الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع: إحياء الممات
الفصل الأول: الحاجة إلى إحياء الممات
.
…
الفصل الأول
الحاجة إلى إحياء الممات
اللغة ألفاظ معدودة يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، والأغراض تتجدد والمعاني تتولّد، والحضارة تقذف كلّ يوم بمخترع، والعلوم تطالب كل حين بمصطلح جديد، والألفاظ محدودة، والمعاني لا تنتهي واللغة التي لا تستوعب حاجات أهلها ولا تساير ركب الحياة تضمحل ثم تموت.
وللغات الحية وسائل تنمو بها، وطرائق تجدد بها شبابها، وللعربية وسائلها وطرائقها التي تنمو بها وتتجدد، ومن أبرز هذه الوسائل1:
1-
القياس.
2-
الاشتقاق.
3-
الوضع والارتجال.
4-
النحت.
5-
القلب والإبدال.
6-
نقل الدلالة.
7-
التعريب.
8-
إحياء الممات.
وهذا الأخير لم أجد من ذكره في وسائل تنمية اللغة، وهو في رأيي المتواضع أحدها، وإن لم يكن أهمها، ويمكن اللجوء إليه والاستفادة منه عند
1 ينظر: من أسرار اللغة 6، وعوامل تنمية اللغة العربية 59 وما بعدها، وعوامل التطور اللغوي 13 وما بعدها، والاشتقاق والتعريب 8 وما بعدها.
الحاجة، وبخاصة إذا أردنا أن نحافظ على نقاء اللغة ونحد من ظاهرة الاقتراض في العربية بشقيها المعرب والدخيل.
ويطيب لي أن أقول من خلال هذا البحث أن للمات دوراً في تنمية اللغة العربية يتمثل في إمدادها بألفاظ من مخزونه الثري، فلربما ماتت الكلمة واختفت زمناً طويلاً ثم بعثت من جديد لتستخدم في معناها القديم، أو في معنى جديد، كإحياء الكلمات الميتة للتعبير عن المصطلحات العلمية الجديدة، ولهذا يقول علماء اللغة المعاصرون: إنه من الخطأ أن نقول: (إن كلمة ما قد ماتت؛ إذ إنّ هناك دائماً احتمال عودتها للحياة، ولو كان ذلك بعد قرون عديدة من الهجوع والاختفاء من الاستعمال1.
وممّا أعيد استعماله من الممات "الإتاوة" بمعنى الجزية والخراج، فقد دَبَّتْ في هذه الكلمة الحياة من جديد، فذكرتها المعاجم المعاصرة الّتي تعنى بالمفردات الحية2، وقد نصّ علماء اللّغة القدامى على إماتتها، وأنّها من ألفاظ الجاهلية3.
وذكر ابن دريد أنّ (الغوث) من غاث غوثاً أميت مع فعله، واستعمل منه أغاثه يُغيثه إغاثة4. وقد أحيا المعاصرون هذا الفعل الثلاثيّ الممات، واستعملوا منه قولهم: "غوث اللاجئين" وهو من تعبيراتهم المشهورة.
وأحيت العامّة في جزيرة العرب فعلاً مماتاً، وهو (قَلَطَ) فقالوا في ترحيبهم بالضّيف: اقْلُطْ؛ أي: تفضلْ بالدّخول، وصرَفوه في كافَة أزمنة الفعل
1 دور الكلمة في اللغة 214.
2 ينظر: المعجم الوسيط 1/4.
3 ينظر: الصاحبي 103.
4 ينظر: الجمهرة 1/429.
واشتقّوا منه اسم الفاعل. وقد ذكر ابن دريد أنّ الفعل (قَلَط) ممّا أميت من الأفعال1، ولهذا لم يرد له ذكر في معاجم اللّغة؛ كـ (العين) ، و (الأفعال) للسّرقسطيّ، و (الأفعال) لابن القوطيّة، و (الأفعال) لابن القطّاع، و (اللّسان) و (القاموس) و (التّاج) .
وإذا أمكن إحياء لفظ مهجور لمعنى مستجد مع وجود لفظ مولّد يمكن أن يؤدّي الغرض فإنّ إحياء القديم خير من استعمال المولّد، بشرط أن يكون ممّا يستساغ لفظه ويقبل تركيبه.
وذهب بعض المعاصرين إلى خلاف ذلك فرأى أنّ استعمال اللّفظ المولّد خير من إحياء اللّفظ الميّت واستبقاء المولود الجديد أولى من إحياء الميّت القديم2.
وإحياء الممات خير من استعمال المهمل؛ لأنّ المهمل لم تأتلف حروفه من أصل الوضع اللّغوي لعلل صوتيّة في الكثير الغالب، كما يظهر ذلك من تأمّل المهمل في معاجم التقليبات، وأمّا الممات فإنّه ممّا ائتلفت حروفه وساء حينا ثمّ باد لعلل دلاليّة في الكثير الغالب، والدّلالة دائمة التّغير والدّوران.
ويتّصل بإحياء الممات واستعماله الاشتقاق منه دون إحيائه، وهذا عنصر فعال في تنمية اللّغة، وقد أكثر العرب قديماً من الاشتقاق من ألفاظ مماته نصّ عليها بعض المعجميّن، فمن ذلك اشتقاقهم (العَدَوليَة) وهو ضرب من السّفن منسوب إلى لفظ ممات، وهو (عَدَوْلاه)3.
1 المصدر السابق 2/923.
2 ينظر: اللغة العربية كائن حي 93.
3 ينظر: العين 2/40.
واشتقّت العرب من (كَهَفَ) وهو فعل ممات قولهم: كَنْهَفَ عنَا، إذا تنحّى1.
واشتقوا من (هَرَلَ) هَرْوَلَ هرولة2.
وقال اللغويّيون: إنّ اسم هذيل مشتقّ من فعل ممات، وهو (هَذَلَ)3.
واشتقّت العرب (العذيوط) من فعل ممات، وهو (عَذَطَ)4.
ومثل هذا كثير، أوردنا منه قدراً صالحاً من الأمثلة في الباب الثاني من هذا البحث وهو يدل دلالة لا لبس فيها على أنه يجوز الاشتقاق من الممات.
ويمكن - من جانب آخر - أن يعد الممات عند موته عاملاً من عوامل نمو اللغة "فكل تجديد أو نمو في جانب يقابل بنوع من الخسائر في الجانب الآخر، واللغة في هذا تشبه الكائن الحيّ"5 الذي تتجدد خلاياه مع مرور الزمن، فليس في اللغة كسب دائم من النمو يوفر لها ثراء لا يتناهى، وليس فيها جمود وثبات مطلق، فهي تحاول دائماً أن تصل إلى نوع من التوازن الدقيق، فكما "تقترض ألفاظاً من اللغات الأخرى لتسعف حاجات المتكلمين بها نراها تستغني عن ألفاظ أخرى تختفي من الاستعمال"6.
والممات بهذا المعنى يؤدي دورة في نمو اللغة، ويسهم مع سائر العوامل الأخرى في بقاء اللغة قوية قادرة على مواجهة مستجدات الحياة الفكرية
1 ينظر: الجمهرة 2/970.
2 نفسه 2/802.
3 نفسه 2/702.
4 نفسه 2/1149.
5 المولد في العربية 141.
6 ينظر: المرجع السابق 151.