الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفر إلى الروم إبراهيم بن السراج في خبر طويل، وكان له من الموروري حلف، فلما أحان الله ذلك التيس بيد الظالم الذي أسخط الله في رضاه، وخذل الإسلام بإعانته، استراب بمكانه فكان ذلك.
وتُقُبِّضَ بعدَه على أحد مصراعي باب الوفاء للسلطان - جبره الله - أبو بكر ابن زيد زعيم وادي آش! بعد أن اصطنعه وأسماه رقياً إلى ألفته وخلطه بنفسه في القلعة، وأنكحه إحدى عتيقات القصر ذات أسباب جمة ومتاع حسن وبُغْية، ثم أهوى به في الطَّبق الضَّنك مستَقَر أرباب الجرائم، وابنه الغض الشبيبة، الراجح الوزن على الفَتَا، المَلِيِّ من خلال السؤدد بغير جرم ولا جناية. زعموا أن بلديَّهُما كاتبُه وخطيبُه الملجوم المُنْبَزُ بالجوادي، عبد الحق بن عطية، أغراه بهما، وما أقرب الدنيا من الآخرة، بينما الرجل في إيالة هذا الحلف محمود النعمة، مرموق المكانة، مغبوط الحظ، إذ تطرقته العيوبُ بغتة لها جس طوَّر أفكاره السبعية أو ألقِيَةٍ كاذبة طرقت أذنَه المستباحة، بوأنا الله مهاد الأمن في الدنيا والآخرة، وعرفنا بَرْدَ العافية، وفكَّ عن أعناقنا مِلكةَ سواه.
وفي أواسط شهر المحرم من عام اثنين وستين عرَّفَنا الله فيه عارفة الخير، كان استقدام ولد السلطان الأمير المنصرف عن الأندلس في سبيل البغي عليه والمكيدة، المستكمل خلال الفضل، المستولي على أمد الطهارة والعفاف أبي عبد الله بن الأمير أبي الحجاج بن نصر، أُبرم أمرُ استخلاصه من غير علم عبده، فبايع المتغلب على الإقرار في الوقت والمهادنة تحرجاً مما تجره المخاشنةُ من صدع يصيب عصا الإسلام مجراه. وقد اشتمل ثقافة من أبناء الملوك اليعاقبة على الجُملة مُوعِداً بتنفيق سوق الفتنة ببعضهم عند إضاقته، فَرُوخِي رَسَنُه مطاولة، وطُوِيَ أمره على عِدَه، وسقط في يد مظلومِه لركود ويحه وتقاصر أمره. وجاشت النفوس ممن لديه ثم استكانت لِصَوْلَةِ الأيام مرجئة للوقت، مرتشفة للبُلالة، فسبحانَ الحق يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء لا يُسأل عما يفعل.
وأزعج من الأندلس صحبته الشيخ أبو الحسن علي بن بدر الدين بن موسى ابن رحّو بن عبد الله بجريرة ما تقدم من مظاهرة السلطان صبيحة ليلة نكبته وتمسكه ببيعته، وذَبِّه في سبيل الوفاء عنه، فوصل جميعهُم في جَفْنٍ غزوي من مالقة إلى سبتة، ومع الولد أمه في طُوَيِّفَةٍ من جواريها بحال حاجة للكثير من الضروريات وقد ضَنَّ ظالمهم على جميعهم بما لم تكن لتضره السماحة به والتهاون بحقيره في جنب ما رزأهم من متاع الدنيا الذي لا نهاية وراءه في الظَّرف والبهجة. وفي الله خَلَفٌ من كل ذاهب.
وفي الموفِّي عشرين من هذا الشهر، خرج موسى بن إبراهيم اليرنياني، من مشيخة الخدام، ومُصْطَفِ الأوداء، إلى الأندلس بهدية من كراع وآلة على سبيل الملاطفة، وصدرت المخاطبة في شأني بما من بعض فصوله: فإن كنتم تبخلون بماله فعرفونا بمقدار ثمنه ليصلَكم من قِبَلِنَا. ولله أمرٌ هو بالغهُ سبحانه وقد جعل لكل شيء قدراً، نسأله الرضا بقضائه والشكر على السالف والراهن من آلائه.
بعض المؤلفات والقصائد والرسائل التي كتبها ابن الخطيب في المغرب
وإلى هذا الحد، صدر عني من الموضوعات والنظم والنثر ما نُثْبِتُه إحْمَاضاً ومناوبة على حد الصواب في الأحاديث والأسمار، فقد قالوا: لا تجعلوا شرابكم غِناءً كلَّه ولا حديثاً كلَّه، ولكن انتهبوا الأنس انتهاباً.
فمن الموضوعات؛ الرَّجز المسمى بِرَقْمِ الحُلَل في نَظْمِ الدُّوَل، يشتمل على الدول الإسلامية كلها من غير حشو ولا كُلْفَة على زماننا هذا، ورفعتُه إلى السلطان، فورد الأمر بإضعاف الجراية، فبلغت إلى هذا الحد بستين بيزا من الذهب العَيْن في كل هلال، وكان من نصه: وقد) وصل الرَّجَزُ المُعْجِبُ المُعْجِز (، وعرَّفني بإعادة الرسالة إلى الأندلس في شأني والله لا يقطع عنا أسباب لطفه.
ومنها الجزء المسمى: بِمِعْيَارِ الاختبار في أحْوَالِ المعَاهِدِ والدِّيَار، كتاب غريب مُصَوَّر لم يَسبِق متقدم إلى غَرَضِه.
وأظَلَّتْ ليلةُ سبع وعشرين، إحدى مواسم شالة المختصة باستجلاب الأمم، وتخييم الخيم، واحتفال الأسواق، ورفع المغارم، والوليمة لأهل الخير وأولي الهيئات بالضريح، فاحتفل معتاد الإطعام، وفُرِّقَتْ غَلَاصِمُ البَهْم، وأُهِيلَت قناقش السَّمن، واستُدْعِيَتْ أصناف الحلواء، واستُكثر من الوقود، واستُدْعِيَ إلى الإيوانِ لِصْقَهَا المعدّ لذلك المغنّون، واستُحْضِر القاضي والعدول والخواص والأعيان والأمناء
…
ببقيةِ جَمَّتُها من الغد في سبيل الصَّدقة، وأَنْشَد المُسْمِعُ ليلتئذ من نظمي هذه القصيدة:
إذا فاتني ظلُّ الحِمَى ونعيمُهُ
…
كفاني وحسبي أن يُهَبَّ نسيمُهُ
ويقنعني أَنِّي به مُتَكيِّفٌ
…
فزَمْزَمُهُ دَمعي وجسمي حَطِيمُهُ
يعودُ فؤادي ذِكرُ مَنْ سكنَ الغَضى
…
فيُقعِدُهُ فوقَ الغَضى ويَقيمُهُ
وما هاجَني بالغَوْرِ قدٌ مٌرَنَّحٌ
…
ولا شاقَني مِن وَحشِ وَجْرَةَ ريمُهُ
ولا سَهِرَتْ عيني لِبَرْقِ ثَنِيَّةٍ
…
مِنَ الثَّغرِ يبدو مَوْهِناً فيشيمُهُ
بَراني شَوقٌ للنَّبيِّ محمدٍ
…
يسوم فؤادي بَرْحُهُ ما يَسُومُهُ
ألا يا رسولَ الله ناداكَ ضارِعٌ
…
على البُعدِ محفوظُ الوِدادِ سليمُهُ
مَشُوقٌ إذا ما الليلُ مدَّ رِوَاقَهُ
…
تَهِمُّ به تحتَ الظَّلامِ هُمُومُهُ
إذا ما حديثٌ عنكَ جاءَتْ به الصَّبا
…
شجاهُ مِنَ الشَّوقِ الحَثيثِ قَديمُهُ
وتُقْرِبُه الآمالُ مِنكَ تَعَلُّلاً
…
ويُبْعِدُهُ المِقدارُ عَمَّا يَرُومُهُ
يراهُ الأسى إلَاّ الرَّكُون إلى عَسَى
…
صحيحُ الهوى مُضْنا الفؤادِ سَقِيمُهُ
تَدَارَكْهُ يا غَوثَ العِبادِ بِرَحْمَةٍ
…
يُقَضِّيهِ دَيْنَ العَفوِ منها غَرِيمُهُ
أيَجْهَرُ بالشكوى وأنتَ سَميعُهُ
…
أَيُعْلِنُ بالنجوى وأنتَ عَليمُهُ
أَتُعْوِزْهُ السُّقيا وأنتَ غِياثُهُ
…
فأُنْقِذَ عانِيهِ وأَثْرى عَديمُهُ
لكَ الخُلُق الأرضَى الذي بانَ فضلُهُ
…
ومجدك في الذِّكرِ العظيمِ عظيمُهُ
لك المُعجِزات الغُرُّ يَبْهَرٌ نورُها
…
إذا ارْبَدَّ مِن جُنْحِ الضِّلَالِ بَهِيمُهُ
وحَسْبُكَ مِن جِذْعٍ تَكَلَّمَ مُفْصِحاً
…
وقد دَمِيَتْ يومَ الفُراقِ كُلُومُهُ
وبَدْرٌ بَدا قِسْمَيْنِ فالقِسمُ ثابِتٌ
…
مُقيمٌ وقد أهوى إليكَ قَسيمُهُ
وذَلَّ لِمَسْراكَ البُراقُ كَرَامةً
…
وساعَدَ مِنهُ وَخْدُهُ وَرَسيمُهُ
ومِن فوقِ أطباقِ السماءِ بكَ اقتدى
…
خليلُ الذي أوْطاكَهًا وكَليمُهُ
ومُعجِزةُ القُرآنِ أجلَى فَإنَّهُ
…
عجائِبُهُ لا تَنْقَضي وعُلُومُهُ
تميَّزَت قبل القِيلِ بالشِّيَمِ العُلى
…
وآدمُ لم يَدْرِ الحياةَ أديمُهُ
إذ السكونُ لم تَفْتُقْ يدُ الأمرِ رَتْقَهُ
…
ولم تَمْنَزِج أرواحُهُ وجُسُومُهُ
ومِن نورِكَ الوضّاحِ في العالَمِ اهتدى
…
غداةً اقتَدى صِدِّيقُهُ وحَكيمُهُ
عليكَ سلامُ الله يا خبرَ مُرسَل
…
بهِ بانَ مِنْ نَهْجِ الرَّشادِ قَويمُهُ
ويا لَيتَ أني في ضريحِكَ مُلْحَدش
…
يَرِفُّ بتكرارِ العِهادِ جَميمُهُ
يُجاوِرُ عَظْمِي تُرْبَكَ العَطِرَ الشَّذا
…
فَيَعْطِرُ مِن ماءِ الحياةِ رَميمُهُ
تَقَضَّى كريمُ العُمْرِ في غيرِ طائِلٍ
…
كما بدَّدَ الوَفْرَ الغزير كَريمُهُ
فآهٍ على نفسي أُردِّدُها أسىً
…
لِوَخْطٍ أضاءَتْ ليلَ فَوْدِي نُجُومُهُ
وإن كانَ نَبتُ الأرضِ مُرْتَهنَ الذَّوا
…
فليسَ سَواءَ غَضُّهُ وهَشيمُهُ
جفاني دهري واستهانَ بِحُرمَتي
…
فدَهري مَمْقوتُ الذِّمامِ ذَميمُهُ
وفَرَّقَ ما بيني وبينَ أحبَّتي
…
فأَنكادُهُ تنتابُني وغُمومُهُ
فلو كان يُجدي العَتْبُ أبْلَغْت عَتْبَهُ
…
ولو كان يُغني اللَّومَ كُنتُ ألومُهُ
ولو لَحِظَتْني مِنْ جَنابِكَ لحظةٌ
…
لما رامَني عندَ البياتِ نُجومُهُ
فآوِ طريداً عائِذاً أنتَ كَهْفُهُ
…
وِكْرُكَ بالمَدْحِ الصَّريحِ رَقيمُهُ
رعى اللهُ عهداً في رضاكَ ومَألَفاً
…
مُلوكُ العُلى تُعْنَي بهبِ وتُقيمُهُ
وحيَّي بوادي الغِبْطِ داراً مَزُورَةً..
