الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
أفعال أميتت بعض تصريفاتها
يغلب في العربيّة استعمال الفعل بتصرّفاته الثّلاثة، أي أزمنته، الماضي والمضارع والأمر؛ والماضي هو الأصل، والمضارع مشتقّ منه، ومن المضارع اشتقّ فعل الأمر على مذهب الجمهور من علماء اللغة.
وثمّة أفعال قليلة لازمت صيغة واحدة؛ كالماضيّ أو المضارعة أو الأمر، مع إماتة الصيغتين الأخريين، أو لازمت صيغتين كالمضارع والأمر مثلاً مع إماتة الصيغة الثالثة، كما سيأتي بيانه، أولا لازمت صيغة واحدة، وأميت ما عداها، نحو ليس ونعم وبئس. إلا أنه ينبغي التحرّز في هذا النّوع خاصّة؛ لأنه ليس ثمّة دليل قاطع على إماتة المضارع والماضي، أي أنّهما استُخدما ثمّ أميتا؛ لأن الماضي هو الأصل والمضارع ومن بعده الأمر: فرعان، ووجود الأصل لايقتضي بالضّرورة وجود الفرع، فقد يكون الفرع مهملاً لم يستعمل قط فلا إماتة حينئذ، ويصح عكس ذلك؛ أي أن وجود المضارع - مثلاً - يقتضي وجود الماضي، مستعملاً أو مماتاً، ولا يمنع هذا أن نظن ظناً أنّ المضارع والأمر من بعده من الممات، إذا فقدناهما في الاستعمال ووجدنا ماضيهما؛ لأن الكثير الغالب في لغة العرب أن يكون للفعل في الاستعمال تصريفات ثلاثة: الماضي والمضارع والأمر، فنحمل القليل مما قصّرت تصريفاته على الكثير مما كملت تصريفاته أي أزمنته الثلاثة.
واحتمالات الإماتة في هذا كلّه على النّحو التّالي:
1-
إماتة الماضي دون غيره.
2-
إماتة المضارع دون غيره.
3-
إماتة الأمر دون غيره.
4-
إماتة الماضي والمضارع دون الأمر.
5-
إماتة الماضي والأمر دون المضارع.
6-
إماتة المضارع والأمر دون الماضي.
وفيما يلي ما وقفت عليه ممّا أميت من هذه الأوجه الستة:
أ - إماتة الماضي دون غيره:
اشتهر عند اللّغويين والنّحاة قولهم إن العرب أماتت ماضي الفعل (يَدَعُ) وكذلك ماضي (يَذَرُ) استغناء عنهما بـ (تَرَكَ) 1 وهم يقولون: ذر ذا ودعه؛ أي: اتركه، كما يقولون: يذره ويدعه، ولا يقولون: وَذَرْتُهُ ولا وَدَعْتُهُ، ولكن تركته، ولا يقولون: واذرٌ ولا وادع ولكن تارك2؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُوْنَ أَزْوَاجاً} 3 و {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتُرُوْن} 4.
واستعملوا (فعّل) من (وَدَعَ) قالوا: ودّعته، وفي القرآن {مَا وَدَّعَكَ رُبُّكَ وَمَا قَلَى} 5.
ولم يكن حكمهم بإماتة الفعل (وَدَعَ) محلّ اتفاق عند النّحاة؛ لورود هذا الفعل في قراءة النبي – صلى الله عليه وسلم – وعروة بن الزُّبير وأبي حَيْوَة وابن أبي عبلة {مَا وَدَّعَكَ رُبُّكَ وَمَا قَلَى} 6.
1 ينظر: الكتاب 1/25، 4/399، والفصيح 289، والمسائل العسكرية 135، 136، وتصحيح الفصيح 127 أ، والمغرب 2/345.
2 ينظر: إسفار الفصيح 203، 204.
3 سورة البقرة: الآية 234.
4 سورة الأنعام الآية 112.
5 سورة الضحى: الآية 3.
6 سورة الضحى: الآية 3، وينظر: المحتسب 2/364، ومختصر في شواذ القرآن 175، والدر المصون 11/36.
