المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌رَجْعُ التاريخ ولم يكن إلا كَلَا وَلَا، حتى تداعى الدّبا من - نفاضة الجراب في علالة الاغتراب

[لسان الدين بن الخطيب]

الفصل: ‌ ‌رَجْعُ التاريخ ولم يكن إلا كَلَا وَلَا، حتى تداعى الدّبا من

‌رَجْعُ التاريخ

ولم يكن إلا كَلَا وَلَا، حتى تداعى الدّبا من عربان القبلة، منجدة اللمة العاصية لملك الآفاق، وقصدوا البلدة وبرز الجيش للدفاع عنها وقد تخاذل وأحجم عن المعادل لبعض أجزائه لوحشة الانقطاع وخبث الطوية، والركون إلى الدعة، فأبلى المحمس منهم ثم أعطوا الضُّمَّة وانحازوا إلى البلد، واتفق فائل رأيهم على الاعتزاز بدائل بجمع الكلمة وينظم الشَّت، ويرأب الثَّأي، فالتف قوم منهم على أحد القرابة وأصحروا مستدعين إلى بيعته، فتسايل الناس. ونمى الخبر إلى أمير الجيش فحذر معرة ذلك على نفسه، وخاف بادرة الدائل أن تحيق به ففاوض رُجْحَ القوم، وصارف المنتبذين ما ذهبوا إليه، وعمد إلى منصور بن سليمان، مقدمه يومئ من تربة الشيخ تاج العارفين أبي مدين متذمماً بها، فأعلق به البيعة، وسامه مَدَّ اليد لها عن تثاقل، وأخذ له عهد الناس بالوفاء له، وأروه على ذلك زعيم الروم يتولى السيقة وردء التعبئة. وقرعت الطبول فاستراب المنتبذون ونمى لهم الخير وقد استأثروا ببكارة تلك البيعة المبتورة، والدعوة المُخْدَجَة، فطار صاحبهم فاراً على وجهه، فدخلوا مدخل الجماعة وصرف الجميع وجوههم إلى المغرب لا يصدقون خبر النجاة، واعترضهم العرب في طريقهم فأبلوا أحسن البلاء مستميتين دون قصدهم حتى خلصوا بعد لأي، واتصل الخبر بالوزير كافل الولد فعظم الأمر، وسفر الخطب، وجرى على رسله ثابت الجأش رابط الحزم، فأشاع البروز إلى المدافعة وجهاد الخارج عن سلطانه، وشرع في العطاء واستركب واستحلق، وأفاض العدة وأركب الرجل وانتقى الآلة وحصن البلد الجديد خلفه، وأوعز إلى ثقاته ما يعمل بحسب حَدِّه، والوقوف عند رسمه، واضطرب مُضْطَرَبها المعروف من الفحص الأفيح، وفوق الهضب المطل على البلد المعروف بالرمكة وقد اقتضى اليمين واستوثق من الحاشية، وبذل التي لا فوقها من السداد والإصابة. ولما جن ليل خروجه بالولد سلطانه، وقد انتظم الجمع واحتفلت المحلة، وراقت للسلطان الآلة، وقد اقترب عدوه، وكادت تبدو ناره، ويكنف جواره، أسلمه الناس، شأنهم في هذا العهد، وديدنهم في هذا الزمن، وطاروا عنه لا يلتفتون ولا يلوون، فأفاق واستجمع، وأركب السلطان، واشتمل عليه، وأمر بتقويض المضارب، ورفع الآلة والعدة، وكر إلى البلد الجديد، فاستقر به في خِفِّ من الحاشية وأفذاذ من الخالصة.

ص: 68

ولما استوى ما أمر بإشالته ورفعه من العدة والآنية والفرش والماعون والفساطيط والآلة وأبهة الإمرة وعتاد الخزائن، قصده بحريمه الأسود الماجن سليمان بن ونزار تلقاء العدو، فما أمسى إلا وأروقة الخلافة ترف فوقه وآلاتها تُصَرَّفُ بين يديه، وأرائكها تنضد لجلسته، وظهرها وحمولتها مرتبطة بازاء رستاقه، وقصد ظاهر البلد الجديد فنازله وأحاط به وكاتب الجهات فلم يختلف عليه اثنان، فقدم العمال والقضاة وأجرى العوائد وجدد الصكوك، وأخلى بينه وبين الناس، وأفرط في التنزل والضعة والتمني، وحط الأبهة استئلافاً للنفوس. ووالى حصار البلد المذكور فرتب عليه المقاتلة ونصب المجانيق والعرَّادات، وقاد الستائر والأكبش والدبابات، وأدار عليه البناء من الجهات وسكن بشرقيه في الهضب أَبغران، وأمر الخاصة بالسكنى واستدعى من البلاد البحرية عُدد الأساطيل من التِرْسة والمجانيق والحديد لاتخاذ الآلة والمعاون وأمراس الكتان والشهدانج لحل الأقفال، واستنفد الوضع فلم يحل بطائل. وقد اضطلع محصوره وأفاق من الطخية، ومَرَن على الحصار واعتز بالمال فأجاب داعيه الكثير من ذؤبان الرجل أولي النجدة ومساعير الحرب وأرباب العتا والصبر واقتحمت إليه بالمضغ والأدم راكبو أعناق الأخطار ومرخصو أثمان النفوس بين يدي ما يرومون من الربح، وناهزت الحال شهرين كابد من شجا البلد المحصور خطباً، ولم يتهنأ معه ملكاً واحتاج إلى المال فلم تنجده البلاد التي شحت ينابع أرفادها للهب الفتنة، وأمسكت أكف غارميها دواعي الهرج، وقرب عهد ولاتها بالدفع لما يحصى من الخَرْج، إلا ما كان من أوقاف وأموال صدقات وودائع لا تقع مما يريد في نسبة عددية، وأباح الدسيعة للقبيل، ولم يستأثر عنه بفلذه، وأطلق الأيدي على كل طلبه ولم يسمع عنه لا في مسألة حتى جرى في ذلك غير ما صحكه. ووصل ولده اللاحق بجبل هنتاتة، المستقر في جُوار رئيسها المِدْرَه في الدّهْى والحزَامة، وأحد الآحاد في إقلمة الرسوم الحسنة والإرعاء على الرتبة والتزين بالوقار والسكينة، عامر بن محمد بن علي الهنتاتي حسنة هذه المُدَد المتأخرة، والمغبر في وجوه الوجوه السابقة، مصحباً بزينة الملك وآلات السلطان، مُتَعدِياً طوره، لابساً للناس غير لِبْسة أبيه، من الأنَفِ والتجبر وتعاطي خطة الفراعنة، من غير أن تشج العروق أو يملك البيضة، صبي اسنه علي، أشوس اللحظ، شامخ المارن، رأى لنفسه قصوى المزية، أنكر على الشيخ فضل التَّنزل وعَبَس وبَسَر في الأوجه وتوعد على التقصير فكان أدعى الدواعي إلى هلاكه وهلاك أبيه، ولله أمر هو بالغه سبحانه.

ولما طال على الأمير أبي سالم عَرْضُ نفسه إلى مَنْ حَرَّكه إلى طلب حقه، وسئم التردد واقتضى أجوبة مستدعيه مراجِعَةً بخروج الوقت، ناعيةً إبطاءه، إلى تنوع الحال وإخفاق السعي واجتماع الكلمة على الغير، انصرف بخفي حنين، وقد وصلت أحواز مرساه الحصةُ مانعة إياه من النزول آخذةً على أيدي من أقرضه الصنيعة وأبدى له صفحة القبول. ولما وازى وجهه الصَّفيحة من أحواز أصيلا تبادرته قومٌ من غُمَارَة سكان ذلك الجو وعقبان ذلك الدَّو، فانحدرت إليه ووعدته بالوفاء له، فنزل وربما نالته في الصحصاح شدة تخلص منها بعد الكيْت، واحتملوه فوق أكتادهم ثم اعتاموا له هجيناً من مراكب سَراتهم المستهلين إلى مجامع التباعات، أمطوه صهوته، وأحدقوا به في سفح الأدنى من جبالهم، وأخذتهم الحَمِيَّة فتنافس في الذبّ عنه والقيام بدعوتهم شعوبهم وقبائلهم ثم كبسوا مدينة أصيلا حاضرة بلدهم فتغلبوا عليها وضيقوا خارج مدينة طنجة وتوعدوا أهلها بإفساد أموالهم المُصْحِرة، فدخلوا في أمره، وقد تسامع من بجبل الفتح من قبيل غماره بالأمر فسلكوا سبيل قومهم في الانقياد له فقبضوا على واليهم الوزير البقية، الحسن الرُّوا، العذب الكلمة، علي ابن العباس بن موسى، وقد أغفل الحزم واختلط بسوادهم اختلاط الثقة بهم، فكانوا أملك به. ولم يسع من بسبتة جارهم المصاقبة الامتناع، فوجهوا من مشيختهم من قرر الأمر وضمن الطاعة.

