المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وفاة زوجة ابن الخطيب - نفاضة الجراب في علالة الاغتراب

[لسان الدين بن الخطيب]

الفصل: ‌وفاة زوجة ابن الخطيب

كتبتُ أغبطُك، أعزك الله، بتسويغ اللذات، وتهنى طيب الحياة، ولباس خِلَع الخلاعة ولو قامت الساعة، فإنما الإنسان بيومه لا بقومه، وبوقته لا بالمبالات بمقته، وأدعو الله أن يُجزل أجرتك، ويتقبلَ هجرتك، ويُؤَمِّنَ من الشرط حجرتك، ويعطف على محلِّكَ قلوبَ الفتيان، ويقربهم للإتيان، ويقطع بشهرة قينتك حظوظ القيان، ويسلبك الغيْرة التي تفسد العشرة، وتكشف القشرة، وكأنني بك أعزك الله وقد ظهرت بوجهكَ سعفة النبيذ، وتَفَطَّر لها جلد وجهك تفطُّر جلد الجَدي الحنيذ، وأصاب أسنانك الحَفَر، وريحك البَخَر، وعينك الشَّتَر، وشعرك الحَزَاز ويدك الكُزَاز، وأصبحت مخموراً، مَنْهياً من عيالك مأموراً، وقد أعْلفت عمامتك بسروالك، وسدلت القشرة البيضاء إلى أسمالك، وقعدت بدُكة بابك تتلقف العيَّارة، وتعترض السيارة، وتُعيِّنُ للوقت الزيارة، فإذا اقتضيت النقد من الخرْج، ودَلَلْتَ الفحول على المرج، وخَطبتَ لمشاهدة الرقص والدَّرج، نهضت لشراء مُرِنِّ حجولك، وما يتكفل بسولك، من طراوةٍ تصقُل البشرة وتنقيها، ولخلخة تستر رائحةَ الإِبْط وتخفيها، وسَنونٌ يطيب الفم، ويوافق الشم، وضمادٌ يشد الثدي إذا ذَبُل، وفَرْزَجة تمنع الحبل، وحَشَوْت جنبيك أوتاراً، وأعددت دُستاناً ثانياً وحمَّاراً، وشاركت على المرابحة خمّاراً، وبسطت نِطع القعود، وأعددت لإيداع الفتوح غشاء العود، وترددت إلى الباب توقعاً لإخلاف الوعود، فأقسم عليك يا سيدي أن لا تُغْفِلَنَا من بالك، ولا تنسنا من حَرامِك المصحَّفِ أو حلالك، وأَسهِمنا في فضل تجارتك، وعيْنَ جُعالتك وإجارتك، واضرب لنا بحظٍ في قسْم ما في طنجهارتك - والسلام.

‌وفاة زوجة ابن الخطيب

وفي السادس لذي قعدة من عام اثنين وستين وسبعمائة المذكور، طرقني ما كدَّر شُربي ونغص عيشي من وفاة أو الولد عن أصاغرَ زُغْبِ الحواصل بين ذكران وإناث في بلد الغربة وتحت سرادق الوحشة، ودون أذيال النكبة، فَجَلَّت عليها حسرتي واشتد جزعي، وأشفيت لعظم حزني، إذ كانت واحدة نساء زمانها جزالة وصبراً ومكارم أخلاق، حازت بذلك مزية الشهرة حيث حلَّت من القطرين، فدفنتها بالبستان المتصل بالدار بمدينة سلا، ووقفت على قبرها الحبس المغل لمتولي القراءة دائماً عليها، وصدر عني مما كتب على ضريحها وقد أغرى به التنويه والاحتفال:

رُوِّعَ بَالِي وَهَاجَ بَلْبَالي

وسامني الثُّكْلُ بَعْدَ إقْبَالِ

ذخيرتي حين خانني زمني

وعُدَّتي في اشتداد أهوال

حفرت في داريَ الضريح لها

تعللاً بالمُحال في الحال

وغبطةٌ توهم المقامَ معي

وكيف لي بعدها بإِمْهال

سقى الحيا قَبْرَكِ الغريب ولا

زال مُناخاً لكل هَطَّالِ

قد كنتِ مالي لما اقْتَضَى زَمَني

ذهابَ مالي وكنت آمالي

أمَّا وقد غاب في تراب سلا

وجهُكِ عني فلست بالسالي

واللهِ حزني لا كان بعد على

ذاك الشبابِ الجديد بالبالي

فانتظريني فالشوق يقلقني

ويقتضي سُرعتي وإعجالي

ومهدي لي لديك مضطجعاً

فَعَنْ قريبٍ يكون ترحالي

واسمُكِ مقلوبُه يُبيِّنُ لي

مآلَ أمري في معرض الفال

وقلت في هذا الغرض وهو معنى صوفي:

يا قلبُ كم هذا الجوى والخفوتْ

ذماءَك استبْقِ لئِلَاّ يَفُوتْ

فقال لا حول ولا قول لي

قد كان ما كان فحسبي السكوت

باينني الرشد وباينته

لما تعشقتُ بشيء يموت

وخاطبت الرئيس الثَّبْت بقية الأشراف بهذا الموطن، عامر بن محمد بن علي الهنتاتي:

أبا ثابت كن في الشدائد ثابتاً

أعيذك أن يُلْفَى حسودك شامتا

عزاؤك عن عبد العزيز هو الذي

يليق بعز منك أعجز ناعتا

فدوحتك الغناء طالت ذوائباً

وسَرْحَتُكَ الشماء طابت نوابتا

لقد هدّ أركانَ الوجود مصابُه

وأنطق منه الشجوُ من كان صامتا

فمِنْ نَفْسِ حرٍ أوثق الحزنُ كظمها

ومن نَفَسٍ بالوجد أصبح خافتا

هو الموت في الإنسان نصْل لحده

فكيف نرجِّي أن نصاحب مائتا

وللصبر أولى أن يكون رجوعنا

إذا لم نكن بالحزن نُرْجِعُ فائتا

ص: 58

اتصل بي أيها الهمام، وبدرُ المجد الذي لا يفارقه التَّمام، ما جنته على عليائك الأيام، واقتنصه مُحلَق الردى بعد أن طال الحيام، وما استأثر به الحِمَام، فلم يغن الدفاع ولا نفع الذِّمام، من وفاة صِنْوِكَ الكريمِ الصفات، وهَلَاكِ وُسْطَى الأسلاك، وبدرِ الأحلاك، ومجبر الأملاك، وذهاب السَّمْحِ الوهاب، وأنا لديغ صِلِّ الفراق، الذي لا يضيق بألف راق، وجريح سهم البَيْن، ومجاري العيون الجارية بدمع العين، لفقد أنيس سَهَّل عليَّ مضَضَ النكبة، ونَحَّى ليث الخطب عن فريستي بعد صدق الوثبة، وأنَّسني في الاغتراب، وصحبني إلى منقطع التراب، وكَفَل أصاغري خير الكفالة، وعاملني من حسن العشرة بما سجَّل عقد الوكالة، وانتزعه الدهر من يدي حيث لا أهل ولا وطن، والاغتراب قد ألقى بِعَطَن، وذات اليد يعلم حالها مَنْ يعلم ما ظهر وما بطن ورأيت من تطارح الأصاغر على شِلْوه الغريب، النازح عن النسيب والقريب، ما حملني على أن جعلت البيت له ضريحاً، ومدفناً صريحاً، لأخدع من يرى أنه لم يزل مقيماً لديه، وأنَّ ظلَّ شفقته منسحبٌ عليه، فأعيا مصابي عند ذلك الشرح، وأعظم الظمأ البرح، ونكأ القرح القرح، إذ كان ركناً قد بنته لي يد معرفتك، ومتصفاً في البر بي والرَّعي لصاغيتي بكريم صفتك، فوالهفاً عليه من حسام، وعزِّ سام، وأيادي جسام وشهرة بين بني حامٍ وسام، أي جمال خَلْق، ووجه للقاصد طَلْق، وشيم تطمح للمعالي بحق؟ وأي عضد لك يا سيدي الأعلى لا يَهِنُ إذا سطا، ولا يقهقر إذا خطا، يوجبُ لك على تحلية بالشَّيْبة، ما توجبه البُنُوَّة من الهيبة، ويردّ ضيفك آمناً من الخيبة، ويسد ثغرك عند الغيبة - وكما قال عليه السلام للأنصار:) أنتم الكرش والعيبة (- ذهبت إلى الجزع فرأيت مصابه أكبر، ودعوت بالصبر فولى وأدبر، واستنجدت الدمع فنضب، واستصرخت الرجاء فأنكر ما روى واقتضب، وبأي حزن يُلقى فقد عبد العزيز، العزيز على المجد فقده، أو يُطْفَأ لاعجه وقد عَظُم وَقْدُه، اللهم لو بكى بِنَدَى أياديه، أو بغمام غواديه، أو بِعُبَاب واديه، وهي الأيامُ أي شامخ لم تَهُدَّه، أو جديد لم تُبْلِهِ وإن طالت المُدَّة؟ فَرَّقَتْ بين التيجان والمفارق، والخدود والنمارق، والطُّلَى والعقود، والكأسِ وابنه العنقود، فما التعلل بِالْفَان، وإنما هي إغفاءة أجفان، والتشبث بالحبائل، وإنما هي ظل زائل؟ والصبر على المصائب، ووقوع سهمها الصائب، أولى ما اعتمد طِلاباً، ورجع إليه طوعاً أو غِلاباً، فأنا يا سيدي أقيم رسم التعزية، وإن بوّئت بمضاعف المرزية، ولا عَتْبَ على القَدَر، في الوِردِ من الأمر والصَّدَر، ولولا أن هذا الواقع مما لا يجدي فيه الخُلصان، ولا يغني فيه اليراع ولا الخِرْصَان، لأتى جُهْدَه من أقرضتموه معروفاً، أو كان بالتشبع إلى تلك الهضبة معروفاً، لكنها سوقٌ لا ينفق فيها إلا سلعة التسليم، للحكيم العليم، وطَيّ الجوانح على المضض الأليم، ولعمري لقد خلدت لهذا الفقيه، وإن طمس الحِمَام محاسنه الوضاحة، لما كَبَس منه الساحة، صُحُفاً مُنْشَرَة، وثغوراً بالحمد مُوشَرة، يَفْخر بها بَنُوه، ويستكثر منها مكتسبو الحمد ومُقْتَنُوه، وأنتم عمادُ الفازه، وعلم المفازة، وقطب المَدَار، وعامرُ الدار، وأسد الأَجَمة، وبطل الكتيبة المُلْجمة، وكافل البيت، والستر على الحي والميت، ومثلك لا يُهْدَى إلى نهجٍ لاحب، ولا تُرشد أنوارُه بنار الحُباحِب، ولا يُنَبَّهُ على سُنَن نبي كريم أو صاحب؛ قدرُك أعلى، وفضلك أجلى، وأنت صدر الزمان بلا مدافع، وخير مُعْلٍ لأعلام الفضل ورافع، وأنا وإن أخرت فرض بيعتك لما خَصَّني من المصاب، ونالني من الأوصاب، ونزل بي من جَوْر الزمان الغَصَّاب، ممن يقبل عُذْرَهُ الكرم ويسعه الحرم المحترم، والله سبحانه الكفيل لسيدي وعمادي ببقاء يكفل به الأبناء وأبناء الأبناء، ويعلي لقومه رتب العز سامية البناء، حتى لا يوحش مكان فقيد مع وُجوده ولا يحس بعطّ زمانه مع جوده، ويقر عينه في ولده وولد ولده. ويجعل أيدي مُنَاويه تحت يده والسلام.

