المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيموقف العلماء من إحياء الممات - موت الألفاظ في العربية

[عبد الرزاق بن فراج الصاعدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌التمهيد

- ‌الباب الأول: الممات من الأسماء

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأولالممات من أسماء الأيام

- ‌الفصل الثانيالممات من أسماء الشهور

- ‌الفصل الثالثالممات من أسماء متفرقة

- ‌الفصل الرابعأسماء أميت مفردها

- ‌الفصل الخامسأسماء مصغرة أميت مكبرها

- ‌الباب الثاني: الممات من الأفعال

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأولأفعال أميتت صيغها وتصريفاتها

- ‌الفصل الثانيأفعال اختلف في موتها

- ‌الفصل الثالثأفعال أميت المجرد منها دون المزيد

- ‌الفصل الرابعأفعال أميتت بعض تصريفاتها

- ‌الفصل الخامسأفعال مبنية للمجهول أميت المبني للمعلوم منها

- ‌الباب الثالث: أسباب إماتة الألفاظ

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأولالعامل الصوتي

- ‌الفصل الثاني: العامل الدلالي

- ‌المبحث الأول: زوال المعنى

- ‌المبحث الثاني: الاستغناء

- ‌المبحث الثالث: العامل الديني

- ‌المبحث الرابع: العامل الاجتماعي

- ‌الباب الرابع: إحياء الممات

- ‌الفصل الأول: الحاجة إلى إحياء الممات

- ‌الفصل الثانيموقف العلماء من إحياء الممات

- ‌الفصل الثالثدور مجامع اللغة العربية في إحياء الممات

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌الفصل الثانيموقف العلماء من إحياء الممات

والمادية، فشأنه في هذا شأن الخلية الميتة في جسم الإنسان التي تفسح بموتها المجال للخلية الجديدة الشابة ليبقى الجسم قوياً قادراً علىالحياة.

وبالجملة فإنّ الممات عامل مهمّ من عوامل نموّ اللّغة، في إماتته وفي إحيائه، ففي إماتته إفساح المجال لتنمية اللّغة وتجديدها، وفي إحيائه حقن للّغة بألفاظ أصيلة مألوفة للّغة ومقاييسها.

ص: 455

‌الفصل الثاني

موقف العلماء من إحياء الممات

لعلماء العربيّة موقفان متضادّان في إحياء الممات وهم في ذلك فريقان: فريق لا يجيز إحياء الممات، وفريق يجيزه.

وممّن لا يجيزون إحياء الممات (ثعلب) فهو يَعُدُّ ماضي وَذَرَ ووَدَعَ من غير الفصيح، ولا يجوز الكلام بهما1.

ومنهم الفارابيّ إذ نقل عنه الفيّوميّ أنّه قال: "والعرب قد تميت الشيء حتّى يكون، مهملاً فلا يجوز أن ينطق به"2 وهذا نصّ صريح الدّلالة.

ولا يجيز أبو عليّ الفارسيّ استعمال ما أميت من (يَدَعُ) و (يَذَرُ) لأنّ العرب رفضت ذلك واستغنت عنه3، وعلى هذا يمكن أن يقال: إنّه يمنع إحياء الممات، قياساً على منعه إحياء ماضي يَدَعُ ويَذَرُ.

ويوافقه في ذلك تلميذه ابن جنّي في كلامه في باب القول على الاطّراد

1 ينظر: الفصيح 289.

2 المصباح 702.

3 ينظر: المسائل العسكرية 135، 136.

ص: 455

والشّذوذ، يقول: "فإن كان الشّيء شاذّاً في السّماع مطّرداً في القياس تحاميت ما تحامت العرب من ذلك، وجريت في نظيره على الواجب في أمثاله.

من ذلك امتناعك من: وَذَرَ ووَدَعَ؛ لأنّهم لم يقولوهما ولا غرو عليك أن تستعمل نظيرهما نحو وَزَنَ ووَعَدَ، لو لم تسمعهما، فأمّا قول أبي الأسود:

لَيتَ شِعْرِي عَن خَلِيلِي مَا الَّذِي

غَالَهُ في الحُبِّ حَتَّى وَدَعَه

فشاذّ، وكذلك قراءة بعضهم:"ما وَدَعَك رَبُّكَ وما قَلَى"1.