ولوروده في الشّعر، كقول أبي الأسود:
لَيْتَ شِعْرِي عَنْ خَلِيلِي مَا الَّذي
…
غَالَهُ في الحُبِّ حَتَّى وَدَعَهْ 1
وقول الآخر:
وثُمَّ وَدَعْنَا آلَ عَمْرٍو وعَامِر
…
فَرَائِسَ أَطْرَافِ المُثَقَّفَةِ السُّمْرِ2
وجاء المصدر من (وَدَعَ) في الحديث: "لَيَنْتَهِيَنَّ أقوامٌ عن وَدْعِهم الجُمُعات"3 وروي "الجماعات"4.
وقد روي عن شمر قوله: "زعمت النّحويّة أنّ العرب أماتوا مصدر يدع، والنّبيّ عليه السلام أفصح العرب، وقد رويت عنه هذه الكلمة"5.
ولورود هذا الفعل في القرآن والحديث والشّعر قال الفيّوميّ: "وما هذه سبيله فيجوز القول بقلّة الاستعمال ولا يجوز القول بالإماتة"6.
وأرى أنّ ما قاله النّحاة صحيح، فالماضي من هذا الفعل ممات، كما قالوا، وقد يظهر الممات في الاستعمال، على قلة، كما ظهر هذا الفعل في قراءةٍ وشعرٍ وحديثٍ؛ فيكون هذا من باب إحياء الممات عند الحاجة، كما سيأتي بيانه في الباب الرابع.
أمّا ماضي الفعل الآخر (وَذَرَ) فهو من الممات عند أكثر اللّغوييّن، فلا يقال: وذرته، ولكن يقال يذرُ وذَرْهُ، قال الخليل: "والعرب أماتت المصدر من
1 ينظر: ديوان أبي الأسود (ملحق الديوان) 350، والخصائص 1/99، والإنصاف 2/485. ونسب لأنس بن زنيم في حماسة البحتري 259، وخزانة الأدب 6/471.
2 ينظر: البحر المحيط 8/485، والدر المصون 11/36.
3 ينظر: صحيح مسلم: جمعة 40 (3/10)
4 ينظر: سنن ابن ماجة: مساجد ح 794 (1/260)
5 المغرب 2/346.
6 المصباح (ودع)653.
يَذَرُ والفعل الماضي، واستعملته في الحاضر والأمر، فإذا أرادوا المصدر قالوا: ذَرْهُ تركاً، أي اتركه"1.
ويرى بعضهم أنّه قد يستعمل على قلّة، قال الفيّوميّ:"وربّما استعمل الماضي على قلّة، ولا يستعمل منه اسم فاعل"2.
ب - إماتة المضارع دون غيره:
أي أن يستعمل الماضي والأمر ويمات المضارع، ولم أجد لهذا النّوع شاهداً، وسبب ذلك فيما أرى أنّ استعمال فعل الأمر يقتضي - في الغالب - استعمال الفعل المضارع؛ لأنّ الأمر مقتطع من المضارع المجزوم بحذف حرف المضارعة، فثمّة تلازم بين المضارع والأمر، وقد يمات المضارع إذا أميت الماضي، فتكون الإماتة حينئذ للمضارع والماضي معاً، كما سيأتي في الفقرة (د) .
جـ – إماتة الأمر دون غيره:
أُميت الأمر - فيما نقدّر - في بعض الأفعال، نحو مازال وأخواتها، وهنّ أربعة: زال وفتئ وبرح وانفكّ، ويشترط في عملهنّ النّفي3.
قال الأزهريّ: "يقال: مازال يفعل كذا وكذا، ولا يزال يفعل كذا؛ كقولك ما برح، وما فتئ، وما انفكّ، ومضارعه: لا يزال؛ ولا يُتكلّم به إلا بحرف نفي"4.
ولا يستعمل منه فعل الأمر، وكذلك في أخواتها: ما فتئ وما برح وما انفكّ5، ولعلّ فعل الأمر من هذه الأفعال من الممات.
1 العين 8/196.
2 المصباح (وذر)654.
3 ينظر: المساعد 1/255.