واتفق على تَفِئَةِ ذلك أن وصل سبتة الغراب الموجه إلى الإسكندرية أخريات الأمير أبي عنان، راكب عنقي البحر والبر، مما حدّ له شراؤه من متاع الشرق وطيبه وطرفه، فحط بسبتة، وكانت بضاعته مما جملت العَطَل وموهت الخمول.

ص: 69

ولحق به لما تصيرت إليه طنجة الأحسن بن يوسف الخيري من شيوخ قبيل بني وارتجين، المشار إليه في الصلف والترف والتأنق في فاخر الكسوة، والممتاز بحسن الركض وتفاهة ميدان السلم متوجهاً إلى رُندة، والشريف الندب نسيج وحده في قوة الشكيمة ومضاء الحد وفضل الصرامة، مُطَبَّق المِفْصَل، وفاصل الخطة ومعز الرسالة ومحل الرجولة المستولَى على الأمد، حُسْنَ رواء وفصاحَة لفظ ونصاعة طرف وبراعة أدب وعموم مشاركة وإمتاع، أبو القاسم حسن بن يوسف الحَسَني، ضاق به رحب الدائل، واتهمه بالحمل عليه فصرفه إلى الأندلس مُوَرِّياً بغرض الرسالة تحرجاً من التصدي لمضرته، وإرعاء على منصب شرفه، فارتاش، واستظهر من المريني بقيّوم الوزارة، ومن الشريف بتجديد المجالسة ولسان الدست وظهير التدبير. وسكن من يومئذ المضارب واتخذ بعض الآلة، وتلاحق فرسان الطاعة من أهل الجبل ورندة. وتوجهت إليه الحصَّة من ظاهر البلد الجديد فوصلت قصر كتامة واضطربت به فَبَيَّتَتْها خويلة مع الوزير الأحسن ابن يوسف، هزمتها واستاقت كُراعها وعُدَّتَها، وصرف إليه بعدها منصور بن سليمان العناية، فبعث إليه حصة خشنة لنظر ذَمرٍ من رجال دولته معروف النفرة عن السلطان أبي الحسن وبنيه، مُردَفةً بأخرى لنظر أخويه عيسى بن سليمان وطلحة. ولما صمما نحوه، لاذ بسفح الجبل وأهمَّ من لديه أمرُهُم، ووقع القتال بتناصف القوم، أول أيامه، ثم بان الظفر لأكبر الطائفتين، ودوخل القبائل من غمارة وأطمعوا بالمال فمرجوا في أمره، وهمت به طوائف منهم ونشب بنفسه، لولا أن الله فصل الخطة وفرج عنه الكربة، وهناه المنحة وقسم له الحظ ضربة لازب، لا ربّ سواه سبحانه ولا مبدل لكلماته. وكان من الأمر ما يذكر إن شاء الله.

رَجَع: ولما اتصل بالوزير الحسن بن عمر، الثابت المقدم بالبلد الجديد المحصور، عبور الأمير إبراهيم، واتصاله بجبل غمارة، ودخل إليه جاسوسه المهدي باكورة خبره، رفع الأعلام، وشهر الاستبشار، وقرع الطبول مستبشراً به ومظهراً للناس النجح بمكانه فخلخل طاعة حاصره، وفَتَّ في عضده لاختلاف أهواء من لديه واضطرابهم ومَرَه بصائرهم، وغلبة التلاعب بالملكات عليهم، خوراً في الطباع، واحتطاباً في حبال الدائلين، وفي لمة من الفرسان، هاج حفائظهم، واستفسدهم عليه، لمضايقته إياه جاهلاً بوزانه، مخدوعاً في ثمن دُرَّته، مفضلاً عليه يومئذٍ صاحب العلامة، صبياً من ذرية منديل الكناني خالصة دولتهم في القديم أصعر الخد، خلو من الخلال الراجحة، يرى أنه سبط من أسباط إسرائيل الله في دول اليعاقبة، صَارَفَه الجفوة فلم تجزها طباعه الأبية، وارتكب الخطر وتجاوز الأحراس والأهوال فاستقر لديه مُخْملاً كثيراً من صاغية الناس. وتولى للأمير إبراهيم كبرَ الأمر وأحكامه في السرّ خطيب أبيه ورسوله، نسيج وحده وأعجوبة دهره والبعيد الشأو في هذا الميدان، الشيخ الفقيه الخطيب الشهير أبو عبد الله بن مرزوق، متلقى كرة الدولة والمستأثر بعد بالزبدة، فداخل الأشياخ ومهد الطاعة وكاتب في السر وردَّد مُداخلة البلد المحصور فكانت الطائلة لحيلته والبلاء الحميد لدسيسته ليقضي الله أمراً كان مفعولا. والأنْوَكُ المخدوع عن نفسه ذاهل عما وراءه، قد خضب الشيب وأعرس وهو على مقرب الصَمْغَة كأنه أخذ بقول الشاعر:

قومٌ إذا حاربوا شدوا مآزرهم

دون النساء ولو باتت بأطهارِ

وأشار عليه ولده بالقبض على الوزير لما حذره من المداهنة في أمره فغلت يده عنه لينفذ فيه قضاء الله وقدره. وأوحش عميداً من رؤساء جنده المظهرين له على أمره، المناصحين بالجِبلَّة والغُربة لسلطانه محمد بن يوسف بن نصر المنبز بالأبكم الرئيس، البطل البهمة، راكب ظهر التهور، الحميّ الأنف، المرشح بالأندلس للإدالة، المفتتح من حضرة تونس دار الخلافة، جاهلاً بوزانه ومجرياً عليه حكم غماره، فأمر بثقاف حرمةٍ له لم تعرف قط إلا الحجبة، فقارضه سوء الدخلة.

ص: 70

وفي اليوم الثالث عشر من شهر شعبان عام ستين وسبعمائة، نَهَدَ هذا الرجل الموتور مورياً بالقتال ومدافعة من يبرز من حامية البلد، وقد راسل صاحب الأمر به، وصدق الدفاع، وأعطاه من بين يديه الضُّمة فدخل البلد، وقد نالت الجراح كثيراً من أتباعه لخفاء الغرض عن حماة البلدة، وثقات المراصد، وشاع بالمحلة أنه افتتح البلدة ودخلها عنوة، واستركب السلطان المغرور، ووقع النفير فتمخض الأمر عن الزُّبدة، وحصحص الحق بعد الشُّبهة واستراب الوزير المستوحش من وعيد الولد، فتحيز إلى المدينة وسلك سواه مسلكه من الرضا بالمدينة، وحَمِيَتْ أنفس المحصورين وهم شوكة وذمّرهم من لحق بهم، فكانوا لهم أسوة، فبرزوا ينهبون المحلة ووقع البَهْت وغلّت الأيدي ونزل من الله الخذلان. ووقف مغرورهم منصور ابن سليمان وولده موقف الحسرة، وتورطا في شَرَكِ الدَّهش والحيْرة ينشدان الأرحام، ويدْعُوان الذمام ويحترشان ذمم الحرية فلم يُلو إليهما لِيت ولا رُفعت لهما عين، ولا دافعت عنهما يد، ولا رُوعي لهما عهد فانصرفا في شرذمة محروبة تتقاصر عن العشرين فارين على وجوههم إلى جهة بادس. وكان من الأمر ما يأتي به الذكر إن شاء الله.

