المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لما بين الله تعالى في الآية السابقة أنه بارك حول - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: لما بين الله تعالى في الآية السابقة أنه بارك حول

لما بين الله تعالى في الآية السابقة أنه بارك حول المسجد الأقصى، جاءَ بهاتين الآيتين ليبينَ بعض البركات الروحية هناك، حيث آتى موسى الكتاب لهداية بنى إسرائيل الذين أسكنهم الله الشام حول المسجد الأقصى، بعد هجرتهم من مصر وخروجهم من التيه، ثم إِن هاتين الآيتين وما بعدهما تعتبر تمهيدًا للحديث عن هداية القرآن للتى هي أقوم، ليعرف بنو إِسرائيل أَنهم لم ينصفوا أَنفسهم حين أَعرضوا عن الطريق الأقوم، والشريعة المثلى، بعدم إيمانهم بالقرآن ومن أنزل عليه القرآن، في حين أنه مَنَّ الله تعالى عليه بهذه المنزلة العلية، حيث أسرى به في بعض ليلة، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى ما وراء سدرة المنتهى، حيث أوحى الله تعالى إلى عبده ما أَوحى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} .

‌معنى الآيتين

وأَعطينا موسى الكتاب في ألواح مشتملة على التوراة، وجعلنا هذا الكتاب هاديًا لبني إسرائيل إلى الحق، بعد أَن دانوا في مصر بعبادة العجل الذي كان يعبده الفراعنة، وقد أَعطينا موسى هذا الكتاب لكيلا تتخذوا سواى ربا تكلُون إِليه أموركم يا ذرية من حملناهم في السفينة مع نوح، وأنجيناهم من الغرق، إن نوحًا كان عبدًا، شكورًا لنا، فلم يتخذ ربا سوانا، وكذا من حملناهم في السفبنه معه، فلهذا حفظناهم من الطوفان وأغرقنا سواهم، فكونوا يا بني إسرائيل على سنة من أنجيناهم من الغرق من أَهل التوحيد، لتكونوا بمنجاةٍ من عقوبة أهل الشرك.

وفي التعبير عن بني إسرائيل، بذرية من حملنا مع نوح، تذكير بفائدة التوحيد وأَثره في الدنيا، وتحذير في الشرك وعقوبته، كما أن فيه إشارة إلى أن غيره تعالى من الوكلاء والأرباب المزعومة، لا تستطيع أَن تأتي بمثل هذه الآية الكبرى التي تتمثل في الطوفان العالي لإغراق من لم يعبدها، وفي السفينة لإنجاء من عبدها، فهي أحقر من أَن تهلك أَو تنجى ذبابة، فسبحان الكبير المتعال الذي ينجي المؤمنين ويهلك الكافرين، بما لا يتصوره البشر ولا تطيق مثله جميع القوى والقدر.

وأجاز بعض العلماء عود الضمير في قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} إلى موسى عليه السلام، تعليلا لإيتائه الكتاب، فكأنه قيل وآتينا موسى الكتاب هداية لقومه؛

ص: 718

كان عبدًا شكورا، وما اخترناه أظهر وأَولى، لما فيه من رجوع الضمير إلى أقرب مذكور، وهو نوح عليه السلام.

{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)}

المفردات:

{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} : أَي أوحينا إليهم (1) على سبيل الجزم والقطع.

{فِي الْكِتَابِ} : أَي في التوراة، {فِي الْأَرْضِ}: أي في جنس الأرض، أو هي الشام وفيها بيت المقدس. {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}: العلو، الارتفاع، والمراد به هنا الاستكبار والتغلب على الناس بالظلم. {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ}: سلطنا عليكم. {عِبَادًا لَنَا} : أَي ناسا مملوكين لنا كي يؤدبوكم، ولا يقتضى وصفهم بالعبودية أَن يكونوا مؤْمنين فالكافر والمؤمن عباد مملوكون لله، تجري عليهم أَحكامه.

{أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} : أصحاب قوة وبطش شديد في الحروب. {فَجَاسُوا (2) خِلَالَ الدِّيَارِ} : أي ترددوا بينها لطلبكم وعقابكم. {وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} : أي وكان ما ذكر من إرسال العباد ليعاقبوكم، وعدًا نافذًا لا مفر من وقوعه، والوعد يستعمل في الخير والشر، ويفرق بينهما بحسب المقام، وقد يفرق بينهما لفظًا، فيقال في الخير وعَدَ، وفي الشر أوعدَ ومنه قول الشاعر:

وإني وإن أَوعدته أَو وَعَدتُه

لمُخْلفُ إيعادى ومنجزُ موعدى

وقد يقال في الخير وَعْدٌ وفي الشر وَعِيدٌ.

(1) تفسير القضاء بالإيحاء لتعديه مجرف (إلى) وفي إحدى الروايتين عن ابن عباس أن المعنى (وقضينا عليم) فتكون إلى بمعنى علي.

(2)

الجلوس طلب الشيء باستقصاء.

ص: 719

التفسير

4 -

{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} الآية.

