المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بعض مؤلفات ابن الخطيب في المغرب - نفاضة الجراب في علالة الاغتراب

[لسان الدين بن الخطيب]

الفصل: ‌بعض مؤلفات ابن الخطيب في المغرب

وبلغت الأندلس لهذا العهد من خمول الأمر واختلال السيرة وتشذيب الحامية التي لا فوقها، فحضر مدعى وليمة الدائل بها لأول ولايته، رجْل الدَّبا، فالتهم الخلا والكلا، وأعدم بإعدام الغلة أسباب الرخا، وفتح أبواب البلا، وموَّه لأول أمره ببث النَّهْي عن المنكر الذي هو جُرثومته العظمى، وتصاريفه غايته القصوى، وسمح ببعض المكوس فأعطى قليلاً ثم أكدى، ولم تمر الأيام إلا وقد عاد في قيئه وأضاق الرعايا بشؤمه وكلفهم ارتباط الأفراس بعد إغرامهم أرزاق جنده، وإنزال دورهم بغرباء ديوانه، وانحطَّ في مهاوي الشمَّات برتبة الأمر، وأنقص من منصب المُلك فقعد للعرض وقد حُشِر الناسُ ضُحىً في موقف أجلس معه بسريره بعض السُّوَقٍ عاري الرأس، مُثلةٌ من مُثَلِ الخلْق، غير مقصر في مخاطبة من مرَّ به عن غاية الإفحاش والتبجح بمعرفة الهنات، فلقد حدَّث صاحب شرطته، وهو لا بأس به، قال أطريته باجتناب الناسِ الخمر في أيامه، وتحت استداده، وطهارة بلده من قاذوراتها، فقال لي في الملأ المشهود، والحشيش كيف حالها؟ قلت ما عثرت على شيء منه. فقال هيهات، أنزل إلى بيت فلان وفلان وفلان، وعدَّ كثيراً من الساسة والأوغاد والصفاعين، رسم مكامِنَهُم وينسبهم نسبة الأصمعي أفخاذ العرب وبطونها، ويصف الناصح والغاش منهم بصفته، وربما دعا بعض مشيختهم بالعمومة. قال وانصرفت إلى ما ذكر فوالله ما أخطأت شيئاً مما رسمه، ولا فقدت شيئاً مما ذكره لغشيانه بيوتهم وانخراطه في جملة منتابيهم، يقول فهو والله أستاذي في الشرطة! وساءت محاولته طاغية الروم فتمرّس به وآثر الحِرَان في معتاد أغراضه لفساد ما بينه وبين عدو برشلونة وأعطاه الضمة. فعند فراغه من صلاح ذات بينهما، فغر عليه فاه، وشمَّر لمطالبته. وخَشُنَ ما بينه وبين الملك المريني فئة الإسلام التي إليها تحيز لاغتراره بمن في اعتقاله من قرابته المُغْرِي بهم لسان الإرجاف. فرجَعَت الرُّسل من قِبَلِه خُيَّبَ اللُّبَانَات من بابه، مودعةً من نجوى المسلمين واستعداد الصالحين ما يوجب الاهتزاز ويحرك الامتعاض، ناقلةً من غريب شكله في كثرة التفاته، وجفاف ريقه، وعُرْيِ رأسه، وسخافة عقله، غرائبَ تُؤْنَسُ بها الأسمار وتُوَشَّحُ الفكاهات.

وألَحَّ سلطان قشتالة في تسليم السلطان أبي عبد الله إليه ليتولى شد أزره ويجتهد في جبر حاله، وألقيت إليه المعاذير فنبا عنها سمعه، ورقَّق - عن غرضه - في رفع السلَّم عند إخفاق مطلبه، ولم يقبل العوض من ضروب ملاطفته، فترجح الرأي على توجيهه إلى الأندلس.

وقد كان الأسطول تألف بفرضة المجاز من سبتة مُوَرِّياً بجهاد من ظَهَر به من عدو برشلونة. ووصلت أساطيل الروم المسخرة في غرض إجازته قد أركبها مَلِكُ النصارى وجوه خدامه، فقعد السلطان أمير المسلمين بالمغرب في قبة العرض المُتَّخَذَة بجنَّة المصارة، ووقع البريح ببروز الناس إلى الفضاء الأفْيَح، واستُحْضِرَتُ البنود والطبول وأوعية المال صبيحة يوم السبت السابع عشر من شهر شوال من عام التاريخ.

