الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة إبراهيم
بسم الله الرحمن الرحيم
(الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3))
المفردات:
(الر): هذه وأَمثالها من فواتح بعض السور، قيل أنها أَسماءٌ لها، وقيل أَسرار محجوبة، وقيل إِنها رمز للتحدى، وقيل إِشارة لابتداءِ كلام وانتهاءِ كلام، وقيل غير ذلك.
وقد سبق تفصيل الكلام فيها أَول سورة البقرة، فارجع إِليه إِن شئت.
(الظُّلُمَاتِ): الضلالات، فِإنها ظلمات معنوية.
(إِلَى النُّورِ): إِلى الهدى، فإِنه نور معنوى يهدى إِلى الحق.
(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ): بتيسيره وتوفيقه.
(إِلَى صِرَاطِ): أَي إِلى طريق.
(الْحَمِيدِ): أَي المحمود، والمراد أَنه تعالى مستحق للحمد لذاته وإِن لم يحمده الناس.
(وَوَيْلٌ): الويل: الشر والهلاك.
(يَسْتَحِبُّونَ): يختارون.
(وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ): يمنعون غيرهم عن دينه الذي يوصل إِلى مرضاته وثوابه.
(وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا): أَي ويطلبونها. والضمير عائد على السبيل فإِنها مؤنثة، أَي ويطِلبون لسبيل الله العوج.
التفسير
(الر):
أَجملنا الكلام على (الر) في المفردات، وأَحلنا القارئَ على ما كتبناه مفصلًا عن الفواتح الهجائية في أَول سورة البقرة فارجع إِليه إِن شئت.
(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ): أَي هذا كتاب أَنزلناه إِليك يا محمد وهو القرآن العظيم.
(لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ): أَي بعثناك بهذا القرآن وأَنزلناه إِليك.
لِتُخرِجَ الناس عربهم وعجمهم أَبيضهم وأَسودهم من ظلمات الكفر والجهل والحياة الضالة إِلى نور الإِيمان والعلم والحياة البارة الرشيدة لما اشتمل عليه من الآيات الباهرات التي تحث على التفكر والتدبر، والنظر في حقائق الكون الدالة على وحدانية الله وتفرده بالخلق والإبداع
…
ولما حواه من المنهج السديد الذي تسعد به البشرية كلما سلكته، وتشقى كلما ابتعدت عنه.
(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ): أَي بتوفيقه إِياهم ولطفه بهم، فهو الهادي لمن أَراد له الهداية على يدى نبي هذه الأُمة صلى الله عليه وسلم في حياته، وبما تركه لأُمته من كتاب الله تعالى وسنته بعد انتقاله إِلى ربه.
(إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ): أَي إِلى الطريق الذي ارتضاه الله لخلقه وشرعه لهم، طريق العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع، فهو القاهر لكل ما سواه المستحق للحمد، ويلاحظ أَن "صِرَاط العَزِيزِ الْحَمِيد" بيان للنور في قوله:"لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمُاتِ إِلَى النُّورِ". فهو النور الذي أَخرجهم من الظلمات إِليه في العقائد والأَخلاق والتشريعات الرشيدة.
2 -
(اللهِ (1) الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ): أَي هذا الكتاب أَنزلناه لتخرج الناس إِلى صراط العزيز الحميد، الله الذي له ما في الكون ملكًا وإِبداعًا وتصرفًا، فهو سبحانه يتصرف فيه وحده حسب ما تقتضيه حكمته الأَزلية.
وقرأَ نافع وابن عامر: (اللهُ الذِى لَهُ مَا فيِ السَّمواتِ
…
) برفع لفظ الجلالة، على الاستئناف.
(وَوَيْلٌ لِلكَافِرِينَ مِنْ عذَابٍ شَدِيدٍ): هذا وعيد لمن كفر بالقرآن وخالف من أَنزله، وكفر بمن أنزل عليه، أَي وهلاك يوم القيامة ناشئ من عذاب شديد لمن كذبك ولم يستجب دعوتك بإِخلاص التوحيد للفرد الصمد، القوى المنتقم الجبار .. وقد وصف الله الكافرين بصفات ثلاث -الأُولى في قوله:
3 -
(الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلى الْآخِرَةِ): أَي ويل للكافرين الذين يختارون الحياة الدنيا وما فيها من شهواتَ مهلكات، ويؤثرونها على الآخرة، وما فيها من نعيم مقيم.
- والصفة الثانية في قوله سبحانه:
(وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ): أَي ويصرفون الناس عن الإِيمان باللهِ واتباع ما جاءَ به رسوله محمد بن عبد الله، وذلك لما ران على قلوبهم من الكفر والعصيان، والبعد عَمَّا يقرب من الرحيم الرحمن.
- والصفة الثالثة في قوله تعالى:
(وَيَبْغونَهَا عِوَجًا): أَي يطلبون لها الميل والزيغ لتتفق مع أَهوائهم وشهواتهم التي هي، أَبعد ما تكون عن صراط الله المستقيم، وبعد أَن وصفهم بهذه الصفات، قضى بضلالهم فقال:
(أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ): أي أولئك الموصوفون بإِيثارهم الدنيا وزهرتها، وصدهم عن الدين، وابتغائهم له الزيغ والعوج، أولئك في ضلال بعيد عن الحق لا يرجى لهم والحالة هذه هداية ولا رشاد.
(1) بجر لفظ الجلالة بدلا من العزيز الحميد أو عطف بيان له، وبه قرأَ السبعة عدا نافع وابن عامر فقد قرأَ برفع لفظ الجلالة
…
كما سيأتى في الشرح.
المفردات:
(بِلِسَانِ قَوْمِهِ): أَي بلغة قومه.
(بِآيَاتِنَا): هي الآيات التسع التي أَجراها الله على يد موسى عليه السلام وهي: الطوفان - والجراد - والقمل - والضفادع - والدم - والعصا - ويده - والسنون - ونقص من الأَموال والأَنفس والثمرات.
(مِنَ الظُّلُمَاتِ): من الكفر والجهالات المشبهات للظلمات.
(إِلَى النُّورِ): إلى الإِيمان بالله وتوحيده فهو النور الهادي إِلى سواءِ السبيل.
(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ): أَي بوقائعه التي وقعت على الأُمم السابقة، يقال فلان عالم بأَيام العرب أَي بحروبها وملاحمها.
(صَبَّارٍ شَكُورٍ): كثيرَ الصبر، كثير الشكر.
التفسير
4 -
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ
…
) الآية.
أَي وما أَرسلنا قبلك من رسول إِلا بلسان القوم الذين أَرسله الله إِليهم، ليبين لهم شريعة ربهم في سهولة ويسر، وليقطع أَعذارهم وتقوم به حجة الله عليهم، ومحمد
صلوات الله وسلامه عليه وإِن بعث إِلى الناس جميعًا وأَلسنتهم مختلفة فإِرساله بلسان قومه أَولى من إِرساله بلسان غيرهم ليحملوا معه عبءَ الدعوة، ويبينوا الدين لمن كانوا على غير لسانهم، ويترجموه حتى يصير مفهومًا لهم كما فهموه، وعلى هذا فكل من تُرجِمَ له ما جاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة دقيقة يفهمها لزمته الحجة. قال تعالى:"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا". وقال صلى الله عليه وسلم: "أُرسل كل نبى إِلى أُمته بِلسانها وأَرسلنى الله إِلى كل أحمر وأَسود من خلقه".
وقال: "والذي نَفْسِىْ بِيَدهِ لَا يَسْمعُ بي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّة يَهُودِىُّ وَلَا نَصْرَانىُّ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنْ بالذى أُرْسْلُت به إِلَّا كَانَ منْ أَصْحابِ النَّار". أَخرجه مسلم.
وحيث كانت رسالة الإِسلام عامة لأَهل الأَرض، فيجب على المسلمين أَن يكون فيهم من يعرفون اللغات المختلفة، ليحسنوا تبليغ الدعوة المحمدية التي تركها النبي أَمانة في أَعناقهم جميعًا، وعلى من أَسلم من غير العرب أَن يتعلم اللغة العربية ليحسن فهم الإِسلام من منابعه والعمل بشرائعه.
(فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَّشاءُ وَيَهْدِى مَن يَّشَاءُ): أَي فبعد إِرسال الله كل رسول بلسان قومه، لتقوم به حجة الله، يضل من ران على قلبه الغَواية والضلالة بما اجترح من آثام، ويهدى من اتبع سبيل الرشاد، وجانب أُسلوب العناد، فانشرح صدره للإِسلام، واستقام على المنهج السديد بتوفيق الله رب العالمين.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ): فلا يغالب في مشيئته. (الحَكِيمُ): العظيم الحكمة فيما أَوجبه على الناس من شريعتة.
5 -
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
…
) الآية. هذا شروع في تفصيل ما أَجمل في قوله: "وَمَا أرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ".
أَي ولقد أَرسلنا موسى بلسان قومه بني إِسرئيل، وأَيدناه بالآيات المعجزة الدالة على
صدقه وأَمرناه بأَن يدعو قومه إِلى الإِيمان باللهِ وحده ليخرجوا من ظلمات ما كانوا عليه من الجهل والضلال إِلى نور الهدى والإِيمان.
(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ): أَي وذكرهم بوقائع الله في الأَمم قبلهم، قوم نوح وعاد وثمود أَو بأَيام الله التي أَنعم فيه على بني إِسرائيل بمختلف النعم، من إِخراجهم من أَسر فرعون وقهره، وفلقه البحر لهم، وتظليله إِياهم بالغمام، وإِنزاله عليهم المن والسلوى، ويجوز أَن يراد منها المحن الشديدة والنعم الجميلة، فكلتاهما من أَيام الله وآياته البينات.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ): أَي إِن في المذكور من أَيام الله لدلائل على وحدانية الله وقدرته وفضله ورحمته، لكل صبار في المحنة والبلية شكور في المنحة والعطية، قال قتاده:"نعم العبد، إِذا ابتلى صبر وإِذا أُعطى شكر".
وقال ابن كثير: جاءَ في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "إنَّ أَمْر الْمؤْمِن كُلَّهُ عَجَبٌ لَا يَقضِى اللهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءٌ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ".
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7))
المفردات:
(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ): أَي يبغون لكم سوءَ العذاب من قولهم: سمت كذا أَي ابتغيته وطلبته.
(وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ): أَي ويبقونهن أَحياءً فلا يقتلونهن.
(بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ): أَي ابتلاءٌ بمعنى اختبار.
(تَأذَّنَ): أَي آذن بمعنى أَعلم كتوعدهُ بمعنى أَوعده، غير أَنه أَبلغ منه.
التفسير
6 -
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ)
…
الآية.
يقول الله تعالى مخبرًا عن موسى حين ذكر قومه بأَيام الله عندهم وما أَفاض عليهم من النعم، إذْ أَنجاهم من آل فرعون، وما كانوا يكلفونهم به من التكاليف الشاقة مع القهر والإِذلال والتعذيب السيءِ، وكيف كانوا يذبحون أَبناءَهم الذكور ويستبقون إِناثهم مستضعفات ذليلات، وهذا من أَسوأَ أَلوان البلايا والرزايا ولهذا قال سبحانه:
(وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ): أَي وفيما ذكر ابتلاءٌ واختبار عظيم من ربكم، لما فيه من التعذيب والمحن التي كان يصنعها بهم فرعون وقومه، ثم لما فيه من نعمة الإِنجاءِ من كل ذلك العسف والتنكيل.
فالابتلاءُ كما يكون بالضرر يكون بِالمنفعة كما قال تعالى: "وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً". فبالخير يبلو عباده أَيشكرون أَم يكفرون؟ وبالشر يبلوهم أَيصبرون أَم يجزعون؟ وهو في كلتا الحالتين يُثِيبُ المحسن ويعاقب المسيءَ.
7 -
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ): أَي واذكروا يا بنى إِسرائيل حين آذنكم ربكم وأَعلمكم بوعده ووعيده إِعلامًا مؤَكَّدًا حيث قال:
(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ): أَي لئن شكرتم إِنعامى لأَزيدنكم من فضلى ونعمتى والتوفيق لطاعتى.
الآية نص على أن الشكر سبب المزيد من النعمة، فإِن من شكر الله على رزقه وسع عليه في الرزق، ومن شكره على ما أَقدره عليه من طاعته زَادَ ثوابَهُ في طاعته، ومن شكره
على ما أَنعم به عليه من صحة زاده الله صحة وهكذا
…
وقد أُثر عن جعفر الصادق أَنه قال: "إِذَا سَمِعَتِ النعمةُ نِعْمَةَ الشُّكْر فتأهب للمزيد". وسئل بعض الصلحاءَ عن الشكر فقال: "أَلَاّ تتقوى بنِعمِهِ على معَاصِيه".
فَحَقيقة الشكر على هذا الرأْى اعتراف المنعم عليه بالنعمة للمنعم، وأَلا يصرفها في غير طاعته، وأَنشد الهادى وهو يأْكل:
أَنَالَكَ رِزْقَهُ لِتَقُومَ فيهْ
…
بطاعته وتشكر بَعْضَ حقِّه
فلم تشكر لنعمته ولكن
…
قويتَ على معاصيه بِرِزْقِه
فَغُضَّ باللقمه وخنقته العبرة.
(وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ): أَي ولئن كفرتم نعمة الله بإِنكار نسبتها إِليه
أَو التقصير في شكره عليها بالطاعة قولًا وعملًا، فترقبوا أَليم العذاب، إِن عذابه لشديد، وذلك بسلب النعم في الدنيا، وإِنزال النقم في الدنيا والآخرة، وفي الحديث:"إِن الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بالذَّنب يُصِيبه".
(وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9))
المفردات:
(حَمِيدٌ): مستوجب للحمد لذاته وإِن لم يحمده أَحد.
(بالْبَيِّنَاتِ): أَي بالآيات الواضحات.
(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ): أي ردوها لكي يعضوها في أفواههم غيظًا.
(مُرِيبٍ): الريبة هنا بمعنى اضطراب النفس وعدم اطمئنانها.
التفسير
8 -
(وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ):
أَي وقال موسى لقومه: إِن تُنكرُوا نعمة الله التي أَضفاها عليكم ولا تَشكروها؛ إِن تَفعَلوا ذلك يا بني إِسرائيل ومعكم كل من في الأَرض جميعًا، فما أَلحقتم الضرر إِلا بأَنفسكم إِذ حرمتموها من مزيد النعم وعرضتموها لشديد العذاب، في الوقت الذي أَنتم إلى الله أَحوج، وهو غنى عن شكركم وشكر غيركم، فإِنه لا تنفعه طاعتكم، كما لا تضره معصيتكم؛ وأَنتم إِن لم تحمدوه بأَلسنتكم، فإِن جوارحكم تلهج بحمده وأَنتم لا تشعرون، فإنه تعالى يقول:"تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ"(1).
وفي صحيح مسلم في أَبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أَنه قال: "يَا عبَادى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنسَكُمْ وَجنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ واحدٍ مِّنكمْ ما زَاد ذَلكَ فِي مُلْكى شَيْئًا، يَا عبَادى لَوْ أَن أَوَّلَكُمْ وَآخرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلى أَفجر قَلْبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِى شَيْئًا، يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِى فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسانٍ مسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِى شَيْئا إِلَاّ كَمَا يَنْقصُ الْمِخيطُ إِذَا دَخَلَ الْبَحْرَ".
فسبحانه وتعالى هو الغنى الحميد.
9 -
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ
…
) الآية.
(1) الإسراء (44)
أي أَلم يأْتكم يا أَهل مكة خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأُمم المكذبة للرسل ممن لا يحصى عددهم ولا يعرف نسبهم إِلا الله عز وجل.
(جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ):
أَي جاءوهم بالحجج الواضحات والدلائل الباهرات، وقد بين كل رسول لقومه طريق الهداية والأَمن ودعاهم إِليه، ولكنها لا تعمى الأَبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ): أَي جعل أُولئك القوم أَيديهم في أَفواههم ليعضوها غيظا مما جاء به الرسل، مقرونا بتسفيه أحلامهم، وشتم أَصنامهما، أو ردوها إِلى أَفواههم مشيرين بها إِلى أَلسنَتِهم وما يصدر عنها من المقالة، لينبهوا الرسل إلى تلقيها منهم وليقنطوهم. من التصديق والإِيمان عن جهتهم، وذلك ما حكماه الله سبحانه وتعالى عنهم في قولهم: "وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ
…
" الآية.
وقيل معناه: أَنهم أَشاروا إِلى أفواه الرسل يأمرونهم بالسكوت عنهم، لمَّا دعوهم إِلى الله عز وجل، قال أبو عبيدة والأَخفش: هو ضرب مثل أَي لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للرجل إِذا أَمسك عن الجواب وسكت: قَدْ رَدَّ يده في فيه.
(وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ):
أَي أَننا لا نصدقكم فيما جئتم به، وإِنا لَفِى شك قوىٍّ موقع في الريب وعدم الطمأْنينة بسبب ما جِئتم به من التعاليم والشَّرائِع وما تدعوننا إليه من إِيمان وتوحيد.
المفردات:
(أَفِي اللَّهِ شَكٌّ): الاستفهام للإِنكار بمعنى النفى وفيه معنى التعجب.
(فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): خالقهما على غير مثال سبق.
(بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ): ببرهان بين له سلطان واضح على النفوس.
التفسير
10 -
(قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
…
) الآية.
حكى الله في الآية السابقة قول الكافرين لرسلهم: "وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ ممِاَّ تَدْعُونَنَا إلَيْهِ مُرِيبٍ". وجاءَت هذه الآية تحكى رد المرسلين واستنكارهها لما زَعَمُوهُ والتعجب منه.
والمعنى: قالت الرسل لأُممهم مستنكرين شكهم في ربهم: أَفى وجود الله شك وارتياب حتى تقولوا لنا: "وَإنَّا لَفِى شَكّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ". في حين أَنه فاطر السماوات والأَرض ومبدعهما، أليس لكل صنعة صانع فلا بد للسماوات والأَرض من منشئ صانع له القدرة الكاملة، والإِرادة النافذة والعلم المحيط.
وجاءَ هذا الاستنكار والاحتجاج في محاجة الأَنبياءِ جميعا، فكل رسول من الرسل جعل نصب عينيه توجيه أُمته إِلى التفكر والتدبر في السماوات والأَرض، والتبصر في أَسرارهما، ليتعرفوا بذلك وجود الخالق سبحانه وتعالى ووحدانيته، واتصافه بكل كمال وتنزهه عن كل نقص.
ويجوز أَن يكون المعنى: أَفى أُلوهية الله وتفرده بوجوب العبادة شك .. ؟ وهو الخالق لجميع الأَرض والسماوات المدبر لأُمورها، فلا يستحق العبادة أَحد سواه.
وربما كان هذا المعنى أَولى، فإِن أَغلب الأُمم كانت تقر بوجود الخالق المدبر ولكنها، كانت تعبد معه غيره من الوسائط التي زعموا أَنها تقربهم إِلى الله زلفى، ثم قالت لهم رسلهم:(يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى): أَي يدعوكم الله إِلى الإِيمان به وبوحدانيته وسائر صفاته وكمالاته، على أَلسنة رسله وشواهد آياته الكونية وكتبه المنزلة، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان وضياء التوحيد، لِيَغْفِرَ لَكمْ بعض الذنوب، ويمحو عنكم بعض ما اقترفتموه من الآثام، وهى التي تتعلق بحقوق الله وحده. وفي ذلك يقول تعالى:(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ).
أَما حقوق العباد فإِن الله سبحانه وتعالى لا يعفو عنها إِلا برضا أَصحابها وعفوهم عنها، ولهذا عبر في الآية بِمِنْ في قوله:"يَغْفِرْ لَكَمْ مِّنْ ذُنُوبِكُمْ". فإِنها أَفادت التبعيض وهذا البعض الذي يغفر هو ما يتعلق بحق الله تعالى، فإِن حق الله تعالى مبنى على المسامحة بمقتضى هذا الوعد الكريم. أَما حقوق العباد فإِنها مبنية على المطالبة والمؤَاخذة، وكما يدعوكم الله إِلى الإِيمان ليغفر لكم من ذنوبكم، يدعوكم أَيضا إِلى الإِيمان لفائدة أَخرى، وهي أَن لا يستأْصلكم بالعذاب كما استأصل الكافرين قبلكم، بل يبقيكم تتمتعون في دنياكم حتى الأَجل الذي
سَمَّاهُ وقدره لكل فرد من البشر، وهذا هو المعنى الذي عناه ابن عباس رضى الله عنهما بقوله: يمتعكم باللذات والطيبات إِلي الموت، ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ" (1) ويحكى الله سبحانه وتعالى رد الأُمم الكافرة على دعوة رسلهم إِياهم إِلى الإِيمان فيقول:
(قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا): أَي قالوا عُتُوًّا وعنادا ومكابرة: ما أَنتم إِلا بشر مثلنا في الصورة والهيئة، فلا فضل لكم علينا يؤَهلكم للرسالة التي تدعونها، وتريدون بها أَن تمنعونا عن آلهتنا التي كان يعبدها آباؤُنا فإِن كنتم رسلا من عند الله كما ادعيم:
(فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ): أَي فأْتونا ببرهان ذى سلطان بَيِّن واضح، يدل دلالة قاطعة على استحقاقكم لمرتبة الرسالة وصحة ما تدعوننا إِليه، حتى نترك عبادة آلهتنا التي وجدنا عليها آباءَنَا.
لقد جاءَهم الرسل بالآيات والمعجزات التي تخر لها صم الجبال، ولكن القوم زعموا أَن كل ما جاءَتهم به الرسل معجزات ليس من جنس السلطان المبين الذي يقترحونه، وهكذا كانوا يجادلون في الحق بعد ما تبين لهم. ثم يحكى الله سبحانه وتعالى جواب الرسل لأَقوامهم فيقول:
11 -
(قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
…
) الآية. أَي قالت الرسل لأُممهم: ما نحن إِلا بشر مثلكم كما قلتم، ولكن الله ينعم على من يشاءُ من عباده، فيصطفيهم لرسالته، يختصهم بها بمحض فضله وامتنانه، لا بحسب ولا نسبٍ ولا باجتهاد منهم في العبادة!
(1) من الآية 3 سورة هود.
والبشرية غير مانعة لمشيئته جل وعلا أَن يتفضل بهذا الاختصاص على من يشاءُ من عباده من أَهل الفضل والكمال، "اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ (1) ". ولم يرسل الله إِلى البشر ملكًا، لِأنَّهُ لَا طَاقَةَ للناس بالتلقى عن الملائكة كما قال تعالى:"وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ".
ثم قالت الرسل جوابا لقول أُممهم: "فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ":
(وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ): أَي وما صح لنا وما استقام أَن نأْتيكم ببرهان كما طلبتم غير ما أَجراه الله على أَيدينا مِن المعجزات إلا بإِذن الله وتيسيره، فإِن لم يأْذن فلا سبيل إِليه، ولا قدرة لنا عليه، مع ما خصنا الله به من النبوة وشرّفنا به من الرسالة.
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ): أي قال كل رسول لأُمته بعد ما تقدم: وعلى الله وحده فليتوكل المؤْمنون وليفوضوا جميع أُمورهم إِليه، وليصبروا على معاندة الكافرين ومعاداتهم، ثم أَيدوا وجوب توكلهم على الله بقولهم:
12 -
(وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا
…
) الآية.
وأَى عذر لنا في ترك التوكل على الله وحده والاعتماد عليه في رفع أَذاكم وسُلُوك سبيله، وقد أَرشدنا إِلى سبيله المستقيم، ومنهاجه الذي شرعه له وأَوجب عليه سلوكه.
(وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا): بالعناد والتكذيب واقتراح الآيات، وما إِلى ذلك من السفه والَّلجاج؛ حتى يأْتينا نصر الله.
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ): أَي وعلى الله فليعتمد المؤْمنون المتوكلون دائما فإنه هو الذي ينصرهم، وبيده وحده هزيمة أَعدائهم. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (2)
(1) الأَنعام: من الآية 124
(2)
سورة الطلاق: من الآية 3
المفردات:
(لَتَعُودُنَّ): لَتَصِيرُنًّ. (مَقَامِي): أَي الموقف المَملُوك لله، الذي يقف به العباد بين يَدَيه للحساب، أَو قيامه على عبده ومراقبته إِياه. (وَعيدِ): وعدى بعذاب الكفار والعصاة يوم القيامة.
التفسير
13 -
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا .. ) الآية.
استمر الكفار في جدالهم للرسل بالباطل، وضاقت صدورهم بالحق بعد ما تبين، وكبر عليهم أَن يرجعوا إِليه، فسلكوا مسلك العنْف والقوة وقالوا تهديدًا للرسل ووعيدا لهم:
(لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا):
لم يكتفوا بعصيانهم للرسل ومعاندتهم للحق بعد ما رأَوا الآيات البينات حتى اجترؤا على مقالتهم الشنعاء التي يعجز عنها الوصف، وأَقسموا: ليكونَنَّ أَحد الأَمرين لا محالة: إِما أَن نخرجكم من أَرضنا، وإِما أَن تعودوا إِلى ديننا وتتحولوا إِلى مِلتنا.
(فَأَوحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ):
أي فأَوحَى إِلى الرسل ربهم ومالك أَمرهم تثبيتا للمؤمنين ووعيدا للكافرين قائلًا:
(لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ): أَي لنقتلنَّ الذين ظلموا أَنفسهم بشركهم، وظلموا الرسل والمؤمنين بتكذيبهم وإِيذائِهم -لنهلكنهم- أن استمروا على كفرهم وعنادهم، ثم أَكمل الله وعيده للكافرين ووعده للمؤمنين بصيغة التوكيد فقال سبحانه:
14 -
(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ
…
(1)) الآية.
أَي ولنسكنكم أَيها المؤمنون أَرض هؤلاءِ الكافرين بعد إِهلاكهم، عقوبة لهم في الدنيا على قولهم لرسلهم:"لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا". وتلك سنة الله في رسله وعباده المؤمنين، أَلا ترى إِلى قوله تعالى:"وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا". وإِلى قوله جل سلطانه "وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا، سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (2) ".
(ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ): أَفادت هذه الجملة أَنه تعالى جرت سنته مع رسله ومن آمن بهم أَن ينصرهم على من كفر بهم، ويسكنهم الأَرض من بعد إِهلاكهم.
والمعنى: ذلك الذي مَرَّ بيانه من إِهلاك الظالمين، وإِسكان المؤمنين أَرضهم وديارهم أَمر ثابت لكل من خاف موقفى الذي يقف به العباد بين يدىَّ للحساب يوم القيامة، أَو خاف قيامى عليه بحفظ أَعماله ومراقبتى إِياه، فإِنى قائم على كل نفس بما كسبت، وذلك أَيضًا لمن خاف وعيدى بالعذاب للكفرة والعصاة.
(1) الأعراف: من الآية 137
(2)
الإسراء: الآيتين 76 - 77
المفردات:
(وَاسْتَفْتَحُوا): وطلبوا الفتح، والمراد به هنا النصر. (وَخَابَ): وخسر وهلك.