…
تُوالي لجرّاك النَّدى وَتُديمُهُ
رحيبَةُ ألطافٍ إذا الوَفْدُ حَلَّها
…
تكَنَّفَهُم غَمْرُ النَّوالِ عَميمُهُ
تَوَسَّدَ منها التُّرْبَ أيُّ خَلائِفٍ
…
بِهِمْ دينُكَ الأرْضَى استَقَلَّتْ رُسُومُهُ
أئمَّةُ عدلٍ أوضَحوا سُبُلَ الهُدَى
…
وَسُحْبُ نوالٍ لا تَشِحُّ غُيومُهُ
وأُسْدُ جهادٍ أذْعَنَتْ لسيُوفِهِم
…
جلالِقَةُ الثَّغْرِ الغريبِ وَرُومُهُ
فلولاهُمُ يا خيرَ مَن سَكنَ الحِمى
…
لَرِيعَ حِماهُ واستُبيحَ حَريمُهُ
تَغَمَّدْهُمْ مِنكَ الرِّضا يومَ تُقْتَضَى
…
دُيون مقامٍ لا تُضامُ خُصومُهُ
وأَنَّسهُم والرَّوعُ يوحِشُ هَوْلُه
…
وأمَّنَهُم والحَشْرُ تُذْكى جَحِيمُهُ
أبو يوسُفٍ مفنَى العِدا ناصرَ الهُدى
…
ويُوسفُ مِطعانُ الهَيَاجِ زَعيمُهُ
وعُثمانُ غَيثُ الجُودِ أكرم واهبٍ
…
إذا ما الغمامُ الجَونُ ضَنَّتْ سُجومُهُ
وعُلْيا عَليٍّ كَيْفَ يُجْحَدُ حَقُّها
…
أنَجْحَدُ ضوءَ الصُّبحِ راقَ وَسيمُهُ
هو العَلَمُ الأعلى الذي طالَ فَخرُهُ
…
هو المَلِكُ الأرضَى الذي طابَ خِيمُهُ
لقد فاءَ ظِلُّ اللهِ مِنهُ على الورى
…
فأَيِمّه مَكْفِيَّةٌ ويتيمُهُ
وجدَّدّ منها البِرَّ والفَضلَ مَجْدُهُ
…
ولولاهُ كانَت لا تَبينَ رُسومُهُ
وأوْرَثَ إبراهيمَ سِرَّ خِلافَةٍ
…
نماهُ مِنَ المجدِ الصُّراحِ صَميمُهُ
إذا الأمَلُ استَسْقى غمامَةَ رَحمَةٍ
…
ففي كفِّ إبراهيم تُكْرَعُ هِيمُهُ
وكَمْ كِمْ رجاءٍ خابَ ظَنَ قيامِهِ
…
فأنْتَجَ بالمَطلوبِ مِنْهُ عقيمُهُ
أمَولايَ لاحِظها على البُعْدِ خِدْمَةً
…
لوالِدِكَ الأرْضَى انتقاها خَدِيمُهُ
تَخَيَّرَها فِكْري فَرَاقَ نِظامُها
…
كما راقَ مِنْ دُرِّ النُّحورِ نَظِيمُهُ
وَكلْتُ بها همِّي وأَغْرَيْتُ هِمَّتي
…
فساعَدَها هاءٌ للرَّوِيِّ وَميمُهُ
حَلَلْتُ به مُسْتَنْصِراً بِجِنَابِهِ
…
وعاهَدْتُ نفسي أنني لا أَريمه
على قَبرِهِ الزَّاكي وَقَفْتُ مطامِعِي
…
فمن نالَني بالضَّيْمِ أنتَ خَصِيمُهُ
ومن المقطوعات قولي في الرغبة إلى الله:
إلهي بالبَيتِ المُقَدَّسِ والمَسْعى
…
وجَمْع إذا ما الخَلْقُ قد نَزَلوا جَمْعا
وبالموقِفِ المَشهودِ يا رَبِّ في مِنىً
…
إذا ما أسالَ الناسُ مِن خوفِكَ الدَّمعا
وبالمُصطَفى والصَّحْبِ عَجِّلْ إقالَتي
…
وأَنْجِح دُعائِيَ فيكَ يا خَيْرَ مَنْ يُدْعَى
صَدعْتُ وأنتَ المُسْتَغاث حَنانُه
…
أقِلْ عَثْرَتي يا مَوْئِلي واجْبُر الصَّدْعا
وكلفت في غرض معروف ولها حديث:
رعى اللهُ راعي الشَّاء ما شاء إنه
…
تعاطى فلما اجتاز فرصته عَقَرْ
أصاب صغيراً منه صقرٌ مكبرٌ
…
فصيَّره بعد النعيم إلى سَقَر
تقوم قيام الفرض في الأرض بعدها
…
بحق رعاة الإبْل والشاءِ والبَقَر
وقلت عقب الإياب من الرحلة المراكشية:
أفادَت وِجْهَتي بِنَداكَ مالاً
…
قَضَى دَيْني وأصْلَحَ بَعْضَ حالي
وَمَتِّعْتُ الخواطِرَ بانْشِراحٍ
…
وأطْرَفْتُ النَّواظِرَ باكتحالِ
وأُبْتُ خفيفَ ظَهْرٍ والمطايا
…
بِجاهِكَ تشتَكي ثِقَل الرِّحالِ
وشأني للمعالِمِ غَيْرَ شانٍ
…
وحالي بالمَكارِمِ جِدُّ حالِ
فَحُبُّ عُلاكَ إيماني وعَقْدي
…
وشُكْرُ نداكِ ديني وانْتِحالي
كأنْ قد صَحَّ للهِ انقطاعي
…
بتأميلي جَنابَكَ وارْتِحالي
وما يَبقى سوى فعل جميل
…
وحالُ الدَّهرِ لا تبقى بحالِ
وكُلُّ بدايةٍ فإلى انتهاءٍ
…
وكُلُّ إقامةٍ فإلى ارتِحالِ
ومَنْ سامَ الزَّمانَ دَوامَ أمرٍ
…
فقد وقَفَ الرَّجاءَ على المُحالِ
وقلت في كتاب الشفاء للقاضي أبي الفضل حسبما طلب مني ذلك:
شفاءُ عياضٍ للقلوبِ شفاءٌ
…
فليسَ بِفَضْلٍ قد حواهُ خَفاءُ
هَدِيَّةُ برٍّ لم يكن لجزيلها
…
سوى الأجر والذِّكر الجميل كِفاءُ
وفا لنبيِّ اللهِ حقَّ وفائِهِ
…
وأكرِمُ أوصافِ الكِرامِ وفاءُ
وجاء بهِ بحراً يقول بفضلِهِ
…
على البَحرِ طَعمٌ طيِّبٌ وصَفاءُ
وحق رسول الله بعد وفاته
…
رعاه، وإغفالُ الحقوق جَفاءُ
هو الذخر يغني في الحياة عَتاده
…
ويُتْرَكُ منه للبنينَ رَفاءُ
هو الأثَرُ المحمودُ ليس ينالُه
…
دثور، ولا يَخْفَى عليه خَفاءُ
حرصت على الإطناب في نشر فضله
…
وتمجيده، لو ساعَدَتْني فاءُ
وقلت في الضراعة:
مولاي إنْ أذنبتُ يُنْكَرُ أنْ يُرَى
…
مني الكمال وعنكم النُّقْصَانُ
والعفو عن سَبب الذنوب مُسَبَّبٌ
…
لولا الجِنايةُ لم يكُن غُفرانُ
وقلت في معنى التورية الطبية بالدواء المسمى دم الأخوين في شأن السلطان الحائن وأخيه، وشأن ذلك الدَواء النَّفع من الجراح:
بإسماعيلَ ثم أخيه قيسٍ
…
تأذَّنَ ليلُ هَمِّي بانْبِلاجِ
دَمُ الأخوَيْنِ داوَى جُرْحَ قَلْبي
…
وعالَجَني وَحَسْبُكَ مِنْ عِلَاجِ
وخاطبت السيد الفقيه أبا عبد الله بن مرزوق في الغرض المعروف موطِّئاً على بيت المشارقة في العِذَار:
أما والَّذي تُبْلَى لَدَيهِ السَّرائِرُ
…
لما كُنْتُ أرضى الخَسْفَ لولا الضَّرائِرُ
غَدَوْتُ لِضَيْمِ ابن الرَّبيبِ فريسةً
…
أما ثارَ من قومي لِنَصْري ثَائِرُ
إذا التمسَتْ كَفِّي لديه جِرايتي
…
كأنِّي جانٍ أوْبَقَتْه الجرائر
وما كان ظنِّي أنْ أنالَ جِرايةً
…
يُحكَكَّمُ مِنْ جَرَّائِها فيَّ جَائِرِ
متى جادَ بالدِّينارِ أخْضَرَ زائفاً