4 التهذيب 13/253.
5 ينظر: شرح ابن عقيل 1/271.
وأميت الأمر في بعض أفعال المقاربة نحو كادَ وأَوْشَكَ على الصّحيح،1 أو الرجح، حكى الجوهريّ مضارع طَفِقَ، قال: "طَفِقَ يفعل كذا يطفَق طفوقاً
…
وقال بعضهم طفَقَ - بالفتح - يطفِق طفوقاً"2 وحكى الكسائيّ مضارع جعل3.
ويعمل الماضي والمضارع من هذه الأفعال، نحو كاد ويكاد، وأوشك ويوشك وطَفِق يطفِقُ وجعل يجعل، تقول مثلاً: يَطفِق الحجيجُ يعود إلى بلاده، ولم يستعمل الأمر من هذه الأفعال فقد يكون مهملاً من الأصل، وقد يكون مماتاً.
د - إماتة الماضي والمضارع دون الأمر:
أميت الماضي والمضارع من قولهم: هَاتَى يُهَاتِي، وبقى منه الأمر، وهو: هاتِ، قال الخليل: "المُهاتاة من قولك: هاتِ، يقال: اشتقاقه منه هاتى، الهاء فيه أصليّة، ويقال: بل الهاء في موضع قطع الألف من آتي يؤاتي، ولكن العرب أماتوا كلّ شيء من فعلها إلا هاتِ في الأمر، وقد جاء قوله:
لله ما يُعْطِي وما يُهَاتِي
…
أي: ما يأخذ" 4.
ومثل ذلك في "التهذيب"5 و"اللّسان"6.
ومنه في القرآن: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُم} 7.
1 ينظر: شرح ابن عقيل 1/338، والمغني في تصريف الأفعال 160.
2 الصحاح (طفق) 4/1517.
3 ينظر: شرح ابن عقيل 1/341.
4 العين 4/80.
5 6/395.
(هتى) 15/352.
7 سورة الأنبياء: الآية 24.
وقيل: إن (هاتِ) اسم فعل، كما سيأتي بعد قليل.
وقالوا في النّداء: تعالَ؛ أي: اعلّ، ولا يستعمل في غير الأمر1، وهو بمعنى الارتفاع، قال عز وجل {فَقُلْ تَعَالَوا نَدْعُ أَبْنَاءَنا وَأَبْنَاءَكم ونِسَاءَنا ونِسَاءَكم وأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُم ثمَّ نَبْتَهِل فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِين} 2
والأصل في هذا الفعل أنه من مادة (العلو) من التّعالي، بمعنى الارتفاع وعلى هذا فإنّ وزن تعالَ:(تفاعَ) حذفت لامه للجزم.
والعرب تقول في النّداء للرّجل: تعالَ أو تعالَه - بها السّكت، وللاثنين: تعاليا، وللرّجال: تعالَوا، وللمرأة تعالَيْ، وللنّساء: تعالَينَ، وهم لا يبالون إن كان المدعو في مكان أعلى من مكان الدّاعي، أو في مكان دونه3.
قال الخليل: "وأماتوا هذا الفعل سوى النداء"4 يعني سوى الأمر، وفي هذا نظر؛ فقد جاء الماضي من هذا الفعل في القرآن بكثرة كقوله عز وجل {تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُون} 5 و {تَعَالى عَمّا يَقُولُون عُلُوّاً كبيراً} 6 وقوله {عُلُواً} ليس مصدر (تعالى) .
و (هات) و (تعالَ) فعلا أمر على الرّاجح؛ لأن اسم الفعل لا تبرز فيه ضمائر الرّفع على مذهب الجمهور، فلماّ برزت هذه الضمائر معهما دلّ ذلك على أنّهما ليسا من أسماء الأفعال، وقد عدّهما بعض العلماء من أسماء الأفعال،
1 ينظر: اللسان (علو) 15/90.
2 سورة آل عمران: الآية 61.
3 ينظر: التهذيب 3/189، والزاهر 2/265.
4 العين 2/247.
5 سورة النمل: الآية 63.