وأشار إلى ذلك السّيوطيّ في "المزهر"2.

وأمّا الفريق الثّاني فإنّه يجيز إحياء الممات واستعماله لدوره المهم في تنمية اللغة وإثرائها، ومن أقدم من قال ابن درستويه في رده على ثعلب الّذي يمنع استعمال الماضي والمصدر من وَذَرَ ووَدَعَ، قال ابن درستويه: "واستعمال ما أهملوا3 جائز صواب وهو الأصل وقد جاء في الشّعر منه قول أبي الأسود

وقَرَأتَ القرّاء

واستعمال ما لم يستعمله العرب من ذلك4 غير خطأ، بل هو في القياس الوجه، وهو في الشّعر أحسن منه في الكلام، لقلّة اعتياده؛ لأنّ الشّعر - أيضاً- أقلّ استعمالاً من الكلام"5.

ويدلّ هذا الرّأي الجريء من ابن درستويه على فهم دقيق مبكّر لدور الممات، وأهميّته في اللّغة ونموّها.

ويبدو لي أنّ كثيراً من علماء العربيّة المتقدّمين يوافقون على هذا الرّأي وإن لم

1 الخصائص 1/99.

2 1/229.

3 يعني هنا ما تركوه؛ أي: الممات.

4 أي من الممات.

5 تصحيح الفصيح 127 أ، 127 ب.

ص: 456

يصرّحوا به، وإنّما يفهم من موقفهم من ماضي (يَدَعُ) فهم يحكمون بأنّه من الممات، مع أنّهم ذكروا بعض الشّواهد على استعماله، من دون أن يخطّئوا صاحبه، أو يضعّفوا قوله، وذكروا بعض القراءات وهم يرون الاحتجاج بالقراءات الشّاذّة في اللغة، وليس لذلك تفسير عندي سوى الإقرار منهم بأنّ الفعل المَيّت قد يظهر في الاستعمال على قلة إذا دعت الحاجة إليه في شعر أو غيره، فيكون من باب إحياء الممات.

وقد حمل الأستاذ سعيد الأفغاني على علماء العربيّة القدامي وسفّه قولهم بإماتة هذا الفعل، وقال: "والطّريف أنّ بعض المحقّقين ممّن تأخر زمانه عن أولئك صحّح خطّأهم فأثبت صاحب المصابح هذه اللّغة الفصيحة في معجمة واستنكر ادّعاءهم الإماتة

وبذلك ترى تسرّب الوهن إلى بعض أحكامهم إذ كانت خطّتهم ينقصها الإحكام في المنهج والكفاية في الاستقراء معاً، وكان عليهم قبل إرسالها استيعاب قراءات القرآن على الأقلّ والاحتجاج بها"1.

ولو تدبّر الأستاذ الأفغاني رحمه الله في ذلك وتأمّل طريقة علمائنا في تناول هذا الفعل المتمثلة في الجمع بين قولهم بإماتته وروايتهم قدراً من الشّواهد على استعماله لربّما توصّل إلى مثل ما توصّلت إليه، وتجنب اتهامهم رحمهم الله بالخلل في المنهج وعدم الكفاية في الاستقراء.

ويبدو أنّ في صنيع أصحاب المعاجم دلالة قويّة على أهميّة الممات، وأعنى بذلك احتفاظهم بالممات في بطون المعاجم الكبيرة المتأخّرة، كـ (التكملة) و (العباب) و (اللسان) و (القاموس) و (التاج) ولعلّ ذلك إرهاص لإحيائه عند الحاجة، وفي هذا كانت المزية للعربيّة، إذ لا تحتفظ سائر اللّغات إلا

1 في أصول النحو 35، 36.

ص: 457

بالمستعمل، وهو مهدّد بالموت، ومعرّض لقوانين التّطور اللّغويّ والتّعبير الصّوتيّ، فإذا أميت بالترك لم يكن في طبائعها ما تعوض به المتروك الجديد بمتروك قديم، فتضطرّ إلى الاستجداء من لغات أخرى1، فقد تصاب بالتّخمة والتّسمم لكثرة ما في أحشائها من الدّخيل.