واستُحضر السلطان فصعد إلى القبة ثم نزل وقد أُلْبِس خلعةً الملك، وقيدت له فرس شقراء مطَهَّمَة، حليها ذهبٌ بحث، ونشرت حوله الألوية، وقرعت الطبول وركب السلطان مُشَيِّعاً إياه غَلْوَة، ثم انصرف عنه وقد التفَّ عليه كلُّ من جلى عن الأندلس من لَدُنِ الكائنة الواقعة بها في جملة كثيفة، وبُلِيَ من رقة الناس وإجهاشهم وعُلو أصواتهم بالدعاء ما قدم به العهد، إذ كان مظنة ذلك سكوناً وعفافاً وقرباً قد ظلله الله برواق الرحمة، وعطف عليه وشائج المحبة إلى كونه مظلوم العهد منتزع الحق، فتبعته الخواطر، وحميت له الأنفاس واللهُ يُعَرِّفُه عوارف عنايته، ويلحظه بعين رحمته.

واسْتُدعِي عقب انصرافه الأمير المعين شجاً في نحر عدو الدولة المرينية على هذا العهد أبو زيان محمد بن عثمان بن عبيد الرحمان بن يحيى بن يغمراسن ابن زيان، فأجرى على الرسم من البنود والطبول والخلع وأتبع من بالباب السلطاني من قبيله، فاضطرب المحلة بخولان من شط وادي سبو، ورفل الملك المريني في هذا اليوم الأغر في حلة عز تندى جِدَّةً وفخراً مذخوراً ليومه طار شُهرة، والله المسؤول في تمام النِعَم وتحسين العواقب لا إله إلا هو.

‌بعض مؤلفات ابن الخطيب في المغرب

ص: 51

وصدر عني إلى هذا العهد من التواليف والنَّظْم والنثر على سكون النفس وعدم التطلع لما يفتق القريحة ويشحذ الفكرة ما يُرسم.

فمن ذلك من التواليف: كُنَّاشٌ من منظوم في عروض الرَّجَز محذوف الفضول لا غاية فوقه في الأراجز، ولله دَرُّ القائل حمد الله وأثنى على نفسه، في فن أصول الفقه عدة أبياته ألف بيت. وآخر سميته) الحُلَل المَرْقُومَة في اللَّمع المَنْظومة (، وأرجوزة أخرى في فن العلاج من صَنْعَةِ الطب عدد أبياتها نحو ألف وستمائة بيت تضمن ذكر جميع الأمراض الكلية والجزئية وذكر أسبابها وعلاماتها وتدبيرها وجلب العلاج بحسب أحوالها.

1.

- واستوفى بعد، كتاب الرتبة وعلاج السموم سميتها) بالأرجوزة المعلومة (إذ تقدم قبلي من نظم في مثل هذا الغرض وسماها الأرجوزة المجهولة، ونظمت أرجوزة ثالثة في فن السياسة من أجزاء العلم القديم في نحو ستمائة بيت سميتها:) تخصيص الرياسة بتلخيص السياسة (، استوفى الكلام في القوى الثلاث النفسية وعلاج الأخلاق والمعاش. وصدر عني كناش سميته،) مُثْلَى الطريقة في ذَمِّ الوثيقة (، أَوْجَبَتْهُ محاورةٌ صدرت في ذلك بيني وبين بعض شيوخها تضمنت نظماً ونثراً وفقهاً وحكاية.

وصدر عني مجموعٌ يشتمل على الأناشيد التي تحصلت لي مُتَلَقّاة ومنتزعة لم يَعثر على مثله في حسن الاختيار تضمن ضَرْبي المُطْرِب والمُرْقِص وتَقَدَّمَه كلامٌ علميٌّ في الشعر وسميته:) السحر والشعر (، مرتباً على الأغراض.

ومن المنظوم قولي على لسان السلطان مولاي أبي عبد الله وقد اشتد وجده لذكر معاهده الملكية بغرناطة، وكلفني ذلك:

أيامُ قُربِكِ عِندي ما لَها ثَمَنُ

لكنَّني صدَّني عن قُربِكَ الزَّمنُ

حطَطَتُ بَعْدَكِ يا أهلي ويا وَطني

رَحْلَ الغَريبِ فلا أهْلٌ ولا وَطَنُ

ثد حَلَّ حُبَّكِ مِنْ قَلبي بِمَنزِلةٍ

لا الماءُ يجري مجاريها ولا اللبنُ

لَمَّا تحمل عَنكِ الرَّكْب مُرتَحِلاً

والقلبُ فيكِ غَدَاةَ البَيْنِ مُرْتَهَنُ

واللهِ ما سَكَنَتْ نفسي إلى أحدٍ

يوماً ولا راقَ عينِي مَنْظَرٌ حَسَنُ

كَمْ لي بربعك من أنس ومن طرب

كأنما كان حُلْماً جَرَّهُ الوسَنُ

والأمر أمري والدنيا مُسَخَّرَةٌ

وكلُّ قَصْدٍ به الإسعادُ مُقْتَرِنُ

حتى تنبه جَفْنُ الدَّهْرِ مِنْ سِنَةٍ

والدهر مضطرب والحرُّ مُمتحن

حمامةَ البَانِ ما هذا البكاءُ على

مَرِّ الزمان وهذا الشَّجْوُ والشَّجَنُ

لا مسكن بنتَ عنه أنتَ تندبه

ولا حبيبٌ ولا خلٌّ ولا سَكَنُ

كفٌّ خصيبٌ وأطواقٌ مُلَوَّنَةٌ

ما هكذا البث يا ورقاء والشجنُ

لو كنتَ تنفث عن شوق منيت به

يوماً لصار رماداً تحتك الغصن

يا نَسْمَةَ الريح كيف الدار هل عمرت

كلَاّ وهل أخصبت من بعدها الدِّمَنُ

لعل من قد قضى يوماً بفُرقَتِنَا

تحلّ منه برفع الفُرقة المِنَنُ

نستغفر الله كم لله من منح

لُذْنَا بها بعد أن لاذت بنا مِحَنُ

ونسأل الله في عُقْبَى نُسَرُّ بها

فقد تساوى لديه السر والعلن

ولما شَرَحَ كتابَ الشفاء العياضي، خطيب الخلافة وكبير أوليائها السيد الفقيه أبو عبد الله بن مرزوق، طلب أهل العدوتين بالنظم في كتاب الشفا فطما من ذلك البحر ما بين مجيد ومقصر. فقلت في ذلك وقد عُرض عليّ الجميع وأنا بمدينة سلا حرسها الله، ووجهتُ بها إليْه:

حييت يا مختط سبت بن نوحْ

بكل مُزْن يغتدي أو يَرُوحْ

وحمل الريحان ريح الصبا

أمانةً فيك إلى كل روح

دار أبي الفضل عياضِ الذي

أضحت برَيَّاهُ رياضاً تفوح

يا ناقل الآثار يعنى بها

وواصلاً في العلم جَرْيَ الجَمُوح

طِرْفُكَ في الفخر بعيد المدى

طَرْفُكَ للمجد شديد الطموح

كفاك إعجازاً كتابَ الشفا

والصبح لا يُنْكَرُ عند الوضوح

لله ما أجزلتَ فينا به

من منحة تقصر عنها المُنُوح

روض من العلم هَمَى فوقَه

من صَيِّبِ الفكر الغمامُ السَّفوح

فمن بيان الحق زهر ندٍ

ومن لسان الصدق طير صدوح

ص: 52

تأَرَّجَ العَرْفُ وطاب الجَني

وكيف لا يطعم أو لا يفوح

وحلة من طيب خير الورى

في الجيب والأعطاف منها نضوح

ومعْلَم في الدين شَيّدْتَه

فهذه الأعلام منه تلوح

فَقُلْ لهلمان كذا أو فلا

يا من أضل الرشد تبنى الصروح

في أحسن التقويم أنشأته

خلقاً جديداً بين جسم وروح

فعمره المكتوب لا ينقضي

إذا تقضى عمر سامٍ ونوح

كأنه في الحفل ريح الصَّبا

وكلُّ عطفٍ فهو غصن مَرُوح

مَا عُذر مشغوف بخير الورى

إن هاج منه الذكر أن لا يبوح

عجبت من أكباد أهل الهوى

وقد سطا البعد وطال النزوح

إن ذكر المحبوب سالت دما

ما هُنَّ أكباد ولكن جروح

يا سيد الأوضاع يا من له

بسيد الأرسال فضل الرجوح

يا من له الفخر على غيره

والشهب تخفى عند إشراق

يا خير مشروح وفى واكتفى

من ابن مرزوق بخير الشروح

فتحٌ من الله حَبضاه به

ومن جناب الله تأتي الفتوح

وفي الغرض المذكور:

أأزاهير رياض

أم شفاءٌ لعياض

جدَّل الباطل للح

ق بأسيافٍ مواضِ

وجلا الأنوار برها

ناً بخلْف وافتراض

وسَقَى من يشتكي الغلّ

ة في زُرْق الحياض

أي بنيانٍ معال

آمنٍ خوفَ انقضاض

أي عهدٍ ليس يرمي

بانتكاثٍ وانتقاض

ومعانٍ في سطورٍ

كأسودٍ في غياض

وشفاء لنفوسٍ

من ضنى الجهلِ مراض

حرَّر القصد فما شِ

ينَ بنقد واعتراض

يا أبا الفضل أدْرِ أنّ الل

هـ عن سعيك راض

فاز عبد أقرض الله

برجحان القِرَاض

وجبت غرُّ المزايا

من طوال أو عراض

لك يا أصدق راوٍ

لك يا أعدل قاضِ

لرسول الله وفي

ت بجهد وانتهاض

خير خلق الله في حا

لٍ وفي آتٍ وماض

سدَّد الله ابن مرزو

قٍ إلى تلك المَراضي

زبدة العرفان مَعْنَي

كل نسكٍ وارتياض

فتولى بسط ما أجمل

تَ من غير انقباض

ساهراً لم يدر في استخلاص

هـ طعم اغتماض

إن يكن دَيْناً على الأي

ام قد حان التقاضي

دام في علوٍ ومن عا

داهُ يَهْوِي في انخفاض

ما وشى الصبح الدَّياجي

في سَوادٍ ببياض

وقلت أهنئ قائد الأسطول أبا القاسم بن بنج بطلوع ولد: أبقاك الله أيها القائد الذي بأسه ضَرم، وشأنه شجاعة وكرم، ومحل ولايته من العدوِّحَرَم، لا تسأل عن شوقي إلى قربك، وعكوفي على حبك، وضراعتي في صلة سعادتك، إلى الله ربي وربك. وبلغني الطالع لديك، والوارد من حضرة المواهب الإلهية عليك، جعله الله أسعد مولودٍ على والد، ووفقك لما يرضيه من مقام الشاكر الحامد، وأقر عينك منه بالقائد ابن القائد ابن القائد. وقد كنت أعدك به تفاؤلاً واستفتاحاً، وسؤالاً من الله واستمناحاً، فالحمد لله الذي صَدَق الزَّجْرُ، ووضح الفجر. وقد نظمت له أبياتاً إن أدركته بعدها حياتي بر وشكر، أو كانت الأخرى رحم وذكر هي:

ارْفَعْ قِسِيَّ المُنْشَآتِ بِسَعْدِهِ

واستَنْجِزِ النَّصْرَ العزيزَ لِوَعْدِهِ

وانظر إليه تَلُحْ إليك بوجهه

سمة الشجاعة من أبيه وجده

لله من سيفٍ لنصرك صارمٍ

ينساب ماء الحسن فوق فرنده

صدرت إليك بشارتي وتفاؤلي

بالأمر قبل بروزه من غمده

يستبشر الأسطول منه بقائد

كالبدر تحت شراعه أو بنده

والبحر يفخر منه يوم ولادة

بمِلَنْدِه ابن ملنده ابن مِلَنْدِهِ

وكتبت لما صدر الرسول موسى بن إبراهيم من الأندلس ولم تقض حاجتي:

يا بني السادة الكرام نداء

يبتغي الجبر للمهيض الكسير

أنا بالحي مُسْتَجِيرٌ وبالمي

ت أما في كليهما من مُجير

ليس موسى هذا بصاحب فرعو

نَ ولا في عصاه من تأثير

فانصروني وعيِّنوا لي رسولاً

صارم الحد محكم التدبير

أو أريحو باليأس قلبي فإني

قد تخبطت في عذاب كبير

وقلت أخاطب عميد الدولة:

ص: 53

يا عمادي صح عني أنني

لك مملوكٌ وتلميذٌ وصاحبْ

فإذا ما لم تصدق دعوتي

قيل عني ومعاذ الله كاذب

فأعد عزِّي وشرِّف منزلي

وادعُني للحفل مهما كنت غائب

هذه عندك لا خطْر لها

وهي عندي من سَنِيَّات المواهب

وقلت أخاطب مَنْ أصابه داء الجذام من أصحابنا ويدعوه الأطباء بداء الأسد:

أصابتك يا عينُ عينُ الحسد

فَتَجْرُ النَّدا والنَّدَامَى كَسَدْ

وَوُلِّيتَ كل شهير خطير

فقمت به وسَدَتَ المَسَدّ

ولما عَلَوْتَ وقُدْتَ الزمان

بحبل فأوهقته من مَسَدْ

رأى أسداً من أسود الرجال

لذاك رماك بداء الأسد

تَعَزّ فما ثَمَّ مِنْ كائِنٍ

يصاحبه الكون إلا فَسَد

وقد يتأتى صلاح النفوس

وتطهيرها بفساد الجسد

وخاطبت عميد الدولة:

مهما جَرَتْ في أذني لفظة

وددتُ لو كانت ثناء عليك

أو ذُكِرَتْ عن شَفَةٍ قبلةٌ

لم أرضَها يوماً سوى في يديك

أو كان لي في نعم الله من

تحكم حُطَّت جميعاً لَدَيْك

سيدي ومالكي، الصَّنَائع شجرٌ تُغرس، وبسياج العناية تصان وتُحرس، فمنها ما يُعدم، ويحط سياجه ويهدم، ومنها ما يُمِرُّ جَنَاه، إذا نُظِر إنَاه، ومنها ما يسمح بإنعامه، ويرمى أُكُلَه لِعامِه، وتقر بصلاحه عين فلاحه، والصنيعة في خديمكم فلان اللبيب النبيل الجاري من توفية خدمتكم وشكر نعمتكم على سواء السبيل من هذا القبيل. فأقسم لو شكر رياض الحَزْن صنيعة المُزْن كشكره، لتأوَّد الغُصن من سُكره، ورد وشأنه الدعاء وشأننا التأمين، والله الكفيل بالإجابة الضمين:

إذا ما غرستَ الخيرَ في ابن جدار

ظفرت بكنز منه تحتَ جِدارِ

فشُدَّ عليه الكف ذخر مَضنَّةٍ

واسْكِن به الأسرار دار قرار

ومن دلائل عناية الله بالرئيس وإعانته خلوص بطانته، فالحمد لله الذي جعل القلوب والأيدي نوائل رِفده ووده، والألسنةَ والطَروسَ تراجم مجده، والمملوك يرتقب نُعْرةَ المواضع الحرة ويُمْنَ الشِّيات وسعادة الغُرَّة، قد نهكته المواعِد والأمل المباعد، ورجاؤه قوي في الجَنَاب الذي إذا وعد وَفَى، ومَحَلُّهُ من أميري العدوتين ما احتجب عن الأعين ولا اختفى، وبقي أمل الله الذي لا تتحرك ذرة إلا بإرادته، ومنه نسأل صلة عادته، ودوام أيامه، واتصال سعادته.

وكتبت إليه في غرض الشفاعة.

يا سيدي أبقاكم الله محطّ الآمال، وقِبلة الوجوه، وبلّغ سيادتكم ما تؤمله من فضل الله وترجوه، وكلأ بعين حفظه ذاتكم الفاخرة، وجعل عز الدنيا متصلاً لكم بعز الآخرة. بعد تقبيل يدكم التي لا تزال يدها تشكر، وحسنتها عند الله تذكر، أنهي إلى مقامكم أن الشيخ الكذا أبا فلان، مع كونه مستحق التجلة بهجرة إلى أبوابكم الكريمة قَدُمَتْ، ووسائلَ من أصالةٍ وحشمةٍ كَرُمَتْ، وفضلِ وقار، وتنويهٍ للولاية إن كانت ذات احتقار، ومن اقتضى الفضلُ بِرَّه، وأدَّبَ شكرُ الاختبار علنَه وسرَّه، له بمعرفته بسلفكم الأرضَى وسيلةٌ مرعية، وفي الاعتراف بنعمتكم مقاماتٌ مَرْضية، وتَوَجُّهٌ إلى بابكم، والتمسكُ بأسبابكم، والمؤمَّلُ من سيدي سَتْرُه بجناح رعيه في حال الكَبْرَهْ، ولحظه بطرف المَبَرَّه، إما في استعمال يليق بذوي الاحتشام أو سُكونٍ تحت رَعْيٍ واهتمام، وإعانةٍ على عمل صالح يكون مسكَ ختام، وهو أحق الغرضَيْن بالتزام. وإحالة سيدي في حفظ رسمِ مثله، على الله الذي يجزي المحسنين بفضله ومنه نسأل أن يديم أيام المجلس العلمي محروساً من النوائب، مُبَلَّغ الآمال والمآرب. والمملوك قد قرر شأنه في إسعاف المقاصد المأمولة من الشفاعة إليكم، والتّسَحُّبِ في هذه الأبواب عليكم، وتقليب القلوب بيد الله الذي يُعطى ويمنع ويملك الأمر. أجمع. والسلام..