6 سورة الإسراء: الآية 43.
قال ابن هشام: "وأما هاتِ وتَعالَ فعدّهما جماعة من النّحويين في أسماء الأفعال، والصّواب أنّهما فعلا أمر، بدليل أنّهما دالان على الطّلب، وتلحقهما ياء المخاطبة، تقول: هاتِي وتعالَيْ"1.
ويلحق بهذين الفعلين (هَلُمَّ) على لغة بني تميم إذ تلحقها الضّمائر البارزة، بحسب ما أسندت إليه، فتقول: هَلُمَّ، وهلمّا، وهلمّوا، وهَلْمُمْنَ، بفكّ الإدغام وسكون الّلام، وهَلُمِّي، وهي عند هؤلاء فعل أمر لدلالتها على الطلب وقبولها ياء المخاطبة، وقد أميت ماضيها ومضارعها2.
وهي اسم فعل على لغة من ألزمها طريقة واحدة مع الواحد والمثنّى والجمع، وهي لغة أهل الحجاز، وبها جاء التّنزيل، قال تعالى:{والقَائِلِينَ لإِخْوَانِهم هَلُمَّ إِلينَا} 3 أي: ائتوا إلينا.
هـ – إماتة الماضي والأمر دون المضارع:
(يَهِيط) مضارع لا ماضي له ولا أمر، قال ابن القطّاع:"وما زال يهيط مرة ويميط أخرى، لا ماضي ليهيط، والهياط: الصياح منه، والمياط الدّفاع"4.
وفي "اللّسان"5: "ما زال منذ اليوم يَهيط هيطاً، وما زال في هيط وميط وهياط ومياط؛ أي في ضجاج وشرّ وجلبة
…
وقد أميت فعل الهياط" أي: أميت الفعل الماضي.
ومن هذا قولهم: ينبغي له أن يفعل كذا، قال تعالى: {ومَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا
1 شرح قطر الندى 41.
2 ينظر: شرح المفصل لابن يعيش 4/44، وشرح قطر الندى 40.
3 سورة الأحزاب: الآية 18.
4 الأفعال لابن القطاع 3/366.
(هيط) 7/424.
يَنْبَغِي لَهُ} 1وهو ملازم لهذه الصّيغة، أي: أميت ماضيه وأمره، وحكى اللّحياني: انبغى2.
وذكر بعض الباحثين المعاصرين أنّ قول بعض النّحويين: "انبغى لفلان أن يفعل، أي صلح له أن يفعل؛ من قبيل الأمثلة المصنوعة، فليس له نظير في قديم فصيح يحتج به عليه، ولو أنّهم وجدوا شيئاً من ذلك ما تركوه، ومن هنا كان هذا الفعل الماضي مما حُذقت فيه الصنعة، وهوشيء مهجور"3 أي ممات.
و إماتة المضارع والأمر دون الماضي:
أميت المضارع والأمر من بعض الأفعال الّتي ترفع المبتدأ اسماً لها وتنصب الخبر، مثل ليس ودامَ، قال ابن مالك:"وما سوى ليس ودام من أفعال هذا الباب يتصرّف؛ أي: يستعمل منه ماض ومضارع وأمر واسم فاعل ومصدر، إلا أنّ الأمر لا يتأتّى صوغه من ملازمات النّفي"4.
وثمّة خلاف في إماتة المضارع من (دام) ومذهب الفرّاء وكثير من النّحاة أنّها لا تتصرّف، فلا تستعمل إلا بلفظ الماضي5.
ولازمت أفعال المقاربة لفظ الماضي إلا (كاد) و (أوشك) عند الجمهور6 و (طفق) عند الجوهري - كما تقدم.
ومن أقدم من نصّ على إماتة المضارع والأمر في الفعل (عسى) الخليلُ،
1 سورة يس: الآية 69.
2 ينظر: اللسان (بغى) 14/79.
3 في شعاب العربية 187.
4 شرح التسهيل 1/343.
5 ينظر: الارتشاف 2/79، وشرح ابن عقيل 1/243.
6 ينظر: شرح التسهيل 1/400، 401.