…
ودارَتُهُ دارَتْ عليها الدوائر
وقد أخرج التعنيتُ كيسَ مرارتي
…
ورقَّتْ لِبَلوايَ النُّفُوسُ الأخاير
تَذَكَّرتُ بيتاً في العِذَار لِبَعْضِهِم
…
له مَثَلٌ بالحُسْنِ في الأرض سائر:
) وما اخضرّ ذاك الخَدّ نَبْتاً وإنما
…
لكَثْرة ما شُقّتْ عَليْهِ المَرَائِر (
وجاهُ ابن مرزوقٍ لديَّ ذخيرةٌ
…
وللشدَّةِ العُظْمى تُعَدُّ الذَّخائِر
ولو كان يدري ما دَهاني لَساءَهُ
…
وأَنْكَرَ ما صارت إليه المَصَايرِ
وخاطبت أحد الشرفاء الكرام بقولي:
أعْيا اللِّقاء عليَّ إلَاّ لَمْحَةً
…
في جُمْلَةٍ لا تَقْبَل التفصيلا
فجعلت بابَكَ عن يمينك نائباً
…
أُهْدِيهِ عند زيارتي تَقبيلا
فإذا وَجَدْتُكَ نِلْتُ ما أَمَّلْتُهُ
…
أو لم أَجِدْكَ فقد شَفيتُ غَليلا
وفي مخاطبة مولاي السلطان أبي سالم إبراهيم، أيده الله، في سبيل الشكر:
سَمِيَّ خليل الله أحْيَيْتَ مُهْجَتِي
…
وعاجَلَني منك الصَّريخُ على بُعْدِ
فإنْ عِشْتُ أُبْلِغْ فيكَ نَفْسي عُذْرَها
…
وإنْ لَم أَعِشْ فالله يَجْزيكَ من بعدي
وقلت في أسلوب التغزل، وما أبعده عني في الوقت والحمد لله:
أصْبَحَ الخَدُّ منك جَنَّةَ عَدْنٍ
…
مُجْتَلَى أَعْيُنٍ وشَمَّ أُنُوفِ
ظَلَّلَتْها مِنَ الجُفُونِ سُيُوفٌ
…
جَنَّةُ الخُلْدِ تحت ظلِّ السُيوفِ
وقلت أيضاً:
يا مَنْ بِأكنافِ فؤادي رَبَعْ
…
قد ضاقَ بِي في حُبِّكَ المُتَّسَعْ
ما فيكَ لِي جَدْوَى ولا أرْعَوِي
…
شُحٌّ مُطَاعٌ وهَوىً مُتَّبَعْ
ومن النثر ما خاطبت به الفقيه الفاضل صاحب قلم الإنشاء أبا زيد بن خلدون مُدْرَجاً في طَيِّ كتابٍ أهنيه بزيادة ولد تعرفت أنه طَلَع له: ورد البشير بالإبلال، مقارناً لخبر الاعتلال، وتألُّم ذلك الجلال، فكانت رحمة لقيت عذاباً، وعُتبى نسخت عتاباً، وذنباً من الدهر أتبعه متاباً، فالحمد لله الذي أقال، وفكّ من الوَعْك العِقال، وأدَرّ من الرحمة السُّحُبَ الثِّقال، وأقرّ الحال وقد عَرَفت الانتقال، وهل أنت - أعزَّك الله - إلا عين تألُّمها عزيز ولها على الجوارح بالفضل تمييز، فالله عز وجل يُعقب القوة والناط، والتمتعَ والاغتباط ولله دَرُّ الشاعر:
فإذا مَرِضْتَ
…
ولا مَرِضْتَ فإنَّهُ مَرَضُ الرِّيَاحِ يَطيبُ فيهِ نثاها
ولحين تعرفي هذا النبأ لم أَطْعَم النومَ هنيا، ولا اقتطفت الأمل جنيا، ولا زلت بتحقيق نبأ الإبلال مَعنيا، حتى ثَبَتَ سَنَدُه، واستقام أَوَدُه، وكَثُرَ من رَاويهِ عَدَدُه، فكتبت أهنئ نفسي بسلامة شُقَّتِها، ومَظِنَّة مِقَتِها، وحفظ ثُمالها، وحراسة رأس مالها، ولو تمثلت لي القوى الطبيعية في الخارج لَعَرَفَت حقدي، ورابها في سوء التصرف نقدي، أو نسى
…
لعَتَبْتُها، أو النَّصْبَة المباركة لَقَرَّرْتُها بنظري ورتبتها، لكن أحوالٌ تشذ عن الاستطاعة، ولا تدين في غير سبيل البخت والاتفاق بالطاعة، فلنسأل الله خير ما لديه، ونثق به في حفظ ذلك الجلال ونتوكل عليه. وقد كنت تعرفت أن سيدي زاد عنده مولود مبارك، فبادرت بما يصله، فإن كان الخبر حقاً، لم يكن مني إغفال، وإن كان مُنتظراً فهو فال والسلام.
هَنيئاً أبا الفَضْلِ الرِّضا أو أبا زَيْدِ
…
وأُمِّنْتَ مِنْ بَغْيِ تخافُ وَمِنْ كَيْدِ
بِطَالِعِ يُمْنٍ طالَ في السَّعْدِ شَأوُهُ
…
فما هُوَ مِنْ عَمْرو الرِّجال ولا زيدِ
وَقيِّدْ بشُكْرِ الله أنْعُمَهُ التي
…
أوابِدُها تأبى سِوى الشُّكر مِن قَيْدِ
أهلاً بِدُرِّيِّ المكاتب، وصَدْرِيِّ المراتب، وعُتْبَي الزمان العاتب، وبِكر المُشتَري والكاتب، ومرحباً بالطالع، في أسعد المطالع، والثاقب في أحلى المراقب، وسهلاً بِغَنيِّ البشير، وعزَّةِ الأهل والعشير، وتاجِ المفخر الذي يقصر عنه تاجُ كسرى وأردشير. الآن اعتَضَدَت الحِلَّةُ الحضرميةُ بالفارس، وأَمِنَ السَّارح في حمى الحارس، وسَعِدَت بالنَّيِّر الكبير أفلاكُ التَّدْوير من حَلَقاتِ المدارس، وقرَّت بالجَنَي الكريم عينُ الغارس واحتُقِرَت أنظار الآبلي وأبحاث ابن الدارس، وقيل للمشكلات: طالما أَلِفْتِ الخِمْرة وأمْضَيْتِ على الأذهان الإمرة، فتأَهُّبي للغارة المبيحة لحماك، وتحيَّزي إلى فئة البطل المستأثر برشف لَمَاك. ولله من نَصْبَةٍ احتفى فيها المُشْتَري واحتفل، وكفى القمر سِنِيَّ تَربيتِها وكَفَل، واختال عُطَارِدُ في حُلَل الجَذَل لها ورَفَل، واتضحت الحدود وتهلَّلت الوجوه، وتنافست المثلثات تؤمل الحظ وترجوه، ونبَّه البيت على واجبِه، وأشار لحظ الشَّرَف بحاجبه، وأسرع نيِّرُ النَّوْبة في الأَوْبة، قائماً في الاعتذار مقام التوبة، واستأثر بالبروج المُوَلَّدِة بيتُ البنين، وتخطَّت خطا القمر رأس الجَوْزَهِرَّ وذَنَب التِّنِّين، وساوَق منها حُكْمَ الأصل حَذْوَكَ النّعلَ بالنَّعل تَحويلُ السِّنين، وحقَّق هذا المولود بين الموالد نسبة عُمُرِ الوالد، فتجاوز درجة المئين، واقترن بعاشرهِ السَّعْدان اقتران الجسد، وثَبتَ بدقيقة مركزة قلبُ الأسد، وسرَقَ من بيْتِ أعدائه خُرْثِيَّ الغِلّ والحسد، ونَظَّفت طرق التسيير، كما يُفعل بين يدي السادة عند المسير، وسقَطَ الشيخ الهرم من الدرج في البير، ودُفع المقاتل إلى وبال كبير.
