المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عبور السلطان محمد الخامس المخلوع إلى الأندلس - نفاضة الجراب في علالة الاغتراب

[لسان الدين بن الخطيب]

الفصل: ‌عبور السلطان محمد الخامس المخلوع إلى الأندلس

خطبتُ عُلاكَ قبل اليومِ وُدّاً

بذلتُ من الوفاء له صَداقا

وأوعدتُ الزمانَ بك انتصاراً

وأرغمت الخطوبَ بك اعتلاقا

فسامحني فَعُذْرِي غيرُ خافٍ

إذا ما العُذْرُ في التقصير ضاقا

شكوتُ لك التَّغَرُّبَ قبل هذا

وهأنا بعده أشكو الفراقا

فلولا ما تَوالَى من حديثٍ

بعزك لم أكنْ مِمَّنْ أفاقا

فقَرِّرْ حالتي من غير لُبْثٍ

هناءً واحتراماً وانطلاقا

ركبتَ الدَّهرَ منقاداً ذَلولاً

بحرمةِ مصطفى رَكِبَ البُراقا

وتلطفت إلى سلطانه في طلب جارية من بنات الروم ممن اشتمل عليهن قصره بقولي:

قصدتُ إلى المولى أبي عمر الرضا

غدت بالذي يَرْضى المشيئةُ جاريه

وطوفانُ هَمِّي قد طَغَى لِيُجِيرَنِي

وتُركبَنِي آلاؤه فوق جاريه

وإني لراضٍ بالذي يَرْتَضِيه لي

ولو عَبَدَتْ آباؤها شَنْتَ ماريه

وإن ظنوني في الإمامِ وفضله

محققةٌ والله لا متمازيه

ففاز بما يهواهُ من فضل ربِّه

وأمُّ الذي يَهْوَى له الشرَّ هاويه

فلم يدع غاية فضل إلا بلغها، ولا ثَنِيَّةَ وفاءٍ إلا طلعها، فنوه في الملأ المشهود الجلسة، وخصني بالإفراد مع أميره والخَلْوَة، واقتضى منه ملوكّي الخلعة ووافر العطية، وجدد الصكوك وضاعف العناية، وألحق الولد، والقرابة وحَرَّر من المغارم الغلة، جزاه الله أفضل الجزاء وأعانه على ما يرضيه - وكان من الأمر ما يذكر إن شاء الله.

