المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ما ترتبط به هذه الآيات ومعناها - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ما ترتبط به هذه الآيات ومعناها

لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} -أَما هذا القول- فهو بعيد أيضًا لأنهم وإن ذكروا فى هذه السورة بعنوان أصحاب الحجر فى الآية رقم 80 لكنهم لم يجعلوا القرآن عضين فإنهم لا علم لهم به لتقدمهم على نزوله فضلا عن أن المقام لا يسمح بإرادتهم. وكيف تتصل هذه الآية وما بعدها بقصتهم وبينهما تسع آيات، وفي أفصح الكلام، إن هذا لجد بعيد.

‌ما ترتبط به هذه الآيات ومعناها

قد مرَّ بك أيها القاريء الكريم أننا اخترنا الرأيين الأولين فى تفسير معنى المقتسمين لاتفاقهما على أنهم من أهل مكة. وهذا يناسب كون السورة مكية وترتبط تلك الآيات الأربع بقوله تعالى قبلها مباشرة: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} والمعنى على هذا:

وقل أيها الرسول للناس: إني أنا المنذر لمن خالف ربه وكفر به وعصاه، المبين لهم ما أُنذروه كالإنذار الذي ننزله بشأن المقتسمين من أهل مكة الذين جعلوا القرآن أجزاء وفرقوه أوصافًا. فتارة يسمونه سحرًا وأخرى يزعمونه شعرًا وحينا يدَّعون أنه كهانة. وأخرى يفترون أنه أساطير الأولين. وهذا الإنذار الذي ننزله بشأنهم ونبينه لهم هو قولنا لك تسلية. ولهم وعيدًا وتهديدًا: فوحق ربك الذي أحاطك بحمايته ورباك بنعمته وشرفك برسالته لنسألنهم أجمعين عما كانوا في دنياهم يعملون من كفر وتكذيب وإعراض وافتراء {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (1) فيحاسبهم أدَق حساب ويعاقبهم أشد عقاب. فليس الأمر كما يزعمون إذ يقولون: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (2). وعبر بالماضى بقوله: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} ، مع أنه تعالى لم ينزل فى الماضي بشأنهم قوله:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وإنَّما أنزله وقتما أمر النبي بقوله له: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} الآيات. -وعبر بالماضي في قوله: {أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} - لأن المحقق إنزاله في المستقبل في حكم الذي نزل فعلا. ولأن نزوله سابق في علم الله وقضائه.

(1) سورة إبراهيم الآية (42).

(2)

سورة الأنعام الآية (29).

ص: 581

ويجوز أن يراد مما أنزله الله على المقتسمين ما سبق نزوله من الإنذار للمعرضين عن القرآن المتقوِّلين عليه كقوله تعالى فى حق الوليد بن المغيرة: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} ، وقوله:{سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} ، وقوله:{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (1). وذلك عقاب له على قوله في القرآن: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} . وكقوله فى سورة فصلت: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (2). وعلى هذا يكون قوله سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وعيدًا آخر غير ما سبق نزوله بشأنهم.

ويجوز أن يكون الضمير في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} عائدا على الناس جميعًا، وليس خاصًّا بهؤلاء المقتسمين، أي وحق ربك يا محمد لنسألن الناس جميعًا - مؤمنهم وكافرهم عما كانوا يعملون فى دنياهم {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (3).

وليس سؤاله سبحانه سؤال استفهام واستعلام وإِنما هو سؤال تقريع وتوبيخ أَو تقرير، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا يسألهم الله تعالى: هل عملتم كذا وكذا لأنه أعلم بذلك منهم وإنما يقول: لم عملتم كذا وكذا؟ وروى الترمذي بإسناد حسن صحيح عن أبي برْزة رضىي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَزولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القيَامَةِ حَتَّى يُسَألَ عَنْ أرْبَع: عَنْ عُمُرِه فِيم أفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ منْ أيْنَ اكتَسَبَهُ وَفِيْمَ أنفَقَهُ، وَعَن جِسْمِهِ فِيمَ أبلَاهُ"؟

ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى فى سورة الرحمن: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (4).

وكذا فى سورة المرسلات: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (5).

(1) سورة المدثر الآية من 11 - 30.

(2)

فصلت الآية 13.

(3)

سورة النجم من الآية 31.

(4)

الآية 39.

(5)

الآيتين 35، 36.

ص: 582

لأَن يوم القيامة طويل وفيه مواقف فيسأَلون في بعض المواقف ولا يسأَلون في بعضها. وفي التعرض لوصف الربوبية مضافًا إِلى ضميره عليه الصلاة والسلام، من تسليته واللطف به، ما لا يحتاج إِلى بيان.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إِلى الله تعالى سرًّا حتى نزلت هذه الآية:

94 -

(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ):

أَي اجهر بما يأْمرك الله به، وأَعلِنْ رسالته التي أَرسلك الله بها إِلى الناس كافَّةً، ولا تبال بالمشركين وأَذاهم فالله حافظك وناصرك وعاصمك، كما قال تعالى:"يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ"(1).