ولما تلاحق وزير الحائن بابن عم عمه الوزير القائم بأمر البلد نازعاً إليه، رابه قبوله وخافه على نفسه، فلم يلبث أن برز لحينه في سبيل المدافعة فصرف وجهه إلى الأمير المقبل أبي سالم وثَنَت الناس الأعنة إليه، فلم يَرُعْه أضيق ما كان خناقه، وأوفر ما كان فرقه، وأقصر ما كان أمله، إلا الخبر بالفتح الذي لم يلبس له لامة ولا اقتحم هولاً ولا تسربل عَجَاجَه، واتصل بالحصص الآخذ بمخنقه، فألقى قوّادها أنفسهم عليه وأخذوا أمانه، فغرب لحينه منهم أخوى طريده إلى بر الأندلس - وتحرك يوماً والناس يتسايلون عليه أثناء طريقه على اختلاف طوائفهم مهنين، وبالطاعة باخعين، وللوسائل مقررين، ومن الذنوب السابقة إلى سلفه مستغفرين، فقوبل كل بصاعه وأجيب ببسط أمله.

وخاطب سلطان الأندلس بما نصه:

ص: 71

من عبد الله إبراهيم أمير المسلمين المستعين برب العالمين بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحسن بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي سعيد ابن مولانا أميرالمسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق أيد الله أوامره، وخلد مناقبه الكريمة ومآثره، ووصل لدولته العلية السعود، وأنجز له من مواهب النصر الموعود، وزين بإِعلاء كلمته الوجود، إلى محل أخينا الذي مجده أصيل، وشرفه شامخٌ جليل، وحكم رأيه في حفظ المودة مرضي مقبول، وعلاء همته وزكاء أوصافه السنية وشيمه كاف بتعديد الممادح وإحراز المحامد كفيل، وفي استغنائه عن ترديد الثناء دليل، فزاده تعظيمٌ وتبجيل، ودولته العلية في وجوه الأيام غررٌ وتحجيل، ولعزماته الماضية في حد الشرك تفليل، وفي يد الإسلام بذْل وتنويل. السلطان الكذا بن السلطان الكذا بن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقى الله دولته العلية فَلكاً يستضاء بكواكبه ويستنار، وحَرَماً يحتمى به من الخطوب ويستجار، وَوَصَل لها سعداً ما تعاقب الليل والنهار، ونصراً يحمد منه في الإسلام الآثار. سلامٌ كريم، برٌ عميم يخص أخوتكم الباسقة الفروع، ذات الفضل الذي هو أوضح من الشمس عند الطلوع ورحمت الله وبركاته. أما بعد حمد الله الذي ألَّف برحمته بين قلوب المؤمنين من العباد، وهداهم إلى التمسك بحبل الطاعة التي بصَّرهم فيها بمواقع الرشاد، وجعل الخلافة حَرَماً آمِناً طهره من دنس الظلم والإلحاد، وكتب الشقاء على من رَامَهُ من غير أهله بما اقترفه من كبائر الفساد، ووعد من استعان بع وتمسَّك بسببه من النصر والإنجاد، والتأييد الذي يمده من الفتوحات بأعظم الإمداد، والصلاةُ والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي الهادي المختار من بيت الشرف الرفيع العماد، سراج النبوة الوقَّاد، والشفيع المشفَّع في الميعاد، وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله حق الجهاد وآوَوْا ونصروا على استيلاء الكفر وظهور البغي والعناد، وأحسنوا بعده الخلف في أمته بالاتباع لأوامره والانقياد، وصلة الدعاء لهذا الأمر العلي المؤيد الكريم السلطاني المستعيني الإبراهيمي بالنصر الذي يُجري جياد البشائر في أفسح الآماد، والفتح الذي يرتاد محلنا السامي أي ارتياد، والتمكين الذي يقر جنبات السيوف في مضاجع الأغماد. فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم سعداً تنتظم في قلائد المجد دُرَرُه، وعزاً تتضح في وجوه الأيام غرره، من منزلنا الأسعد بأمر جن يمنه الله، والأقدار في مساعدة أمرنا الكريم نافذة وماضية، وأجياد الملك بالبشائر المتتابعة، والمسرات المرادفة حَالية، ووفود الفتوحات على بساطنا الأشرف مزدحمة متوالية، ومُقَدّمات النصر من شوائب العناد سالمة، وعن الأوهام الكاذبة عارية، والحمد لله على ذلك حمداً نستزيد به عوارف جوده، ونستدر به أخلاف مذخوره، من النعم وموعوده، والحب فيكم صميم، والود في إخائكم ثابت سليم، والحمد لله على ذلكم وعنايتنا بجانبكم موصولة بالخلوص مشفوعة، وأحاديث مصافاتكم في الحسان العوالي مرفوعة، وشِيَمُ مقامنا الكريم على مشايعتكم ومؤازرتكم مطبوعة، وإلى هذا وصل الله سعادتكم وحَرَسَ بتوالي النصر والتأييد مجادلتكم وأجزل من مواهب الفتح إفادتكم. فإنكم علمتم خبر سفرنا وما كان إليه بعد خروجنا من غرناطة المحروسة مآل أمرنا، وإنا لما اتصل بنا شأن الحضرة وقوى ما كان عندنا على سرير الملك من الغيرة، خرجنا وقد اشتهر من ذلك ما اشتهر، نحاول ملكاً أو نُعذر، فاتخذنا سبيلنا في البحر عجباً وجعلنا الفلك المشحون لوصولنا إلى الحضرة سبباً، فلما انتهينا إلى هذه العدوة وآوينا منها إلى أسعد ربوة، طفقت البلاد تصافحنا بيمناها، وتستبشر من دولتنا الكريمة ببلوغ مناها، وتبث إليها من التشوق إلى دعوتنا العلية شكواها، وتفتخر بالانتظام في سلك طاعتنا وتتباها. وعلمت أنه قد نَهَدَ إليها معاذُها، وقوى على حين توهُّم الصعب ملاذُها. وآن أن يقام الحق والعدْل فيها، وأن يغمر ظل الأمن والعدل نواحيها وبادر إلى التمسك بالطاعة الكريمة أهل الجبل وطنجة وأصيلا وقصر المجاز وجميع البلاد الريفية والقبائل الغُمَارِيَّة، وكان الشقي الخاسر منصور ابن سليمان، قد امتدت في الفتنة مطامعه، ونَبَتْ عن قبول النصائح في طلب ما ليس له