‌رَجْعُ التاريخ

‌عبور السّلطان محمد الخامس المخلوع إلى الأندلس

وحث السلطان أبو عبد الله بن نصر الموجه إلى الأندلس ركابه إلى سبتة لا يُصدق بالإفلات ولا يثق بالنجاة، فعارت له خيلُ ونفقت حُموله لشدة السَّيْر، واستقر بسَبتة واستعجل الجواز وحلَّ بجبل الفتح بعد مراوضة كبيرة لقواد الأسطول الرومي ومحاورة، إذ تبرعوا بإِجازته ولم يسمحوا في خلاف ذلك ليجلبوا الفخر لسلطانهم وينسبوا الحركة إليه، فأعملت الحيلةُ ولُفقت الحُجة، وقطع السلطان ألسِنَتَهُم بمال بذله مُكارمة لهم، وأركب أجفانَهم طائفة من كبار قرابته، واستقرَّ بجبل الفتح وطال به مقامه تتردد الرسل بينه وبين ملك الروم، ثم ارتحل نحوه في لُمَّةٍ من مماليكه ووجوه قرابته، وتحفَّى السلطانُ بمقدمه، وبالغ في بِرِّه، وأفرط في التَّنزل لوجهته، وأبعد المَدى في خُطا تلقيه، وأَرْجَل الأكابر لأداء حقه، وتوسع في نُزُله، وعمَّ بالملاحظة جميع مَنْ في صُحْبَتِه، وأعطاه صفقة يمينه بالمظاهرة والمعاضدة والتهالك من دون بغيته، وسلفه ثلاثين ألف دينار من الذهب العين بنفقته، وشرط له أن لا يبتزَّه حصناً ولا ينقصه فتحاً، ولا يعلق به طماعية، وأنه يصل معه السلم مدة حياته، ويتركه وصيةً في عَقِبه. وانصرف مجبوراً قريرَ العين، منشرحَ الصدر، فلحق بسائر الجيش المريني ومن تخلف عنه من قومه بظاهر رُنْدَه، وارتحل إلى أحواز أنْتِقَيْرَة في جُوَيْشٍ من المسلمين وطاع له حصن أنكَيرة من الحصون المنسوبة إلى مالقة، نزع إليه قائده فجعل به حصة من الخيل وثَقِفَه. وبيناهُ يرتقب إنجاز وعد ملك الروم ولحاق جيش مظاهرته له، إذ يجيء النبأ المشنوء، من الفتك بالسلطان أبي سالم، ملك المغرب مٌعينِه ورائشِ جناحه، والكادح له، وقد تطاولت الأعناق لمقدمه واهتزت الأندلس لوجهته، وترددت المخاطبات بينه وبين من يرجو القيام بدعوته. وكان قد بذل المجهود في طلب استصحابي، وتواترت مخاطبتُه إياي على عادة اعتداده وسَنَن فضله، فآثرت ما أنا بسبيله من الراحة، والفرار عن هفوات الغِيَر والانكماش عن الخدمة وأقنعته بالوعد من تَوجُهي إليه بولده عند تصير الأمر إليه. والنيابة في اقتضاء جميل سراحه من باب السلطان، وخطة كرامةٍ طريفة له، وإكناف رواق الستر على من تصحَبُهُ من حرمته، وترتيب القدوم عليه به، وتقرير حال لقائه إياهُ، في آمال عديدةٍ أخذها الترتيب وزيَّنها البيان والخطابة، ثم محاولة الانصراف عنه إلى بيت الله من غير تَلَبُّسٍ بخدمة، ولا غمسِ يدٍ في فرث خُطة، ولا مغير للنَسْكِ من هيئة ولا لبسة. فقنع بذلك وراكنني إليه واستدعى المشورة فيما يَعِنُّ له، فرسمت من ذلك ما قُدِّرَ غناؤه، وتُوُهِّمت الحاجة إليه.

ص: 93

ونظَمت القصيدة المُعَدة لإنشاده إياها عند تملي المنيحة وتهني الموهبة، فتعددت منها الأغراض وأخذها الطول، وتَفَنَّنَتْ منها المقاصد. ومن الأمور التي أعثَرَتْ عليها التجربة، إخفاق المساعي في الأغراض التي تُقدم لها القصائد والإنشاءات وتروي الخطب والمنظومات، ليتبرأ قضاء الله من تحكم البشر وتبدو مزية القدر. وأنا أجلب القصيدة على جهة الإحْمَاض والتنشيط إذ فائدتها مع تمام الأمر وإحقاقه حاصلة لمن ارتاد الآداب وكلف بالفضائل، وتشوف إلى الأنحاء البلاغية والمقاصد وهي:

الحقُّ يَعلو والأباطِلُ تَسْفُلُ

واللهُ عَن أحكامه لا يُسألُ

والأمرُ فيما كان أو هوَ كائِنٌ

كالعِلَّةِ القُصوى فكيف يُعَلَّلُ

وهوَ الوجودُ يجودُ طَوراً بالذي

تَرضَى النفوسُ بِهِ وطَوراً يَبْخَلُ

وإذا استَحالَتْ حالةٌ وتَبَدَّلَتْ

فالله عز وجل لا يتبَدَّلُ

واليُسْرُ بعدَ العُسْرِ مَوعودٌ بهِ

والصَّبْرُ بالفَرَجِ القريبِ مُوَكَّلُ

والمُستَعِدُّ لِما يُؤمِّلُ قابِلٌ

وكفاكَ شاهِدُ قَيِّدوا وتَوكَّلوا

ومَن اقتَضَى بالسَّعدِ دَيْنَ زمانِهِ

والسَّيفِ لم يَبْعُد عليهِ مُؤمَّلُ

أمحمدٌ والحمدُ مِنكَ سَجيَّةٌ

بِحُلِيِّها بينَ الوَرى يُتَجَمَّلُ

أما سُعُودُكَ فهيَ دزنَ مُنازِعٍ

عَقْدٌ بأحكامِ القضاءِ يُسَجَّلُ

ولكَ السجايا الغُرُّ والشِيَمُ التي

بِغَريبِها يَتَمَثَلُ المُتَمَثَلُ

ولكَ الوَقارُ إذا تزلزلت الرُّبَا

وهَفَتْ مِنَ الرَّوْعِ الهِضابُ المُثَّلُ

ولك الجبينُ الطَّلْقُ والخُلُقُ الذي

لَحْظُ الكمالِ بِلَحْظِهِنَّ مُوَكَّلُ

النُّورُ أنتَ وكُلُّ نورٍ دُجْيَةٌ

والبحرُ أنتَ وكلُّ بَحرٍ جَدْوَلُ

وإذا ذُكِرْتَ كأَنَّ هبَّاتِ الصَّبَا

رَكَدَ الكَبَاءُ بِجَوِّها والمَنْدَلُ

مَنْ ذا يجيدُ الوصفَ مِنكَ خَيالُهُ

وَصِفَاتُ مَجدِكَ فَوقَ ما يُتَخَيَّلُ

والله ما وفَّى بحَقِّكَ مادِحٌ

واللهِ ما جلَّى بحَمدِكَ مِقْوَلُ

عَوِّذْ كمالَكَ ما استَطَعْتَ فإِنَّهُ

قد تَنْقُصُ الأشياءُ مما تَكْمُلُ

تابَ الزمانُ لديكَ مما قد جَنَى

واللهُ يأمُرُ بالمَتَابِ ويَقْبَلُ

إن كانَ ماضٍ مِن زَمَانِكَ قد أتى

بإساءةٍ قد سَرَّكَ المُسْتَقبَلُ

هذا بِذاكَ فَشَفِّعِ الثَّاني الذي

أرضاكَ فيما قد جَناهُ الأوَّلُ

واللهُ قد ولَاّكَ أمرَ عِبَادِهِ

لمَّا ارتَضَاكَ ولَايَةً لا تُعْزَلُ

وإذا تَغَمَّدَكَ الإلهُ بِنَصْرِهِ

وقَضَى لكَ الحُسْنى فَمَنْ ذا يخذلُ؟

فإذا انتَضَيْتَ فكلُّ كهم مُرْهَفٌ

وإذا ضَرَبْتَ فكلُّ عُضْوٍ مَفْصِلُ

فلو اعتَمَدْتَ على الرِّيَاحِ لغارَةٍ

نَهَضَتْ بغارَتِكَ الصَّبا والشَّمأَلُ

ولو استعنتَ الشُهْبَ واستَنْجَدْتَها

حَمَل السلاحَ لك السِماكُ الأَعْزَلُ

سُبحانَ مَنْ بِعُلاكَ قد شَعَبَ الثَّأَى

وأعادَ حَلْيَ الجيدِ وهو معطَّلُ

قد كادَتْ الأعيانُ يكذِبُ حِسُّها