وخاطبت صاحب القصبة بمراكش على هذا العهد مسعود بن يوسف بن فتح الله بما نصه:

أمسعود بن يوسف طيرُ قلبي

على شجر الكرام له وقوعُ

وفي علياك لي كنز اعتقادٍ

على أمثاله تطوي الضلوع

ص: 59

إذا نَفْسُ امرئٍ ولعت بمغنى

فما بسوى كمالك لي ولوع

سيدي أبقاك اللهُ عالي القدر، منشرحَ الصدر، حالاً من منازل السعادة منزلة البدر، تَنَخَّلْتُ الأماجدَ فوقف على تفضيلك اختياري، وإن لم يُتَح لقائي ولا قُرب جواري، لكن السماع، ومتى يُرَدُّ حكم أصله الإجماع والأخبار والاعتبار. فلما أتاح الدهر تلك اللمحة على ظهر طريق، وانحياز فريق، هممت أن أَبُثَّك بعض اعتقادي، وأَنْفُثَ بعُقَد ودادي، فضاقت الوقفة، ولم تكمل الصفقة. وانصرفت انصراف الظمآن شارف العذب الزلال فلم يشرب، والمُحبِّ تمنى ساعة اللقاء فما أبان ولا أعرب، وخفت أن يُجْرِيَه سيدي مُجرى الهذر الذي هو صَرْفُ الأسواق، والمعاملة به على الإطلاق، حيث لا خلاق، بل هو والله الحق الذي وضح مُحَيَّاه، والبارق الذي أغدق سُقياه، والحديث الذي أخجل المسك ريَاه، لم تحمل عليه المطامع، ولا السراب اللامع، فليثق سيدي من المعتدِّ به بموجب حقِّه، العليم بسبقه، والقائل بأنه واحدُ عصره، وحسنة دهره، إلى أن يَمُنَّ الله بلقاءٍ يشرح المُضْمَرَ ويبينُه، حتى تَخْفِقَ رايته وينتشرَ كمينه، والله يديم سعد سيدي وعلاه، ويحفظه ويتولاه.

