الحقائق وإدراكها وذلك لانصرافهم عن الحق، وتواصيهم بعدم سماعه، حيث قالوا:{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (1) ولهذا باعد الله بينهم وبين الإِصغاء والاستفادة منه جزاءَ انصرافهم، ولو علم فيهم خيرًا لهداهم وأَسمعهم سماع قبول قال تعالى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (2).
والمقصود من جعل الله الأَكِنةَ على القلوب، والوَقْر في الآذان أن لا يأخذ بقواهم العلمية نحو الحق لإعراضهم عنه.
{وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} : وإِن تدعهم إلى طريق الهدى فلن يستجيبوا لك؛ لأنهم الآن ليسوا أَهلا للهداية، ولأن الهداية ليست بيدك، وإنما هي بيد الله {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وذلك حينما يحين أَوان الهداية، وقد هداهم الله إِلى الحق في فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة.
المفردات:
{الْغَفُورُ} : واسع المغفرة والصفح. {مَوْئِلًا} : ملجأ يلجئون إِليه. {مَهْلِكِهِمْ} : هلاكهم.
التفسير
58 -
{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُوالرَّحْمَةِ} : وربك - أيها الرسول - واسع المغفرة صاحب الرحمة، حيث كتبها على نفسه فضلا وكرما، فلا يعذب أَحدا من عباده المحسنين الطائعين.
(1) سورة فصلت من الآية 26
(2)
سورة الأنفال الآية 23