والأوَّلِيَّاتُ السَّوابقُ تُجهَلُ

والأرضُ راجفةٌ تَمورُ وأهلُها

عَصفتْ بهم ريحُ العَذابِ فَزُلزِلوا

من ماتَ مِنهم ماتَ ميتَةَ فِتنَةٍ

أو عاشَ فَهو مُفَسَّقٌ ومُضَلَّلُ

لا بيعَةٌ تُنْجي ولا عَهْدٌ يَقِي

الدِّينُ والدُّنيا نَسيجٌ هَلْهَلُ

فَحَجَبْتَ عن آفاقِهم مَن يَهْتَدي

ومَنَعْتَ عن أحكامِهِم مَن يَعْدِلُ

فاليومَ إذ بَخَعَ المُسيءُ بِذَنبِهِ

مُسْتَسْلِماً وتَنَصَّلَ المُتَنَصِّلُ

فاشمِلْ بِعَفوِكَ مَن تَجَنَّى أو جَنَى

واسلُك طريقَتَكَ التي هيَ أمثَلُ

واحرُس حِمى العَليا فمَجدُكَ مُنْجِدٌ

واطلُب مَدى الدُّنيا فسَعْدُكَ مُقبِلُ

وانْهَد فَنَصْرُ اللهِ فوقَكَ رايَةٌ

وَمِنَ السُّعودِ عليكَ سِتْرٌ مُسْبَلُ

ص: 94

والرُّعبُ بينَ يديكَ يُرْدِفُ جَحْفَلاً

مِنهُ على بُعْدِ المسافةِ جَحْفَلُ

والرُّوحُ روحُ اللهِ يَنفُذُ حُكمُهُ

لكَ والملائِكةُ الكِرامُ تَنَزَّلُ

لم يَدْرِ إسماعيلُ ما طَوَّقْتَه

مِن مِنَّةٍ لو كانَ مِمَّنْ يَعْقِلُ

نِعَمٌ مُهَنَّأَةٌ وظلٌ سَجْسَجٌ

تَنْدى غَضَارَتُهُ وماءٌ سَلْسَلُ

الطَّاعِمُ الكاسي ورِفْدُكَ كافِلٌ

والعالَةُ المُعفاةُ مِمَّا يَثْقُلُ

أغراهُ شَيطانُ الغُرورِ لِغايَةٍ

مِن دونها تَنْضَى المَطِيُّ الذُلَّلُ

يَبغي به دَرْجاً إلى نَيْلِ التي

كانت قُوَى إدراكِهِ تَتَخَيَّلُ

سَرْعانَ ما أبداهُ ثمَّ أعادَهُ

في هَفوَةِ البَلوَى وبِئْسَ المَنْزلُ

وسَقى بِكأسِ الحَيْنِ قَيْساً بَعْدَهُ

واللهُ يُمْلي للطُّغاةِ ويُمْهِلُ

والغَدْرُ شَرٌّ سَجِيَّةٍ مَذمومَةٍ

شَهِدَ الحكيمُ بِذاكَ والمُتَمَلِّلُ

فاسْاَل ديارَ الغادِرِينَ فإنَّها

لمُجيبةٌ أطلالُها مَن يَسْأَلُ

جَرَّتْ عليها الرَّامِسات ذيولَها

وعَوَتْ بِعِقْوَتِهَا الذئابُ العُسَّلُ

يا فَتْكَةً أخْفَتْ مواطِئَ غَدْرِها

حِيَلُ الخَديعَةِ والظَّلامُ المُسْبَلُ

عَثرَ الزمانُ بها وكانت فَلْتَةً

شَنعاءَ والدُّنيا تَجِدُّ وتَهْزِلُ

أَمِنَتْ سُعُودُك من حَرابةِ قاطِعِ

فاسْرَحْ ورِدْ فهوَ الكَلا والمَنْهَلُ

قُتِلَ المُقاتِلُ بعدَها بِسِلاحِهِ

وغَدا لها زُحَلٌ يَقرُّ ويَزْحَلُ

ولَفيفُ جُبَّانٍ إذا ما استُوقِفوا

نادَتْ بهم آجالُهُم فتَسَلَّلُوا

طَرَقُوا على الضِّرْغَام لَيلاً غابَهُ