لِمْ لا تنالُ العُلَى أو يُعْقَدُ التَّاجُ
…
والمُشْتَري طالِعٌ والشمسُ هِيلَاجُ
والسَّعْدُ يَرْكُضُ في مَيدانِهِ مَرِحاً
…
جَذْلَانَ والفَلَكُ الدَّوَارُ هِمْلَاجُ
كأن به - والله يبقيه - قد انتقل من مهد التنويم، إلى النَّهْجِ القويم، ومن أريكة الذراع، إلى تصريف اليراع، ومن كَتَد الداية، إلى مقامِ الهداية، والعناية المُخْتَطَفَةِ البداية، جعل الله وقايته عليه عُوذَه، وقَسم حَسَدته بين عُرَم اللحم من مُنْخَنِقَةٍ ونَطِيحَةٍ ومُتَرَدِّية ومَوْقُوذَة، وحفِظَ هلاله في البِدار إلى تِمِّه وبعد تِمِّه، وأقرَّ به عين أبيه وأمه. غير أنني - والله يغفر لسيدي - بيد أني راكعٌ في سبيل الشكر وساجد، فأنا عاتِبٌ وواجِد، إذ كان ظني أن البريد التي بهذا الخبر تُعْمَل، وأن إتحافي به لا يُهْمل، فانعكست القضية ورَابَت الحالُ المرضِيَّة، وفَضَلَت الأُمورَ الذاتية الأمورُ العَرَضية، والحكم جازم، وأحد الأمرين لازم: إما عدم السَّوِيَّةِ ويعارِضُه اعتناءٌ سَببُه مُغَار، وعُهْدَةُ سَلْمٍ لم تَدْخُلها جِزْيةٌ ولا صَغار، أو جهل بمقدار النعمة ويعارِضُه علم بمقدار الحقوق، ورِضى مُنافٍ للعُقُوث، فوقَع الإشكال وربما لطُف عُذرٌ كان عليه الاتِّكال. وإذا لم يُبَشَّر مثلي بمنيحة الله قِبَلَ تلك الذات السَّرِيَة الخليقةَ بالنعم الحَرِيَّة، فمن ذا الذي يُبَشَّر، أو على من يُعرض بزُّها ويُنْشَر، وهي التي واصلت التَّفَقُّد، وبَهْرَجَت المعاملة وأبت أن تَنْقُد وأنست الغربةَ وجُرحُها غير مُنْدَمِل، ونَفَّسَت الكُرْبَة وجُنْحُها على الجوانح مشتمل. فمتى فُرض نِسيانُ الحقوق، لم يَنَلْني فرضٌ، ولا شَهِدت به عليَّ سماءٌ ولا أرض، وإن قصَّر فيما يجب لسيدي عمل، لم يُقَصِّر رجاءٌ ولا أمل، ولي في شَرْحِ حمدهِ ناقةٌ وجَمَل، ومنه جل جلاله نسأل أن يُرِيَه قُرَّة العَيْن في نفسه وبنيهِ، ويجعل أكبَرَ عطايا الهَيَالِج أصغر سِنِيه، ويُقَلّدَ عَواتِق الكواكب البَابَانية حمائل أمَانيه. وإن تَشَوَّف سيدي لِحال وَليِّه فخَلْوةٌ طيبة، ورحمةٌ من جانب الله صَيِّبَة، وبرقٌ يُشام، فيقالُ حَدِّثْ ما وراءكَ يا عِصام. ولله دَرّ شيخنا إذ يقول:
لا بارَكَ اللهُ فيَّ إنْ لَمْ
…
أُصَرِّفِ النَّفْسَ في الأهَمِّ
وكَثّر اللهُ فِي هُمُومِي
…
إنْ كانَ غَيْرُ الخَلَاصِ هَمِّي
وإن أنعم سيدي بالإلماع بحاله، وأحوال الولد المُبارك، فذلك من غُرَر إحسانه ومنزلتُه من لَحْظِ لَحْظي بمنزلة إنسانه؛ والسلام.
وخاطبت صاحب الأشغال العلية الشيخ أبا عبد الله بن أبي القاسم بن أبي مدين أهنيه بتقلد الخُطَّة من رسالة:
تَعُودُ الأمَانيُّ بَعْدَ انصِرافِ
…
ويَعْتَدِلُ الشَّيءُ بَعْدَ انحِرافِ
فإن كانَ دَهْرُكَ يَوماً جَنَى
…
فقد جاء ذا خَجَلِ واعتِرافِ
طلع البشير - أبقاك الله تعالى - بقبول الخلافة المرينية، والإمامة الحسينية، خصها الله بنيل الأمنية، على تلك الذات التي طابت أُرومتها وزكت، وتأَوَّهَت العلياء لتذكر عَهْدها وبكت، وكاد السرّو يتقطع لولا أنها تركت منك الوارث الذي تركت فلولا العذر الذي تأكدت ضرورته، والمانع الذي ربما تقررت لكم صورته، لكنت أولَ مُشَافَهٍ بالهناء، ومصارف لهذا الاعتناء، الوثيق البناء، بنفوذ الحمد لله والثناء، وهي طويلة.
وخاطبت القاضي ابن بطوطة بتَامَسْنَا، وقد عزمت على إثارة الأرض بجواره. لتَعْلَم سيادةُ القاضي شمس الدين، مُعَلّم المواقف الحسبية والميادين، أبقاها الله تحاكي الشمس في الجولة، وظهور الصولة، والحكم على الدولة، وإصلاح حال العَوْلَة أن موجب حقِّها، وشائم برقِها، والعائد بجمعها من فرقها، لما انتبذ وانقطع، واقتطع من جانب العزلة والتخلي ما اقتطع، وقد لاح نور الرضا بقضاء الله وسطع، آمل أن يكون مخدومه الراحة، حتى تندمل الجراحة، وإن أَعْوَزَ المعاش اجْتَدَيْتُ الفلاحة، وتخيرت في البقع بقعة يؤنَس فيها جوار كريم، ويؤمَنُ حَيْفُ غُرْمٍ أوليُّ غريم. فلم يقع الاختيار إلا على البقعة التي لها الفضل بسكنى شمس الدين بين جُرُزَاتها، ووقوف ركائب الاستفادة بين تُوضِحها ومِقْراتها، فالتزمت وارتبطت، واخترت واغتبطت، ووجهت ثقتي لشاء ما يُعِين على الدهر، ويستعد للفلاحة والبذر، خوفاً أن يخرج يومُه، فيرتفع سَوْمُه، ويحاول رَوْمُه، فيضنّ به قومه. وعندي أن القاضي إذا تحقق أن جواره هو المطلوب الأول، والفضل الذي عليه المعول، يَتَغَمَّدُ الفضل والديانة، حتى يَحصل ببركته ثمرةُ الفلاحة حسّاً وثمرة الفَلَاح معنى، وتعتضد الزيادة والحسنى، ويتأسس بهذه اللبنة من قُرْبِه المبنى، ويدعو التمعشُرُ في جواره إلى العشرة والسكنى، والتمتع بفضله الأسنى، ومن نبَّه مثلَه إلى فضل فقد نبَّه كفيلاً، أو جنح إلى بيت مثله أثار مجداً حفياً وقِرّى حفيلا، وما يصدر عن محله من وَفْق الظن به فمقابَل من الثّناء بأجمل صورة، ومن الحمد بأعجز سورة والسلام.
وخاطبت الشيخ الشريف الفاضل أبا عبد الله بن نفيس صُحْبَة ثمن مسكن اشتريته منه، وكان قد أهداني فرساً عتيقاً:
جُزِيتَ يا ابنَ رسولِ الله أفضل ما
…
جَزى الإلهُ شريف البيت يوم جزى
إن أعجز الشكرُ مِني منةً ضَعُفَتْ
…
عن بعض حقك شُكرُ اللهِ ما عجزا
سيدي أبقى الله شَرَفك تشهد به الطباع؛ إذا بعدت المعاهد المقدسة والبقاع، وتعترف به الأبصار الأسماع، وإن جحدت عارَضها الإجماع، بأي لسان أُثني؟ أم أي الأفنان أهصر وأجني، أم أي المقاصد الكريمة أعني؟ أمطيْت جوادك المبارك، وأسكنت دارك، وأوسعت مطلبي اصطبارك، وهضمت حقك وبوَّأت جوارك، ووصلت للغرباء إيثارك، أَشهد بأنك الكريم ابن الكريم، لا أقف في تعدادها عند حد إلى خير جد، فإن أعان الدهر على مجازاة، وإن ترفع كرمُك عن مُوَازاة، فحاجةَ نَفْسٍ قضيت، وأحكام آمال أمضيت، وإن اتصل العجز فعين على القذى أغضيت، ومَنَاصل عزم ما انتضيت، وعلى كل فالثناء ذائع والحمد شائع، واللسان والحمد لله طائع، والله مشترٍ ما أنت بائع، وقد وجهت من يحاول لسيِّدي ثمن ما أكسَبَهُ مجدُه، وسفَر عنه حمده، والعقيدة بعد التراضي، وكمال التقاضي، وحميد الصبر وسعة التغاضي، وكونه الخصم والقاضي، أنه هبة سَوَّغَها إنعامه وأكلة هنَّاها مِطْعامه، نسأل الله أن يعلى ذكره، ويتولى شكره، ويُنْمِي ماله، ويرفع قدره، والولد جاره الغريب الذي برز إلى مقارعة الأيام عن خبرة قاصرة، وتجربة غير منجدة على الدهر وناصرة، قد جعلته وديعة في كرم جواره، ووضعته في حِجْر إيثاره، فإن زاغ فَيَدُهُ العليا في تبصيره، ومؤاخذته بتقصيره، ومن نَبَّه مثله نام، ومن استنام إليه بمهمة أكرم بمن إليه استنام، وإن تشوف سيدي لحال مُحبه فمطلق للدنيا من عقال ورافض أثقال، ومؤمل اعتياض بخدمة الله وانتقال، والسلام.