بين الله تعالى في الآية السابقة أَنه أعطى موسى التوراة ليستهدي بها بنو إسرائيل، جاءت هذه الآية لتبين أنهم انحرفوا عنها وأفسدوا في الأرض مرتين، مخالفين ما أَمرهم الله به في التوراة من الصلاح والاستقامة.

والمعنى: وأوحينا إِلى بني إسرائيل في كتابهم التوراة، أَو قضينا عليهم بسبب انحرافهم عن هداه، لتفسدن في الأرض التي تعيشون عليها في الشام، أو في جنس الأرض - لتفسدن فيها - مرتين، ولتستكبرن استكبارًا كبيرًا على الله تعالى، فلا تلتزمون بهداه، وعلى الناس فتغلبونهم وتظلمونهم وتسيئون إليهم، وتحديد هاتين المرتين اللتين أفسدوا فيهما متعذر لأنهم قد أفسدوا مرات كثيرة منذ نزلت التوراة حتى الآن، ومما جاء في إِفسادهم، أنهم لما مات ملكهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا، ولم يسمعوا النصح من نبيهم زكريا، بل عدوا عليه وقتلوه، وقد رواه ابن إسحاق، وفي الكشاف أن أولاهما قتل زكريا وحبس أَرميا، وثانيتهما قتل يحيى وإرادة قتل عيسى عليهم السلام ومنها أنهم في سنة (71) إحدى وسبعين بعد الميلاد حاولوا أَن يثيروا المتاعب للرومانيين فبطش بهم القائد الروماني (صيطس - أوتيتوس) وقتل منهم خلقًا كثيرين، وخرب هيكلهم المقدس الذي كانوا يفاخرون به الأمم، ويباهون بضخامته وما فيه من آنية الذهب والفضة، فتفرق كثير منهم في الأرض، وذهب بعضهم إلى الحجاز، فتكون منهم يهود بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع حول المدينة، ويهود خيبر وغيرهم كما فر بعضهم إِلى الشام ومصر وغيرهما.

ومن هاجر منهم إلى الحجاز اختاروها لأنهم قرءوا في التوراة خبر نبي يبعث من بين إخوتهم، وهم بنو إسماعيل، وأن دينه سيذيع وينتشر من يثرب - أي المدينة - فلذا أقاموا حولها ليؤَازروه، حتى يعيد إليهم مجدهم وكانوا إذا تحاربوا مع الأوس والخزرج قبل البعثة وانتصروا عليهم، قالوا لكليهما: سيبعث نبي من بني إسماعيل وسنؤمن به ونقتلكم

ص: 720

معه قتل عاد وإرم، وكانوا أحيانا يخرجون التوراة ويضعون أصابعهم على اسمه صلى الله عليه وسلم، ويستفتحون به علي أعدائهم، فكانوا يقولون اللهم إنا نسألك بحق نبيك الذي وعدتنا أَن تبعثه آخر الزمان، أن تنصرنا اليوم على عدونا فينصرون، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، قال تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (1). وفي سنة 135 ميلادية ثاروا مرة أخرى على الرومان، فاحتلوا المنطقة اليهودية في القدس ودمروها وقتلوا أهلها، وهدموا هيكلها من جديد، وحرثوا أرضه، وبنوا مكان المنطقة اليهودية مدينة أخرى حرموها علي اليهود (2). إلى غير ذلك من حوادث الإفساد.

وترتيبها زمنا أَو أثرا لتعرف المرتان المقصودتان من الآية الكريمة فيه صعوبة إن لم يكن متعذرًا، ولهذا قال الجبائي: إن الله تعالى ذكر إفسادهم في الأرض مرتين، ولم يبين ذلك فلا يقطع بشيء مما ذكر.

5 -

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} :

أي فإذا جاء موعد عقابكم على أولى مرتَيْ إفسادكم في الأرض، سلطنا عليكم عبادا لنا أَصحاب قوة شديدة وبطش في الخروب، فترددوا بين دياركم وتخللوها طلبًا لكم، وكان العقاب الموعود علي تلك الإفسادة وعدًا نافذًا لا خلف فيه، قال القرطبي في هؤُلاء العباد: هم أهل بابل، وكان عليهم بختنصر (3) في المرة الأولى حين كذبوا أَرمياء وجرحوه وحبسوه، قاله ابن عباس وغيره، وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد: انتهى كلام القرطبي.

وقال الآلوسى: الجمهور على أن في هذه البعثة خرب هؤلاء العباد بيت المقدس ورقع القتل الذريع والجلاء والأسر في بني إسرائيل، وحرقت التوراة: اهـ

ولا تغفل عما قلناه من أن تعيين المرة الأولى وعقابها اجتهادى لا قطعي.

(1) سورة البقرة: الآية 89

(2)

وكان ذلك بقيادة الحاكم الروماني هارديان.

(3)

وهو المعروف عند المؤرخين باسم نبوخذ

ص: 721

{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)}

المفردات:

{رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} : جعلناكم تغلبونهم بعد أَن غلبوكم، وأصل الكرة الرجعة، وإِطلاقها على الغلبة هنا لما فيه من الرجوع إليهم بعد هزيمتهم منهم.