والبدرُ تاجٌ بالنُّجومِ مُكلَّلُ

لولا دِفاعُ اللهِ عَنكَ وعصْمَةٌ

أصْبَحْتَ في أبرادِها تَتَسَرْبِلُ

ما رُقِّعَ الوَهْيُ الذي قد مزَّقوا

ما حُلِّيَ الجيدُ الذي قد عَطَّلوا

فَثَبَّتَ مُجْتَمِعَ الفؤادِ بِهفوَةٍ

خُذِلَ النَّصيرُ بها وخانَ المَعْقلُ

وفداكَ شيخُ الأولياءِ بِنفسِهِ

والنَّفْسُ آثَرُ كُلِّ شَيءٍ يُبْذَلُ

ما ضَرَّهُم إذ ناوَشَتْهُ كِلابُهُم

وسَطَتْ بهِ أنْ لم يكونوا مُثَّلُ

وكذلك الخَبُّ اللئيمُ إذا سَطَا

عَمِلَ التي ما بَعدَها ما يُعِمَلُ

ونَجَوْتَ مَنْجَى البَدْرِ بعدَ محاقِهِ

تَهْوِي كما يَهْوِي بِجَوٍّ أجْدَلُ

فَحَلَلْتَ من وادي الأَشَى بقَرَارَةٍ

عزَّ الثّواءُ بها وطابَ المَنْزِلُ

كُرْسِيُّ مُعْتَصِمٍ، ومثوى هِجرةٍ

والمُسْتَقَرُّ إذا تَزِلُّ الأرْجُلُ

دارُ الوفاءِ ومَوطِنُ القَوْمِ الأُلى

كَفَلُوا، وبالنَّصْرِ العزيزِ تَكَفَّلوا

حتى دعاكَ المُسْتَعينُ وإنَّهُ

لأَبَرُّ بالمُلْكِ المُضَاعِ وأكفَلُ

فَرَحَلْتَ عنهم والقُلُوبُ بوالغ

نُعَرَ الحَناجِرِ والمَدامِعُ تَهْمِلُ

فلقد شَهِدْتُ وما شَهِدْتُ كَمَوْقِفٍ

والناسُ قد وَصَلوا الصُّراخَ وأَعْولُوا

وبكلِّ نادٍ مِنْكَ أنَّهُ نادِبٍ

وبُكلِّ دارٍ مِنكَ حُزنٌ مُثْكِلُ

يتزاحمونَ عَلَيْكَ حتى خِلْتُهم

سِرْبَ القَطَا الظَّامِي وكَفُّكَ مَنْهَلُ

وظَعَنْتَ عن أوطانِ مُلْكِكَ راكِباً

مَتْنَ العُبابِ فأيُّ صَبْرٍ يَجْمُلُ

والبحرُ قد خَفَقَتْ عليكَ ضُلُوعُهُ

والرِّيحُ تَقتَطِعُ الزَّفيرَ وتُرْسِلُ

في مَوقِفٍ يا هَولَهُ مِن موقِفٍ

يَذْوَى له رَضْوَى ويَذْبُلُ يَذْبُلُ

حتى حَلَلْتَ بعُنْصُرِ المَلِكِ الذي

يُرْعَى الدَّخيلُ بِهِ ويُكْفَى المُعْضِلُ

مَثوى بَني يعقوبَ أسباطِ الهُدى

وسَحائِب الرُّحْمَى التي تُسْتَنْزَلُ

وخَلائِف الله الذين أكُفُّهُمْ

ديم الوَرَى إن أَحْسَنوا أو أَمْحَلُوا

ودعائِم الدِّين الحَنيفِ إذا وَهَتْ

مِنْهُ القُوَى واخْتَلَّ مِنهُ الكَلْكَلُ

ص: 95

وكفى بإبراهيمَ بَدْرَ خِلافَةٍ

تَعْنُو لِغُرَّتِهِ البُدورُ الكُمَّلُ

وكفى بإبراهيمَ ليثَ كَريهَةٍ

يَعنو لعزته الهِزَبْرُ المُشْبِلُ

أغْني وأَقْني وأَعْتَني وكَفَى العَنَا