وخاطبت صدر الفضلاء الفقيه المعظَّم أَبا القاسم بن رضوان بما يظهر داعيته من فحواه:
مَرِضْتَ فأيّامي لِذَاكَ مَريضةٌ
…
وبُرؤكَ مَقْرونٌ بِبُرْءِ اعتِلالِها
فلا راع تلك الذات للضر رائع
…
ولا وسمت بالسقم غر خلالها
وردت علي من فئتي التي إليها في مَعْرَك الدهر أتحيز، وبفضل فضلها في الأقدار المشتركة أتميز، سَحَاءة سرت وساءت، وبلغت من القصدين ما شاءت، أطلع بها سيدي صنيعة وده من شكواه على كل عابث في السويداء، موجب اقتحام البيداء، مضرم نار الشفقة في فؤاد لم يبق من صبره إلا القليل، ولا من إيضاح لسانه إلا الأنين والأليل، ونَوًى مدت لغير ضرورة يرضاها الخليل فلا تسأل عن ضنين تطرقت اليد إلى رأس ماله، أو عابد نوزع متقبل أعماله، أو آمل ضويق في فذلكة آماله، لكنني رجحت دليل المفهوم على دليل المنطوق، وعارضت القواعد الموحشة بالفروق، ورأيت الخطّ يبهر والحمد لله ويروق، واللفظ الحسن تُومِضُ في حبره للمعنى الأصيل يروق، فقلت: ارتفع الوَصب، ورد من الصحة المغتصب، وآلة الحس والحركة هي العصب، وإذا أشرق سراج الإدراك دل على سلامة سَليطه، والروح خليط البدن والمرء بخليطه، وعلى ذلك فلا يقنع بليد احتياطي إلا الشرح، ففيه يسكن الظمأ المبرح، وعذراً عن التكليف فهو محل الاستقصاء والاستفسار والإطناب والإكثار، وزَنْدُ القلق في مثلها أَوْرَى، والشفيق بسوء الظن مُغْرَى، وسيدي هو العمدة التي سلمت لي الأيام فيها، وقالت: حسب آمالك ويكفيها، فكيف لا أشفق، ومن أنفق من عينه فأنا من عيني لا أنفق، والله لا يحبط سعيي في سؤال ولا يخفق، ويرشد إلى شكره على ما وهب منها ويوفق، والسلام الكريم على سيدي البر الوصول، الذي زكت منه الفروع لمّا طابت الأصول، وخلص من وده لابن الخطيب المحصول ورحمة الله.
فراجعني حفظ الله سيادته بما نصه:
متى شئتُ ألفي من علائك كل ما
…
يُنيلُ من الآمال خَيْرَ مَنَالِها
كَبُرْءِ اعتلال من دعائك زارني
…
وعاداتُ بِرٍّ لم تَرِمْ عن وِصَالِها
أبقى الله ذلك الجلال الأعلى متطولاً بتأكيد البر، مفضلاً بموجبات الحمد والشكر، وَرَدنْني سحاءته المشتملة على معهود تشريفه، وفضله الغنى عن تحريفه متحفياً في السؤال، عن شرح الحال، ومعلناً بما تحلى به من كرم الخلال، والشرف العال، والمعظم على ما يسر ذلك الجلال الوزاري الرياسي أجراه الله على أفضل ما عوده، كما أعلى في كل مكرمة يده، ذلك ببركة دعائه الصالح، وحبه المُخيِّم بين الجوانح، والله سبحانه المحمود على نعمه، ومواهب لطفه وكرمه، وهو سبحانه المسؤول أن يمنى لسيدي قرار الخاطر، على ما يسره في الباطن والظاهر، بمن الله وفضله، والسلام الكريم على جلاله الأعلى ورحمة الله. كتبه المعظم الشاكر الداعي الذاكر المحب ابن رضوان وفقه الله، في الثلاثين من ذي الحجة خاتم أحد وستين وسبعمائة.
وخاطبت الفقيه السري أبا عبد الله الكناني وقد صرف عن خطة الأشغال إلى الخدمة بسجلماسة في سبيل إعراض من المقام السلطاني شَعَبَ الله شته ولَمّ شعثه فهو أهل النعمة، ومحل التجاوز عن الهفوة.
أصبحتَ سهماً من كنانة صائباً
…
يمضي إلى هدف الكمال ونحره
وأبو المكارم جدك الأرضَى الذي استول
…
ى على سرِّ الجلال وهجره
ما كان يُدعى بالمكارم كنيةً
…
إلا بكونِك ثاوِياً في ظهره
سيدي الذي لساني مُرْتَهَنُ حمده وجَناني مستودع وده، أقسم بمن فضلك على أبناء جنسك، ومنابت غَرْسِك، وجعل يومك في الفضل مربياً على أمسك، ما مرَّ يوم إلا ولي فيه لعلاك ذكر وحمد وشكر، وهمٌّ بلقائك وفكر، لِمَا استجلبت من جمال يثير الكلف، وجلال يذكر بمن سلف، ولما تعرفت ما كان من الانصراف وتطويق الاقتراف، وتصحيح المثل في:) الأطراف منازل الأشراف (ارتمضت وما اغتمضتُ ثم شكرتُ الله على نعمه، وتبينت مواقع لطفه بك وكرمه، فإنك والله عرضة لإصابة العين، ووقعها - ونعوذ بالله - ليس بالهين، وكم بين المشوب والمحض وبعض الشر أهون من بعض. ويتفاضل الدهر في العض، ولله عناية ببقاع الأرض، فإن كانت سجلماسة قبل اليوم يجلب منها التبر إلى دار الملك، فقد رد إليها الذهب الإبريز بعد السبك، ولا بد أن يصول الحق على الشك، فتعود الأمور إلى معتادها، وتُحلِلُّكَ العَلياء محل فؤادها، فإِنما هو تَجْميم، ووراه إنعام عميم، ومن الله أسأل أن يصل لك أسباب العز آمنة من الانصرام، ولا يقطع عنك عوارف الإنعام، والسلام.
وخاطبت الوالي بمكناسة أبا محمد عبد الله بن محمد من الجلة أُولي المروءة والحشمة مع شخص من أصحابنا أولي التراتيب الغريبة:
عبد الإلهِ بنَ عُثمان ابقَ في دَعَةٍ
…
عِنايةُ اللهِ تَحميها وتَكفيها
لو لم يكنْ لِبلادِ الغَربِ مَحْمَدَةٌ
…
إلا بكونِكَ يا قُطْبَ العُلى فيها
لكَ الحقوقُ التي مهما اعترفتُ بها
…
لا يستطيعُ لِساني أن يُوَفِّيها
لا زلتَ تختالُ للنعماِ في حُلَلٍ
…
عليك لله يُبديها ويُخفيها
كَرُمْتَ ذاتاً ومَجْداً واشتهرتَ سَنىً
…
فزادك الله تِّنْوِيهاً وترفيها
أبقاكم الله، الواصلُ بهذه إلى رياستكم، طبقة الدنيا، وواحدها من غير ثُنيا، الشهير عند كل غني وصعلوك، المجترئ على بيوت الأشراف ودسوت الملوك، توجه إلى الباب السلطاني لتقرير وسيلته والتماس فضيلته، وله من رَعْي السيادة الخطيبية محل، وفي ندى برها ظَعن وحِلْ، فأردت إطراف مجلسكم بلَيْلَتِه ليكون ممن يرفع من صيته، وأنا على ما تعلمون من شكر يطيل ويطيب، وعلى المحافل منه خطيب وابن خطيب والسلام.
وخاطبت قاضي الجماعة الشيخ الفقيه جملة الوقار وكبير الطلبة وقد نالته مشقة جرَّها غلطُ الخدام السُّوءِ واشتراك الأسماء أعتبه عندها السلطان وخلع عليه وأشاد بقدره بما نصه:
تعرفتُ أمراً ساءني ثم سرَّني
…
وفي صحة الأيام لا بدَّ من مَرَضْ
تعمَّدَكَ المحبوبُ بالذَّاتِ بعدما
…
جرى ضدُّه واللهِ يكفيه بالعرض
في مثلها أبقى الله سيدي يُحْمَدُ الاختصار، وتقصر الأنصار، وتطرق الأبصار، إذ لم يتعين ظالم، ولم يتبين يَقِظ وحالم، إنما هي هَدية أجر، وحقيقة وصل عَقبت مَجَاز هجر، وجرح جُبار، وأمر ليس به اعتبار، ووقيعة لم يكن فيها إلا غبار، وعَثْرة القدم لا تنكر، والله سبحانه يُحْمَد في كل حال ويُشْكَر، وإذا كان اعتقاد الخلافة لم يَشُبْهُ شائب، وحسن الولاية لم يعبه عائب، والمرعى دائب، والجاني تائب، فما هو إلا الدهر الحسود، لمن يسود، خَمَشَ بيد ثم سترها، ورمى عن قَوْس ما أصلحها - والحمد لله - ولا أَوْتَرَهَا، إنام باءَ بِشَيْنِه، وجنى من مزيد العناية سخنة عَيْنِه، ولا اعتراض على قَدَر، أعقب بحط مُبْتَدَر، وَوِرْد نغصَ بكدر، ثم أَنَّسَ بأكرم صَدَر، وحسبنا أن نحمد الدفاع من الله والذَّب، ولا نقول مع الكَظْم إلا ما يُرضي الرب، وإذا تسابق أولياء سيدي في مضمار، وحماية ذِمار، واستباق إلى بِرٍّ وابتدار، بجُهدِ واقتدار، فأنا لا فَخْرَ متناول القَصَبة، وصاحب الدين من بين العَصَبة، لِمَا بلوت من برٍّ أوْجبه الحسب، والفضل الموروث والمكتسب، ونصح وَضَحَ منه المّذْهب، وتنفيقٍ، راق منه الرداء المُذهب، هذا مُجْمل وبيانُه إلى وقت الحاجة مؤخر، ونبذة شره لتعجيلها يراع مسخر، والله يعلم ما انطوى عليه لسيدي من إيجاب الحق، والسير من إجلاله على أوضح الطرق، والسلام..