(كُلُّ جَبَّارٍ): الجبار في اللغة؛ من يقهر الناس على ما يريده، والمراد به هنا المتكبر عن عبادة الله تعالى وطاعته المتعالى على رسله. (عَنِيدٍ): شديد العناد والمكابرة.
(مِنْ وَرَائِهِ): من خلفه -أَو من أَمامه. وأَصل معنى وراء: ما توارى عنك قدَّامك أَو خلفك.
(مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ): هو ما يسيل من أَجساد أَهل النار. وأَصل الصديد: الماءُ الرقيق الذي يخرج من الجرح.
(يَتَجَرَّعُة): أَي يتكلف بلعه مرة بعد أَخرى من الجَرْع وهو البلع.
(وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ): ولا يقارب أَن يبتلعه بسهولة.
التفسير
يخبر الله تبارك وتعالى عما انتهى إِليه أَمر الرسل مع مكذبيهم، بعد أَن صبروا عليهم وصابروهم حتى يئسوا كل اليأْس من إِيمانهم فيقول جل من قائل:
15 -
(وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ):
أي لجأَ الرسل إِلى ربهم وسأَلوه الفتح والنصر على عدوهم، فاستجاب الله لرسله ونصرهم ظفروا وأَفلحوا، وخسر أَعداؤهم وهلكوا، جزاءَ تكبرهم وعنادهم.
والتعبير بقوله تعالى: "كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ"، بدلا من التعبير بقوله: وخابوا لِذَمِّهِمْ وتسجيل التجبر والعناد عليهم، وواضح على هذا المعنى أَن الضمير في قوله تعالى:"وَاسْتَفْتَحُوا" للرسل وحدهم كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وقيل إِن الضمير للمكذبين وحدَهم، وكأَنهم لما قوى تكذيبهم وأَذاهم للرسل ولم يُعاجَلُوا بالعقوبة، ظنوا أَنهم على الحق، وأَن ما جاءَت به الرسل باطل، فاستفتسحوا على الرسل واستنصروا عليهم، أَو استفتحوا على أَنفسهم، على سبيل التهكم والاستهزاءِ، كقول قوم نوح:"قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ"(1) وقول قوم شعيب: "فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ"(2) وقول المشركين من قريش: "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ"(3).
وقيل: إِن الضمير للرسل عليهم السلام ولمكذبيهم، أَي أَنهم جميعًا سأَلوا الله تعالى أَن ينصر المحق ويهلك المبطل، وقد نصر الله رسله والمؤْمنين "فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"(4).
16 -
(مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ):
بينت الآية السابقة ما لقى مكذبو الرسل ومعاندوهم من الهزيمة والهلاك في هذه الدار، وتبين هذه الآية وما بعدها ما يلقاه كل منهم من أَنواع العذاب وأَلوانه في دار القرار.
والمعنى: مِنْ خَلْف كُلِّ جبارٍ معاند للرسل جهنمُ تستقبله عقب انتهاءِ حياته في الدنيا.
(1) هود: 32
(2)
الشعراء: 187
(3)
الأنفال: 32
(4)
الأَنعام: الآية 45
وقال ابن كثير: "وراءَ" هنا بمعنى أَمام، كقوله تعالى:"وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا"(1). وكان ابن عباس يفسرها بذلك؛ وسواء فُسرت وراءُ بهذا أَو بذاك فالمقصود أَنهم يلقون عقابهم في جهنم يوم القيامة فهي، أَمامهم يستقبلونها وهى خلفهم بعد انقضاءِ حياتهم، والمعنى: من ورانه جهنم يلقاها ويسقى فيها من ماءٍ يشبه الصديد الذي مر بيانه في المفردات، ويجوز أَن يكون من الصَدِّ بمعنى الإِعراض، أَن يسقى من ماء كريه يعرض عنه، ويصف الله سبحانه وتعالى هذا الماء الذي لا يستساغ فيقول جل شأْنه:
17 -
(يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ
…
) الآية.
أَي يتكلف الجبار العنيد جرعه وبلعه مرة بعد أَخرى فلا يقرب من استساغته، ولا يسهل عليه بلعه لحرارته ومرارته. وقيل إِن المعنى: لا يقارب أَن يدخله في جوفه قبل أَن يشربه فيُسقاه على الرغم منه قهرًا وقسرًا، أَخرج أَحمد والترمذي والنسائى والحاكم -وصححه- وغيرهم عن أَبي أمامةَ عن النبي صلى الله عيه وسلم أَنه قال في الآية:(يُقَرَّب إِليه فيتكرّهه فإِذا أُدنى منه شَوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإِذا شربه قطَّع أَمعاءَه حتى يخرج من دُبُرِه) يقول الله تعالى: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)(2). وتستمر الآية في وصف عذاب الجبار العنيد وذلك في قوله تعالى:
(وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ): أَي ويأْتيه أَسباب الموت من الشَّدَائِدِ وأَنواع
العذاب من كل موضع، والمراد أَنه يحيط به من جميع الجهات، كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل من كل مكان في جسده حتى أَطراف شعره وإبهام رجله، "وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ" فيستريح بالموت. بل إِنه لا يخفف عنه العذاب في وقتٍ مَّا، كي ينفس عن نفسه بعض الكرب كما قال تعالى:(لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)(3). وكما قال عز وجل: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ)(4). فهم مخلدون في جهنم يستقبلون في كل وقت عذابا أَشد وأَشق مما كان
(1) الكهف من الآية 79
(2)
سورة محمد من الآية: 15، وقال تعالى في سورة الكهف:"وإِن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه" من الآية: 31
(3)
سورة فاطر من الآية: 36.
(4)
سورة النساء من الآية 36.
قبله. ولهذا ختمت الآية بقوله سبحانه وتعالى:
(وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ): والضمير في (ورائه) يعود إِلى كل جبار أَو إِلى العذاب المفهوم من الكلام السابق. والمعنى: وأَمام كل جبار أَو: وأَمام كل عذاب ذاقه الجبار -عذابُ آخر شديد الغلظة، وأَهوال العذاب وأَنواعه وأشكاله لا يحصيها إِلا الله تعالى:"جَزاءً وِفَاقًا"(1)". وَمَا ربُّكَ بِظَلَاّمٍ للْعَبِيدِ". (2) واعلم أَن عذاب الكفر يتفاوت في الشدة وأَن النار دَركَات كما أَن الجنة درجات، وأَنه لا يستوى كافر عنيد متمرد يسعى في الأَرض فسادا، وكافر مغلوب على أَمره، وفي تفاوت عذاب الكفار يقول اللهَ تعالى:(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا). (3) ويقول صلي الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما "إِن أَهون أَهل النار عذابًا يوم القيامة لَرَجُلٌ وُضِعَ في أُخمص قدميه جمرةٌ يغلى منها دمِاغه"(4).
(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18))
المفردات:
(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا). المثل في أَصل اللغة: بمعنى الشبيه والنظير، كالمثل والمثيل. ويطلق على الحال والصفة التي لها شأْن وفيها غرابة، كما فى هذه الآية وأَمثالها مما تقدم مرارا
(1) سورة النبأ: الآية: 26
(2)
سورة فصلت من الآية: 46
(3)
سورة النساء من الآية: 145
(4)
الأُخمص من باطن القدم ما تجافى عن الأَرض وهو بوزن (أحمد) والدماغ بوزن كتاب هو مخ الرأس.
ويأتي كثيرا. (فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ): العصف: اشتداد الريح، وُصف به زمان هبوبها تقوية لشدتها وتوكيدا، كما وصف النهار بالصيام والليل بالقيام في قولهم: نهاره صائم وليله قائم لكثيرِ الصيامِ والقيام ِ.
التفسير
18 -
(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ
…
) الآية.
بعد أَن بين الله تبارك وتعالى في الآيات السابقة، ما يلقاه الكفار من العذاب الشديد يوم القيامة -بَيّن في هذه الآية أَن أَعمال الخير التي عملوها في الدنيا، تصير كلها في الآخرة ضائعةً باطلة، لا ينتفعون بشيء منها، وكذلك ما قدموه من القرابين لآلهتهم زاعمين أَنها تقربهم إِلى الله تعالى.
والمعنى: أَن أَعمال الكافرين التي يتقربون بها إِلى آلهتهم، أَو يفعلونها رغبة في البر -صِفتُها في حبوطها وذهابها دون أَن ينتفع بها أَصحابها يوم القيامة، وهم في أَشد الحاجة إِلى ثوابها- صِفَتُها -كصفة رماد بعثرته الريح الشديدة وفرّقته فلم تدعْ له أَثرا، لأَنها مَبْنيَّةً على أَساس باطل وهو الكفر، وما بني على باطل فهو مردود، وفي ذلك يقول الله تعالى:"وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا"(1).
ثم أَكد سبحانه حبوط هذه الأَعمال وذهابَها، وعجزَ الكفرة عن الانتقاع بها فقال:
(لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ): أَي لا يقدر أُولئك الكافرون على نيل ثواب لما عملوه ينفعهم يومئذ، فقد أَضاعه كفرهم، كما أَضاعت الريح الشديدة التراب وبعثرته ولم تُبْقِ منه شيئا.
(ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ):
أي ذلك الكفر الذي جعل أَعمالهم الصالحة ضائعة لا ينتفعون بها، هو الضلال البعيد عن الطريق الموصل إِلى الخير، وإِلى الغاية الحميدة.
(1) سورة الفرقان: الآية 23
ومما ورد في السنة دليلا على أَن عمل الكافر لا ينفعه يوم القيامة ولو كان صالحا، ما رواه مسلم في صحيحه عن أُم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله: ابنُ جُدْعَان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال:"لا ينفعه، إِنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتى يوم الدين".
وكان عبد الله بن جدعانَ من وجوه بني تيْم ورؤَساء قريش، وكان قريبا لأُم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وله تاريخ حافل بالجود والمكارم، فأَهَمَّها شأْنُه، فسأَلت عنه من لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه، فأَجابها بأَن شيئًا من هذه الصالحات التي عملها لا تنفعه يوم القيامة، لأَنه لم يصدق بالبعث فمات كافرا، والإِيمانُ هو الشرط الأَساسى في قبول الصالحات وحُسْنِ جزائها في الآخرة بقوله تعالى في شأن الكافرين:"وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا". أَما المؤمنون الصالحون، فإِنهم يُثابون أَحسن الثواب ولا يظلمون، قال تعالى:"وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا"(1) وقال سبحانه: "فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ"(2).
وإِنما حُرم الكفار يوم القيامة ثواب ما عملوه في الدنيا منَ الصَّالحاتِ والمكارم؛ لأَنهم بنوها على غير أَساس سليم من معرفة الحق تبارك وتعالى، والإِيمان به والإِخلاص لوجهه، فجعلها الله هباءً منثورا، وحسبهم من عدل الله الذي لا يظلم أَحدا مثقال ذرة، أَن يكافئهم على هذه الصالحات في الدنيا، من سعة في الرزق، ورغد في العيش، وما إِليهما من الطيبات المعجلة لم في هذه الحياة. وقد بيَّن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أَنس ابن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِن الله لا يظلم مؤمنا حسنة: يُعطى بها في الدنيا، ويُجزَى بها في الآخرة، وأَما الكافر فيُطعم بحسنات ما عمل بها
(1) سورة طه: الآية 112
(2)
سورة الأنبياء: الآية 94
لله في الدنيا، حتى إِذا أَفضى إِلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها. وفي هذا الحديث الصحيح الصريح فصل الخطاب.
ويرى بعض العلماءِ أَنه يجوز أَن يخفف الله تعالى عذاب بعض الكفار في الآخرة بما له من حسنات دنيوية، أَخذا من قوله عزّ سلطانه {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (1). فهذه الآية يفيد ظاهرها أَن عذاب الكفار فيه شديد وفيه أَشد، وذلك يقتضي أَن بغضهم أَخف عذاب من بعض، ويرجع هذا إِلى استفادتهم من أَعمال الخير التي عملوها. ويؤيد ذلك قوله تعالى:"وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ". (2) وقوله تعالى: "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"(3). كما استدلوا بما رواه البخاري ومسلم عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أَنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أَغْنَيْتَ عن عمك، (4) فِإنه كان يَحُوطك ويَغْضَبُ لك؟ قال:(هو في ضَحضاح من نار، ولولا أَنَا لكان في الدرْك الأسفل من النار)(5). وكما أَن الجنة درجات، فالنار دَرَكات.
وبالجملة فقد وقع الإِجماع على خلود الكفار في النار، على اختِلاف دركاتهم، كما قال عز وجل:"وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ"(6).
(1) سورة غافر: الآية 46.
(2)
سورة الأنبياء: الآية 47
(3)
سورة الزلزلة: الآيتين 7، 8 وفي تفسيرهما -وفي الآلوسى- مزيد بيان لمن شاء.
(4)
يريد به أبا طالب.
(5)
يحوطك: يصونك من المشركين بالدفاع عنك: والضحضاح: ما رق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين استعير هنا للنار القليلة جدًا بالنسبة إِلى غيره من أصحاب النار، والدرك بسكون الراء، وفتحها قراءتان سبعيتان: والدرك في اللغة أقصى قاع الشيء، والمراد به هنا مقر جهنم والعياذ بالله تعالى.
(6)
سورة البقرة: من الآية: 167.
المفردات:
(أَلَمْ تَرَ): أَي أَلم تعلم. والاستفهام للتقرير، أَي لقد علمت أَيها المخاطب فاشهد بما تعلم. (بالْحَقِ): أَي بالأَمر الثابت وهو الحكمة المنزهة عن العبث.
(يُذْهِبْكُمْ): يُفْنكُم حتى لا يبقى لكم أَثر. (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ): أَي وليس ذلك بممتنع، فلا يصعب تحقيقه على الله تعالى.