وأعانَ فهو المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ

ولِكُلِّ شَيءٍ غايةٌ مَرْقُوبَةً

أعلامُها ولكلِّ شيءٍ مَفْصِلُ

فأَنِفْتَ للدِّينِ الحنيفِ وأهْلِهِ

مِنْ خُطَّةِ الخَسْفِ التي قد حمَّلُوا

وَلِملَّةٍ جُنَّتْ فلو لم تَنْتَدِبْ

لم يُلْفَ مَن يَرْقَى ولا مَن يَتْفُلُ

أحْكَمْتَ بالرأيِ السَّديدِ أُصُولَهَا

وفَرَيْتَها لمَّا استَبَانَ المَفْصِلُ

وركَبْتَ فيها كلَّ صَعْبٍ لم يكُنْ

لولا الإلهُ وعزُّ نَصْرِكَ يَسْهُلُ

وأَجَرْتَ عليكَ العُدْوَتان قُلُوبَهَا

وأكفَّها وعلى الحَمِيَّةِ عَوّلُوا

جَمَعَتْ عليكَ العُدْوَتانِ قُلُوبَهَا

وأكفَّها وعلى الحَمِيَّةِ عَوَّلُوا

فاهتَزَّ للحرب الكَمِيُّ بَسَالَةً

واهتَزَّ في مِحرابِهِ المُتَبَتِّلُ

وبدا انفعالُ الكَونِ هذا العالَمُ العُلْ

وِيُّ مهتزٌّ فكيفَ الأسفَلُ؟

والرُّومُ لاستِرجاعِ حقكَ شَمَّرَتْ

هذا هوَ النَّصرُ المُعِمُّ المُخْوِلُ

واستَقْبَلَتْكَ السّابحاتُ مُواخِراً

تَهْوِي إلى ما تَبْتَغي وتُؤَمِّلُ

تُبْدي جوانِبَها العُبُوسَ وإن تَكُن

بالنَّصْرِ منكَ وُجُوهُها تَتَهَلَّلُ

هُنَّ الجواري المُنشَآتُ قد اغْتَدَتْ

تختالُ في بُرْدِ الشَّبابِ وتَرْفُلُ

مِن كلِّ طائِرةٍ كأَنَّ جَناحَها

وهو الشِّراعُ به الفِراخُ تُظَلِّلُ

جوفاءَ يحملها ومَن حَمَلَتْ بهِ

مَنْ يَعْلم الأُنثى وماذا تَحْمِلُ

أَطْلَعنَ صُبْحاً مِنْ جَبينِكَ مُسْفِراً

يَجلو الظلامَ وهُنَّ ليلٌ أَلْيَلُ

وطَلَعْنَ مِنكَ على البِلادِ بِطارِقٍ

لِلفَتْحِ والنَّصْرِ الذي يُسْتَقْبَلُ

وبقيَّة مِنْ قومِ عادٍ أُهلِكوا

ببقيَّةِ الرِّيحِ العَقيمِ وجُدِّلُوا

بالباطلِ البَحْتِ الصُّراحِ تَعَزَّزوا

فالآنَ للحقِّ المُبينِ تَذَلَّلوا

خَضَبَتْ مَناصِلُكَ المفارِقَ مِنْهُمُ

حِنَّا نَجيعٍ صَبْغُها لا يَنْصُلُ

أقبَلْتَ في يوم الهَياجِ فأَدْبَروا

أقْدَمْتَ في لَيلِ العَجاجِ فأَجْفَلوا

أَعجَلْتَ حِزبَ البَغيِ فاشْتَبَهَتْ بِهِم

طُرُقُ النجاةِ وللهلَاكِ تَعَجَّلُوا

صبَّحْتَهُمْ غُرَرَ الجِيادِ كأنما

سدَّ الثَّنِيَّة عارِضٌ مُتَهَلَّلُ

من كلِّ مُنْجَرِدٍ أغرَّ مُحَجَّلٍ

يرمِي الجِلادَ به أَغَرُّ مُحَجَّلُ

زَجِلُ الجَناحِ إذا أجدَّ لِغايَةٍ

وإذا تَغَنَّى بالصَّهيلِ فَبُلْبُلُ