فراجعني أعزه الله وأبقاه بما نصه:
وأيْمُ الله إبرازاً لأَيْمِ
…
لقد جلَّى كتابُك كلَّ غَمٍّ
وساهم في الحوادث مَنْ رَمَتْهُ
…
ففاز من الوفاء بخيرِ سهم
يا سيدي أمدّ الله في أنوار تلكم الطريقة المُثلى وبارك، وجزاها جزاء من ساهم على الحقيقة في الجُلَّى وشارك؛ وصل كتابكم الصادق الصفاء، الصادر عمن لم يرض من الوفاء باللَّفَاء فَبَأَي من صدع الأيام ورَأَبْ، وَنَأَى في دفع الأوهام وقرب، وهو الدهر أبقاكم الله لا تُثَنَّي فَلَتَاتُه، ولا يُبنى على عَقْدِ صَفَائه، يوم لِوَى ولائه، إلا كَدَّرَه بالنقص مُفْتَاتُه. هذا ولو حاسَبَ الإنسان نفسه لاستحقَرَ ما استعظم، وعلم أن ما لا يرى مما وقَى الله أعظم، فأناةً، ومن جُنِيَ عليه فليستغفر الله فَغَفْراً اللهم غَفْرَاً، وحمداً على السراء والضراء وشكراً، وسيدي أعزه الله المشكورةُ أياديه، المبرورةُ غاياته الجميلة ومباديه، وهو سبحانه يعين على واجبكم ويشكر في حسن الإخاء جميل مذاهبكم، والسلام يخصكم، ورحمة الله تعالى وبركاته. وكتب محمد بن أحمد الفشتالي أَلْهَمَهُ الله تعالى رشده: وخاطبت بعض الفضلاء بقولي مما يظهر من الجملة غرضه.
تعرفتُ قُرْبَ الدار ممن أحبه
…
فكنتُ أَجِدُّ السير لولا ضروره
لأَتْلُوَ من آي المحامد سورةً
…
وأُبْصِرَ من شخص المحاسن صوره
كنت أبقاك الله تعالى لاغتباطي بولائك، وسروري بلقائك، أَوَدُّ أن أطوي إليك هذه المرحلة، وأجدد العهد بلُقياك المؤملة، فمنع مانع، وما ندري في الآتي. الله صانع، وعلى كل حال فشأني قد وضَح منه سبيل مسلوك، وعَلِمَه مالك ومملوك، واعتقادي أكثر مما تسعه العبارة، والألفاظ المستعارة ومُوَصِّلُها ينوب عني في شكر تلك الذات المستكملة شروط الوزارة، المتصفة بالعفاف والطهر والسلام.
وخاطبت الشيخ أبا الحسن بن بطّان بقية الرعيل وخاتمة الأسرياء أهنيه بولده عبد الواحد حائز قصب السباق في كثير من الخصال الحميدة بعد اغتراب وشدة وانبتات بالبلاد الشرقية عظم لأجله بثُّه إلى أن تأَتّى خلاصه:
يَهْنِيكَ مَقْدِمَ عبدِ الواحدِ ابنك عن
…
مَطْلٍ بوعدٍ مِنَ الأيامِ مَرْقُوبِ
كيوسُفٍ كان في فِعْلِ الزمان به
…
وكنتَ في البَثِّ والشكوى كيعقوبِ
قد علم الله، وهو الذي يعلم السرَّ الخفي ويميز الماذِقَ والوفي، أنني أيها الفاضل الذي إليه في المجد الإشارة، وباجتماع شمله ذاعت البشارة، من يوم وقع عليك بصري ووجب عن حصر كرمك حَصَري، ورأيت منك كوكب السَّحَرِ الذي أخذ أعقاب النجوم، والصبح مرتقب الهجوم، وبقية الغيث السَّجوم، والزمان كثير النيازل والرُّجوم، وأَسِيتُ لفراق ابنك إذ جوانحي بالفراق جِدُّ مكلومة، وأسوارُ صبري بمنازلة الوَدَاع أيُّ مثلومة، ونفسي بالرقة المسترقة معلومة، وفي الجزع للبَيْن غير ملومة. لم أزل أضنُّ على الحوادث بذاتك، وأُوسعُ الأيامَ ذمّاً في أذاتك، وأرغب في بقاء رسم المروءة ببقاء حياتك، وآمل جمع شملك بعين أهلك، وأحتقر في جنبه ما أملِك وما عسى اليوم أن أملك، وأما ما يرجع إلى تخليد ذكرٍ جميل، وتنفيقٍ في محل تأميل، وهز الخلافة إلى رعيك وإحمادِ سعيك، فأمر لم آلُ فيه جَهْداً، فقد أوسعته حرصاً لا زُهداً، ونشرتُ لك بأبوابهم منه بنداً، وجنَّدت جنداً، وكنت عينت الشكرانَ من أجلك إذا جَمَعَ الله شملَكَ بنجلِك، فلمَّا تعرفتُ خلاص بدره من سِرَارِه ودُنوِّ داره، ورجوعه بعد الميل إلى مَدَاره، ثم نظرت إلى محاسنه بعين نابتة عن عينك، وسرني حسنُ القضاء بعد أن مَطَلَ الدهر بدَيْنك، شاهدت فاضلاً في فراق مثله يحسنُ الجزعَ ويرفض الصبر المنتزع، وابنا مزيته على البنين، مزيةُ سنةِ الهجرة على السنين، حفظ الله كمالَه، وبلَّغ كلَاّ منكم آمالَه، وأعانه على تأدية حقك الذي لا يوسع الشرع ولا الطبع إهماله، وحمدتُ الله وشكرتُ، ورحت في طلق المسرة وابتكرت، ورحمت وعذرت، ووَفيتُ بما نذرت، ولم يقنعني إلا بعت من يشافه بهنائك في أحب أبنائك، ولولا أنني ملازم حرمة لا أبْرَحُهَا ومغمور جراية لا أرفضُ حقوقَها ولا أطرحُها، ومؤملُ آمالٍ لا أشرحها، لم يقنعني إلا إعمال الركاب بَدَلَ إعمال الكتاب، فمثلي إذا عرف مثلك التزم، وقطع بموجب الوفاء وجَزَم، وفي وضع الأيادي مواضعها حَزْمُ من خَدَم، والله أسأل أن يجعل شملكم شملاً محفوظاً، وبعين الجمع على الأيام ملحوظاً، ومقْدماً مجدوداً محفوظاً، ويمتع الفروعَ بالأصل، والأصول بالفرع، ويجعله ربْعا بالبَيْن غير مَروع، ويعين من البر على الحق المشروع. والسلام.
وخاطبت السلطان أبا عبد الله بن نصر جبره على الله عند وصول ولده من الأندلس:
الدَّهرُ أضْيَقُ فُسْحَةً من أن يُرى
…
بالحُزنِ والكَمَدِ المُضَاعَفِ يَقْطَعُ
وإذا قَطَعْتَ زمانَه في كُرْبَةٍ
…
ضَيَّعْتَ في الأوهام ما لا يرجع
فاقْنَعْ بِمَا أعْطاكَ دَهرُكَ واغْتَنِم
…
منه السرورَ وخَلِّ من لا يقنع
مولاي الذي له المِنَن، والخَلْقُ الجميلُ والخُلُق الحسن، والمجد الذي وضح منه السَّنَنْ، كتبه عبدُكَ مهنئاً بِنِعَمِ الله التي أفاضها عليك، وجلبها إليك، من اجتماع شملك، بنجلك، وقضاء دَيْنِك، من قرَّةِ عينك، إلى ما تقدَّمَ من إفلاتِك، وسلامة ذاتك، وتمزُّق أعدائك، وانفرادك بأَوِدَّائِك، والزمن ساعةٌ أو أقْصَر، لا بل كَلَمْحِ البصر، وكأني بالبساط قد طَوِي، والتراب على الكل قد سُوِّي، فلا تَبْقَى غبطةٌ ولا حسرة، ولا كُربة ولا مَسَرَّة، وإذا نظرتَ ما كنتَ فيه، تَجِدُكَ لا تنالُ منه إلا أكلةً وفراشاً، وَكِنّاً ورياشاً، مع تَوَقُّعِ الوقائع، وارتقابِ الفجائع، ودُعاء المظلوم، وصُدَاع الجائع، فقد حَصَل ما كان عليه التّعَب، وأُمِنَ الرَّهَب، وَوَضِحَ للأجر المَذْهَب، والقدرةُ باقية، والأدعية راقية، وما تدري ما تحكم به الأقدار، ويتمخض عنه الليل والنهار، وأنت اليومَ على زمانك بالخيار، فإِن اعتبرتَ الحال، واجتنبتَ المحال، لم يَخْفَ عليك أنك اليومَ خَيْرٌ منك أمس، من غير شك ولا لَبْس، وكان من أملي التوجُّهُ إلى رؤية ولدكم لكن عارضتني موانع، ولا ندري في الآتي ما الله صانع، فاسْتَنَبْتُ هذه في تقبيل قَدَمِه، والهناءِ بمقدمه. والسلام.