ص: 72

مسامعه، ففسح مجال آماله التي ضيَّقها القدر وصَرَمَها، وأوقد نار الفتنة على من بحضرتنا من الأولياء وأضرمها، وبذل في التضييق عليهم ذخائر الأموال، وأنفق في حصارهم أعمار الرجال، فلم يحل بطائل، ولا ظفر منها والحمد لله ببغية آمل، ووصلتنا كتب وزيرنا الحظي لدينا الشيخ الأجل الأسنى المعظم الأكمل أبي علي الحسن بن عمر أعزه الله، يستصرخ بنا ويستنجد على الأشقياء بحزبنا، فأجبنا داعيَهْ، وحمدنا في حماية حضرتنا الكريمة مساعيَه، وأعملنا إليه الركاب، وقدمنا في نصره الأسباب، ونزلنا بسريف يمنه الله بمقربة من القصر الكبير، وكان الشقي لما خامره من أمرنا الرعب، وعلم أن ما وَطِئ من هذا الأمر موطئ يغيظ المؤمنين صعب، وجَّه أخويه عيسى وطلحة إلى القصر بجمع اعتقد ولاءهم في مغالبة أمرنا ومدافعة حزبنا ليقفوا هنالك، ويسد علينا بجمعهم الوافر الطرق والمسالك، وكان مع الشقي جماعةٌ من قبيلنا أعزهم الله، دعاهم إلى الوقوف معه داعي الاضطرار، وسلمت عقائدهم من الاعتداد بأمره والاغترار، فجعلوا يتسللون إلينا لِوَاذاً، ويودُّون لو يجعلون كبيرهم الذي لا يرجعون إليه جُذاذاً، علماً منهم بضعفه عن الولاية، وأن مبدأ ملكه لا يصل إلى الغاية، ثم اتصل بهم أن أمرنا قد أُمِر، وملكنا بعد إشفائه على الخراب قد عُمِرْ، فنبذوا دعوتهم بالعراء، وشحذوا عزائمهم لنصر دولتنا الغراء، وانفضوا من حوله وإن لم يكن لأجل استيلافهم فظاً، ودانوا بطاعتنا الكريمة ومحبتنا اعتقاداً ولفظاً، وأشرقوا الحائن بريقه، وأسلموه لمن تابعه من فريقه، ففر والرعب قد ملأ فؤاده، وسعادة أمرنا العلي مالكة إن شاء الله قياده، وقصد هو وولده وثلاثة من الفرسان ميمماً إلى جبل أكان الذي فيه إن شاء الله حتفُه، ولنا الاستيلاء عليه بعناية الله، وإن رغم أنفُه. وتفرق أولياؤه فرقاً، وسلكوا في طاعتنا سُبُلاً حميدة وطرُقاً، فمنهم مقتصد وقف مع وزيرنا المعظم أبي علي الحسن بن عمر أعزه الله ليكمل عقد الطاعة، وينتظم بمحبتنا وخدمتنا في سلك الجماعة، ومنهم سابق بالخدمة لم ير الغاية إلا في الوقوف ببابنا، ولا جعل قصده إلا في اللحاق بركابنا، قد تسابقوا إلى بابنا الكريم يصلون السُّرى بالتأويب، ويهتدون من أسِنَّتِهِم وعزائِمِهم بكل شهابٍ ثاقب في كل طريق ملحوب. وأما الوزير أبو سرحان مسعود بن رحو وكان ممن نقض عرى دولته وسعى في محو كلمته، فإِنه بادر إلى خدمةٍ تزكي عمله، وتبلغه من رضانا أمله، فاعتمد أولياءنا الأقربين، وبطانتنا المظفرين، وقصد الذين بالقصر ليصادف فيهم غِرَّه، ويُذهب عن منصب الملك بمحو آثارهم معرّة، ويتَحيَّل في القبض على أخوي الشقي، ويتقرب إلينا بأثر من نصائحه جَلِي. وفي خلال ذلك اتصل بالقوم ما وقع بفاس، فارتبكوا في أمرهم، وخلوا إلى شياطين طغيانهم وكفرهم، ثم إن الله سبحانه أيقظهم للهُدَى، وهيأ لهم من أمرهم رشدا، وبصَّرهم بمواقع الطاعة فالتمسوها، وأنسوا أنوارعفْونا اللائحة فاقتبسوها، فألقَوْا يد الطَّوع والإذعان، وهداهم الله إلى استكمال عقد الإيمان، وتحقق الوزير أبو سرحان خبرهم، واقتفى أثرهم، واجتمع طريقه بالقوم الذين استعجلوا إلى حضرتنا الكريمة، فوردوا في حين واحد، وشعارهم محبتنا التي أطلعت لهم الشك يقيناً، وطاعتنا التي لم يعتقدوا إلَاّ الوفاء بها وليّاً ولم يتقلدوا غيره دَيْناً، فصرفنا إليهم وجه القبول والإقبال واضح الجبين، ورفعنا لهم راية العز والإحظاء فتلقوها باليمين، وبرزنا إليهم والنصر قد عقد علينا لواءه، وهذا اليوم الأغر قد أرانا من الفتح ما وراءه، وازدحموا على ركابنا العَلي متفيئين ظلال العدل والأمان، وبايعونا بيعة رضى ورضوان، وضربت الطبول، وخفقت البنود، وأمن الرعايا، واستبشرت الجنود، وأنجز لنا من الله الموعود، ومن الله سبحانه نستوهب نصراً يردف هذا الفتح بمثله، وتأييداً يغني المقاتل عن هَزّة رمحه وسلِّه نصله. وسيق الذين بالقصر إلى محلنا الكريم يعثرون في لباس الذل والهُون ويرتعون حول حمىً من المنون، فأعطوا الطاعة عن يد وهم صاغرون، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، فَرَدَّدْنَا النظر وعلمنا أن الكريم يعفو إذا قَدَرْ، وقلنا إن عاقبنا فالعذر أجلى وأوضح وإن عفونا فالسجايا أندى وأسْجَح؛ لكننا إلى الأدنى من الله أجنح. فأوسعناهم عفواً وأوردناهم من

ص: 73

أمواج حلمنا صفواً، وسكَّنا بالصفح روعهم، وأذهبنا بالوعد الجميل خوفهم وجزعهم، وبعثنا أخوي الشقي صحبة القائد الأنصح الأثير المرعى قاسم بن أبي بكر بن بنج إلى عدوتكم المحروسة ليقر لهم فيها القرار وتطمئن بهم بحسب عفونا في جواركم الدار، ورحلنا صبيحة يومنا قافلين إلى الحضرة الكريمة مستعينين بالله في تتميم دعوتنا العلية، ونزلنا بهذا المنزل فوصلتنا أخبار وزيرنا المعظم أبي علي الحسن بن عمر أعزه الله، وأنه آخذ جهده في الخدمة ومتمسك بأمور الطاعة المهمة، وإنه وجه إلينا المال وآلات السلطان جميعاً وهم واصلون على الأثر بعد أن كانت كتبه وصلتنا أمس التاريخ، يستحث ركابنا، ويوصل بالحضرة أنسابنا ويقر من طاعتنا بالواجب، ويسلك في الخدمة والمحبة أسنى المذاهب، ونحن لا نزال نبرم عقد مودتكم وإن كانت الحال دعتكم إلى نقضه، ونعلم وضوح عذركم فيما فرط من الإخلال بفرضه، فنوافي لديكم سار أنبائنا تقريراً للمناصحة التي خلصت سراً وعلناً، والمحبة التي أنبتها الله من حَبَّة القلب نباتاً حسناً، والمشايعة التي نعتقدها شريعة ونتمسك بها سنناً، والمعاهدة التي تنيلكم في جهاد أهل الكفر أملاً، والمؤازرة التي تطلع لكم من آفاق دولتنا الكريمة شُهُبَ النصر قواضباً وأَسَلاً، ورعياً لما بين أسلافنا رضوان الله عليهم من الوصلة التي أسَّس مبانيها الجِوار، والمودة التي حَسُنَت في غاياتها ومبادئها الآثار، وتجديداً لذلك العهد، ولإن تقادم أمدُه، وتأكيداً لحُكْمِهِ الذي عظم بالمؤازرة مددُه. ولما بيننا من المواصلة في السر والجهر، وعندنا من المساهمة لكم في الحلي والمر، أعلمناكم بهذه الأخبار، وأفصحنا لكم عن جميل الاعتذار عملاً على شاكلة المساهمة، وحفظ المودة التي لم تزل على أصولها قائمة، ودفعاً لما عساه يلحقكم من الخجل في ذلك، وسلوكاً من مراعاة ودكم على أجمل المسالك وسيتضح لكم عند وصولنا إلى الحضرة الكريمة شواهد هذا الدليل، ويظهر ما أضمرناه لكم من الوعد الجميل، فثقوا بذلك وأفسحوا في جهاد أهل الكفر مجال آمالكم، والله يضاعف لكم التأييد والنصر، ويطلع لدولتكم الزمن النضر، ويضاعف لكم الاقتدار ويجري في مساعدة أمركم الأقدار، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

ص: 74

كتب في يوم الأحد العاشر لشعبان المكرم من عام ستين وسبعمائة، عرف الله خيره وبركته وهو المستعان وكتب في التاريخ المؤرخ به.