جِيدٌ كما التَفَتَ الظَّليمُ وفوقَه

أُذْنٌ مُمَشَّقَة وطرْفٌ أَكْحَلُ

فكأنما هو صورةٌ في هَيْكَلٍ

مِن لُطْفِهِ وكأنما هو هَيْكَلُ

عَجَباً له أَيخافُ في لَيْلِ الوَغى

تِيهاً وذابِلُهُ ذُبَالٌ مُشْعَلُ

وخليجُ هِندٍ راقَ حُسنُ صَفائِهِ

حتى لَكادَ يَعومُ فيه الصَّيْقَلُ

غَرِقَتْ بِصَفْحَتِهِ النِّبالُ وأَوْشَكَتْ

تَبغي النَّجاةَ فأَوْثَقَتْهَا الأرجلُ

فالصَّرْحُ مِنهُ مُمَرَّدٌ والصَّفْحُ من

هُ مُوَرَّدٌ والشَطُّ منه مُهَدَّلُ

وبكلِّ أزرَقَ إن شَكَتْ ألحاظُهُ

مَرَهَ العُيونِ فبالعَجَاجَةِ يُكْحَلُ

مُتَأَوِّدٌ أعطافُه في نَشوَةٍ

مما يَعُلُّ مِنَ الدِّماءِ ويَنْهَلُ

عَجباً له إنَّ النَّجيعَ بِطَرْفِهِ

رمَدٌ ولا يَخْفى عَلَيْهِ المَقْتَلُ

لله يومُكَ في الفُتُوحِ فإِنَّهُ

يومٌ أغرُّ على الزمانِ مُحَجَّلُ

لله موقِفُكَ الذي وَثَباتُه

وَثَباتُه مثلٌ به يُتَمَثَّلُ

والخيلُ خَطٌّ والمجالُ صحيفةٌ

والسُّمرُ تَنْقُطُ والصَّوارِمُ تَشْكُلُ

ص: 96

والبِيضُ قد كَسَرتْ حرُوفَ جُفُونِها

وعوامِلُ الأَسَلِ المُثَقَّفِ تَعْمَلُ

لله قومُكَ عِندَ مُشْتَجِرِ القَنَا

إذ ثَوَّبَ الدَّاعي المُهيبُ وأقْبَلُوا

قومٌ إذا لَفَحَ الهَجيرُ وجوهَهُم

حُجِبوا بِراياتِ الجِهادِ وظلَّلُوا

فوجوهُهُم بِسَنا الأَهِلَّةِ تَزْدَرِي

وأكُفُّهُم جُونَ السَحائِبِ تُخْجِلُ

يا آلَ نَصْرٍ إن تُذُوكِرَ مَفْخَرٌ

لا تُفْضَحوا مَنْ دونَكم وتَرَسَّلُوا

عَلْياؤُكُم غاياتُها لا تَنتَهي

في مِثْلِها خانَ البَليغَ المِقْوَلُ

آثارُكم في الدِّين غيرُ خَفِيَّةٍ

تُروَى على مَرِّ الزَّمانِ وتُنْقَلُ

أَوَ لَسْتُمُ الشُّهُبَ الأَلَى ما غَيَّروا

مِن بَعْدِ بُعد نَبِيِّهم أو بَدَّلوا

أوَ لَيسَ جَدُّكُمُ المدينةُ دارُهُ

كلَاّ وصاحبُه النَبيُّ المُرْسَلُ

سَعْدٌ وما أدراكَ سَعْدُ عُبَادَةٍ

في مَجدِهِ صَدَقَ الذي يَتَوغَلُ

ماذا يُحَبِّرُ مادحٌ مِن بَعْدِ ما

أَثْنى بمدحِكُمْ الكتابُ المُنَزَلُ

يا نُكتَةَ العَلْيا ويا قَمَرَ الهُدى

والعُرْوَة الوُثقى التي لا تُفْصَلُ

يَهنيكَ صُنْعُ اللهِ حين تَبَلَّدَت

فيك الحِجَى وتَلأَوَّلَ المُتَؤَوِّلُ

يَهْنِيكَ صُنْعُ اللهِ حينَ اسْتَأْنَسَتْ