ولقد ظهرت دعوات في الأوساط اللّغويّة العربيّة المعاصرة للاستفادة من الممات وإحيائه بطريقة منظّمة، تتمشّى مع خطّة معيّنة، تمليها السّياسة اللّغويّة، وتهدف إلى التخلّص من الكلمات الأجنبية أو إلى سدّ النقص الملحوظ في الاستعمال، الّذي لا يمكن معالجته بالطّرق المألوفة، وقد شاع هذا الاتجاه في لغات أجنبيّة في القرن الثامن عشر، كاللغة الألمانية، عند ما جاهد دعاة المحافظة على اللغة وقواعدها في سبيل التّخلّص من الكلمات الفرنسيّة الدّخلية2.

أمّا في العربيّة فقد أحيا الأدباء والعلماء في العصور الحديثة كثيراً من الألفاظ القديمة للحاجة إلى معانيها، وتبعاً للمخترعات الصناعيّة الّتي تستلزم بعض المصطلحات، ومن هنا وجدناهم يعيدون إلى اللّغة شيئاً من الألفاظ المهجورة "فكثيراً ما يلجؤون إلى ذلك للتّعبير عن معان لا يجدون في المفردات المستعملة ما يعبّر عنها تعبيراً دقيقاً، أو لمجرد الرّغبة في استخدام كلمات غريبة، أو في التّرفع عن المفردات الّتي لاكتها الألسنة كثيراً، وبكثرة الاستعمال تبعث هذه المفردات خلقاً جديداً، ويزول ما فيها من غرابة، وتندمج في المتداول المألوف، ولا يخفى ما لذلك من أثر في نهضة لغة الكتابة واتّساع متنها وزيادة قدرتها على التّعبير"3.

1 ينظر: دراسات في فقه اللغة 293.

2 ينظر: دور الكلمة في اللغة 213.

3 علم اللغة لعلي عبد الواحد وافي 255، 256.

ص: 458

وعلى الرغم من ذلك فثمة فريق من علماء العربية المعاصرين يميل إلى تجديد اللغة وتنميتها عن طريق الوسائل المشهورة كالاشتقاق والارتجال والمجاز والنحت والتعريب، ويدعو إلى ترك الغريب والحوشي والمهجور والممات وتفريغ المعاجم اللغوية مما تحويه من ذلك1.

ومن أظهر من يمثل هذا الرأي المعلم الخوري بطرس البستاني الذي عدّ اشتمال المعاجم العربية على الغريب والحوشي والمهجور والممات عيباً من عيوبها وشائبة ينبغي تخليص المعاجم منها لمكان ذلك من الغرابة أو لتوغله في الحوشية والوحشية أو لهجره، وهو يرى أن دفنه خير من بقائه ويشبه بقاءه بالدُّمَّل في جسم اللغة البهي2.

ويتألم هذا الباحث ويتحسر لاتجاه اللغويين والمعجمين إلى الإبقاء على هذا النوع من الألفاظ في معاجم العربية، ويقول:"ومما هو جدير بالأسف أنه بات من الراسخ في وهمنا أن تلك الألفاظ المستكرهة لا بد من إثباتها في معاجمنا، وإلا اجترحنا أفظع جريرة في حق لغتنا، وأفقدناها كنزاً ثميناً لا يعوض ولا نعلم متى تسقط هذه الكلمات المنبوذة من معاجمنا"3.

وهذه نظرة غير موفقة لهذا النوع من الألفاظ التي يمكن الاستفادة منها بإحيائها في معناها أو بإلباسها معنى جديداً كما استفادت بعض اللغات الحية من ممات اللاتينية القديم.

1 ينظر: في أصول اللغة 109، وأعمال مجمع اللغة العربية بالقاهرة 196، والعيد الذهبي لمجمع اللغة العربية 192، والمعجم العربي: بحوث في المادة والمنهج والتطبيق 268.

2 ينظر: مجلة المشرق، سنة 1931م، مجلد 29 ص 683، 684.

3 مجلة المشرق سنة 1931م، مجلد 29 ص 683.

ص: 459