{أَكْثَرَ نَفِيرًا} : النفير والنافر من ينفر مع الرجل من عشيرته لمؤازرته والمراد من قوله {أَكْثَرَ نَفِيرًا} أكثر عددا بما كنتم أو من أَعدائكم (1). {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} : أي وإن أَسَأتم فعليها، فاللام هنا بمعنى على. {وَعْدُ الْآخِرَةِ}: وعد المرة الآخرة من مرتَيِ الإفساد.

{لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} : ليظهروا المساءة عليها بسبب ما نالكم من أَذاهم.

{وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} : المراد بالمسجد هنا بيت المقدس {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} : وليهلكوا ما غلبوه واستولوا علية إِهلاكا شديدا. {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} : وإن عدتم للإفساد عدنا للعقوبة.

{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} : وجعلناها لهم سجنا يحصرهم ويحبسهم (2) ويمنعهم من الإفلات.

(1) قيل النفير مصدر، وفعله نفر بمعنى خرج، أي أكثر خروجا للغزو، قال الشاعر:

فأكرم بقحطان من والد

وبالحميريين أكرم نفيرا

(2)

من الحصر وهو الحبس وهو إما اسم جامد لا يلزم تأنيثه مع المؤنث، وإما وصف بمعنى فاعل، علي أنه صيغة نسب سماعية، أي ذات حصر ومنسوبة إليه، كما في لابن وتامر أي من منسوب إلى اللبن والتمر.

ص: 722

التفسير

6 -

{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} :

أَي ثم رددنا لكم الدولة والغلبة ورجعناها لكم على من غلبوكم وتسلطوا عليكم وذلك بعد أَن صلحت أحوالكم واستقامت أموركم، واتحدت كلمتكم، وعملتم بنصائح أَنبيائكم، وأمددناكم بأموال كثيرة بعد ما نهبت أَموالكم، وأمددناكم ببنين بعد ما سبيت أولادكم، وجعلناكم أَكثر رجالا ينفرون معكم للقتال، بعد ما قل رجالكم الذائدون عنكم، فاستطعتم بما أمددناكم به من هذه النعم، أن تستردوا حريتكم وتعود إِليكم دولتكم، وينتهى استعباد أعدائكم لكم.

ويفسر أَبو حيان في البحر إعادة الكرة عليهم بقوله: إِن ملكا غزا أَهل بابل، وكان بختنصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفا، ممن يقرءون التوراة، وأبقى عنده بقية في بابل فلما غزاهم ذلك الملك وغلب عليهم تزوج امرأة من بني إِسرائيل فطلبت منه أن يرد بني إسرائيل إلى ديارهم ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن مما كانوا، انتهى.

ولعل أَبا حيان يشير بما يقول إلى غزو الفرس لأهل بابل، ففي سنة 539 قبل الميلاي غزا الفرس فلسطين واحتلوها بعد أَن احتلوا بابل، وأَلحقوها بدولتهم قرنين من الزمان، وفي عهدهم عادت قبيلة يهوذا من بقايا الأسر البابلى إلى القدس، وأعادت بناء الهيكل من جديد.

وقيل رد الكرة: بأن سلط الله تعالى داود على جالوت فقتله، وعادت الدولة إليهم بملك طالوت عليهم، وتلاه داود عليه السلام، ثم سليمان ثم انقسموا وتحاربوا، فسلط الله عليهم عباده للمرة الثانية، وستأتي بقية الحديث عن ذلك بمشيئة الله تعالى.

7 -

{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} :

بعد أَن بين الله تعالى أنه رد لهم الكرة علي أَعدائهم ونصرهم، جاءت هذه الآية، لتبين أَن ما نالهم من العقاب أَولا والنصر ثانيا إنما يجري على قاعدة الجزاء العادل فإن هم أحسنوا أُثيبوا، وإن هم أساءُوا عوقبوا.

ص: 723

والمعنى: إِن أحسنتم يا بنى إسرائيل بعودتكم إلى طاعة ربكم، كانت منفعة هذا الإحسىان لكم، حيث يثيبكم عليه فى الدنيا النصر والثراء وكثرة الأولاد، وإِن أَسأْتم بالبغي والطغيان والاستعلاء، كانت مضرة هذه الإساءة عائدة عليكم، وقد عرفتم هذا الدستور الإلهي، فيما تناوب عليكم من الضراء أولا بسبب إفسادكم الفظيع أَول مرة، والسراء ثانيًا حينما تبتم إِلى الله، وعرفتم طريق الصلاح والاستقامة.