(وَبَرَزُوا للَهِ جَمِيعًا): أَي ظهروا لله جميعا. والمراد أَنهم خرجوا من قبورهم لحساب الله تعالي وحكمه.
(مُغْنُونَ عَنَّا): أَي دافعون عنا، يقال أَغنى عنه: إِذا دفع عنه الضرّ؛ وأَغناه: إِذا وَصَّل له النفع.
(سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا): أَي مستو علينا الجزعُ والصبرُ، والجزع: حزن يصرف الإِنسان عما هو بصدده.
(مَحِيصٍ): مَعْدِل ومهرب، يقال: حاص عنه يحيص: إِذا عدل عنه وحاد، إِلى جهة الفِرار.
التفسير
19 -
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ
…
) الآية.
بعد أَن قص الله تبارك وتعالى ما لقى رسله في سبيل الدعوة إِليه من العناد والإيذاءِ، والتكذيب والاستهزاءِ -توعد المكذبين لهم بأَنه قادر على أَن يهلكهم ويستبدل بهم خيرا منهم فقال:"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ".
الظاهر أَن الخطاب في الآية، الكريمة لكل أَحد من الكفرة، لقوله:"يُذْهِبْكُمْ". وهذا أَنسب بالوعيد والتهديد. والاستفهام هنا للتقرير، ولذا يسعمل في الأَمر الواضح الذي يكفى فيه مجرد تنبيه المخاطب، ليعترف ويشهد به.
والمعنى: أَلم تعلم أَن الله جلت قدرته خلق السماوات والأَرض بالحكمة المنزهة عن العبث، وبالوجه الصحيح الذي يُخلَق أَن يُخلَق عليه، ليُستدل بخلقهما -بهذا النظام الدقيق والنمط البديع-، على قدرته ووحدانيته وسائر كمالاته.
(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ):
أَي إِن يرد الله سبحانه وتعالى إِهلاككُم أَيها المكذبون، يُفْنِكُم حتى لا يبقى منكم أَحد، ويأْت بخلق جديد يكون أَطوع الله منكم، وأَسبق إِلى الحق، وأَسرع إِلى الهدى أَرشد سبحانه بخلق السماوات والأَرض -وَهما أَكبر من خلق الناس- إِلى طريق الإِستدلال. على وحدانيته وقدرته على إِهلاكهم وخلق سواهم، فإِن من قدر على خلق هاتيك الأَجرام العظيمة التي لا يحيط بعظمتها إِلَاّ مبدعها، فهو على تبديلهم بخلق آخر أَقدر، ولهذا قال:
20 -
(وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ):
أَي وما إِذهابكم والإِتيان بخلق جديد مكانكم، بممتنع على الله تعالى ولا متعسر، فإِنه قادر بذاته على جميع الممكنات، لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، ومَن هذا شأْنه فهو حقيق بأَن يُعْبَدَ وحده، ويُرجى ثوابه، ويُخاف عقابه. والضمير في قوله تعالى:
21 -
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا):
إِما لمكذبى الرسل، لأَن الكلام لهم كما تقدم بيانه، وبهذا قال كثير من المفسرين وفي مقدمتهم الإِمام الطبرى، وإما للمصدقين والمكذبين جميعا، فإِن الحشر يوم القيامة للعباد جميعا، مؤمنهم وكافرهم، وبهذا قال أَكثر المفسرين، ومنهم ابن كثير إذْ قال الآية:(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا): أَي برزت الخلائق كلها؛ برُّها وفاجرها لله الواحد القهار، أَي اجتمعوا له في بَراز من الأَرض، وهو المكان الذي ليس فيه شَيء يستر أَحدًا ومعنى بروزهم لله: ظهورهم من قبورهم لحساب الله تعالى وجزائه.
ولما كان هذا البروز أَمرًا متحققًا كائنًا لا محالة، عبر عنه بصيغة الماضى، كأَنه وقع فعلا ودخل في دائرة الوجود، وإِن كان لا يزال مستقبلا واقعًا بعد الموت؛ أَو لأَنه لا مضى ولا استقبال بالنسبة إِليه سبحانه، ومن هذا قوله تعالى:"وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ (1) ". وقوله: "أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ (2) ".
(فَقَالَ الضُّعَفَاءُ) جمع ضعيف. والمراد بهم ضعاف الرأْى، وهم الأَتباع، قالوا!
(لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا): أَي لرؤَسائهم الذين استتبعوهم واستغْوَوْهم:
(إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا): في تكذيب الرسل عليهم السلام، والإِعراض عن نصائحهم، وكلما أَمرتمونا ائتمرنا وفعلنا، والاستفهام في قولهم:
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ): للتوبيخ والتقريع، أَي فهل أَنتم اليوم دافعون عنا شيئًا من عذاب الله، كما كنتم تعدونَنَا وتمنوننا في الدنيا؟!
(1) سورة الأعراف: من الآية 24
(2)
أول سورة النحل.
(قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ):
أَي قال المستكبرون جوابًا عن تقريع الضعفاءِ وتوبيخهم واعتذارًا عما فعلوا بهم: لو هدانا الله إِلى الِإيمان ووفقنا له لهديناكم، ولكن لم يوفقنا، فضلَلَنا وأَضللناكم، أَي اخترنا لكم ما اخترناه لأَنفسنا، أَو لو هدانا الله إِلى طريق النجاة من العذاب لهديناكم ودفعنا عنكم، لكن سُدَّ دُوننا طريق الخلاص، وحقت كلمة العذاب على الكافرين ..
والمقصود من قول المستكبرين للمستضعفين: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا): مُبالغتهم في النهي عن التوبيخ، بإِعلامهم أَنهم شركاءُ لهم فيما ابتُلُوا به وتسلية لهم؛ أَي سيان علينا الجزعُ بما نحن فيه من العذاب والصبرُ عليه.
والهمزة في قوله: "أجزعنا" للستوية بين جزعهم وصبرهم، كما في قوله تعالى:
(مَا لَناَ مِن مَّحِيصٍ): أَي ليس لنا على الحالين مَهْرَبٌ ولا خلاص من عذاب الله. وهذه الجملة لتقرير ما قالوه وتأْكيده، أَي أَنهم لا مناص لهم البته بما هم فيه.
ويجوز أَن يكون هذا من قول المستكبرين والمستضفين جميعًا، يسلِّى بعضهم بعضًا، ويتأَسى بعضهم ببعض. ولكن الأَمر كما قال تعالى:"وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ"(2). والظاهر أَن تكون في النار بعد دخولهم فيها، كما قال تعالى:"وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ"(3).
(1) سورة البقرة: الآية 6
(2)
سورة الزخرف: الآية 39
(3)
سورة غافر: الآية 47، 48.
قال الآلوسى: واستظهر أَبو حبان أَنها في موضع العرض وقت البروز بين يدي الله تعالى. اهـ. وأَيا ما كان الأَمر فالمواقف في يوم القيامة متعددة، ومن الجائز أَن تتعدد المراجعة والخصومة تبعًا لتعددها.
التفسير
22 -
(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ
…
) الآية: لما ذكر الله تعالى المحاورة التي تكون بين الرؤساءِ والأَتباع من كفرة الإِنس والجن، أَردفها بالمحاورة التي تكون بين الشيطان وأَتباعه، وهى التي تضمنتها هذه الآية الكريمة وما بعدها.
والمعنى: وقال الشيطان لأَتباعه بعد أَن قضى الله بين عباده فأَدخل المؤمنين الجنة وأَسكن الكافرين النار -قال الشيطان لأَتباعه- ليزيدهم حزنًا إِلى حزنهم وحسرة إِلى حسرتهم (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ): على أَلسنة رسله أَن يبعثكم ويحاسبكم ويجازيكم على أَعمالكم إِن خيرا فخير وإِن شرًّا فشر ووعد الله حق، وخبره صدق، وقد أَنجز الله ما وعد.
(وَوَعَدُّتكُمْ فأخلَفْتُكُمْ):
أَي ووعدتكم ألَّا بعث ولا جزاءَ، ولو صح أَنكم تبعثون فلأصنامكم شفاعة عند ربكم وقد أخلفتكم فيما وعدتكم، فحق عليكم وعيد ربكم، وقد كان عليكم ألا تنخدعوا بما زخرفته لكم من القول، وأَن تعصوني فيما أمرتكم به.
{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} : أَي وما كان لي عليكم من جبروت وسلطان يقهركم على اتباعي، فلا قوة لي ولا حجة معى، حتى تستحبيبوا إلى ما دعوتكم إليه، لكنكم أَسرعتم إلى إجابتى تلبية لشهواتكم وإشباع نزواتكم.
{فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} : أَي فلا تلومونى اليوم على ما انتهى أَمركم إليه من عذاب النار، ولوموا أَنفسكم، فإن لكم النصيب الأوْفى من اختيار السبيل الموصل إليه.
ثم بين لهم الشيطان حقيقية أَمره وأَمرهم وهوانهم على الله تبارك وتعالى وذلك ما حكاه الله تعالى عنه بقوله:
{مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} : أَي لست اليوم بمغيثكُم مما أنتم فيه من عذاب الضلال ووباله، ولستم بمُغيثىَّ مما أنا فيه من عذاب الإِضلال ونكاله. ثم زادهم غما على غمهم بإِعلان تبرئه من إشراكهم إيَّاه، فقال في استننكار وإصرار:
{إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} : أي إنى برئت من إشراككم إياى، مع الله في الدنيا، حيث أَطعتمونى في الشر كما يطاع الله في الخير كأَني معبود معه، ونظير هذا قوله تعالى:"وَيَوْمَ الْقيَامَة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ"(1). ويجوز أن يكون هذا النص حكاية لما كان مِنْ إِبليس في الدنيا في حق الله تعالى، يقوله على سبيل الندم وأَن مثله لا. يستطيع أَن يغيثهم مع ذنبه.
والمعنى حينئذ: إنى حين أبيت السجود لأَبيكم آدم كفرت بالله الذي جعلتمونى له شريكًا، فكيف أَستطيع أَن أطلب من الله أَن يغيثكم مما أَنتم فيه وذنبى عظيم بالنسبة إليه سبحانه، ثم ختم الشيطان كلامه بقوله فيما حكاه الله عنه:(أنَّ الظَّالِمِينَ لهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ):
(1) سورة فاطر، من الآية: 14
وبهذا سجل الشيطان اعترافه على نفسه وعلى أَتباعه بأَنهم ظالمون فيما أَحدثوه من الضلال والإِضلال وأَنهم مستحقون بسبب ذلك العذابَ الأَليمَ.
ويجوز أَن يكون هذا القول حكاية لرد الله سبحانه وتعالى على الشيطان وأَتباعه جميعًا إِقناطًا لهم من رحمة الله -تابعين كانوا أو متبوعين- أَي إِن الظالمين لهم منَّا عذاب أَليم فلا ينفعهم في ذلك اليوم الندم، ولا إِلقاءُ بعضهم التبعة على بعض.
وقد دلت الآية على فساد التقليد في الاعتقاد، لأَن أَتباِع الشيطان لما صدقوه بمجرد دعواه لم يعذرهم الله سبحانه بل عاقبهم كما عاقبه، فعلى كل قادر على النظر والاستدلال أَن ينهج في عقيدته منهج الاحتجاج بالآيات والاستدلال بالبراهين القطعية.
ولما ذكر سبحانه وتعالى جزاءَ الأَشقياءِ بما صاروا إِليه من الخزى والعذاب الأَليم، أَتبع ذلك جزاءَ السعداءِ بما أَعد لهم من النعيم المقيم فقال جل ثناؤُه:
23 -
(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ .... ) الآية. أَي أُدخل الملائكة الذين آمنوا وعملوا الصالحات -أَدخلوهم- جنات أُعدَّت لهم، تجرى من تحت أَشجارها وقصورها الأَنهار. (خَالِدِينَ فِيهَا): أَي ماكثين فيها أَبدًا لا يخرجون منها ولا يُخْرجهم منها أَحد، فنعيمهم دائم وسعادتهم لا نهاية لها، وكل ذلك (بِإِذْنِ رَّبِهمْ): وأَمره وفضله لا بعملهم فحسب، ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(لَنْ يُدْخل أَحدًا عملُهُ الجنَّةَ، قالوا ولا أَنت يا رسول الله؟ قال: ولا أَنا إِلا أَن يتغمدنى الله بفضل ورحمة). الحديث أَخرجه الصحاح واللفظ للبخارى. (تَحِيَّتُهُم فِيهَا سَلَامٌ): أَي يحيى بعضهم بعضًا بالسلام، والسلام هو تحية الله وملائكته اختارها الله لعباده المؤمنين في الدنيا وفي الجنة دار السَّلام.
المفردات:
(أَلَمْ تَرَ): الخطاب هنا لكل ذى عقل يحسن فهم الخطاب، والاستفهام هنا للتقرير بالعلم، والمعنى: ألم تعلم.
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا): المثل الصفة العجيبة، وضرب المثل تبيينه ووضعه في المكان اللائق به.
(كَلِمَةً طيِّبَةً): المراد بها هنا كلمة التوحيد.
(تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ): تعطى ثمرها في كل وقت.
التفسير
24 -
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ
…
) الآية.
لما بين الله تعالى أَحوال السعداءِ وأَحوال الَأَشقياءَ فيما تقدم، ضرب لكل من الفريقين مثلا يتميز به عن صاحبه، فقال عز مِنْ قائل يخاطب كل من يصلح للخطاب من أَصحاب العقول الراجحة:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيَّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ):
أَي أَلم تعلم أَيها العاقل الفطن كيف بين الله للناس مثلا يعرفون به منزلة كلمة التوحيد في الإِسلام، حيث شبهها بشجرة طيبة أَصلها ضارب بعروقه في الأَرض، وفرعها -أَي أَعلاها- متجه إِلى السماءِ، تعطى ثمرها في كل وقت وقَّته الله لإِثمارها بإِذن خالقها ومربيها.