وخاطبت الوالي الكبير بمراكش:

ص: 54

والي الولاة الذي بمكارمه يُضْرَبُ المَثَل، وشرف الجُباة الذي جمع له العلم والعمل، أبقاكم الله والسعادة لكم مركب، ونصبة ولايتكم لا يخالف سعدَها كوكب، كتبتُه ولساني طليق، وشأني بالاقتصار على تلك الذات خليق، وقد كانت عندي مكارمكم التي وقفت على أعيانها، وبحثت في سمع كيانها، واجْتَزَأْتُ بأَثَرِهَا عن عِيَانِهَا، وتخطيتُ إِجمالَها إلى بيانها، مما يُقْضَى منه العجب، ويُجْلِي من غرة الجود ما احتجب، وأظن ذلك احتفالاً استنفد القوة، وحذقاً ختم آيّ الكَرَمِ المتلُوَّة، فأنتج لي استخبارُ الطارئين في الأرض والواردين على الغَمْر والبَرْض، ومتجملي العنايات والشفاعات، والوسائل النفَّاعات كأبي عبد الله بن جَدار والشرفاء أولي المُؤَنِ الكبار، وسواهم على تباين الأطوار، أنّ قضية مكارمكم مطلقة، وأَعْدَادَ جودكم بالثناء مُنْطِقَة، فَلَعمري لقد وجدت لذلك خِفَّة على كبدي، إذ لم أر الصنيعة البعيدة مختصة بيدي، إنما أنت بحر المواهب الزاخر، والواحد الذي افتخر به الزمان الآخر، ومتحملُه فلان من ذوي الفضل ذاتاً وصحبه، ووسيلة وقربه، وله بصاحب رياسة الإنشاء تخصصٌ وتميز، وفئة وتحيز، والمراد أن يكون من رعى والي الولاة بمكان مكين، ومبوّأٌ من مجده إلى رُبوةٍ ذاتِ قرارٍ وَمَعين، يكون ذلك من جملة ماله من الأيادي البرة، والفواضل المتألقة الغُرة، والله يديم سَعْدَه، ويحرسُ مجده. والسلام..

وكتبت إلى عميد الدولة في غرض التحريك والشفاعة: سيدي الأعظم، وملاذي الأعصم، وعروة عزي الوثقى التي لا تُفصم، أبقاك الله بقاء آثارك، وأنه للعُمر، تأمرُ الدهرَ فيأتمر، ويلبي بثنائك الطائفُ والمعتمر، بأي لسان أَثْنِي على فواضلك وهر أمهاتُ المِنَن، وطُرَفُ الشام واليمن، ومقاماتُ بديع الزمن، والتحف المرتفعة عن الثمن. فحسبي دُعاء أردده وأواليه، وأرتقب مطاوبَ الإجابة عن مَقْدَمِه وتاليه، وأن تَشَوَّفَ المنعمُ للحال الموقوف جبرُه بمشيئة الله على جميل سعيه، الموسدة على وِطَاء لطفه، المُغشَّاة بغطاء رعيه، فقلبٌ خافق، وقلب مؤمن يجاريه وَسْوَاسٌ منافق. وقد تجاوز موسى مجمع البحرين، وأصبح سُرَى إيابه سري القَيْن. ولقد كانت مراحل الرسُل قصيرة قبل أن يكسبها زُحَلِي ثِقَلَ الحركة، ويخلط خاصِّي في وظائفها المشتركة، وليت أمري برز إلى طرف، وأفضى إلى منصَرَف، وربما ظفر آيس بما يرجوه، وبرز المحبوب من المكروه، والله لا يفضح جاه الكتاب الذي أحيا وأنشر، وحيَّا وبشَّر، وأعطى صحيفته باليمين وقد جمعت رسالتكم المحشر، وموصل كتابي، ينوبُ في تقبيل اليد العلمية منابي، وليعلم سيدي أن هذا القطر على شهرته وتألق مشتريه وزهرته، إذا تُنُخِّلَ كِرَامُه، وعهدُ الفضل لم يَبِنِ انصرامُه، فهو لُبابُه المُتَخَيَّر وزلاله الذي لا يتغير: أصالةً معروفة، وهمةً إلى الآثار مصروفة ونُبْلاً على السن والكَبْرة، ورجولةً خليقةً بصلة الحرمة والمَبَرَّة، والوسيلةُ لا تُطْرَحْ، والمعنى الذي لا يُفسر لوضوحه ولا يُشرح، هو انتماؤه إلى جناب سيدي حديثاً وقديماً، واعترافُه بنعمه مديراً لها ومُديماً. والله يُوفر من آثار سيدي حظه، ويجدد لديه وعيه ولحظه، حتى يعود خافقاً عَلَمُ إقباله، مُعلماً بردَ اهتباله، مسروراً ببلوغ آماله. فلعمري إن محل ولايته لكَفِيٌّ، وإن عهد أمانته لَوفِيّ، وإن عامل جده لَظَاهِرٌ وخَفِي، وما يفعله سيدي من رعيه وإنجاح سعيه كسوبٌ في مَنَاقبه، ومعدودٌ في فضل مَذاهبه والسلام.