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} :

فإذا جاء عقاب المرة الآخرة من الإفساد والاستعلاء الكبير على الناس، بعثنا عليكم يا بنى إسرائيل عبادًا لنا أقوياء أشداء لكي يعاقبوكم على المرة الثانية من الإفساد، وليظهروا بهذا العقاب العنيف آثار المساءَة الشديدة على وجوهكم من الحزن والخوف والرعب، والصفرة والحيرة -فإن الأعراض النفسية تتجلى آثارها واضحة على الوجوه- وبعثناهم أَيضًا ليدخلوا المسجد الأقصى -بيت المقدس- بالسيف والقهر والغلبة والإذلال كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ويهلكوا ما علوْه وغلبوه واستولوا عليه تتبيرا وإِهلاكا شديدًا لا يوصف واختلف فى المبعوث لعقاب بنى إِسرائيل فى هذه المرة، فقيل هو الإسكندر وجنوده، وقيل هو ملك من ملوك الطوائف اسمه "بيردوس"(1)، وهؤلاء الملوك ظفروا بعد أَن استولى الإسكندر على الفرس وقتل "دارا" ملكهم، فقامت من بعده دولة ملوك الطوائف، وعددهم يربو على سبعين ملكا، ومدة ملكهم خمسمائة واثنتا عشرة سنة وكانت هذه العقوبة على قتلهم نبيهم يحيى عليه السلام، وكان بين عقوبة بختنصر لهم وهذه العقوبة نحو سبعمائة وخمسة وثلاثين عاما، وبينها وبين قتل الإسكندر لدارا نحو ثلاثمائة سنة، وقيل غير ذلك، انظر الآلوسي.

وقال بعض العلماء الأجلاء: إِن معرفة الأقوام المبعوثين بأعيانهم وتاريخ بعثهم وتعيين سبب العقوبة مما لا يتعلق به كبير فائدة، إذ المقصود أَنه لما كثرت معاصي بني إسرائيل، سلط الله عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أُخرى: اهـ.

وهذا أسلم والله تعالى أعلم.

(1) وقد رجح هذا الرأي صاحب الكشاف.

ص: 724

8 -

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} :

أي لعل الله تعالى يرحمكم بعد العقاب بالبعث الثاني، إِن تبتم عن المعاصي، ولازمتم طاعته، فيكف عنكم عقابه وانتقامه، ويبدلكم من بعد خوفكم أمنا، وإن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى عقابكم في الدنيا، على نحو ما حدث في عقاب المرتين السابقتين أَو أَشد أو أَدنى حسب درجه آثامكم، وجعلنا جهنم لجميع الكافرين منكم ومن غيركم سجنا حاصرا لهم ومحيطا بهم، فلا مهرب لهم منه، فاحذروا العودة إلى آثامكم، لكي تنجوا من عقوبة الله في الدنيا والآخرة، ولقد عاد هؤلاء إلى الإفساد مرة بعد أخرى، فسلط الله عليهم من دمرهم وشتتهم في بقاع الأرض، وتراهم دائما يتجمعون في مكان واحد، تتجمع فيه بيوتهم، ويغلقون مسالكه حتى لا يعرف أحد أَسرارهم، وليأمنوا الاعتداء عليهم ممن يتآمرون ضدهم وقد تآمروا على النبي صلى الله عليه وسلم وقصدوا قتله، فسلطه الله على بني قريظة، فقتل رجالهم، وأجلى بني النضير وقاتل أهل خيبر، وضرب الجزية على من بقي منهم حول المدينة.

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)}

المفردات:

{يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} : يرشد للطريقة التي هي أعدل (1).

(1) قيل إن التفضيل هنا غير مراد، فالمقصود أنه يهدي إلى الطريق المستقيمة دون سواها إذ لا مشاركة بين طريق القرآن وسواها في الاستقامة، وإلى ذلك ذهب أبو حيان والرازى وخلاصته أن أفعل التفضيل هنا علي غير بابه، وفي ذلك يقول تعالى {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} .

ص: 725

{أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . أعددنا لهم عذابا شديد الإيلام.

{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ} : أي يطلبه لنفسه، وكُتِبَتْ (يَدْعُ) في المصحف بدون واو مراعاة للنطق، وأصلها يدعو بالواو بعد العين.

{دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} : أَي يدعو لنفسه بالشر مثل دعائه لها بالخير فلا يفرق بينهما لجهله.

التفسير

9 -

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} :

بين الله فيما تقدم أنه تعالى أَعطى موسى كتاب التوراة وجعله هدى لبني إسرائيل، وأنهم لم يعملوا به، بل أفسدوا في الأرض، وجاءت هذه الآية والتي بعدها لبيان أَن هذا القرآن أعطاه محمد صلى الله عليه وسلم لكي يهدى الناس جميعًا إلى ملة الإسلام، فإنها أَقوم الملل، وأن علي جميع الخلق أن يؤمنوا به ومنهم أهل الكتاب.

والمعنى: إِن هذا القرآن الذي أَنزلناه عليك يا محمد يهدى الي الملة التي هي أقوم الملل وأعدلها وهي ملة الإِسلام إلى الله، والتوحيد الخالص من كل شوائب المشرك، والتنزيه له تعالى عن شوائب المماثلة للبشر، وعن سمات النقص التي لم تتورع عنها الملل والنحل المختلفة وكما يهدى إِلى الملة التي هي أقوم يبشر المؤمنين بأحكامه وعقيدته، الذين يعملون الأعمال الصالحة التي دعاهم إليها - يبشرهم - بأن لهم في مقابل إيمانهم وصالح أعمالهم أَجرًا كبيرًا في ذاته وفي أوصافه الكريمة، ينالونه في جنة عرضها السماوات والأرض أُعدَّت للمتقين.