وصدرت المراجعة بما نصه:

ص: 75

المقام الذي عالج زمانة الزمن فشفى، وضمن له عزيم القدر بلوغ الأمل وإحراز الوطر فوفى، وانسدل بأيالته على الأمة لباس الوقاية والعصمة فضفى، واستظهر للدهر بعقوده، طالباً بالحق إرث آبائه وجدوده، فوقع عليها قاضي القضاء: استقل بالواجب واكتفى مقام محل أخينا الذي ثَغْرُ الدهر لما استحقه من عزة الأمر بَرودٌ شنيب، وقبة الفخر قد أحكم منها على مجده العدّ وفضله الغمر تطنيب، ومركب العزة القعساء لخدمته في الإصباح والإمساء جنيب، ولسان الثناء على حلمه ودينه يتلو على الأشهاد من إن إبراهيم لحليم أواه منيب. السلطان الكذا بن السلطان الكذا بن السلطان الكذا أبقاه الله تضرب بصدق عَزْمته الأمثال، كما ارتفع بحجة دعوته الإشكال، فمهما طمحت نفسه النفيسة إلى غرض بعيد، قرب منه المنال، وطأطأت أعناقها الآمال، ونجحت الأعمال، وأهطعت الغاية التي لا تنال. سلام كريم بر عميم يخص مقامكم الأعلى وأخوتكم الفضلى ورحمة الله وبركاته. مُعَظِّم مقداركم الكبير، الموجب لأخوتكم الكريمة مزية التوقير، المثني على فضلكم المبين، ودينكم المتين، وحسبكم الشهير الأمير عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي الحجاج بن أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر. أما بعد حمد الله مُدَبِّر الوجود الذي بيده مقاليده، الملك الحق الذي ثبت ببديهة العقل توحيده، جبار السموات والأرض، فالأمر أمره والعبيد عبيده، جاعل الشكر مفتاح المزيد من نعمه، فهو كما وعد يُحسب الشاكر ويزيده، فمن استعان به في المهمات أعانه وأنجده تأييده، ومن توكل عليه في الملمات ساعده ما يريده، ومن تذلل لعظمته اشرأب بالعز جيده، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله صاحب الفخر العالي مشيده، والحمد المتوالي في الذكر الحكيم ترديده، والفخر الذي لا يطال سمكه ولا يخلق جديده، هادي الأنام الذي استبان بطاعته شقي الخلق وسعيده، فأصبح الباطل وسيف الحق يبيده، وغدا عقد الإيمان لا ينقض مبرمه ولا يحل شديده، والرضا عن آله وصحبه الذين نصروه في حياته بالعزائم الصادقة ويوم الروع لا ينادي وليده، وحفظوه في أُمَّتِه بالاهتداء الذي بان فضله وظهر تسديده، وكانوا في سماء ملته كالنجوم المشرقة لمن يبتغي الخير ويستفيده. فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم سعداً يطوي المراحل فيشبه الغيث يؤم البلد الماحل بريدُه، ونصراً يُقصر على تمهيد الأرجاء وعلى الجهاد الذي هو مطمح الأمل الديني والرجاء عدته وعديده، حتى يزين عِطفَ المثقف انثناؤه وخَدَّ المهنّد توريدُه، ويقوم خطيب الحسام مُكبراً بالفتوحات الجسام، فيقال هذا اليوم عيده، وهناكم الملك الذي ذخر لنظم مآثركم طويله ومديده، فإذا تذوكرت الأملاك وانتظمت من الفخر الأسلاك، فسيفكم سفَّاحه ورأيكم رشيده، من حمراء غرناطة حرسها الله، وساجعُ شكر الله يملي الأفواه وقد طاب بدوحة الصنع الجميل تغريده، والمسئول في صلة عوائد فضله من يُبدئ الخلق ويعيده، وإلى هذا هناكم الله ما خوَّلكم، وبلغكم من فضله أملكم، فإننا - من لدن انبعث عزمكم، على طلب حقكم، وقد تأذن الله لكم في استخلاصه، ومطاردة أملكم الذي أجلى الركض الحثيث عن اقتناصه، ونبهكم القدر، والحظ المبتدر، والسعد الذي راقت منه الغرر، لسرٍّ من القبول خَبَأهُ سبحانه وحَجَبَهُ، واعتِنَاءٍ حتَّمه وأوجَبَهُ، فسَهُل الصعب، وهانَ الخطر، وانقاد الوطن وتأتى الوطر، وبرز إلى الوجود ما تضمنه اللوح المستطر لم نزل نسأل الله لكم حسن العقبى، ونجح المآل، ونتشوَّف إلى ما تربَّد من قبلكم من الأحوال، ونتلقى ما يَرِدُ من أنبائكم المعربة عن سمو القَدْر، والسعادة المشرقة البَدْر، بانشراح الصدر، إذ لم تُوسِعُ الأحوال المتعارفة عندنا زيادة على هذا القدر، إلى أن طلع علينا كتابكم الأسنى، متحفاً بثمرة السعد طيبه المجنى، وقد تأسس منه على الوفار وكرم العهد المبنى، وتطابق منه في الفضل اللفظ والمعنى. أطلعتمونا طليع الأنباء التي يَحُومُ التشوف حول حماها، وتتزاحم أنساب الشفقة على منتهاها، وتشرع الأفكار إلى فك معماها، وإنكم ما زلتم ترفلون في لطائف صنع الله براً وبحراً، وتتوسدون كنف الرفق والعناية نحراً وسحراً، إلى أن نقلكم من صرير الفُلك إلى سرير الملك، من يُجنى ثمرة الحياة الطيبة من شجر الهُلك، ويشقّ عن أزهار الأنوار كمائم الظلم الحُلك، فتأرَّجَت نواسِمُ

ص: 76

القبول من مهبها، وأشرقت الأرض بنور ربِّها، وتذاكرتِ الرعايا صنائع والدكم المقدس فَرَعَتْهَا، وأنصتت إلى دعوة الحق فوعتها، وأقام الله لكم بدار الملك وهو الأصل، والرياس الذي يُمْسَكُ منه النَّصل، مَنْ حَمَى الحوزة، وأحيا العزامة، وبذل في حفظها عليكم الجزالة والصرامة، بما يستوجب به هو وعقبُهُ منكم الحظوة والكرامة، فلم تُجْدِ معه الحيل ولا أغنى الحصر، حتى نزل بإِصراخِكم النصر، وسعد بدعوتكم العصر وارتاح إلى مُحياكم القصر. ووردت عليكم الوفود تجر ذيول الأسَلْ، وتستشعر النشاط من بعد الكسل، وتراجع الوفاء المعهود، وتتذكر الحقوق السالفة والعُهُود، وأنكم حثثتم السَّير إلى الحضرة التي فارقتكم مطالعها هلالاً، فعدتم إليها بدراً، وارتاحت إلى لقائكم على مر الأيام، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، وإن وزيركم الأوفى شكر الله وفاءه وجعل معروف اعتقادكم الجميل كفاءه، وجَّه آلات الملك التي بها يستظهر الأمر العزيز، ويكون بها على المدينة التبريز، وقررتم ما سلكتم فيمن أظفر الله به أمركم وسعى بالقدرة عليه صدركم من عفوٍ عن دمٍ، ورعي ذِمَمٍ، وإيثار عادة وفضلٍ موروث وكرم. فاستوفينا ما قررتم من مقاصِدَ نظمت البلاغة شذورُها، وجَلَت ظُلُم الحبر نجومُها العواتِم وبدورُها، وحضر بين يدينا خديمكم فلان فزاد الخبر لأجل المعاينة إيضاحاً، وأفاد شرح الجزيئاتِ الصدرَ انشراحاً، فقابلنا نعم الله عليكم بشكره وحمده، وسألناكم مزيد فضله بكل نِعْمَةٍ من عنده، وقُلنا الذخر الثمين انتظم في عقده، والحسام الماضي عاد إلى غمده، والفرع الكريم استقل بمنبت أبيه وجده، وما يفتح الله للناس من رحمة فلا مُمسك لها وما يُمْسِكْ فلا مُرْسِلَ له من بعده. ثم ثنينا العنان إلى شكر مجدكم الذي لا ينكر حقه، ولا تلتبسُ في الأصالة طُرقه، فالجواد لا ينكر سبقُه، والغيث يدل عليه برقُه. وعلمنا بما قررتم من استشعار العفة عمن قصدكم من الناس، وخفض جناح الإيناس، استقامةً للأمن إن شاء الله على أوثق الأساس، وسلامة الصدر وذهاب الباس، وسررنا - والله العليم بالضمائر - بما سَنَّى الله لكم سروراً ننازعكم فيه فضل اللباس وفضلة الكاس، فإن إيصال الحقوق إلى أهليها، وكَوْنَ رتب الآباء تستقر في الأحقِّ بها من بنيها مما جُبلت النفوس على استحبابه وإيثاره، ويجده كل قلب وفق اختياره، فكيف إذا عَضد ذلك وُد مُتوارث عن السلف، محفوظ بدرُه عن الكَلَف، فنحن نهنيكم والهنا شامل، ونؤمل لكم المزيد والله لا يخيب لديه آمل، ونسأله أن يسعدكم بما صار لكم ويجعل في طاعته عملكم، ويكتبكم فيمن شكر آلاءه ونعمه، وذكر فضله وكرمه، والسلام.