وخاطبت الوالي بدرعة، وبلاد القبلة، السري الماجد أبا محمد عبد الله بن محمد حفظه الله وأعزه:

والي الولاة وواحدَ الزمن الذي

تبآى الملوكُ بمثله وتُفاخرُ

صيَّرت حاتمَ طَيّءٍ يزرى به

زار ويسخر إن تذوكر ساخر

إن كان طلَاّ أنت جودٌ ساجمٌ

أو كان نهراً أنت بحرٌ زاخر

وإذا كان الزمان الأول استعلى بأه

ليه أناف بك الزمان الآخر

كتبت إلى سيدي والخجل قد صبَغَ وجه يراعي، وعقم ميلاد إنشائي واختراعي، لمكارمه التي أعيت بِمَنِّهِ ذراعي، وعجز في خوض بحرها سفينتي وشراعي، فلو كان فضله فنّاً محصوراً، لكنتُ على الشكر مُعاناً منصوراً، أو على غرضٍ مقصوراً، لزأرتُ أسداً هصوراً، ولم يُر فكري عن عقائل البيان حصُوراً، لكنه مجدٌ تألق بكل ثنيَّة، ومكارم رمت عن كل حنيَّة، ومجدٍ سبق إلى كل أمنية، وأيادٍ ببلوغ غايات الكمال معنية، فحسبي الإلقاء باليد لغلبة تلك الأيادي، وإِسلام قيادي، إلى ذلك المجد السيادي، وإعفاء يراعي ومدادي، فإذا القول من باب الخير إلى باب الدعاء وقد وصلني كتابُ سيدي مختصرَ الحجم، جامعاً بين النجم والنجم، قريب عهده من يمينه بمجاورة المطر السَّجْم، فقلت اللهم كافِ سيدي واجزه، ومُرِيدَهُ بالضر فأخْزِه، ولله دَرُّ المثل: أشبَهَ امرأ بعضُ بَزِّه، كمال واختصار وريحانُ أَنوفٍ وإثْمِدُ أبصار، أَعْلَنَ بالرَّعْي الذي لا يُغَيَّر بعدُ الدار من شيمته، ولا يقدح اختلاف العروض والأقطار في ديمته، إنما نفسه الكريمة والله يقيها، وإلى معارج السعادة يُرْقيها، قانونٌ يُلحق أدنى الفضائلِ بأقصاها، وكتابُ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وإني وإن عجزت عما خصني من عُمومها، وأحسبني من جُمومها لمخلِّدُ ذكرٍ يبقى، وتذهبُ اللَّهى، ويعلي مباني المجدِ تُجاوز ذوائبُها السُّهَى، ويذيع بمحافل الملك فما دونها، مَمَادِحَ يَهْوَى المسكُ أن يكونها، وتعطف له الرياضُ العِينُ غضونَها، وتُكحل به الحور العِينُ عيونَها، وتؤدى منه الأيام المتربة دُيونَهَا، وإن تشوَّفَ سيدي بعدَ علو حمده وشكره، واستنفاد الوضع في إطالة مدحه وإطابة ذكره إلى الحال، ففلان حفظه الله يشرح المجمل ويبين من عواملها الملغى والمعمل. وأما اعتناء سيدي بالولد المكفى بحرمته، فليس ببدْعٍ في بعد صيته وعلو همته، على من تمسك بأذمته، وفضله أكبر من أن يقيد بِقصَّة، وبدر كماله أجل من أن يعدّل بوسَط أو حصَّة، والله تعالى يحفظ منه في الولاة والي القبلة، وولى المكارم بالكَسْبِ والجِبِلَّة، ويجعل جيش تمامه لا يؤتى من القلة بفضله وكرمه.

وخاطبت أبا سعيد بن حبوس الوالي بمكناسة في بعض الأغراض، وهو ممن يثني عليه الأحلاف من صحابته إخوان النبيذ، استكشف ما موَّهوا به من زيفه فكان بهرجاً زائفاً شيمة مثله:

ص: 60