10 -

{يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} :

معطوف علي ما بُشِّرَ به الذين آمنوا داخل في حيز البشارة لهم، فكأنه قيل: يبشر المؤْمنين الصالحين بأجر كبير لهم، ويبشرهم أيضًا بأن أَعداءهم الذين لا يؤمنون بالآخرة الإيمان الصحيح، أَعددنا لهم فيها عذابا مؤلما، فإن الانتقام من العدو سرور يستحق أن يبشر به عدوه، وبخاصة إذا كانت العداوة من أجل الحق تبارك وتعالى (1).

(1) ومن أجل ذلك يسخر المؤمنون من الكافرين في الآخرة، قال تعالى:{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} الآيات 34 ، 35 ، 36 من سورة المطف

ص: 726

ويصح أن يراد من البشارة مطلق الإخبار الشامل للإخبار بما يَسُرُّ وبما ليس كذلك على سبيل المجاز، ومن استعمال التبشير في العذاب قوله تعالى في سورة النساء:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (138) وفي سورة التوبة: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (34).

11 -

{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} :

بينت الآيتان السابقتان منزلة القرآن الكريم من الهداية للطريقة التي هي أقوم، وبشارته للمؤمنين بحسن المثوبة، وإنذاره للكافرين بشديد العقوبة، وجاءت هذه الآية لتبين أَن الإنسان لم يراع مصلحة نفسه حيث يطلب الشر ويتعجله بدل الخير، والمراد بالإنسان الجنس، وقد أُسند إليه حال بعض أفراده وهو الكافر والعاصى، أو حاله بصفة عامه في بعض أَحيانه.

والمعنى على الأول مع ربطه بما سبق: أن هذا القرآن يهدى إلى الملة والشريعة التي هي أقوم ولكن الإنسان الكافر والعاصي يدعو لنفسه بالشر - أَي يطلبه لها - بكفره وعصيانه - يدعو لنفسه بهذا الشر مثل دعائه بالخير وطلبه لها، من غير تفرقة بين ما يؤَدي به إلى العقوبة وما ينتهي به إلى المثوبة جهلًا منه وسوء تمييز، وكان الإنسان بطبعه مبالغا في العجلة حيث سارع إلى ما يؤدي به إلى الضرر بغير تريث ولا مبالاة،، تجاهل ما ينتهى به إلى الخير والمنفعة عاجلها أَو آجلها، ولو تريث وفكر لاختار الإيمان والطاعة لحسن عاقبتها، ولنبذ الكفر والمعصية لسوء منقلبها، وقد منحه الله العمل ليقوم به غرائزه فلا عذر له في إهداره وعدم الانتفاع بتقويمه.

والمعنى على الثاني: إِن هذا القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير، وهو في بعض أحيانه يترك الدعاءَ بالخير ويدعو الله لنفسه وماله وأَهله وولده بالشر لمرض أَصابه أو غضب حل به، أَو ضجر من بليّة ومحنة، وكان الإنسان بحسب غريزته وجبلته شديد العجلة، لا يميل إلى التأني حتى تزول المحنة أَو العارض الذي استتبع دعاءه، ولو تأنى وتذرع بالصبر الذي يدعو إليه العقل والشرع، لآثر الدعاء بالخير بدل الدعاء بالشر.

وقد جاءَ النهي عن ذلك صريحا، فقد أخرج أَبو داود والبزار عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تدْعوا عَلَى أَنفسِكم لَا تدْعُوا عَلَى أولَادِكم لَا تدْعُوا عَلَى أَموَالِكم، لئِلا توَافِقوا مِن الله تعَالى ساعَة فِيها إِجَابَة فيستجيب ل

ص: 727

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)}

المفردات:

{آيَتَيْنِ} : علامتين ودلالتين على وجود الله وسائر كمالاته.

{فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} : أَي أزلنا ظلمته بضوء النهار. {مُبْصِرَةً} : أَي مبصرا أَهلها في ضوئِها، وإنما أسند الإبصار لفظًا إلى آية النهار على سبيل المجاز؛ لأنها سبب الإبصار.

{لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} : لتطلبوا رزقا من خالقكم ومربيكم.

التفسير

12 -

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} :

بين الله قبل هذه الآية أن هذا القرآن يهدي للتى هي أقوم، ويبشر المؤمنين، وينذر الكافرين، وجاء بهذه الآية ليهدينا بها إلى الطريق العقلى الهادي إلى معرفة الله، وهو النظر في آياته الكونية.

والمعنى: وجعلنا الليل والنهار في تعاقبهما واختلافهما طولا وقصرا، حسب اختلاف مطالعهما ومغاربهما، وفي تباينهما ظلمة وضياء حسب ظهور الشمس ومغيبها - جعلنا الليل والنهار في ذلك كله علامتين تهديان العقل إلى أَن لهما صانعا حكيما، ومدبرا علمًا، وقادرا عظيما، ثم فصَّل حال الليل والنهار وفائدتهما فقال سبحانه:{فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} (1): أي فجعلنا الليل الذي هو آية وبرهان على خالقه، جعلناه ممحوّ الضوء مطموسه مظلما لا يستبين فيه شيء: كما قال سبحانه: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} ويجوز أن يكون المعنى: فأزلنا

(1) إضافة آية إلى الليل بيانية، يعني آية هي الليل ، وكذا يقال في آية النهار.