ولما كان المستهزئون بالدعوة هم أَكبر المعوِّقين لها والصادِّين عن سبيل الله - وعده الله سبحانه أَن يهلكهم ويكفيه شرهم فقال:

95 -

(إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ):

الذين يستهزئون بك وبالقرآن!

والمستهزئون نفر من رؤساء كفار قريش، اختُلف في عدَّتهم وفي أَسمائهم، والمشهور أَنهم خمسة، وكانوا يبالغون في إِيذاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستهزاءِ به. وبالقرآن، وهم: الوليد بن المغيرة المخزوى وهو رأَسهم، والعاصي بن وائل السهمى، والأَسود بن الطَّيب، والأَسود بن عبد يغوث، والحارث بن قيس، وقيل غير ذلك.

غير أَن المعلوم في شأْنهم أَنهم كانوا طائفة ذات قوة وشوكة، لأَن أَمثالهم هم الذين يجترئون على مثل هذه السفاهة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في علو منصبه وعظيم قدره في عشيرته. وقد وصف الله المستهزئين، وأَكد وعده لرسوله بأَنه سيكفيه شرهم فقال سبحانه:

(1) سورة: المائدة، من الآية 67

ص: 583

96 -

(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ):

أَي أَنهم لم يقتصروا على الاستهزاءِ بك يا محمد بل اجترءُوا على عظيمة العظائم وكبيرة الكبائر: أَلا وهى الإِشراك بالله عز وجل، ولهذا كله "فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" ما يحل بهم في الدنيا من الإِهلاك والإِبادة، وفي الآخرة من العذاب العظيم.

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}

المفردات:

(يَضِيقُ صَدْرُكَ): أَي ينقبض ويُحرج.

(مِنَ السَّاجِدِينَ): أَي من المصلين، وإِطلاق الساجدين عليهم؛ لأَن السجود في الصلاة أَظهر ما فيها من أَمارات الخضوع والاستسلام والذلة لله تعالى.

(الْيقِينُ): المراد به هنا الموت؛ وعبر عنه باليقين لتحققه.

التفسير

بعد أَن جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة امتثالًا لأَمر ربه، اشتد إِيذاءُ قريش له ولمن آمن به، حتى ضاق صدره وعظم همه، بما كانوا يقولون من كلمات الشرك والسخرية فأَنزل الله عليه:

97 -

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) الآيات.

أَي وإِنا لنعلم ما يصيبك من انقباض صدرك، وعظِمِ همك وألمك، بسبب ما يقول المشركون فيك وفي اقرآن من كلمات الشرك والاستهزاءِ به.

98 -

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ):

أَي فافزع إِلى ربك فيما يصيبك من ضيق الصدر وانقباضه، ونزِّهه عما يقول المشركون،

ص: 584

حامدًا له سبحانه على أَن هداك إِلى الحق وشرح صدرك به. وكن من المصلين الخاشعين، يكشف همك وغمك، ويذهب الضيق الذي تجده في صدرك.

ولأَن السجود في الصلاة أَظهر ما فيها من الخضوع، وأَفضل أَجزائها من الخشوع - عبر الله به عنها، وأَمره به بصيغة تدل على الدوام والاهتمام بالصلاة وبالسجود معًا. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إِذا حَزَبه أَمر فزع إِلى الصلاة (1). وقد روى عن مسلم في صحيحه عن أَبي هريرة رضى الله عنه أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أَقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأَكثروا الدعاء".

وفي ختام السورة الكريمة بقوله تباركت أَسماؤه:

99 -

(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ):

أَمر إلهى كريم للنبي صلى الله عليه وسلم بدوام العبادة لربه والدعوة إِليه حتى يأْتيه اليقين، أَي الأَمر الموقن به وهو الموت.

أَي دم على بما أَنت عليه من الصلاة والعبادة لربك ما دمت حيا.

والآية دليل على وجوب العبادة - وعمادها الصلاة - على كل مكلف ما دام عقله ثابتًا. ولو كان مريضا كما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حُصينٍ رضى الله عنهما أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلِّ قائما، فإِن لم تستطع فقاعدا، فإِن لم تستطع فعلى جنبك".

والآية الكريمة دليل كذلك على تخطئة من ذهب من الملاحدة إِلى أَن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أَحدهم إِلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم! وهذا كفر وضلال وجهل، فإِن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا هم وأَصحابهم أَعلم الناس بالله، وأَعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أَكثر الناس عبادةً ومواظبةً على فعل الخيرات، إِلى الممات. وإِنما المراد باليقين هنا الموت كما قدمناه. ولله الحمد والمنة، وهو المسئول أَن يتوفانا على أَكمل الأَحوال وأَحسنها فإِنه جواد كريم.

(1) حديث مشهور ذكره ابن جرير وغيره، وقال ابن الأثير في النهاية: كان إِذا حزبه أَمر صلى. أَي إِذا نزل به مهم أو أصابه غم. اهـ.

ص: 585