فالمراد بالكلمة الطيبة هي شهادة أَلا إِله إِلا الله التي هي الأَساس الأَول للإِسلام وهذا ما أَخرجه البيهقى وغيره عن ابن عباس.
وعن الأَصَمِّ أَنها القرآن الكريم، فإِنه أَصل يتفرع عليه كل خير في الدنيا والآخرة، وقد شبهها الله تبارك تعالى بالشجرة الطيبة، والمراد بها عند جمهور المفسرين النخلة، وبه أَخذ ابن عباس وابن مسعود، ويؤيد ما رواه الشيخان وغيرها عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فَأُتِى بجُمَّار فأَكل منه وقال: إِن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإِنها مَثَلُ المسلم، فحدثونى ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادى،
قال عبد الله: ووقع في نفسى أَنها النخلة فأردت أَن أَقول هي النخلة، فإِذا أَنا أصغر القوم -وكنت عاشر عشرة أنَا أَحْدثُهمْ ورأَيت أَبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أَن أتكلم واستحييت: ثُم قالوا: حدثنا ما هى يا رسول الله؟ قال: هي النخلة، قال عبد الله: فحدثت أَبي بما وقع في نفسى فقال: لأَن تكون قُلتها أحبُّ إِلَّى من كذا كذا. وعند ابن حبان في صحيحه: أَحسبه قال: من حُمْر النَّعم. والإِبل الحمراءُ كانت أَحب أَموال العرب إِليهم وأنْفَسها.
وقيل: هي كل شجرة مثمرة طيبة الثمار والمنظر والرائحة. وقيل غير ذلك. وأَرجح هذه الأَقوال أَولها وهو كونها النخلة، ووجه تشبيه الكلمة الطيبة بالنخلة أَن أَصل تلك الكلمة وهو الإِيمان ثابت في قلب المؤمن كثبوت جذور النخلة في الأَرض، وأَن ما يتفرع منها ويبنى عليها من الأَعمال الصالحة والأَفعال الزكية يرفع إِلى السماءَ، ويصعد إِلى الله تعالى، كما قال جل شأْنه:(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)(1). وأَن ما يترتب على ذلك من ثواب الله تعالى ورضاه دائم دوام ثمرها، والانتفاع بها في كل وقت، فإِن ثمر النخيل يؤكل أَبدا: ليلا ونهارا صيفًا وشتاءً، فيؤكل منها الجمار والبلح، والبسر والرطب والتمر، وكل نتاجها خير وبركة من بعد أَن تغرس إِلى أَن تجف وتيبس، بل بعد أَن تقطع قطعا تُسْتَعْمل في مصالح الناس ومرافقهم، ولن ترى شيئا منها مهملا أَبدا، وكم من الناس يقيمون في بيوت تعتمد على جذوع النخل وجريده، ويعيشون على التمر كما
(1) سورة فاطر: من الآية 10.
تعيش إِبلهم علي النوى، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها:"إِن كنا آل محمد لنمكث شهرين ما نُوقد نارًا، إنْ هما إِلا الأسْودانِ: التمر والماءُ".
وكذلك المؤمن القوى والمسلم الحق، كله خير وبركة أَينما حل وارتحل: لنفسه وعشيرته وأُمته، في حياته وبعد مماته، ومن هنا فسرت الكلمة الطيبة بالمؤمن كما قال بعض السلف، فما أَروع هذا التشبيه المقتبس من مشكاة النور الإلهى.
وفي ختام الآية الكريمة يقول الله تعالى: (وَيَضرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ): تنبيها على شأْن الأَمثال وعظيم فائدتها، في تجلية الحقائق وتنويرها، عونا على التبصير والتذكير، ودوام النظر والتدبر في كتاب الله الحكيم.
المفردات:
(اجْتُثَّتْ): قطعت واستؤصلت. (مِن قَرَارٍ): من ثبات في الأَرض.
(بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ): بكلمة التوحيد.
التفسير
26 -
(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ
…
) الآية.
الكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر وما يدعو إليها ويتصل بها، ضد الكلمة الطيبة، ولا يجتمعان في قلب واحد أَبدًا، والشجرة الخبيثة هي الحنظلة، فقد روى أَبو يعلى في مسنده
عن أَنس رضي الله عنه قال: (أَتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقِنَاع (طبق) عليه رطب فقال: "مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أَصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أُكلها كل حين بإِذن رَبِّهَا"، قال: هي النخلة "وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ": قال هي الحنظلة).
وقيل: هي كل شجرة لا يطيب لها ثمر؛ ضد الشجرة الطيبة وهي التي يطيب ثمرها.
قال الآلوسى تبعا لأَبي السعود: ولعل تغيير الأُسلوب -يعنى في قوله: "وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ" بدلا من قوله: "وَضَرَبَ الله مثَلًا
…
" -للإِيذان بأَن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان: وإِنما ذلك أَمر ظاهر يعرفه كل أَحد. اهـ.
(اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ):
أَي اقتلعت من أَصلها واستؤصلت جثتها، إِذ حقيقة الاجتثاث أَخذ الجُثَّة كلها، وهي شخص الشيءِ كما قال الراغب.
وهذا في مقابلة قوله: "أصلها ثابت" وقال: "من فوق الأَرض" لأَن عروقها قريبة من الفوق فكأَنها فوق.
(مَا لَهَا مِن قَرَارٍ):
أَي ليس لهذه الشجرة الخبيثة من ثباث في الأَرض ولا استقرار، إِذ ليس لها أَصل ثابت ولا فرع صاعد، وكذلك الكافر لا خير فيه: لا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح، إِذ ليس لهما عنده أَساس يبنيان عليه، فهذا وَجْهُ تشبيه الكافر بالشجرة الخبيثة.
27 -
(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ .. ) الآية.
أَي أَنه تعالى يثبِّت الذين صدقوا برسالة الأنبياءِ والمرسلين -يثبتهم على دينهم ويقينهم بسبب اعترافهم الثابت بتوحيد اللُّه وطمأْنينتهم به، فلم تهزه الشكوك ولم يزلزله الإِيذاءُ أَو التشكيك؛ فيَظلُّون على ما هم عليه من اليقين الثابت في الحياة الدنيا، لا تزحزحهم عنه الشدائد والفتن، وإِن كانت كموج البحر أَو كقطع الليل المظلم!!
وإِليك أَيها القارئُ مثلين اثنين بما صنعه الكفرة الفجرة، في مُؤْمنى الأمم السابقة وفي المستضعفين من المؤمنين في هذه الأمة المحمدية، فثبتهم الله ولم يضعف لهم إِيمان.
(أ) أخرج البخاري بسنده في أعلام النبوّة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "قَدْ كَانَ من قَبلِكُم يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحفَرُ لَهُ في الأرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بالْمِنْشَار فَيُوضَع علَى رأسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفين، وَيُمشَطُ بأمشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، مَا يَصْرفُهُ ذَلِكَ عن دِينِه".
(ب) بلغ من تعنُّت قريش ووقوفهم في سبيل الدعوة المحمدية أَن أذاهم لم يكن مقصورًا على خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليهم، بل تعداه إلى المستضعفين والأرقاءِ الذين لم يكن لهم من يحتمون به أو يعتزون بعصبيته، فقد عذب أهل مكة الكثير منهم ليفتنوهم عن دينهم، ويردوهم من بعد إيمانهم كفارا فلم يفلحوا. ومن هؤلاء بلال بن رباح الحبشى، وعمار بن ياسر وأبوه وأمه، أَوقع بهم المشركون من العذاب ما لا طاقة لأحد به! وقصصُ تعذيب هؤلاءَ وغيرهم مشهورة في السيرة النبوية وفي التاريخ
…
وكلها نماذج من الطراز الأول في قوة الإيمان، والثبات على الحق الذي ثبَّتهم الله عليه في هذه الحياة الدنيا.
(وَفِي الآخَرَةِ): يثبتهم الله بعد الموت، فلا يتلعثمون إذا سئلوا في قبورهم، أَو بين يدي ربهم حينما يُسألون عن معتقدهم، ولا تدهشهم أهوال القيامة، والقبر هو أول منزل من منازل الآخرة، فمن نجا منه فما بعده أَيسر منه، ومن لم ينج منه فما بعده أَشد منه ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن عثمان رضي الله عنه، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وغيرهما عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال:(الْمُسلِمُ إذَا سُئِل في القَبْر يَشْهَدُ أن لَّا إلَهَ إلَاّ اللهُ وَأَن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآية. وعن أَنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى إلله عليه وسلم: "إن العَبْدَ إذَا وُضِعَ في قَبْرهِ وَتوَلى عنه أصحابه، وإنه لَيسمَع قَرع نِعَالِهم إذَا انصَرَفوا -أَتَاه مَلَكَانِ فيُقْعِدَانِه فيَقولَانَ. لَه: مَا كُنْتَ تَقُول- في هَذَا الرجل. (محمد صلى الله عليه وسلم فأما المؤمِنَ فَيَقُول: أشْهد أنه عَبْد الله وَرسُولُه.
فَيُقَالُ لَهُ: انْظُر إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ فَيَراهُمَا جَمِيعًا، وَيُفْتَحُ لَهُ مِنْ قَبْرِهِ إِلَيْهِ؛ وَأَمَّا الكَافِرُ أَو المُنَافِقُ فَيَقُولَ: لَا أدْرِى كُنْتُ أَقُولُ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ: لَا دَرَيتَ ولَا تَليْتَ (1). ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِن حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَينَ أذُنَيْهِ فَيَصِيح صَيْحَةً فَيَسْمَعُهَا مَنَ يَلِيهِ إِلَا الثَّقَلَيْنِ (2) ". أخرجه الشيخان وغيرهما.
(وَيُضِلُّ اللهُ الظالِمِينَ): أَي يتخلى اللهُ سبحانه عن الكافرين الظالمين لأَنفسهم فيخذلهم ولا يعينهم، لإِصرارهم على الكفر والضلال، حيث بدلوا فطرة الله التي فطر الناس عليها، فلم يهتدوا إلى القول الثابت الذي ثَبَّت الله به المؤمنين في الدنيا والآخرة.
ويجوز أَن يكون المعنى أَنه تعالى يصرفهم عن الحجة يوم القيامة، فلا يستطيعون الدفاع عن كفرهم ومعاصيهم. والمقصود إِنه لا حجة لهم على ما اقترفوه من الكفر والمعاصي.
(وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ): أَي يفعل الله جلت حكمته ما يريد من تثبيت أَهل الإِيمان ومثوبتهم، وخذلان أَهل الكفر وعقابهم، فله الحجة البالغة. وفي إِظهار الاسم الجليل في الموضعين من الفخامة وتربية المهابة ما لا يخفى.
(1) الأصل: ولا تلوت، وقلبت الواو ياء للازدواج والمناسبة لما قبلها.
(2)
الإنس والجن، والحكمة في عدم سماعهما الامتحان والابتلاء، إذ لو سمعا لكان الإيمان منها ضروريا.
المفردات:
(كفروا نعمة الله) كفر النعمة: جحدها. (دَارَ الْبَوار): دار الهلاك، ويطلق البوار أَيضًا على الكساد.
(وَبِئْسَ الْقَرَارُ): وبئس المستقر. (أَنْدَادًا): جمع ند وهو المثل والنظير.
(مَصِيرَكُم): مرجكم. (لَا بَيْع فِيهِ): لا فدية فيه.
(وَلَا خِلَالٌ): الخلال معناه المخالَّة وهى المُوَادَّة. أو جمع خليل وهو الصديق، أَو جمع خُلَّة. بضم الخاءَ وتشديد اللام مفتوحة: وهي الصداقة.
التفسير
28 -
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} :
بين الله في ختام الآيات السابقة حال المؤمنين: وحال الظالمين وأَنه سبحانه يثبت المؤمنين في الدنيا والآخرة، ويضل الظالمين بأَن يتخلى عنهم لإِصرارهم على الكفر. ويضل بكلا الفريقين ما يشاءُ من تثبيت المؤمنين، والتخلِّي عن هداية الظالمين، وَمِنْ ثَوَابِ الأولين، وعقاب الآخرين. وجاءَت هذه الآية وما بعدها بييانًا للأسباب التي أَدت إِلى ضلال الظالمين واستحقاقهم سوءَ العاقبة. وقبح المصير.
والخطاب في قوله: "أَلمْ تَرَ" موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَو إلى كل من يصلح للخطاب مقصود به التعجيب مما صنع الكفار من اقتراف الأباطيل الكثيرة، التي كان من جملتها جحد نعم الله الظاهرة والباطنة. والمراد بهم مشركو قريش فالآية نزلت فيهم، المعنى: ألم تنظر إِلى الذين بدلوا شكر نعمة الله عليهم. فجعلوا مكانه كفرًا عظيمًا فبدلا من أَن يشكروه بتوحيده في العبادة أشْرَكُوا معه غيره. أو بدلوا شكر النعمة كفرًا لها بإهمالها. وعدم رعاية شأنها فسُلِبوها وحُرِموا منها، وذلك ما حدث لأَهل مكة. أَسكنهم الله حرمه الآمن الذي يجبى إِليه ثمرات كل شيء وجعلهم قُوَّامَ بيته. وشرفهم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا بذلك، وأذوا النبى وأصحابه فأصابهم القحط سبع سنين وعوقبوا بالقتل والأسر يوم بدر.
(وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ): أَي أَنزلوا أَهلهم واللائذين بهم دار الهلاك، بما قادوهم إِليه من شرك وضلال، وعن ابن عباس أَنهم قادة قريش وعن عمر وعلي أَنهم أَشد قريش فجورًا، وهم بنو المغيرة وبنو أُمية.
والتعبير عن الهلاك بالبوار أَن أَصله كما قال الراغب: فرط الكساد لأَنه يفضى إِلى الفساد المؤدى إِلى الهلاك.
ولم تتعرض الآية للنص على حلولهم أَنفسهم دار البوار. لأَن إحلال قومهم فيها فرع لحلولهم إِذ هم رأْس الشرك ودعاة الضلال، كما قال تعالى في شأْن فرعون:"يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ".
ثم بين الله دار البوار بعد إِبهامها فقال جل شأنه: (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا): أَي أَن دار الهلاك هي جهم التي يدخلونها ويخلدون فيها. ولا ريب أَن في البيان بعد الإِبهام من التهويل والتخويف ما لا يخفى حيث تذهب النفس في رسم صورتها المفزعة كل مذهب.
(وَبِئْسَ الْقَرَارُ): أَي بئس المقر جهنم الذي جعلوه مكانًا لقومهم تبعًا لهم، فليس له ما يضارعه في أَهواله ولا فيما يذم به لسوءِ حاله، أَو بئس القرار قرارهم فيها، وفي التعبير بالقرار إِشعار بأَن حلولهم فيها وصُلِيَّهم إِيَّاها على سبيل الدوام والاستمرار.
30 -
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ
…
) الآية.
هذه الآية تعجيب مما اقترفوه كالتى قبلها. حيث جعلوا لله الواحد الأَحد الذي ليس كمثله شيءٌ أَمثالًا في التسمية أَو في العبادة. وهي الأَصنام والأوثان. جعلوها آلهة في اعتقادهم وحكمهم.
(لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ): أَي لإِضلال قومهم الذين يدينون بالولاءِ لهم -لإِضلالهم- عن سبيل الله وهو التوحيد، بما زينوه لهم من شرك وافتراءٍ (قُلْ): يا محمد لهؤلاءِ المشركين تهديدًا لهم ووعيدا: (تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ):
أَي تمتعوا بما أَنتم عليه من الشهوات التي تماديتم فيها، ومن جملتها تبديل نعمة الله كفرًا. وإِضلال الأتباع، وسمى عملهم هذا تمتعًا تشبيها له بالمشتهيات المعروفة لتلذذهم به كتلذذهم
بها. ثم بين سبحانه جزاءهم الذي لا مفر منه، ولا محيص عنه فقال تعالى:
(فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ): أَي إِن دمتم على ما أَنتم عليه. من الاستجابة لداعى الشهوة، ودافع الانحراف. فإِن مآلهم إِلى نار جهنم فيها مستقَركم ومأْواكم، أَو هو تعليل لأَمرهم بالتمتع، وفيه من التهديد الشديد، والوعيد القوى ما لا يوصف.
والمعنى تمتعوا بما شئتم فلا أَمل لكم في النجاة لأَن مردكم، ومرجعكم إِلى النار لا لِشَيء سواها.
31 -
(قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ .... ) الآية.
لما هدد الله الكفار وعجّب من قبح ما فعلوا حيث بدلوا نعمة الله كفرًا، وأَضلوا أَتباعهم وأَشركوا به تعالى، واقترفوا كل منكر. أَنزل هذه الآية تكليفًا لنبيه صلى الله عليه وسلم بأَن يأَمر عباده المؤمنين بأَداءِ العبادة البدنية تامة كاملة، والإِقبال على العبادة المالية بنفوس راضية.
والمعنى: قل يا محمد لعبادى الذين استجابوا دعوة ربهم فآمنوا، قل لهم: أَقيموا الصلاة وأَدوها حق أَدائها بأَركانها وشروطها في أَوقاتها، وقيل لهم أَيضًا أَدوا الزكاة وأَنفقوا مما رزقكم الله على المحتاجين والمعوزين، فإِن المال مال الله فهو معطيه ومسبب أَسبابه، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاءُ من عباده ويقدر، وقد أَبحنا لهم أَن ينفقوا سرًّا كما يشاءُون، وعلنًا كما يحبون، بغير مَنٍّ ولا رياءٍ.
والمراد حث المؤمنين على أَداء عبادته البدنية والمالية شكرًا، لنعمه التي تفضل بها عليهم.
واعلم أَن الأَفضل في إِنفاق التطوع الإِخفاء، وفي إِنفاق الواجب الإِعلان، وعلى العباد أَن يسارعوا إِلى امتثال ما أُمروا به من إِقامة الصلاة والإِنفاق.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ): فإِنه إِذا جاءَ ذلك اليوم لا يتسنى لمقصر في دنياه، أَن يتلافى تقصيره هذا، أو يفتدى نفسه بما يكسبه من بيع أَو شراء أَو بشفاعة خليل، فإنه لا بيع في هذا اليوم ولا شراءَ، ولا تنفع فيه شفاعة الأصدقاءِ والأَخلاءِ إِذا لقى العبد ربه كافرًا، حيث "يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ"(1). وإِنما ينفعه إِيمانه وعمله الصالح، ابتغاءَ وجه الله تبارك وتعالى {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (2).
(1) الشعراء - 88
(2)
سورة الليل من 19 - 21
المفردات:
(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ): كل ما علا الإِنسان فأَظله فهو سماءُ. والمراد به هنا السحاب.
(رِزْقًا): مرزوقا مما يطعم أَو يشرب أَو يلبس أَو ينتفع به.
(وَسَخرَ لَكُمُ الفُلْكَ): أَي يَسَّر الْفُلْكَ لإِرادتكم. (والْفُلْكَ): بسكون اللام؛ السفينةُ. يستعل في الواحد فيذكر، وفي الجمع فيؤنث.
(دَائِبَيْنِ): في حركة دائمة لا يفتران. يقال دأَب في عمله دأْبا ويحرك جدَّ فيه.
(لَا تُحْصُوهَا): لا تقدرون على حصرها وعَدِّها، والإِحصاءُ. في الأَصل: العد بالحصى، ثم أُطلق على العدِّ مطلقا.
(لَظَلُومٌ): ظالم شديد الظلم يقال: ظلم، يظلم، ظلما، من باب ضرب فهو ظالم وظلوم. والظلم: وضع الشيء في غير محله.
(كَفَّارٌ): جاحد النعمة. يقال كفر النعمة وكفر بالنعمة جحدها.
التفسير
32 -
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
…
) الآية.
لما ذكر الله أَحوال الكافرين المعاندين الذين جحدوا نعمهُ، بالكفر بوحدانيته، والإِشراك في عبادته، وتكذيب رسوله، وأَتبع ذلك أَمر المؤمنين بطاعته البدنية والمالية، شكرا له على نعمه، لما ذكر ذلك -جاء بهذه الآية وما بعدها ليوجه عباده إِلى أَدلة القدرة الماثلة في الآفاق. ويذكرهم بالنعم العظيمة التي يتقلبون في أَعطافها حثًّا للمؤمنين على المزيذ من شكرها، وتقريعًا للكافرين الجاحدين لها، وقد بدئت هذه الآية بلفظ الجلالة وأَخبر عنه بالاسم الموصول بسبع جمل، تبرز أَدلة باهرة على قدرة الله تعالي ووحدانيته. فهو وحده الذي خلق السماوات، وأَبدع صنعها على غير مثال سبق، وأَوجد فيها الأَجرام العلوية من نجوم وكواكب، وخلق كذلك الأَرض وما فيها من أَنواع المخلوقات.
(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ): المراد من السماءِ هنا السحاب، أَي أَنزل من السحاب نوعا خاصا من الماءِ وهو المطر، فأَخرج به أَزواجا أَي أَنواعًا من نبات شتى، أَخرج به زروعًا وثمارًا مختلفة الأَلوان والأَحجام والطعوم والمنافع. وجعلها رزقًا لكم تعيشون به. مطعومًا كان أَو ملبوسا أَو غير ذلك.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَار): أَي ذلَّلَ لكم السفن لتجرى في البحر بمشيئته، وذلك بأَن أَقدركم على صنع السفن ويسر لكم استعمالها. فجرت على وجه الماءِ في البحر مذللة خاضعة لإِرادتكم بأَمره: أَي بمشيئته التي ارتبط بها كل شيءٍ في الوجود، فتسيير الآلات ليس بمعزل من توفيق الله ومدده.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ): أَي ذللها لكم حيث تشربون منها وتسقون زروعكم وجناتكم ودوابكم. وتشقون منها جداول تسيرونها وفق إِرادتكم.
33 -
(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ): أَي أَنه تعالى يذللهما ليلا ونهارًا لا يفتران عن حركتهما وإِصلاحهما لما ارتبط بهما صلاحه من الموجودات وفق تقدير الله. وهما لا يلتقيان إِلى قيام الساعة (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمر).
(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ): فهما يتتابعان فيكم ويتعاقبان، لتتخذوا من النهار معاشًا فتبتغوا فيه من فضله، ومن الليل سكَنًا تستعيدون به قوتكم ونشاطكم، وبهما يتم عقد ثماركم وإِنضاجها واختلاف الفصول بما يكون فيه صلاح أَمركم واستقامة شأْنكم، وما به تتنوع أَصناف زروعكم وتتعدد أَجناس ثماركم، إلى غير ذلك من النعم الجليلة كالاهتداءِ بها في ظلمات البر والبحر.
34 -
(وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ): أَي تفضل عليكم فأَعطاكم من كل مسئول سألتموه شيئًا اقتضته مشيئته التابعه للحكمة والمصلحة، كما في قوله:"مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ".
أَو أَعطاكم من كل ما سأَلتموه وما لم تسأَلوه -فحذف الثاني لدلالة الأَول عليه، ونظيره:"سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ" أي والبرد.
ويجوز أَن يكون المعنى أَنه تعالى أَمدكم بما تحتاجون إِليه في جميع شئونكم، من كل ما هو جدير بسؤالكم، سواءٌ أَسأَلتموه أَم لم تسأَلوه. وفي هذه الحياة أَشياء كثيرة لازال يجهلها الإِنسان وهي مُعَدَّةٌ له، ومتى حان وقت إِبرازها كشف الله له عنها، بما أَمده به من عمق في العلم وقوة في العقل وتوفُّر على البحث، أَو عن طريق الصدفة، وقرئَ بتنوين كل: والمعنى على هذه القراءَة وأَعطاكم من كل شيءٍ: ما سأَلتموه -على أَن (ما) نافيه- أَي من كل شىءٍ حال كونكم غير سائليه.
(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا): أَي أَن نعم الله عليكم كثيرة متعددة، فإِن حاولتم إِحصاءَها ولو إِجمالًا فإِنكم لن تطيقوه، لأَنها لا يلم بها الحصر ولا يحيط بها العد فلا استعنتم بها على الطاعة. وشكر النعمة وعدم الإِشراك به في العبادة.
(إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ): المراد من الإِنسان الجنس ومن الكفر كفر النعمة بالتقصير في شكرها.
والمعنى: أَن الإِنسان لا يقدر نعم الله عليه وهي لا تحصى، فتراه عظيم الظلم لنفسه، شديد الكفران لنعم ربه، فهو دائم الانتفاع بها، والتقصير في أَداءِ شكرها، ووضعها في غير موضعها، ولو أَنصف نفسه وعرف حق ربه لاستدام شكره، والوفاءُ بحقه جل وعلا.
المفردات:
(الْبَلَد): مكة المكرمة. (اجْنُبْنِى): أَبعدنى. يقال: جَنَبْتُ الرجلَ الشَّرَّ من باب نصر. أَبعدته عنه، وجنَّبْتُه بالتشديد مبالغة. (بِوَادٍ): الوادى كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذًا للسَّيل. والمراد به هنا ما يحيط بالبيت الحرام. (تَهْوِى إِلَيْهِمْ): تسرع إِليهم شوقًا وحُبًّا. يقال: هوى إِليه يَهْوِى هُوِيًّا بضم الهاءِ إِذا أَسرع في السَّير - (مَا نُخْفِى): ما نضمر ونستر. يقال: أَخفيت الشيءُ سترتُه. وخَفِى الشيءُ اسْتَتَر أَو ظهر ضد. (ومَا نُعْلِنُ): وَما نظهر. يقال عَلَنَ الأَمْرَ من باب قعد ظهر، وأَعلنته؛ أَظهرته.
التفسير
35 -
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا):
هذه الآية وما بعدها يذكر الله فيها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بما وقع من مخالفة قريش لوصايا أَبي الأنبياءَ إِبراهيم عليه السلام، تأْكيدًا لما سبق من تعجيبه صلوات الله وسلامه عليه من أَحوالهم، وتماديهم في الطغيان والضلال -والمعنى: واذكر أَيها النبي وقت قول
إِبراهيم لربه، بعد أن أَسكن إسماعيل وأُمه وادي مكة "ربِّ اجْعلْ هذا الْبَلَدَ آمِنًا": أَى يا إِلهى الذى أَعبده اجعل مكة -شرفها الله- بلدًا ذا أَمن، حتى يأمن أهله على أنفسهم وأَموالهم وأَعراضهم.
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} : أَى أَبعدنى وذريتى عن عبادة الأصنام، والمراد ثبتنا على ما نحن عليه من البعد عن عبادتها، وإنما سأل إبراهيم هذا لنفسه مع أَن الأنبياءَ جميعًا معصومون من الشرك، للإِيذان بأن العصمة بفضل الله ومعونته وتوفيقه، كما أَن فيه هضمًا لنفسه واعترافًا بحاجته إلى فضل ربه فى كل أَمر، والمراد من بنيه من اتبعه في شريعته من ذريته بدليل قوله تعالى:{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} فكأنه لا يعتبر من ذريته من لم يتبعه، وعلى هذا تكون دعوته مستجابة تمامًا حسب نيته، ويؤَكد هذا المعنى ما جاءَ فى سورة البقرة من قوله تعالى:{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (1).