ص: 728

ظلمة آية الليل بالضوء الباهر والنور الساطع المنبعث من الشمس المشرقة.

{وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً

} الآية.

أَي وجعلنا النهار الذي هو آية على بارئه ومدبره - جعلناه مضيئا، بحيث تتبين به المسالك والدروب وأسباب الأرزاق، لكي تبتغوا وتطلبوا في ضوئه رزقا من فضل ربكم لا يتيسر لكم في ظلام الليل، ولتعلموا بتفاوت الليل والنهار وتعاقبهما وسائر أَحوالهما، عدد السنين التي مرت بكم، وحساب الشهور والأيام والليالى، وغير ذلك مما ترتبط به مصالحكم ومعايشكم وعباداتكم.

{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} :

أي وكل شيء يرتبط بمعايشكم ومنافعكم الدنيوية والأخروية، بيَّنه الله سبحانه في القرآن تبيينا تاما لا التباس فيه ولا خفاء، كما جاء في قوله لرسوله:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وبهذا ظهر كون القرآن هاديا للتى هي أَقوم ظهورا بينا.

واعلم أَن القرآن اشتمل على قواعد كلية للعقائد والشرائع، وأما التفاصيل الجزئية فقد أَحالها الله تعالى على نبيه لتبيينها، وذلك في قوله سبحانه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1).

فالصلاة في القرآن أَوجبها الله بنحو قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} ولم يتعرض لكيفية أَدائها وبيان أَوقاتها، وقد تكفل الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان ذلك بوحى من الله تعالى.:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} (2).

(1) سورة النحل: الآية 44

(2)

سورة النجم: الآيات 3 - 5

ص: 729

{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)}

المفردات:

{طَائِرَهُ} : أَي عملة من خير أَو شر، وقيل المراد رزقه وأَجله وعمله وجميع ما قدره الله له. {فِي عُنُقِهِ}: تمثيل لشدة لزوم عمله له. {يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} : أي يجده مبسوطا غير مطوى.

{حَسِيبًا} : أي حاسبا عملك لك أو عليك.

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} : الوزر في اللغة الحمل مطلقًا، المراد به هنا الذنب، أي ولا تتحمل نفس حاملة للوزر ذنب نفس أخرى.

التفسير

13 -

{وكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} :

فسر بعض العلماء الطائر هنا بالعمل - خيرًا كان أَو شرًّا - وفسره آخرون بجميع ما جرى به القدر وأَحاط به العلم من الرزق والأجل والعمل والشقاوة والسعادة وسائر أحوال الإنسان، وإِطلاق لفظ (الطائر) على هذا أو ذاك على سبيل المجاز، فكأنما يطير إِلى العبد من عُش الغيب الذي علمه الله أزلا في شأن عبده. وتفسير الطائر بالعمل هو الذي نختاره في تفسير الآية؛ لأنه المناسب لقوله تعالى في آخرها:{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} .

ص: 730

أَي ونخرج للإنسان يوم قيامِ الناس من قبورهم وبعثهم لحساب ربهم - نخرج له كتابا يحوي تفاصيل أعماله خيرها وشرها، يلقاه منشورا مبسوطا أمامه ليقرأه بنفسه، ويتعرف على حسناته وسيئاته، أخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال: يَا ابْنَ آدَمَ بُسِطَتْ لكَ صَحيفةٌ وَوُكِّلَ بكَ مَلكانِ كريمَانِ، أَحدُهُمَا عن يَمينك، والآخر عن شمالك حتى إِذَا مِتَّ طُويتْ صَحيفَتُكَ فَجُعِلتْ في عُنقِك قبرِكَ، حَتى تَجِيء يَومَ الْقيَامَةِ فَتُخْرَجُ لَكَ": اهـ والمقصود من جعلها في عنقه ارتباطها بصاحبها معنويا لا حسيا؛ لأن الإنسان يفنى في قبره، ولهذا قال الحسن في آخر عبارته، (حتى تَجيء يَومَ القِيَامَةِ فتخرج لك) وبعد أَن عرفنا أن أعمالنا تسجل علينا بهذه الآية الكريمة، وبنحو قوله تعالى:"ما لْفِظُ مِن قَوْل إلَاّ لَدَيْهِ رَقيِب عَتِيدٌ" وأَنها تنشر يوم القيامة، فلهذا ينبغي للغاقل أن لا يملي على الملكين الكاتبين لصحيفته إلا الأعمال الصالحة التي يفرح ويسعد بنشرها وقراءتها يوم القيامة، ويدعو غيره إِلى قراءتها فرحًا بها وبحسن عاقبتها كما حكاه الله تعالى عن السعيد الذي أوتي صحيفته بيمينه بقوله:{هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)} (1). وهَذَا القول يصدر منه بعد. أن يقرأَ كتابه، تنفيذا لأمر الله تعالى إياه بقوله لكل مكلف سعيدًا كان أو شقيا:

14 -

{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} : فإذا قرأَه وعرف منه حسن عاقبته قال ذلك.