مِنكَ الظُنُونُ وأَقْصَرَ المُسْتَرسِلُ

يَهني العِبادَ أن اغتدى بِكَ دينُها

يُجْلَى مِنَ الشكِّ المُريبِ ويُغْسَلُ

يَهني البِلادَ أن اغتَدَى بِكَ فَوْقها

سِتْرُ الوقاية والحمايةِ يُسْدَلُ

فَتْحُ الفُتُوحِ تأخَّرَتْ أيَّامُهُ

يَنْسَلُّ مِن حَدَبٍ إليك ويَنْسِلُ

يَزَغُ الإلهُ مِنَ النفوسِ من ارتَضَى

حتى يَبينَ مُحِقُّها والمُبْطِلُ

واللهُ بالتمحيصِ يُوقِظُ أَنفُساً

عن حَقِّهِ المحتومِ كانت تَغْفُلُ

ويُكَيِّفُ السبب الخَفِيَّ لِمَن قَضَى

بسعادةٍ منه إليه تُوصَلُ

والحظُّ أمرٌ ليس في وِسْعِ امرئٍ

فمُكَثِّرٌ في كَدِّهِ ومُقَلِّلُ

والحقُّ حقٌّ ما سِواهُ فَبَاطِلُ

لو حَقَّقَ المُسْتَبْصِرُ المتأمِّلُ

تتلوَّنُ الدنيا وتختَلِفُ المُنَى

والبُدُّ بُدٌّ ليس عنه مَعْدِلُ

وَلِرَبِّنَا الرُجْعَى وإن طالَ المَدى

واللهُ نِعْمَ المُرْتَجَى والمَوْئِلُ

لم يُبْقِ ربُّك من عُداتِكَ مُعْتَدٍ

والسيفُ يَسبِقُ حَدُّهُ مَنْ يعذِلُ

أُخِذوا بِبَغيِهِم أَيُفلِتُ هارِبٌ

لله يسرع خَطْوُهُ أو يُعجِلُ

ثٌقفوا بكل ثنية وتبادرت

بهمُ عيون المؤمنين فَقُتِّلُوا

سحقاً لهم لا بالوفاء تمسكوا

يوماً ولا فازوا بما قد أَمَّلُوا

ورأى عدوُ الله عُقْبَى غدرِه

والخزي منه معجلٌ ومؤجَّل

وهو الذي مِن حقِّه ألَاّ يُرى

يُعنَى اللسانُ بذكره أو يَحْفِلُ

وحقارةُ الدُّنيا على الله اقتضت

أن يثأر المستَحْقَرُ المسترذَل

هذا سليمانُ النبيُّ ابتزَّه الكرس

يَّ بعضُ الجنِ فيما يُنْقَل

ما غيرت منك الخطوبُ سجيةً

مجبولةً والطبع لا يتنقل

بل زاد عقلُكَ بسْطَةً من بعدها

حتى أحاط بكل شيءٍ يُعْقَل

وأفادَك الدهرُ التجاربَ بانياً

تضعُ الأمورَ على الوزان وتَحمِل

ما أن رأينا من يُعَابُ بحنكةٍ

حتى يعاب الصارمُ المتفلِّلُ

قد قرَّ أمرُكَ واستقرَّ عِمادُه

والحقُّ بانَ فلم يَدَعْ ما يُشْكِلُ

وأَنَاكَ نجلُك والسعود تحفه

والخَلْقُ تلثم كَفَّه وتُقَبِّلُ

لَمَحُوكَ يا بَدْرَ الكَمَالِ فكَبَّرُوا

وبَدَا هلالُكَ بَعْدَ ذَاكَ فَهَلَّلُوا

فالشملُ مجتمعٌ كأحْسَنِ حالَةٍ

تعتادها ونوالُ رَبِّكَ يشمل

ولقد غفرتُ ذنوبَ دهري كلَّها

حتى المشيبَ وذنبُهُ لا يُهمل

لما رأت مثواكَ كعبةَ طائفٍ

عَيْنِي وكفَّكَ للطواف مُقَبّل

ص: 97