وخاطبت الوالي الفاضل أبا محمد بن بطان فيما يظهر من الغرض:

لا ناقة لِيَ في صَبْرِي ولا جَمَلُ

مِنْ بَعْدِ ما ظَعَنَ الأحبابُ واحْتَمَلُوا

قالوا استَقَلُّوا بِعَيْنِ الفِطْرِ قلتُ لهم

ما عَرَّسُوا بسِوى قَلْبِي وَلَا نَزَلُوا

ص: 55

ما هذا الاستدعاء الذي نَقَدَ وبَهْرَج وعطف على من اتصف بالسعادة وعَرَّج، ومرَّ على الخليط المناشب، كما مرت على الطحن سبَّابة الحاسب، يُقْدِمُ ويُجْفِل، ويُعلي ويُسفل، ويُعلم ويُغفل، ومنزلتي صفر من هذا التعيين، وحظي الظمأ من المورد المعين، إن كانت الوسيلة المعتبرة وسيلة الحب، فما لوسيلتي تُحبط، ولركائب استقدامي لا تُربط، وفي مثلها يُحسد أو يُغبط، الصّحب والمحل الرحب، بحيث يُفعم الوَطْب، ويدرأ الخصب، وتُرفع للطارق نارُ القِرَى، مادَّتها المَنْدَل الرَّطب. نستغفر الله من الاسترابة بالود اللباب، وننوب في الاعتذار عن الأحباب، ولو علموا بارتفاع التقية، والمطالبة بالبقية، لما حجبوا بروقهم، ولا أغفلوا مَشُوقهم، ولا منعوا عنه صَبُوحَهم ولا غَبُوقَهم:

وَعَسى الذي قَدَرَ البِعَاد يُزيله

وعسى الذي كتب الفراق يُجَمِّعُ

ولما وقفتُ على استدعاء صاحبنا أبي القاسم وصل الله حفظه، وأجزل من الخير حظه، آثرت اعتزامه، واقتضيت بالعهد التزامه، وكافحت جيش اعتذاره حتى رأيت انهزامه، في أن يشاهد ذلك الجمع المبارك بعيني، ويكون غريم الدهر في اقتضاء ديني، وحركت له الشوق الذي يَذْهَبُ معه الوَسَنْ، ويُخْلَعُ في طاعته الرَّسَنْ، وكنت في رحلته كما قال الحسن:

أيها الرائحان باللوم لُوما

لا أذوق المُدَام إلا شميما

جُلُّ حَظِّي منها إذا هي دارتَ

أن أراها وأن أَشُمَّ النَّسِيما

نالني بالملام فيها إمامٌ

لا أرى في خلافه مستقيما

فكأني وما أُزَيِّن منها

قَعَدِيٌّ يُزيِّنُ التحكيما

كَلَّ عن حَمْلِهِ السلاحَ إلى الحر

بِ فأوصى المطيقَ أن لا يُقيما

والله يَسُرُّ براحة الشيخ النفوس، ويذهب البُوس، ويضفي من الوقاية اللُّبُوس، والسلام.

وخاطبت عميد الدولة، وقد بلغني إيابُه من زيارة الصّلَحَا بريف بادس، ضَجِراً بحِمْل الدولة متراوغاً عنها:

هَنِيئاً بالقُدُومِ مِنَ الزيارة

ولُقِّيتَ السعادة والبشارة

وقاد لك الإله خفيَّ لطفٍ

يُبَلِّغ مجدك الأعلى اختياره

سيدي أبقاك الله تُعَرِّجُ على البقع المزُورة ركابَ الجلالة، وتورثَ مَراقِيَ المنابر لا عن كلالة، وتنجح في صميم العمل الصالح بين السلف والسُّلالة، كانت ليَ آمال أرى بقاءك أَجَلَّها، وعمدةً لها، لاشتها الأيام وأَدْرَجَتْهَا، وعَفَى رسمها لما نَسَجَتْهَا، والدنيا حلوب خلوب، ومُغالب القدر مغلوب، وبيد الله أفئدة وقلوب، وإن ساءت ظنون، فَثَمَّ الكاف والنون ومؤلف الضَّب والنون، وما الدهر إلا مَنْجَنُون، أرضانا الله بمصارف القدر، وعوضنا منه بالحظ المبتدر، وفَرَّغَنَا للوِرْدِ البعيد الصَدَر