والمعنى: يقال لكل إِنسان بعد أن يجد كتابه منشورا مسجلا فيه عمله اقرأ كتابك كفى بنفسك حاسبا عليك سيئاتك، وحاسبا لك حسناتك، فكل ذلك واضح مسطور في الكتاب، كما قال تعالى:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (2) وكما ترى المجرمين مشفقين مما فيه ترى الصالحين مستبشرين فرحين بما فيه كما تقدم بيانه.

(1) سورة الحاقة: الآيات 19 - 23

(2)

سورة الكهف: الآية

ص: 731

والآية ظاهرة في أَن كل مكلف يستطيع قراءة كتابه وإن لم يكن في دنياه قارئا، ولهذا كلف الله كل إِنسان بقراءة كتابه، قال قتادة: يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن قارئا في الدنيا، ومن العلماء من فسر كتاب الإنسان بنفسه، فإن ما يصدر عنه من خير أو شر يطبع في نفسه وينقش في روحه، وهي في دنياها مشغولة بواردات الحواس المتجددة مشغولة عن هذه الآثار المنقوشة فيها والثابتة على صفحتها، فإذا انقطعت علاقتها بتلك الحواس قامت قيامة الإنسان، وأدرك كل ما صدر عنه من خير وشر منقوشا وثابتا في نفسه وروحه، بعد أن انكشف عنها الغطاءُ بالموت الجسدى، وكما يظهر ذلك من نفسه عقب موته، يظهر له منها في ساحة القيامة يوم النشور، فيقال له حينئذ: اقرأ كتاب نفسك واذكر أعمالك، كفى بنفسك مُحاسِبة لك بما ثبت فيها من عملك، ومعلوم أَن العبد إذا مات قامت قيامته الصغرى وأحسّ من نفسه بمصيره الذي ينتظره، فإذا بعث قامت قيامته الكبرى وكان الحساب والجزاءُ.

ويقرب هذا المعنى للذهن أن الإنسان بدواعي المعاني يتذكر في دنياه أمورا مضى عليها عشرات السنين، وذلك ناشيء من انطباع صور الحوادث في نفسه.

15 -

{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} :

بين الله فما سبق أَن هذا القرآن يهدى للتى هي أقوم، ويبشر المؤْمنين المهتدين بالأجر الكبير، وينذر الكافرين بالعذاب الأليم، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يطلب لنفسه الشر طلبه للخير، فإن عمله ملازم له إلى يوم القيامة، وجاءت هذه الآية لتبين أَن المهتدى بهدى القرآن هو الذي ينتفع باهتدائه، وأن من ضل عنه فهو الذي يُضَر بضلاله، أَما المولى سبحانه فإنه لا ينتفع بطاعة عباده، ولا يضر بمعصيتهم، وأَما الرسول صلى الله عليه وسلم فليس عليه إلا البلاغ.

والمعني: أن من تأثر بمواعظ القرآن، وتفتحت بصيرته لمعارفه، واهتدى بهداه فلا تعود منفعة ذلك إِلا عليه وحده، وأن من انحرف عن سبيله، وضل عن طريقه فلا يعود وبال ضلاله إلا عليه وحده دون سواه، وتعالى الله أَن تنفعه طاعة المهتدي، أَو

ص: 732

تضره معصية المنحرف، وما على الرسول إلا البلاغ المبين، وقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة جزاه الله عن دينه خير الجزاء.

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} :

هذه الجملة مؤكدة لمضمون الجملة السابقة، أَي ولا تحمل نفس مثقلة بوزرها وحاملة لذنبها - لا تحمل ذنب نفس أخرى، فكل امرئ بما كسب رهين، فلو أَمر شخص آخرٌ بمعصية، ووعده بأن يحمل عنه عقوبته، فوعده كاذب وكلاهما مسئول، فالآمر بالمعصية مسئول عن أَمره بها ومعاقَب عليها، ومنفِّذ المعصية مسئول عن تنفيذها ومعاقب عليها، روى عن ابن عباس أَنها نزلت في الوليد بن االمغيرة لما قال: اكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعليَّ حمل أَوزاركم: اهـ وفي ذلك بقول الله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (1). فإن قيل إنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِن الميت يُعذبُ بِبكَاء أَهْلِهِ عليه" فإن فيه أَخذ الإنسان بجزم غيره وقد أجيب عنه بأن الحديث محمول على ما إذا أَوصى بذلك قبل أَن يموت، أَو أنه يتألم لمعصية أَهله ببكائهم عليه وشقّهم الجيوب من أَجله، وعدم رضاهم بقضاء ربه، فهو لهذا يعذب نفسيا، وأَما قوله تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فكل من المضل والضال حمل ذنب نفسه لا ذنب غيره، فالمضل حمل ذنب إضلاله لغيره، وغيره تحمل وزر ضلاله بسببه، فالجهة منفكة، وكل ما جاء على هذا النمط يُؤَول هذا التأويل.

{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} :

بعد أَن بين الله تعالى أَن عاقبة الهدى والضلال لا تعود إلا على صاحبيهما، جاءت هذه الجملة لتبين عظيم رحمة الله وعدالته وفضله.