وخاطبت الشيخ الجليل الوفي أبا الحسن علي بن بدر الدين بن موسى بن رَحُّو ابن عبد الله بن عبد الحق وقد وصل مُزْعَجاً عن الأندلس بسبب ما تقدم من وفائه واستقر بمدينة فاس، وبيني وبينه صداقة توجب النُّصح، وتقتضي الشفقة:
يا جُمْلَةَ الفَضْلِ والوَفَاء
…
ما بمعاليكَ مِنْ خَفَاءِ
عنديَ بالوُدِّ فيك عَقْدٌ
…
صحَّحَه الدهرُ باكتفاء
ما كنتُ أَقْضِي عُلَاكَ حقاً
…
لو جئتُ مدحاً بكل فاءِ
فَأَوْلِ وَجْهَ القَبُولِ عُذْرِي
…
وجَنِّبِ الشكَّ في صَفَاءِ
سيدي الذي هو فَصْلُ جنسه، ومزيةُ يومه على أمسه، فإن افتخر الدين من أبيه ببدره، افتخر منه بشمسه، رَحَلْت عن المنشأ والقرارة، ومحل الصَّبْوةِ والغَرَارة، فلم تتعلق نفسي بذخيرة، ولا عَهْدِ جيرةٍ خيرة، كتعلقها بتلك الذات التي لطُفَتْ لطافَةَ الرَّاح، واشتملت بالمجد الصُّراح، شفقة أن تصيبها معوةٌ والله يَقِيها، ويحفظها ويُبْقيها، إذ الفضائلُ في الأزمان الرذْلَةِ غوافل، والضدُّ عن ضده منحرفٌ بالطبع ومائل، فلما تعرفتُ خلاصَ سيدي من ذلك الوطن وإلقاءَه وراء الفُرضة بالعَطَن، لم يبق لي تَعِلَّة، ولا أحرضتني له علة، ولا أُوتِيَ جمعي من قلة، فكتبت أهنئ نفسي الثانية بعد هناء نفسي الأولى، وأعترف للزمن باليد الطولى، فالحمد لله الذي جمع الشملَ بعد شتاته، وأحيا الأنس بعد مماته، سبحانه لا مُبَدِّلَ لكلماته، وإياه أسأل أن يجعل العصمةَ حظَّ سيدي ونصيبه، فلا يستطيعُ حادثٌ أن يصيبه وأنا أخرج عن بثِّ كمين، ونُصْحٍ أنا به قَمِين، بعد أن أسْبُرَ غَوْرَه وأَخْبُرَ طَوْرَه وأرصد دوره، فإن كان له في التشريق أمل، وفي ركب الحجاز ناقةٌ وجَمَل، والرأي فيه قد نجحت منه نيةٌ وعمل، فقد غَنِيَ عن عوفٍ والبقرات، بأزكى الثمرات، وأطفأ الجَمَرات، رَمْيُ الجَمَرات، وتأنَّسَ بوصل السُّرى ووِصَال السَّراة، وأَنَا لَهُ إن رضيني أرضى مُرَافق، ولواءٌ عزى به خافق، وإن كان على السكون بقاؤه، وانصرف إلى الإقامة اعتناؤه، فأمرٌ له ما بعده، والله يحفظ من الغِيَرِ سَعْدَه، والحق أن تحذفَ الأبهةُ وتُخْتَصَر، ويُحْفَظَ اللسانُ ويغضَّ البصر، وينخرطَ في الغِمار، ويُخَلَّى عن المضمار، ويجعل من المحظور مداخلةَ من لا خَلَاق له، ممن لا يقبل الله قولَه ولا عَمَلَه، فلا يكتم سراً ولا يتطوَّقُ من الرجولة زِرَّاً، ورفْضُ الصحبة زمامُ السلامة، وترك الملامة على النجاة علامة، وأما حالي فما علمتم مُلازمَ كِنْ، ومَبْهُوظَ تجربة وسن، أُرجِّي الأيام، وأَروم بعد التفرق الالتئام، خالِي اليد، مليء القلب والخلَد، بفضل الواحد الصَّمد، عاملٌ على الرحلة الحجازية التي أختارها لكم ولنفسي، وأَصِلُ في التماس الإعانة عليها يومي بأمسي، أوجب ما قررته لكم ما أنتم أعلم به من ود قررته الأيام والشهور، والخلوصُ المشهو، وما أطلتُ في شيء عند قدومي على هذا الباب الكريم إطالتي فيما يختص بكم من موالاته وبذلُ مجهودِ القول والعمل في مَرْضَاته، وأما ذكركم في هذه الأوضاع فهو مما يُقِرُّ عين المَجَادَة، والوظيفة التي ينافس فيها أولو السيادة، والله يَصِلُ بقاءكم، وييسر لقاءكم، والسلام.
وخاطبت أبا الحسن القرموني من خدام السيادة الخطيبية، ولما وقعت إليه الإشارة حكاية بتونس أيام استيلاء الملك المريني عليها: حملني أعزك الله على قصدك، وتحقيق رصدك، ما حدَّثوا بتونس عن يوم فَصْدك، وأن العاقل ودَّ يومئذٍ أن يكون حجَّاماً، ولا يعرف أسراجاً في ابتغاء الفضائل ولا لجاماً، ومصَّاصاً، ولا يعرف امتازاً بالمعارف ولا اختصاصاً، إلى ليلاتك التي فضحت الظُّلمَ، وأمست لياليَ في سَلَم، وأضحت لشهرتها ناراً فوق علم، إذ باتت العيدان مصطفةً اصطفافَ الهدْي، آخذةً ما بين رأس السرطان إلى رأس الجَدْي، وقلتُ نفسٌ لا تدينُ بالإِمساك ولا تلين لوعظ النساك، لا بد تحت هذه السفرة من نفاضة، وحول هذه الزرة من قراضة، فلما رأيتك رأيت مخيلةَ رجولة، في طلعة مقبولة، وعلمت أن اختصاص سيدنا باستعمالك، وعدم إهمالك، قبول لشهادة مُزكِّيك، وبيانٌ يرفعُ التشكيك، فاستعنتُ بعزك وطعنك وضربك، وقد بلغني جميل بلائك وإن كان ضعيفاً، لكنَّ الله سبحانه وله المثل الأعلى يقبل رغيفاً والشكر واجب، والعمل الصالح لا يحجبه عن الرُّقيِّ حاجب، فخاطبتك شاكراً، وبفضل ما صدر عنك ذاكراً. والسلام.
وقلت أخاطب صاحبه محمد بن نوَّار من الخدَّام وقد أعْرَسَ ببنت مِزْوَارِ الدار السلطانية وهو معروف الوسامة وحسن الصورة:
إن كُنْتُ في العُرْسِ ذا قُصُورٍ
…
فَلَا حُضُورٌ ولا دِخالَهْ
يَنُوبُ نَظْمي مَنَابَ كَبْشٍ
…
والنَّثْر عَن قُفَّةِ النُّخَالَهْ
هنَّاكم الله دعاءً وخَبَرا، وألبَسَكم من السرور حَبَرا، وعوَّذَكُم بالخَمْس، حتى من عين الشمس، فَلَعمري لقد حصلت النسبة، ورضيَتْ بهذه المعيشة الحِسْبة، ومن يكن المزوارُ ذَوَاقَه، كيف لا يَشقُّ البدرُ أطواقَه، وينشئ القَبولُ عليه رُوَاقَه، وأنتم أيضاً بركانُ جمال، وبقيةٌ رَسْمَال، ويمينٌ في الانطباع وشِمَال، بمنزلكم اليومَ بدرٌ وهلال، ولعقد التوفيق بفضل الله استقلال، فأنا أهنيكم بتَسَنِّي أمانِيكم. والسلام.
ومن المنثور رسالةٌ سميتُها قَطْعَ الفَلاةِ، بأخبار الولاة: بات عندي أحد الشرفاء ممن شأنهُ انتيابُهم، فأجرى ذكر جميعهم وميَّزَ بين أدناهُم ورفيعِهم، فَضَمَّنْتُ ذلك الكلام [المُحَبَّر] وسميته بما ذكر، ونصها: حدَّثَ مَنْ يَنْظِمُ فوائدَ الأخبار في سِلْكِ قَصَصِه، ويدوس حيَّاتِ الطُّرُق بأخمصه، ويطارد شوارد المكارم فَتُصْبِحُ من قنصه. فقال: فبينما أنا في بعض الطرق وقد وَصَتْ الهاجرة، وتبرجت المفازةُ الفاجرة، وسَوْرَةُ القيظ، تكاد تَمَيَّزُ من الغيظ، وشَهْرُ ناجر، قد أخذ بالحناجر، والشمس قد ركبت سَنام خط الزوال، ومُدْرَجَةُ الصَّبَا قد ضنَّت بالنوال، وصمتت عند السؤال وقد تشاجرت الجنادب، واحتفلت لِعُنَاتِها تلك الولائمُ والمآدب، وتباعدت من الفضاء الأخرقِ المناكب، ومدَّت نسيج الآل العناكب، والطيَّة تُطَفِّفُ في المسير، والمطيةُ قد سئمت الذَّرْعَ والتكسير، والظلّ مرامُهُ من العسير، والماءُ بمنزلة الأكسير، إذ رُفعت لي على البُعد سَرْحَةٌ فريدةٌ عن اللِّدات، والوشائج المولَّدات، فهي في المجهل شامة، وللركائب رُكْنٌ مُسْتَلضمٌ بشامة، كأنها في جلد اليباب شامة، فَمِلْتُ إلى سَمْتِهَا وانحرفت، وثنيتُ العِنَانَ نحوها وصَرَفت، فما كان إلا فُوَاقُ حَرْف، لا بل ارتدادُ طَرْف، حتى غشيتُ منها عَقِيلةَ فَلَاة، وخِدْرَ سِعْلاة، ذات عمودٍ سام، وطَنَب تكنّف بني حامٍ وسام، ظلَّلَت من الأرض حجراً مدحوَّاً، ومَهْرَقاً من حروف المرو مَمْحُوَّاً، ودَمْثاً سهلاً، ورحباً وأهلاً، وشيخاً وكهلاً، وعلماً وجهلاً، هَرِمَةً مسنةً، تتخلل سماءَهَا الخضراء شُهْبَانٌ أَسِنَّة، وتتشبث بأهدابها أرسانٌ وأَعِنّضة، وتموج في ظلها إنْسٌ وَجِنَّة، كأنما ضربت الصخرةَ الصَمَّاءَ بعصاها، فأطاعها العذبُ الفُراتُ وما عصاها، فانساب بين يديها ثعبانٌ تُراعُ له وهادٌ وكُثبان، يشف حشاه عن حصىً تُغَلّطُ العارفَ من الصيارف، وتوهم الأمْلِيَاءَ انتهابَ نقودها والغواني انتثارَ عقودِها، لا تستطيع الجوارحُ مُصَابَرةَ خَصَرِه، ولا يماثله الشهدُ بمُجاج معتصِره، فَحَيَّيْتُ الجمعَ بأحسنَ تحياتِه، وأتحفت الروح من ذلك العذب البَرُود بحياته، وتَلَوْتُ) كذلك يُحْيِي اللهُ الموتى ويُريكم آياتِه (، وقلت حيَّاكِ اللهُ من خميلة، وفاتنة جميلة، وتمثلت بقول ابن قاضي ميلة:
وقانا وَقْدَةَ الرَّمْضَاءِ روْضٌ..