36 -
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} :
لما كانت الأَصنام سببًا للإضلال أَسند إِليها الإِضلال مجازًا، لأنهن جماد فلا يعقل
منهن ذلك على الحقيقة.
وجملة: {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} : تعليل لدعاءِ إبراهيم السابق، وهو قوله:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} . وصدر هذا التعليل بقوله (رَبِّ)، إظهارا للاعتناء به، ورغبة فى استجابته -والمعنى: وأَبعدني وذريتي عن أَن نعبد الأصنام يا رب لأنهن تسببن فى إِضلال كثير من الناس، بنصبها شركاءَ لِله فى العبادة ومشاهدة الأبناء للآباءَ في تقديسهم لها، فكان ذلك مُغْريًا لهم بعبادتها، ثم إِن إِبراهيم عليه السلام أدرك بفطرته أَن بنيه سوف ينقسمون بعده إلى موحدين ومشركين، فلذلك أَظهر لربه أنه لا يستحق الانتساب إِليه إلا من اتبعه فى دينه دون من عصاه، وذلك ما حكاه الله بقوله:
{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :
أي فمن تبعني منهم في التوحيد والإسلام الذي هو دين الله، فإنه متصل بي نسبًا ودينًا،
ومن عصاني بإعراضه عن التوحيد الذى أدعو إِليه، وإصراره على المعاصي.
(1) سورة البقرة من الآية 124.
{فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : أى فإنك أَهل للغفران الشامل والرحمة الواسعة، ومن كان كذلك فإنه يغفر لأمثالهم ويرحمهم، فإِن قيل: إن من ذريته من عصاه بالإِشراك بالله، فكيف يدعو له بالمغفرة والرحمة، فالجواب أَنه دعا هذا الدعاءَ الشامل قبل أَن يعرف أَن الله لا يغفر أَن يشرك به، أَو أنه قيده فى نفسه بالتوبة من الشرك، فكأَنه قال: فإنك غفور رحيم لمن تاب منهم قبل موته، وقال مقاتل وابن حَيَّان المعنى:" ومن عصاني" فيما دون الشرك فإِنك غفور رحيم.
37 -
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} :
المقصود من ذريته فى الآية ابنه البكر إِسماعيل الذى ولد له فى شيخوخته من أمَتِهِ هاجر التى وهبها ملك مصر لزوجته سارة، فوهبتها له.
وكانت سارة عقيمًا زمنا طويلا، فلما ولدت هاجر التى كانت جاريتها، حدث فى نفسها ما يحدث للنساء من الغيرة، فناشدته أن يخرجهما من عندها، فذهب بهما إلى أَرض مكة، ووضعهما هناك، حيث لا يوجد زرع ولا ماءٌ، ولا أحد يقيم بتلك الأَرض الموحشة، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاءً فيه ماءٌ، ئم قفل إبراهيم عليه السلام راجعًا، فتبعته أُم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي لا أنيس فيه ولا شيءَ، ولما لم يجبها قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إِذن لا يضيعنا، ثم رجعت.
وانطلق إبراهيم عليه السلام، حتى إِذا كان عند الثنية -حيث لا يريانه استقبل البيت بوجهه، وكان إذ ذاك مرتَفَعًا من الأرض كالرابية، ثم دعا رافعًا يديه فقال:"رب إِني أَسكنت من ذريتي" إِلى قوله "لعلهم يشكرون (1) "، وقد آثر عليه السلام فى نداءِ ربه صيغة الجماعة بقوله:"رَبَّنا" لتقدم ذكره وذكر بنية، والتعرض لوصف ربوبيته لهم أَدخل فى القبول وإِجابة المطلوب.
والمعنى: ربنا إِني أَسكنت بعض ذريتي بواد لا ماءَ به ولا زرع، عند المكان الذي أَعددتَه لبيتك المحرم، مع أَن هذا المكان غير صالح للسكنى لفقد الماءِ والزرع، وقد أَقدمت على ذلك استجابة لأمرك، وتقربًا إِليك، وثقة بأنك سترعى ذريتي بعد أَن لجأت إلى جوارك الكريم.
(1) القصة رواها البخاري مطولة فارجع إليه إن شئت.
وإضافة البيت إِلى الله تعالى لأنه لا يملكه غيره، ولا يُصَلَّى نحوه إلى سواه، ووصف البيت بالمحرم للإِيذان بعزة الملجإ، وعصمته عن المكاره، حيث حرم التعرض له والتهاون به.
{رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} : في هذه الجملة تعليل لإِسكان بعض ذريته فى هذه البقعة الجرداء المجاورة للبيت الحرام.
والمعنى: يا ربنا ما أَسكنت بعض ذريتي بهذا الوادي البلقع الخالي من كل مرتزق إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم، ويعمروه بالذكر والعبادة، والتعبير بصيغة الجمع فى قوله:{لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} : مع أَنه لا يوجد من ذريته سوى إسماعيل يؤذن بأن الله تعالى أَعلمَه أن ولده إسماعيل، سيعيش وتكون له ذرية كثيرة، وسيكون رسولا إليهم ليقيموا الصلاة على شريعته.
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} :
أَى فاجعل قلوبا من قلوب الناس تسرع إليهم شوقًا وودًّا ليساكنوهم ويعيشوا معهم، وأَول آثار هذه الدعوة أنه تعالى أنبع ماءَ زمزم، ومرت رفقة من جرهم تريد الشام، فرأَوا الطير تحوم على الجبل، فقالوا إِن هذا الطائر لعائف على الماءِ، فأشرفوا، فإذا هم بِهَاجَرَ، فقالوا إِن شئت كنا معك وآنسناك.
{وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} : فاستجاب الله دعاءه، ورزق ذريته وكل من انحاز إليهم بما أَنبت لهم من أَشجار الفاكهة المختلفة بقرى قريبة كالطائف، أو ما يجلب إليهم من الأمصار والأقطار الشاسعة من مختلف الفواكه والثمار، حتى أصبحت لديهم كثيرة موفورة، يجتمع منها عندهم الأنواع المتعددة فى اليوم الواحد، وفى ذلك يقول الله تعالى:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} (1).
وهذا من فضل الله وكرمه، ليكون عونا على عبادته والرغبة فى البقاء فى حراسة حرمه، وليجعل من موطنهم القفر ومنزلهم الموحش. مطمح الأنظار ومحط الرحال. وهي لذلك تستوجب منهم أداء مراسم العبودية تامة كاملة شكرا له تعالى وثناء عليه.
38 -
{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ
…
} الآية.
كرر إِبراهيم نداء ربه للمبالغة فى الضراعة.
(1) سورة القصص، من الآية:57.
والمعنى: يا ربنا إِنك تعلم كل أَحوالنا، لا يخفى عليك شيء منها. فتعلم ما نخفيه ونستره وما نعلنه ونظهره، فكل ذلك عندك في العلم سواءٌ.
وقال ابن عباس ومقاتل في تفسير هذه الجملة: تعلم جميع ما أُخفيه وما أُعلنه من الوجد بإِسماعيل وأُمه، حيث أَسكنتهما بواد غير ذى زرع.
ولكن حمل الآية على عموم أَحوالهم أَولى، ويدخل فيه ما يتعلق بإِسماعيل وأُمه، وقدم نخفى على نعلن في الذكر، لأَن مرتبة الإِسرار متقدمة على مرقبة الإِعلان، فما من شيءٍ أُظهر إِلا كان قبل ذلك في طي الكتمان، وبعد أَن اعترف إِبراهيم لربه بأَنه سبحانه يعلم ما يخفيه وما يعلنه هو وذريته، أَقرَّ لربه بعلمه ما في الكون حيث قال:
(وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ): أَي أَنه تعالى لا يخفى عليه في سماواته وأَرضه شيء من الذرات والأَجزاءِ والأَوصاف والأَعراض، وما يصلح ذلك وما يفسده، وما يبقيه وما يفنيه:"وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ".
ويقصد إِبراهيم عليه السلام بقوله: "وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ" إِلخ أَداءَ حق ربه عليه، وتعليم ذريته ما يجب عليهم إِدراكه من شئون ربهم، ليخافوه في سرهم وعلنهم.
ويجوز أَن تكون هذه الجملة من قوله تعالى، إِجابة منه لإِبراهيم حين قال:"رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ". تصديقا له وتأييدًا لشهادته، وتوسيعا لدائرة علمه جل وعلا تعليما لعباده.
المفردات:
{وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ} : رَزَقَنِى مع تقدمي فى السن.
{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} : أي إنك مجيب دعاء من دعاك.
التفسير
39 -
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
…
} الآية.
أي الثناءُ مني على الله شكرًا له حيث منحني مع كبر سني ويأسي من الولد -منحني- إسماعيل وإِسحاق. وقال ابن عباس: ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، وإِسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.
{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} : المقصود من سماع الدعاءِ قبوله وإِجابته، أَي إن ربي ومالك أَمري لمستجيب دعاء من دعاه، وقد استجاب دعائي فيما سألته من الولد.
40 -
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} : أَي وفقني إِلى دوام المحافظة عليها والخشوع فيها، وإقامة حدودها واجعل من ذريتي من يقيمها، وقد خص الدعاء ببعض ذريته لعلمه من جهة الله تعالى أَن بعضا منهم لا يكون مقيما للصلاة، بأن يكون كافرا أَو مؤمنا لا يؤدى الصلاة، ويجوز أن يكون قد علم من استقرائه عادة الله فى الأُمم السابقة، أن يكون فى ذريته من لا يقيمها، وهذا كقوله تعالى:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} .
{رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} : أى دعائِي بتحقيق ما طلبته من الأدعية السابقة.
41 -
{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ
…
}: بما أن إِبراهيم لا يرتكب ذنبا كشأن جميع الأنبياء فيكون معنى هذه الجملة، ربنا تجاوز عما فرط مِنِّي من ترك الأوْلى فى أَعمالي الدينية وغيرها مما لا يسلم منه البشر. واغفر لوالدي. وكان ذلك الاستغفار منه لهما قبل أَن يثبت عنده أنهما عدوان لله، وقال القشيري: ولا يبعد أَن تكون أمُّه مسلمة، لأن الله ذكر عُذْرَهُ في استغفاره لأبيه دون أمه فقال تعالى:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (1). وروى عن الحسن أَيضًا أن أُمه كانت مؤمنة، وختم إبراهيم عليه السلام دعاءه بقوله:
(1) سورة التوبة (114).
(وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ): أَي واغفر للمؤمنين جميعا من ذريتى وغيرهم حينما يقومون للحساب والجزاءِ يوم القيامة، وتلك دعوة وشفاعة منه للمؤمنين المذنبين نرجو أَن يتقبلها الله منه.
المفردات:
(تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ): تكون فيه أَبصار أَهل الموقف مفتوحة لا تَطْرِف. يقال شخص البصر إِذا ارتفع، ويتعدى بنفسه، فيقال شخص الرجل بصره. إِذا فتح عينية لا يطرف. (مُهْطِعِينَ): مسرعين، من أَهطع في عَدْوه إِذا أَسرع.
(مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ): رافعيها من إِدامة النظر لا يلتفتون إِلى شيءِ، يقال أَقنع رأْسه رفعه.
(لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ): الطرف؛ العين ولا يجمع لأَنه في الأَصل مصدر. والمراد لا ترجع إِليهم أَجفانهم التي تحتها العيون بل تظل مفتوحة.
(وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ): أَي وقلوبهم خالية لا يشغلها سنوى الخوف.
التفسير
42 -
(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ
…
) الآية.
الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم. والمراد منه تثبيته على ما كان عليه من علمه أَنه تعالى ليس غافلا عما يعمله المشركون الظالمون، كما أَن فيه تسلية للرسول عما يفعلونه، بما يشعر به من الوعيد لهم والوعد له.
والمعني: ولا تحسبنَّ أَيها الرسول أَنه تعالى في إِمهالهم وتأْخير عذابهم غافل عما يعمل الظالمون، فإِنه سبحانه لا تخفى عليه منهم خافية.
أَو لا تحسبن الله يترك عقابهم لِلطْفِهِ وكرمه. بل هو معاقبهم على القليل والكثير.
وعن ابن عُيَيْنَةَ أَن هذا تسلية للمظوم وتهديد للظالم، وروى نحو هذا عن ميمون بن مهران.
والمراد بالظالمين على هذا جنس الظالمين وأَهل مكة داخلون في الحكم دخولا أَوليا.
(إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ): هذا النص الكريم استئناف وقع تعليلا للنهى السابق وهو: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ". وإِيقاع التأْخير عليهم مع أَن المؤَخر عقابهم لتهويل الخطب وتفظيع الحال، ببيان أَنهم متوجهون إِلى العذاب موقوفون عليه رغما عنهم، وللدلالة على أَن حقهم من العذاب هو الاستئصال فلا يبقى منهم في الوجود عين ولا أَثر، وهذا التأْخير ليوم هائل لا تغمض فيه أَبصار أَهل الموقف لهول ما يرونه في ذلك اليوم من شدائد، بل تبقى مفتوحة لا تتحرك أَجفانها ولا حَدَقاتها، قال ابن عباس: تشخص أَبصار الخلائق يومئذ لشدة الحيرة، أَي تبقى مفتوحة لا تطرف.
43 -
(مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ
…
): هؤُلاءِ الظالمون يقبلون على الداعى يوم القيامة مسرعين إِليه تتعلق به أَبصارهم لا تتحول عنه ولا يطرفون هيبة وخوفا.
(مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ): أَي رافعيها مع إِدامة النظر إِلى ما بين أَيديهم.
(لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ): أَي لا يرجع إِليهم لينظروا إِلى أَنفسهم فضلا عن النظر إِلى شيءٍ آخر. بل يبقون كل مبهوتين حائرين.
(وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ): أَي قلوبهم خاوية خالية ليس فيها فهم ولا عقل، لفرط الحيرة والدهشة، كقولك في البيت الذي ليس فيه شيءٌ إِنماِ هو هواءٌ. وهذا المعنى قاله ابن عباس وغيره ويجوز أَن يكون المراد أَن عقولهم خرجت رعبا وهلعا كأَنها هواءٌ.
المفردات:
(وَأَنْذِرِ): وخوف. (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ): يوم القيامة.
(أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ): أَعدنا إِلى الدنيا وأَمهلنا إِلى أَجل قريب.
(مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ): أَي ما لكم من بعث ونشور.
التفسير
44 -
(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ
…
): هذا خطاب من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأَمر له بإِنذار الناس، والمراد بهم الكفار المعبر عنهم بالظالمين في قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ". وقال الجبائى وأَبو مسلم: المراد بالناس ما يشمل أُولئك الظالمين وغيرهم من المكلفين والإِنذار كما يكون للكفار يكون لغيرهم كما في قوله سبحانه: "إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتّبَعَ الذِّكْرَ". وإِتيان العذاب يعم الفريقين من حيث كونها في الموقف وإِن كان لحوقه بالكفار خاصة -أَنذرهم-:
(يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ). أَي خوفهم ذلك اليوم المعهود وهو يوم القيامة الذي وصف بما يذهب الأَلباب، لما يقع فيه من أَهوال تجعل الولدان شيبا.
{فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} : أي يصدر عنهم هذا القول في ذلك اليوم، والعدول عن لفظ -فيقولون- إلى ما في النظم الكريم. لتسجيل الظلم عليهم، وأَنه سبب ما ينالهم من شدة ونكال، وفي قولهم (رَبَّنَا أخِّرْنَا) إلخ إشارة إِلى ندمهم وعجزهم عن الاحتمال. قال الضحاك ومجاهد: إنهم طلبوا الإِمهال والرد إِلى الدنيا للرجوع إلى حال التكليف، وقد طلبوه إِلى أَمد من الزمن قريب حين ظهر لهم الحق. ليعملوا فيه ما يرضيه جل شأنه، وسجلوا ذلك على أَنفسهم فقالوا:(نُجِب دَعْوَتَك): إِلى الإِسلام بتوحيدك، واتباع تعاليم دينك، وذلك ما صرَّحُوا به فى قولهم:(وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ): فيما جاءُوا به مبشرين ومنذرين، أي نتدارك ما فرطنا فيه بإعراضنا عن إجابة الدعوة واتباع الرسل، وجيء بلفظ الرسل لأن الحديث عن يوم القيامة الذي يجمع الرسل وأُممهم.
ولما كانت طبيعة الظالمين الكذب والافتراء، وأَن يقولوا ما لا يفعلون أجابهم الله تعالى:{أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} : أَى فيقال لهم ردًّا على قولهم توبيخا لهم وتبكيتا، وبعثا على اليأس والحسرة: أَو لم تكونوا في الدنيا تحلفون بألسنتكم أَنكم لا تزولون ولا تتحولون من قبوركم إِلى دار أُخرى، وأَنه لا معاد ولا جزاءَ. -كما أَخبر عنهم الله سبحانه وتعالى بقوله:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} .
45 -
{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
…
}: أَي وأَقمتم في مساكن الَّذين ظلموا أنفسهم من الكافرين المهلكين قبلكم، وكنتم فيها سائرين سيرتهم في الظلم بالكفر واقتراف المعاصي، وليس لكم فيهم معتبر ولا فيما أَوقعناه بهم مزدجر.
{وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} : أَي ظهر لكم بمشاهدة الآثار الباقية من ديارهم التي أُبيدت وأَصبحت أثرا بعد عين، وبتواتر أَخبارهم -ظهر لكم- ما صنعناه بهم من تدمير وإِهلإك بسبب ما اقترفوا من ظلم وإفساد. {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ}: أَي بينا لكم في التنزيل على ألسنة
الأَنبياء أَحوالهم جميعها: ما فعلوه وما فُعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأَمثال المضروبة: لتكون لكم فيها عظة وعبرة. بقياس أَعمالكم على أَعمالهم، ومآلكم على مآلهم. فترتدعوا عما أَنتم فيه من الشرك والضلال طلبا للنجاة. أَوبينا لكم أَنكم مثلهُم في الكفر واستحقاق العذاب، وتكون الأَمثال على هذا جمع مِثْل بمعنى الشبيه والنظير.
46 -
(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ): أَي فعلنا بهم ما فعلنا والحال أَنهم مكروا مكرهم البالغ الذي استنفدوا فيه طاقتهم، وبذلوا في تدبيره كل مجهود لهم، سعيا في إِبطال الحق وتقرير الباطل، وقد جاوزوا بمكرهم كل حد. وفي هذا إِشارة إِلى تمام استحقاقهم ما فعل بهم.
(وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ): أَي وعنده عِلْمُ مكرهم الذي يهلكهم به أَو عنده جزاءُ مكرهم الذي فعلوه، وتسمية عقابهم مكرا لكونه في مقابلة مكرهم وجودا وذكرا ويسمى هذا مشاكلة في اصطلاح علماء البلاغة، أَو لكونه في صورة المكر لوقوعه من حيث لا يشعرون.
(وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ): أَي وإِن كان مكرهم في غاية القوة ومنتهى الشدة، بحيث يكون معدا لإِزالة الجبال عن مقارها، وهي التي جعلها الله للأَرض أَوتادا تحفظ توازنها وتضمن سلامتها. والمراد أَنه الله مجازيهم على مكرهم ومبطل أَثره. وإِن كانت تزول منه الجبال. وذلك إِشارة إِلى مؤَاخذتهم على أَي حال، وعدم التفاوت بين كون مكرهم ضعيفًا أَو قويا.
وعن الحسن وجماعة: أَن "إِن" نافية. واللام لتأْكيدها كما في قوله تعالى: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ". والمعنى على هذا: وَمَكَرُوا مَكْرَهُمْ وعند الله جزاء مكرهم والحال أَنه ما كان له أَثر وخطر عند الله حتى يزول منه ما هو كالجبال في الرسوخ من آيات الله وشرائعة ومعجزاته على أَيدى الرسل السابقين عليهم السلام (1).
(1) قالوا ويؤيد هذا المعنى قراءة ابن مسعود "وما كان مكرهم لتزول الجبال". حيث جاءت فيها (ما). النافية مكان (إن).
المفردات:
(بَرَزُوا): خَرجوا من قبورهم. (مُقَرَّنِينَ): المقَرَّنون؛ المجموعون بعضهم مع بعض في قَرَن، وهو الحبل الذي يربط به. (الأَصْفَادِ): القيود والأَغلال وهو جمع صفْد أَو صَفَدٌ قيد يوضع في الرِّجل. والغُلّ: قيد تضم به اليد إِلى العنق وقد يقصر على العنق (1)، (سَرَاِبيلُهُمْ): جمع سربال، وهو القميص. (قَطِرَانٍ): القطران، سائل أَسود تطلى به الإِبل الجربى. (وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ): تعلوها وتحيط بها.
التفسير
47 -
(فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ .... ): إِن كان الخطاب للرسول فمعناه دُم على ما أَنت عليه من الثقة بصدق وعد الله، وإن كان لكل مكلف فهو للتحذير والإِرشاد، أَي فلا تظن أَنه سبحانه مخلف وعده لرسله بتعذيب الظالمين في مثل قوله:
"وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا
…
" إلى آخر الآيات.
واقتران النهي هنا بالفاءِ يشير إلى ترتبه على ما سبق، وكأَنه قيل خطابا للرسول:
(1) ومنه قوله تعالى: "إذ الأغلال في أعناقهم".
وإِذا كان الله قد أمرك أَن تنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ويكون من أَمر الظالمين فيه ما تقدم بيانه، فدم على ما أَنت عليه من كمال الثقة بالله. واليقين بإنجاز وعده الذى وعده رسله.
{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} : أي أنه جل شأنه غالب لا يغالَبُ، قادر يفعل ما يريد، فينتقم لأوليائه من أَعدائه. والجملة تذييل وتعليل للنهي السابق وهو قوله سبحانه:{فَلَا تَحْسَبَنّ} . والتعرض لوصف العزة والانتقام يؤَكد عدم إخلاف وعده رسله بتعذيب الظالمين جزاءَ ما اقترفوا من إِفك وطغيان، وفى جملتهم قريش.
48 -
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ..... } : أَي أَن الله ينتقم من الظالمين بتعذيبهم يوم تبدل الأرض غير الأرض.
واعلم أن التبديل قد يكون في الذات وقد يكون فى الصفات، والآية ليست نصًّا في أحد الوجهين، والله أَعلم كيف يتم هذا التبديل.
{وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} : أى وخرج الخلائق من قبورهم، أو الظالمون المدلول عليهم بما سبق، أَو المراد ظهورهم بأعمالهم التى عملوها سرا وزعموا أنها لا تظهر، وعبر عن البروز بصيغة الماضى لتحقق الوقوع. لأَنه لا مناص لهم من لقاء الله الواحد الغالب على أَمره، الفعال لما يريد، لمحاسبتهم على أعمالهم، ومجازاتهم عليها، وفي وصفه سبحانه بالوحدانية والقهر إشعار بأنهم عنده على خطر عظيم، وإيذان بتحقق العذاب الموعود.
49 -
{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ
…
}: أَي تبصرُ الكافرين يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات. {مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} : أَي مجموعًا بعضُهم مع بعض في قَرَن، وهو الوثاق الذى يربط به ويضم كل امريء لمشاركه.
50 -
{سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ .... } : أَى قُمُصهم من قطران، وهو سائل حار أَسود اللون منتن الرائحة، يساعد على سرعة اشتعال النار، تطلى به الإبل الجربى فيحرق الجرب كما تطلى به جلود أَهل النار حتى يكون عليهم كالسرابيل، ليذوقوا أشد العذاب وأَقساه، بنار سريعة الاشتعال. شديدة الإِيلام تجعل أَجسامهم سوداءَ داكنة، تفوح منها الروائح التي تزكم الأُنوف، وتقبض النفوس.
{وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} : أى تعلوها وتحيط بها كما تحيط بأجسادهم المسربلة بالقطران. وتخصيص الوجوه بالذكر مع أن غشيان النار حكم عام لسائر الأعضاء،
لتنبههم إِلى أَن أَعز الأَعضاء الظاهرة وأَشرفها تحيط بها النار، لكونها مجمع المشاعر والحواس التي خلقت لإِدراك الحق، وقد أَجرموا بالإِعراض عنه، ولم يستعملوها في تدبره والوصول إليه. ولعل تركها من الطلاءِ بالقطران ليتعارفوا عند انحسار اللهب أَحيانا، ويتضاعف عذابهم بالخزى على رءوس الأَشهاد.
51 -
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ
…
): أَي يفعل الله بهم ما ذكرا. ليجزى كل نفس مجرمة. جزاءً مواففًا لما اقترفت من كفر وعصيان، ويجوز أَن يراد من النفس ما يعم المطيعة والعاصية فيكون المعنى: وبرزوا لله الواحد القهار، ليجزى كل نفس مطيعة أَو عاصية ما كسبت من خير أَو شر.
(إِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَابِ): فهو سبحانه لا يشغله شأْن عن شأْن، ولا يحتاج إِلى تأَمل وتدبر في إِصدار حكمه. بل يتمه في أَعجل وأَسرع زمن.
52 -
(هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ ..... ): هذا إِشارة إِلى ما ذكر من قوله تعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا" إِلى قوله: "إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ". أَي ذلك كفاية في العظة والاعتبار والتذكير، فما ظَنُّك بما انطوت عليه السورة وما اشتمل عليه القرآن المجيد من فنون العظات والقوارع وهذا البلاغ إِمَّا للكفار خاصة على اعتبار اختصاص الإِندار بهم في قوله تعالى:"وَأَنْذِر النَّاس". وإما للناس عامة على اعتبار شمول الإِنذار لجميع الناس. (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ): معطوف على مقدر أَي هذا كفاية للناس لينصحوا ولينذروا به ويجوز أَن يكون البلاغ بمعنى الإِبلاغ، كما في قوله تعالى:(مَا عَلى الرَّسُول إِلَاّ البَلَاغُ). والمعنى: هذا إِبلاغ للناس ليفهموه وليذروا به. (وَلِيَعْلَمُوا): بالتفكر والتأَمل فيما فيه من البراهين الساطعة، والدلائل الواضحة التي أَنبأَت عن إِهلاك الأُمم السابقة، وإِسكان آخرين مساكنهم إِلى غير ذلك مما حكته الآيات التي تقدمت. هذا كله ليعلموا:
(أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ): تنزه عن الشريك والمثيل، وتقديم الإِنذار لأَنه الداعى إِلى التأَمل المؤدى إِلى الغاية منه، وهو العلم بوحدانية الله جل وعلا.
(وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ): أَي هذا بلاع للناس لما تقدم وليتذكروا شئون الله مع عباده وما يعملون في حياتهم فيرتدعوا عما يهلكهم، وذلك باجتناب ما اتصف به الكفار، والتذرع بما يقربهم إِلى الله، من التمسك بالعقائد الحقة والأَعمال الطيبة، وفي تخصيص التذكر بأُولى الأَلباب إِعلاءٌ لشأنهم، وحض الناس على أَن يكونوا منهم لينتفعوا مثلهم بمواعظه -والله تعالى أعلم.