والمعنى: وما صح ولا استقام في حكمتنا وسنتنا أن نعذب أحدًا بنوع بما من العذاب دنيويا كان أَو أخرويًا - على فعل شيءٍ أَو ترك آخر، حتى نبعث رسولا يهدى إلى

(1) العنكبوت: آية 12.

ص: 733

الحق، وينهى عن الباطل، ويقيم الحجج ويبين الشرائع، حتى تتم أسباب التكليف وتقوم به حجة الله على خلقه.

واستدل الأشاعرة وفقهاءُ الشافعية بالآية على أن أهل الفترة ناجون وقد أَطلقوا القول فى ذلك.

وبما أنه قد صح تعذيب جماعة من أهل الفترة، فقد أُجيب عنهم بأن أحاديثهم آحاد لا تعارض القطع بعدم التعذيب قبل البعثة -كما دلت عليه- الآية -وبأنه يجوز أَن يكون تعذيب من صح تعذيبه منهم لأمر مختص به يقتضي ذلك، علمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، نظير ما قيل في الحكم بكفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام مع صباه.

وقيل إن تعذيب هؤُلاء المذكورين في الأحاديث مقصور على من غيَّرَ وبدَّل من أهل الفترة بما لا يعذر به، كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع، كما فعل عمرو بن لحي الذي استحدث عبادة الأوثان ولا يخفى أن هذه الإجابات عن هؤُلاء لا تتفق مع إطلاقهم القول بأنه لا وجوب إلا بالشرع ولا تكليف قبل البعثة، قال الآلوسي (1): ولو ثبت أن من جاءت الأحاديث بتعذيبهم فى الفترة بين الرسل كانوا من أَتباع رسول سابق بقى شرعه حينذاك كعيسى عليه السلام لم يبق إِشكال- انتهى بتصرف يسير.

ويقول المعتزلة: إن الإيمان بالله واجب بالعقل قبل البعثة وبعدها، ويحتجون بأن معرفة الله لا يمكن الوصول إليها إلا بالعقل حتى بعد البعثة، ولهذا يقول الله تعالى:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . ويقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . فالله تعالى يأمرنا بأن نعرفه بالنظر في آياته الكونية، ولا يمكن إثبات رسالة الرسول إلا بعد معرفة الله الذى أَرسله، فوجب أن تكون معرفة الله أولا بالعقل، وثبت أَن من كفر به قبل البعثة يستحق العذاب، ويقولون أيضًا إن الأحكام تعرف بالعقل لأنه يدرك حسن الأفعال وقبحها قبل ورود الشرع (2). وقد أثبت الإمام الرازي

(1) الآلوسي جـ 15، ص 38 منير.

(2)

فإذا لم يرد في الشرع كنا مكلفين ومحاسبين على الأخطاء، والله تعالى أرسل الرسل لتأييد العقل ومساعدته في أحكامه كذا قالوا.

ص: 734

الوجوب العقلي، وفسر قوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} بوجهين (أحدهما): حمل الرسول على العقل (والثاني): تخصيص العموم بأن يقال: المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفتها بغير الشرع إلا بعد مجيء الشرع، ثم قال والذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أَن يجب علينا فعل ما ينتفع به، وترك ما يتضرر به، ويمتنع أن يحكم العقل على الله تعالى بوجوب فعل أو ترك فعل، اهـ (1).

وحمل الآية أبو منصور الماتُريدى وتابعوه على نفي تعذيب أهل الفترة بالاستئصال في الدنيا، وذهبوا إلى تعذيبهم في الآخرة بترك الإيمان والتوحيد، وأهل الفترة كل من كان بين رسولين، ولم يكن الأول مرسلا إليهم، ولم يدركوا الثاني، واعتمد القول بتعذيب أهل الفترة الإِمام النووى في شرح مسلم، فقال: إن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار، وليس في هذا مؤَاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الرسل عليهم السلام.

قال الآلوسى تعليقًا على رأي النووى: والظاهر أن النووي يكتفى في وجوب الإيمان على كل أحد، ببلوغه دعوة من قبله من الرسل وإِن لم يكن مرسلا إليه.

وقال الحليمي (2) في منهاجه: إن العاقل المميز إذا سمع أية دعوة كانت إلى الله تعالى، فترك الاستدلال بعقله على صحتها وهو من أَهل الاستدلال والنظر كان بذلك معرضا عن الدعوة فيكون كافرًا - ويبعد أن يوجد شخص لم يبلغه خبر أحد من الرسل على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم، ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم، والذين كفروا بهم وخالفوهم فإن الخبر يبلغ على لسان المخالف كما يبلغ على لسان الموافق، ولو أمكن أنه لم يسمع قط بدين ولا دعوة نبي، ولا عرف أن في العالم من يثبت إلهًا - ولآ نرى أن ذلك يكون فأمره على الاختلاف في أن الإيمان هل يجب بمجرد العقل، أو لا بد من انضمام النقل؟ اهـ.

(1) المصدر السابق ص 37

(2)

المصدر السابق آخر 37 وأول ص 38

ص: 735