ص: 77

وبادر الوزير الثابت القدم بدار الملك بَعْث الأعلام، والخلع الملكية والمراكب الثقيلة الحلِية، والآلات التي باستعمالها تمام الأبهة بعد أن بدا له في الاستمساك، وشرع في ضم مرافق المحلَّة، واستخلف الكثير من الزاد، واكتسح البلد والمحلة لولا أنه أسلمه المنجد ورابه من أوليائه الأمر، وبادر إليه الأمير القاصد قبل إفاقته من هوله وابتلاع ريقه، فبعث رسولَه الشريفَ الثبت في الجُلَّى الدامغ الحجة العظمى. فما كان إلا أن أوصله إلى نفسه يوهمه الخلوة به، فجهر بالرسالة وقرأ على الناس الصكّ وأخل بالمصاف. وقاده إلى غرضه بعد التوثق له، فخرج الولد في طُوَيْفَةٍ من الأخوة والخدام بعد أن اقتضى له من عمه الدائل العهد بحفظه وتبينه فأخفر عما قريب عهد الله فيه.

وفي يوم الخميس الخامس من الشهر شهر شعبان، برز الوزير وقضى حقه وكر بين يديه مقيماً رسم الوزارة، مسجلاً له بالكرامة، فدخل البلد واستقر منه بدار أبيه وجده وأريكه إرثه، بعد انبتات السبب، وبُعد المحلة وإقصاؤ الأمل وعجز الحيلة وإعواز المال والعدة، سبحان ذي الملك الحق والقدرة لا إله إلا هو جل شأنه وعز سلطانه. وخاطب السلطان صاحب الأندلس أيضاً بما نصه:

ص: 78

من عبد الله المستعين بالله إبراهيم أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحسن بن مولانا أميرالمسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي سعيد بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أعلى الله كلمته وزين باقتبال البشائر دولته، إلى محل أخينا الذي رسخت في صدق الإخاء قدمه، وأعربت عن خلوص الولا والسنا مناقبه السنيهُ وشِيَمُه، وظهر في كل شِعْبٍ مَن طرق المودة علَمُه وطبعت على مُصافاتنا هممه، السلطان الكذا الكذا ابن السلطان الكذا الكذا ابن السلطان الكذا الكذا، وصل الله لمجده سعداً تستنير أضواؤه، وسعياً يخفق بالنجح لواؤه، سلامٌ كريمٌ يخص أخوتكم الرفيعة الجناب ورحمة الله وبركاته. أما بعدَ حَمد الله الذي يؤتي الملك من يشاء فلا يُرَدُّ حكمه ولا يرام، ويعز من يشاء فلا يُزال سلطانه ولا يُضام، القادر على ما يشاء فله الحل والإبرام، والنقضُ والإحكام، الذي جعل الخلافة حَرَماً آمناً تجافاه الظلم والإظلام، وألف بين قلوب المؤمنين فكمل الاتفاق وحصل الالتئام، ووعد من استعان به وتمسك بسببه بالنصر الذي تخفق به الأعلام، والفَتح الذي تُطلعه من آفاق التأييد الأيام، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد الذي له الاصطفاء والإكرام والحوض والشفاعة والمقام، الذي رحم بابتعاثه الأنام، ودعا إلى الله على بصيرة فاستقر الإيمان والإسلام، واقتعد بهدايته الغارب والسنام، وعلى آله وصحبه الذين هم البررة الأعلام، ولهم المضاء في نصر دينه والاعتزام، والجلاد والجدال اللذان تم بهما أمر ملته السمحة وانعقدت لها الأحكام، وصلة الدعاء لهذا الأمر العَليِّ المؤيد الكريم الإِمامي المظفر المطاع السلطاني الإِبراهيمي المستعيني بالمصر الذي لعقده الوثوق والإحكام، والفتوحات التي لها في سلك دولته الاتساق والانتظام، فإِنا كتبناه إليكم كتب الله لكم سعداً لا يفارق الدوام، وعزاً لا ينفصل منه متصل ولا ينقص منه تمام، من حضرتنا العلية المدينة البيضاء مَهَّدَها الله تعالى وخلَّدها، وقد صدَّق الله تعالى أمل الإسلام فينا، وحقق اقتداءنا بأسلافنا الكرام رضوان الله عليهم في إحراز ملكهم الشامخ وتأسّينا، وزُهِي بنا منبر الخلافة وسريرها، وجرت بنظرنا الصالح وتدبيرنا الناجح أمورها، وأعطانا الملك صفقة الرضا والقبول، واستبشرنا بمحبة الله التي قام عليها من محبة الناس أوضح دليل، والحمد لله على ذلك حمداً يصل النعم بمثلها، ويوجب المزيد لمُسْتَمْنَحِهَا بالشكر ومُسْتَجْرٍ لها، وَوُدكم من ثوابت الغِيَر سليم، والحب كما تعلمونه ثابت صميم، واهتمامنا بمناصرتكم وَثِقُ العقود وإيثارنا لمعاضدتكم محفوظ العهد، والله يصل ذلكم لوجهه كفيلاً برضاه، وافياً بزيادته وحسناه، وإلى هذا وصل الله سعودكم ووالى تأييدكم، فإنا كنا قدّمنا لجلالكم التعريف بما سنّاه الله تعالى من محو آثار الفجرة الأشقياء، الذين بَغوا الفسادَ في الأرض بعصيان ربِّ السماءِ، وفسحوا مجال الأطماح في إحراز الملك الشامخ البناء، واحتالوا بالتضييق على حضرتنا ليغتالوا، وهمُّوا في كيد أمرنا العلى فلم ينالوا، ولما تيقنوا أن الله سبحانه أعلى بالخلافة وإظهار الدعوة يدَنا، وصدع قلوبهم الرعبُ الذي سبق بين يدينا وتقدَّمَنا، فَشُتَّ شمل ضلالهم، وانصرمت حبال آمالهم، وانفض من حولهم الأولياء الذين أكرهوا وقلوبهم مُطمئنة بالطاعة، وسلمت عقودُ ضمانهم من أن ينفث فيها مخالفة الجماعة، وانصرفوا عنه يهتدون بلائح أنوارنا، وَيعْشونَ إلى ضوء نارنا، فشرحنا صدورهم بالوعد الجميل، وفسحنا لهم مجال التأميل، وقفلنا إلى حضرتنا الكريمة والنصرُ قد ألقى إلينا مقاليد البلاد، والتأييدُ قاد لنا طلائع الفتح مشرفة الهواد، والتمكين قد أقر جنوب السيوف في مضاجع الأغماد، ولما وقع الحق بإظهار هذه الدعوة الواضحة السناء، وبطل ما كانوا يعملون في التضييق على من كان بها من الأولياء، وعصم الله سبحانه حضرتنا العليَّة من أن يجيش صدرُها بِجَمْعهم الذَّميم، أو يعْلَق كفُّنا منهم بالحبل الرَّميم، ونأت بجانبها عن دواعيهم، واستصعبت على عزائمهم ومساعيهم، بادر وزيرنا الحظي لدينا الشيخ الأجل الأعز الأسنى الأرفع الأخلص الأكمل أبو علي