ص: 56

فأنا اليوم لا أَمَل لي إلا لقاؤك الذي هو الحظ، وإنْ فَتَكَ الزمن الفَظ، والنَّصير لمَّا ساء المصير، والكهف لمَّا عَظُم اللهف، وكيف لا ورعْيُكَ استخرج من الرَّكيَّة، وسمع على البعد صوت الشكية، وجودك أعطى وأمطا، وجاهك فَرَشَ وغَطَّى، فإن ذوت أغصان الصانع بلفح جحود، أو أصبحت الأيادي البيض من الغَمط في لحود، فأغصان صنائعك قِبَلي قد زهت بِحبِّها وأَبِّهَا، وحيَّتْهَا نَواسِمُ القبول من مهبِّها، وأياديك لديَّ أحياء عند ربِّها، تسأله جلَّت قدرته القديمة، ووسعت كلّ شيء رحمتُه التي هَمَت منها الدِّيمة، أن يجعل جاهك في الشمول جنس الأجناس، ورَبْعَكَ مَيْدَانَ جياد السرور والإيناس، ويعصمك يا محمد الحمد من الناس، ويجعل سعيَك مشكوراً، وفخرك مذكوراً، وقصدَك مأجوراً، وبابَك لا غُفلاً ولا مهجوراً، ومقامَك حِجْراً عن النوايب محجوراً، وإني لمَّا طرق النبأ بوجهتك في سبيل البر والفضائل الغر، تُجَدِّدُ عهدَكَ بزيارة أولي الفضائل الباهرة الآية، والمشايخ أنسباء سلفك في قُعْدُدِ الولاية، قلت هذا حنين لفصيله، وجذبٌ عن أسباب أصيله، وتحويمٌ على شريعه، ومقدمةُ أوبةٍ سريعة، مهلاً مهلاً فلم يَدَع العلم جهلاً، وأهلاً بمقامك الذي أقامك الله فيه وسهلاً، ولو زرت طيفوراً أو سهلاً، كفُّ الأكفِّ العادية، وبثّ المراشد الرائحة الغادية وهداية الخلافة الهادية، وهو معكم أينما كنتم حجة بادية، ومن دَافَع فَلْيَدْعُ ناديه. ولله دَرُّ رابعة وقد شُغِلَتْ بالحي عن المَيْتِ، وبالمِشْكَاةِ عن الزيت، فقالت الناس يطوفون بالبيت، وإن شوَّق ارتياضٌ ومران، وكاد يُلْقَى بِمَعْطِن التجريد جران، فليس يُحمَد قبل النُّضْج بُحران، وعالَم السياسة قُلَّب، وود إخوان الخُوان بارق خُلَّب، وفرع دوحتك الذي في هَضْبة المنبرِ الأمامي قد غرسته، وديوان النشأة الطاهرة قد درسته، فعاهده بالكفالة حتى يسح، ويرف دومه وسح، ولا تُوحشْ مَنْبِتَه المبارك باغْبَابِ شمسك، ومتِّعْه وأخوته بنعيم يومك، إذ لا قُدرةَ لنفسك على ردّ أمسك، وإذا ذُكر القدر فأمسك، وهَوَى مماليك سيدي أن لا يقع تقويض، ولا يُعدم للمدبر الحكيم تسليمٌ وتفويض، فالذي دبَّره في الأحشاء، وحكَّم في صورته الحسنة يدَ الإنشاء، حيث لا سببٌ يُعمل، ولا فكر فيما يُلغى ولا فيما يعمل، ولا حيلةٌ تُحْكَم، القوة العاجزة واللسان الأبكم، هو الكفيل لك بحفظ المنصِب، وصون الجناب المخصِب، حتى تستوفي عمر النهاية حِلْسَ وسادك، فائزاً بنعيم الدارين على رغم حسادك، وتَطْرَبُ إذا قَرَعَتْ المنابرَ المفضلَة عُصيّاتُ حفدتِك وأولادك، تحت كفالتك وبإرفادك، وسيدي شيخ زاوية الخلافة. فلا أَقْفَرَ منه محرابها، ولا أغفلت من غرر صنائعه البيض عُرابُها، ولا استوحش من حسام رأيه السديد قرابها، وعندما ورد البشير برجوع نَيِّرِكَ الأعظم إلى بيت شرفه، واستحثاث بريد الخلافة ركاب منصرفه، قلت اللهم اكتب خُطاه وأجْرَه، وارْعَ في معاملة أوليائك تَجْرَه، وغَبِّطهُ بعد بالمُقام في المَقَام الذي فيه أقمته، وأرغمت الباطل ووقَمْتَه، وهَنِّهِ الإيابَ الذي أزحت به الارتياب، والقفول الذي كفيت به آمالنا الأفول - والسلام.

وخاطبت في سبيل الدعابة من تزوج قَينة:

ص: 57