ص: 79

الحسن بن عمر، أعزه الله تعالى إلى تقديم الأسباب الواجبة لركابنا العلي عند الاقتراب والإعلان، بما كان يسره خشية منهم من الطوع والإذعان، فعلمنا بما ظهر من مبادئ النصائح صدق ضميره في المصائر، واستقبلنا الفتح يرفل في ذيول البشائر، بعد أن كانت كتبه تناجينا بلسان خلوصه على بعد الدار، وتستحث ركابنا العلى راغبة في القدوم على حضرتنا والبدار فطوينا المراحل إليها، واستعنا بالله في تكميل ما رمناه لديها، وقد ازدهت بعسكرنا المظفر الوهاد، وسالت بأعناق المطى الأغوار والأنجاد، وتباهت بالانتظام في سلك طاعتنا البلاد، وحين طلعنا على حضرتنا العلية من آفاقها، وابتهجت النفوس بانتظام المسرات واتساقها، وجمع الله كلمة المسلمين بعد افتراقها، خرج إلى لقائنا محل ولدنا الأسعد الأرشد أبو بكر السعيد بن أخينا المرحوم أبي عنان رحمه الله والشوق قد بعثه على المسارعة إلى ركابنا، ونور الهداية قد أوضح له التمسك بعلى جنابنا، فوصل إلى بساطنا الأشرف يبرأ من تدبير الأمور ويلتمس منا الانفراد بنفسه على الجمهور وألقى مقاليد أمره إلينا، وعول في النظر له وللمسلمين علينا، وخرج بعده وزيرنا أعزه الله تعالى بعد أن قدم أسباباً ظاهرة من النصائح، أنتجت له العلا في بابنا والظهور، وتَجَرَ في حماية حضرتنا والقيام بدعوتنا تجارة لن تبور، وتمسك بمقامنا الكريم الذي يمهد له مراتب العز ويوطدها، ويثبت له أحكام الحظوة والمكانة ويؤكدها، ودخل بين يدينا إلى حضرتنا العلية وقد أشرق السعد في جنباتها واتضح، واتسع مجال الآمال في دولتنا الكريمة وانفسح، واستوينا على سرير ملكها، وانتظمت الفتوحات في سلكها، وتمت كلمة المؤمنين، وأعز الله باستقرار ملكنا وثبوته الدين، والحمد لله على هذه النعمة التي أعجزت عن القيام بشكرها، وانتشرت المسرات المتصلة في نشرها، أعلمناكم بذلك جرياً على حكم المودة التي أُسسَ بنيانها، وتساوى إسرارها وإعلانها، ولما بين أسلافنا رضوان الله عليهم من الوصلة الحميدة الآثار، والمحبة التي أكدها قرب الجوار، ولتعلموا أنا والحمد لله قد أعطانا النصر قياده، وفسح لنا الملك آماده، وأملنَا بحول الله تعالى أن يبلغ الإسلام مُرَادَه، ويجري في ميدان الجهاد جهاده، والله سبحانه وَلِيُّنَا المستعان، وبه اعتصامنا في كل أمر وشأن. وقد أوفدنا عليكم بخطابنا فلاناً وهو يقرر ما عندنا لكم من حسن المودة والمناصرة وجميل المعاضدة والمؤازرة. والله سبحانه يحرس ودادكم، ويفسح في جهاد أهل الكفر آمادكم. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. وكتب في اليوم السابع عشر لشعبان المكرم عام ستين وسبعمائة. عرف الله خيره وبركته وكتب في التاريخ المؤرخ به. ووصل صحبة هذا الكتاب قوم من نبهاء الخدام تكفلوا بإِيصال العيال المتخلف بغرناطة، وشرعوا في الاستعداد والاستظهار بما حَملهم من زينه.

ص: 80

وقعد لهم السلطان بالأندلس قعوداً فخماً بقبة قصره، وتضمن الكتاب المذكور مدرجاً بما آلت إليه حال منصور بن سليمان طريده نصه: وصل الله لولائكم الرضى سمو المكانة والعلاء، ووالى في ذاته حراسة ذلكم الإخاء، مما تعلمكم به ونصل لكمالكم وَصْلَ المسرات بحسب الاعتقاد الجميل سببه هو أنه بعد ختم خطابكم الواصل هذا طيُّه إن شاء الله، ورد علينا التعريف من حفَدةِ ولي الله تعالى الإمام الكبير العارف الشهير أبي يعقوب البادسي رضي الله عنه وأدام رعايتهم، بأن الحائن الغادر الخائب الخاسر منصور بن سليمان الذي تعرض لما جهل بالتعرض له قدره، وأراهُ عاقبة غدره، وأحاق به مكره، وصل إلى بادس هو وولده ومعهما عطية بن نرْزدَع من أشياخ جبال غمارة المخالفين على طول السنين، طالبين لنجاتهم التي لم يجدوا إليها من سبيل، ولا عَدموا بمرامها الأخذَ الوبيل، فَقَبض على ثلاثَتِهِم خديمُنا الأثير المرعي عبد الله بن عسكر مع رُماة البلد، وتحصَّل جميعهُم في قبضة الثقاف، فبعثنا في الحين من يأتي بهم إلى بابنا العَلي أسماهُ الله ليذوقوا وبال أمرهم، ويجتنوا ثمرة غدرهم، ومن العجب أن عطية المذكور لم يُقدر عليه قط في حال امتناعه بحبله ولياذه بحيله، ولما أراد الله أخذه، بعث إليه الحائن الذي أتته به رجلاه، ورماهُ من شؤمه بما رماه، فأمكن الله منهم أجمعين وقُطِع دابرُ القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين نسأله سبحانه أن يوزعنا شكر نعمائه، ويؤدي عنا حقوق آلائه والسلام معادٌ عليكم ورحمة الله.

وصدرت المراجعة عن ذلك بما نصه:

ص: 81

المقام الأسنى الذي أحسن الله له العقبى وأعقب له الحسنى، وبلغه من فضله ما تمنى، وجعله مثابة للناس وأمناً، هو مقام إبراهيم لفظاً ومعنى، مقام محل أخينا الذي جدد البيت الكريم ورفع أركانه، واستحق النصر العزيز فعين زمانه ومكانه، ونبهه القَدَرُ والحظُ المُبتدر فملأ أوطاره وتملك أوطانه، واستظهر للدهر بعقوده، طالباً إرث آبائه وجدوده، فحاز تراثه واسترد سلطانه، السلطان الكذا بن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا بن السلطان الكذا أبقاه الله مُنشرحة بسلطانه الصدور، مُستمدة من نور سعادته البدور مُشَمِّراً لتتميم مآربه، وإيضاح مذاهبه، القدور المقدور، مقروناً بعزماته الظهور، متنافسة في تخليد مآثره الأيام والشهور، رافعاً رواق العصمة عدله المشهور، ضاحكاً في اليوم العبوس عَلَمه المنصور، معظم قدره وملتزم بِرّه المسرور، بما سناه الله من إجلال قدره، وإعزاز نصره، فلان، سلامٌ كريمٌ طيب بَرٌّ عميم يخصُّ مقامكم الأعلى وأخوتكم الفضلى، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله الفتاح العليم، محيي ثمرة الأماني القاصية، والامال المتعاصية، من شجرات الرضا والتسليم، ومطلع أنوار الظفر بالأوطار، في ظلمات الأخطار، لأولي العزم من خُلفائه الأبرار، وذاخر منحة الفوز بما لديه، من أوليائه الكرام عليه، لمن أتاهُ بقلبٍ سليم، الذي جدَّدَ للمِلَّةِ ملابسَ عزها رائقة التَّسْهيم، وجلا عنها بنور السعادة غياهب الليل البهيم، ونَفَخَ منها روح الحياة في العظم الرميم، الملك الحق الذي إذا أعطى لم يُفِد لَدَدُ الخصم ولا مماطلة الغريم، فبيده ملاكُ القبض والبسط والتأخير والتقديم، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد نبيه المصطفى الكريم ورسوله الرؤوف بالمؤمنين الرحيم، الذي أثنى في كتابه العزيز على خُلُقِه العظيم، وأرسله بالآيات البينات والذكر الحكيم، وأخبر أنه وملائكته يصلُّون عليه وأمر بالصلاة عليه والتسليم، وبعثه إلى الناس كافة يأخذ بالحجزات عن العذاب الأليم، ويدعو على بصيرةٍ منه سبحانه إلى جنات النعيم، حتى أصبحت كلمة الله تحثُ بها جياد الأقلام في ميادين الأقاليم، وسرت في الأقطار تبين لأولي الأسماع والأبصار حدود التحليل والتحريم، والرضا عن آله وأصحابه المتميزين بأصالة المجد وكرم الخِيم، الحائزين قصب السبق في الحديث والقديم، الذين خَلَفُوه في ملته بالتكميل لمحاسنها والتتميم، ونصروه في حياته نصراً تكفل بحفظ النفوس وصون الحريم. فإِنّا كتبناه إليكم كتب الله لكم صنعاً تُتْلَى أنباؤه ما بين زمزم والحطيم، وسعداً تُغني قواطعه في الأعداء عن اختيارات النصب واعتبارات التَّنجيم، ونصراً يدونه الذابل والحسام فيقومان بوظيفتي السَّبْر والتقسيم، وبشائر تَسْرِي في الآفاق مَسْرَى النسيم، وتسفر في مطالع التعريف عن الوجه الوسيم، وتروى منها العبادُ والبلادُ تحفةَ القادم وزاد المسافر وقوتَ المقيم، من حمراء غرناطة حرسها الله، ونعم الله قد همت منها السحاب، وفتوحاته الربانية قد تفتحت منها الأبواب، والكلمة المحمدية قد اتصلت بها الأسباب، ودولة الإسلام قد عاد لها بدولتكم الشباب، وآلاء الله قد ذهلت لِمَا بَهَر منها الألباب، والظنون فيه سبحانه قد صدق منها الحساب، ولا زائد بفضل الله الذي عمت هباته، فهو الجود الوهاب، ثم ببركة سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي أشرق من نور هدايته الشباب، إلا العز المشيد، والسعد الجديد، والجَد السعيد، واليُمن العريض المديد، والآمال التي أشرف منها الجيد، والحمد لله حمداً يتوالى منه بوسيلة الشكر المزيد، وإلى هذا عرّف الله المسلمين والإسلام عارفة سعدكم، وهنأكم ما هيأه من الصنع الجميل لمجدكم، فإِنَّا قدمنا لكم الخطاب جواباً عما أهديتم إلينا، وأوفدتم بمقتضى فضلكم العميم علينا، من إتحافكم ببواكر الفتح الأسنى، والصُّنع الوثيق المبنى، وأنكم صرفتم العزم إلى دار الملك الذي احتفلت لسعادة أمركم أوقاته، ومقر العز الذي حفظ أمانته عليكم ثقاتُه، وتشوَّف إلى تلبية مجدكم ميقاته، وارتاحت إليكم عهودُه، وحنت إلى لقائكم سروجُه ومهودُه، وسهرت لارتقابكم عُيونَه، ويسرت لاقتضائكم ديونُه، ونضدت لمجالسكم مراتبه، وعُرِضَت بين يدي جودِكم مواهبه، وجُنِبَتْ جُرده وسلاهبُه، وزينتْ ببدركم هالتُه، وخطبت لجلالتكم جلالته، وإن الملك قد استقر

ص: 82

والمنَّة لله في قراره، وربُّ الدار قد توسد أريكة داره، والوارث الأحق قد فاز بحقه، والجواد الكريم قد تميز في ميدان السعد بخصْل سبقه، وإن الطاعة قد اتسقت عقودُها وانتظمت وخلصت واستحكمت، والألسنة قد أعلنت ما كَتَمَتْ، وملة الإسلام قد رضيت وسَلَّمَتْ، وأن البلاد والعباد قد شملها الاستبشار، وحصل لها الأمل الذي إليه يشار، والقرب الذي كانت تحن إليه حنين العِشار، وظهرت آثار الاعتقاد الذي كان كامناً، وذهب بروع النفوس مقام إبراهيم الذي من دَخله كان آمناً، وغبطناكم بموقعها الأسنى، وعارفتها الحسنى، وقلنا الحمد لله الذي ردَّ حلي المُلك المجيد إلى الجيد، وقلد حُسام الخلافة عاتق البطل النَّجيد، وزيَّن المفْرقَ بالتاج، وقرن مقدمة العزم بالإنتاج، فمعاذ الله أن تجهل البلاد حق والدكم الذي كفل الرعية وكفاها، وتمم مآرب الإسلام على مَرِّ الأيام ووفاها، وأعذب الموارد وأصفاها، ومدَّ جناح العدل المنشور، والفضل المشهور، ووسم بغرر المناقب أوجه الأعوام والشهور، وكان لملوك الإسلام أباً، ولتمهيد الأقطار وتسني الآمال الجهادية والأوطار سبباً، ولدين الله ركناً وثيقاً، ولأوليائه وليّاً وصديقاً، وعلى الثغور شفيقاً، ولأَعْبَاءِ الخلافة مطيقاً، وللمناقب ديواناً، وعلى عزِّ كلمة لله عُنواناً، وللجهاد مُديماً، ولنعمة الله بالشكر مُستديماً، ولرسوم العلم والعمل مُقيماً، وللعدل والإحسان صراطاً مستقيماً، وبخصوص هذه الجزيرة الأندلسية التي جعلها ميدان أمانيه - من رضى الله - وآمالِه، وأسلف فيها ما أسلفه من أعماله، وسمح لها بنفسه وولده وماله، جزاه الله جزاء الخلفاء الصالحين والأئمة المجاهدين من أمثاله، وأبقى بركته في ولده وآله. فلو لم يدعُ إلى السرور بما سنَّاهُ الله لكم إلا هذه الوسيلة التي تسلَّم لها الوسائل، وتقوم على فضلها البراهين والدلائل، لكفت وأبَرَّت ووفت، وسحت بركتها وَوَكفت، فالفرند من النصل، والفرع من الأصل، والحب يُتَوارث كما ورد به الحديث والخبر، وشهد به الحسُّ وهو الشاهد المعتبر، وإنا لنرجو أن تُرضوه باقتفاء سَنَن جهاده في لحده، وتتمموا مقاصده في سبيل الله من بعده، فأنتم سلالةُ مجده ومنقبةُ حَمده. ورأينا أن تلك المراجعة دون الكفايَة، وقاصرة عما يجب من المبرة والحفاية، فخاطبناكم بهذا الكتاب نؤكد سرورنا بما ألبسكم الله من تلك الحلل، ونسأل لكم تمام القصد وبلوغ الأمل. فنحن الآن نبدي في هنائكم ونعيد، ونسهب القول وأين يقع مما نريد، ونروم أن يفي الكتاب بما ينطوي عليه لكم وهو المرام البعيد، وإذا كانت السَّرائر يعلمها الشاهد الرقيب، ويرتّب عليها المجازاة فهو المجازي المثيب، فحسبنا أن نكل خَفِيَّهَا إليه، وتدينه منها بما لا يخفى عليه، فالله عز وجل يهنيكم ما أولاكم من منحةٍ حافلة، وصنيعة في حُلل الكمال رافلة، ويسعد بها الأقطار، كما مَهَّد بها الأوطان ويسر الأوطار، ويجعلها في العقب بعد طول المَدَا باقية، ويُلْبِسُها عصمةً منه واقية، حتى لا يعرف شملها بعد الانتظام انتثاراً، ولا طِرْف سعدها من بعد الإحضار عثاراً، ويجعلها لنجوم عزكم مَدَاراً، ولدعوة ملككم داراً وقراراً، وعيَّنا في هذا الغرض، والقيام بواجبه الملتزم المفترض، مَن وجدنا أن ينوب عنا فيه أحمَد المناب، ويُمهِّد أفسح الجناب، ويشرح ما لا تفي به مقاصد الكتاب، وهم فلان وفلان وفلان، وفضلكم كفيل بالإصغاء لما يلقونه، والقبول على ما يؤدونه، والله يصل سعدكم ويحرس مجدكم والسلام، في كذا..

ص: 83