…
وقاهُ مضاعَفُ الظِّلِّ العَمِيمِ
قَصَدْنَا نَحوَهُ فَحَنا علينا
…
حُنُوَّ الوالِداتِ على اليَتيمِ
يُراعي الشَّمْسَ أَنَّى قابَلَتْنَا
…
فَيَحْجُبُها ويَأْذَنُ للنسيم
وسقَّانا على ظَمَأٍ زُلَالاً..
…
أَلَذَّ مِنَ الشَرَابِ مَعَ الكَرِيمِ
يَرُوعُ حَصَاهُ حَالِيةَ العَذَارَى
…
فَتَلْمَسُ جَانِبَ العِقْدِ النَّظيم
وكان في جُملة من اغتنم المقيل، واستنصر على عدو الظمأ ذلك العَضْب الصَّقيل، وألمّ بالنوم الخفيف على الرَّحْلِ الثقيل لَائِثُ عِمَّةٍ على هِمَّة، ومستظهر بِوَفرٍ وَذِمَّةٍ، ورَعْيِ ذمة، قد عبث الوَخْطُ منه بِلشمّضة، وجَلَتْ منه الخلَّةُ عن كاشفِ مُلِمَّة، بين يديه عِتاقٌ قُود، وعبيدٌ) تَحْسَبُهمْ أيْقَاظاً وهُمْ رُقُود (، فاشرأَبَّ عند سماع إنشادي، كما يشرئبُّ الرِّيمُ، وهزت حُميَّا الأدب منه عِطْف كريم، وصاح بصوتٍ جهير ينبئ عن منصبٍ شهير: من هذا الطارق؟ ومتى أوْمض هذا البارق؟ إني لآنَسُ مخيلة، غير بخيلة، وأنظرُ إلى مَظِنة، غيرِ ذاتِ عنّضة ليَدْنُ مِنِّي جُؤارك، ويُرْعَ جوارك، ويفتّح نوّارُك، وتتألق أنوارُك، ولم يزل يَحأْحِئُ ويُبَسْمل، ويُيَسِّرُ ويُجَمِّل ويرعى ولا يهمل، فلما دَنَوْتُ من مِهَادِه، وركضتُ في رُبَى الحديث ووهاده، وأصَبْتُ من زاد طريقه، وانخرطت في فريقه، وأطرفتني بأحاديث تغريبه وتشريقه، سفر منه الاختبار عن نِجَارٍ هاشمي، وكَرَمٍ حاتمي، ودارٍ فاسي، ومنصبٍ رياسي. ولمّا انخفض قرنُ الغزالة، ولَانَ طبعُ الهواء من بَعْد الجزالة، ولم يبق من عمر اليوم إلا القليل، وَرُقْيَةُ النسيم تتردد على الأصيل العليل، وهو يجود بنفسه، ويسلك مسلكَ أمسه، والغرب يبتلع قرصَةَ شمسه، فَهُنَا نَقْضِي الدَّيْن، ونُقلّدُ رَقْمَ العِذَارِ كلَّ أسِيل الخَدَّيْن، ونغتنم ثاني الأبردين، فرفعت الرحال من فوق الظهور، وسرنا بنَصِّ السير على المذهب المشهور، وتركنا البيناتِ إلى جادة الجمهور، وقلت أيها الرفيقُ البَرُّ الصحابة، الأغرُّ السحابة، إن الشُقَّة بعيدة، والمَشَقَّةَ مُبْدِيَةٌ مُعيدة، ولا يُستعان على المراحل إذا سطت واستطالت، وليالي السُّرى إذا تَمَطَّتْ وطالت، إلا بتقارب الأخبار المنقولة، والآداب المهذبة المصقولة. فقال: أَثِرِ الكامن، وازْجُرِ الميامن، وابغِ الفَلك الثامن، واطلبْ غريم الغرائب، وأنا الضامن. قلت: أفسح لي مجالَ غرضك، واشرح لي معنى جَوْهَرِك وعَرَضِك، وَطِيَّةَ سفرك وعَوْدِكَ بِظَفَرِكَ إلى نَفَرِك. فقال أنا كالشمس أَجُوبُ هذه المنازل مرة في كل سنة، وأُحْصِي كلَّ سَيِّئَةٍ وحسنة، أطوي الفلاة، وأُبَهْرِجُ الوُلاة، فهم يرقبون النّوْبَة ويتوقعون الأوْبَة ويستعدون لخروج دابتي التي تُكلِّمُهُم بالإقلاع والتوبة، فأُسْعِطُ الأنوف، وأنتزع حتى الشنوف، وأُحَكِّمُ لساني فيمن ينساني، وأجود بظلِّ نيساني مَنْ يُقِرُّ إنساني، وأداول بين إساءتي وإحساني. وأتصدى للهدية الوِدِّية، وآنفُ من العطية البَطِيَّة، وأُوسِعُ البخيلَ هَجْرَاً وأُسْمِعُه هُجْرَاً. وأُقَرِّظُ مَنْ كَرُمَ نَجْرَاً، وَوَضَح فجراً، [قُلْ لَا أَسْألُكُمْ عَلَيهِ أَجْرَاً] . فلا أزال أطلق عنانَ الصولة في جو الجولة، مُستظهراً بوسيلة البيت ومنشور الدولة، أَسْلُو الخاملَ في تَرَفُّهِ النبيه، وأحكمُ للشبيه بحكم الشبيه ولا أقبل عذراً لبطئ ولو شغلته خِفَارَةُ أبيه، أهجم هجوم السيل بالليل، وأجُرُّ على البيوت فضلَ الذَّيل، وأتَقَلَّبُ تَقَلُّبَ الفَلَكِ بين الاستقامة والمَيْل، وأَزِنُ كل بضاعة فأبْخَسُ في الوزن أو أُطفف في الكيل، وأُغررُ غرة الصباح بغرر الخيل، ولو على حي عامر بن الطفيل، وأرحل عن الحلة وقد هَمَدَتْ بعد ارتجاجها، وَسَكَنَتْ قَسَاطِلُ عَجَاجِها، وَصَمَتَ أَذينُ دَجَاجِها. وَفَلِيَتْ على الحرس رءوسُ مَحَاجِّها. وأعودُ والصُّرة لا يجتمع مِغْلَافُها، والبِدْرَةُ لا يُقِلُّهَا مِعْلاقُها، والعِيَابُ، يَصْعُبُ معها الإياب، وتبرز من خلال أستارها الثياب، والخيل تمرح في الأرْسَان، وتختال في السُّروج المحلاة والجِلَالِ الحسان. قلتُ لَعَمري لقد اتصل نطاق الكلام، وطال مدى التلاوة بين هذه الإقامة والسلام، فأَعرِضْ لي القوم عرضاً، وصِف الموارد عَمْداً وفرضاً، وميز الهمم سماءً وأرضاً، وأخبِط العُصاةَ بعصاك حتى ترضى. فقهقه قهقهة الشقشاق، وتأوه تأوه العشاق، وكأنما كانت حاجةً في نفسه فقضاها، وعزيمةً يتجاذبها الكسل فأمضاها، فشام نصاله وانتضاها وقال خذهم بالتلابيب واجتثَّهم بِحُجَزِ الجلابيب، وَعِثْ عَيْثَ الغزالة وَشَبِيب في كل عرف وسيب، وابدأ بمن تريد. وارسل شهابَ فكرِك خلف كل شيطان مَريد، وَمَنْ غاب
عنك فخيل البريد. قلت: الحضرة وجُباتها، والمزرعة العظمى ونباتها وأفْتَتحُ الصرائمَ بمحمد بن أبي القاسم. فقال: شيخٌ موقَّرٌ، والمنصِب ما لم يصُنه مُحَقَّر، مُرْعٍ على رُتب الخدمة. قديمُ الاصطناع والنعمة، مؤتمنٌ على الحساب منتسِبٌ للأمانة أتمَّ الانتساب، نبيهُ العَقَار والاكتساب، مُوجِبٌ حقَّ أُولِي الأحْسَاب قلت) بياض (قال فارسُ زِمام، ومتمسك بذمام، ومُصَلٍّ خلف إمام. يناقش ويدقق ويعاود ويحقق، وهو عن الصَّبوح يرقق. فغريمه مُتعَب. مهما عسَّر وصَعَّب، واستوفى واستوعب:
كَعُصْفُورَةٍ في كَفِّ طِفْلٍ يَسُومُهَا
…
تَرودُ حِيَاضَ المَوْتِ والطِّفْلُ يَلْعَبُ
وعلى الرتبة الشماء. والخُلُق اللطيفة كالماء، فبينه وبين ابن عمّه ريحانة الكرماء وشهاب الظلماء ما بين الحروف والأسماء، لا بل بين الأرض والسماء:
وقَدْ يُسَمَّى سَماءَ كلُّ مُرْتَفَعٍ
…
وإنَّمَا الفَضْلُ حَيْثُ الشَّمْسُ والقَمَرُ
قلت) بياض (قال: خدوم، وقاضي سَدوم، وموجود معدوم، مَخِيلٌ بالنُّبْل، ومحيد عن السُّبْل، ويخلط أرضاً وسماء، ومُسَميّاتٍ وأسماء، يحسَبه الظمآن ماء. قلت: فابن القوار؟ فقال: شختور يسبح، وقصاب يذبح، وتاجر في كل نفس يربح، انسحب عليه القبول من لَدُن صباه، وصاح به الجَدُّ فلبَّاه، شأنه الدهر غمزٌ وإشارة، ونِذارة وبشارة، محظوظ مجدود، عِقْدُ حرصِه مشدود، وهو في الكُفَاةِ معدود. قلت) بياض (؟ قال: فارة، وقضاءٌ وكَفَّارة،) وبَقِيَّةٌ مما ترك آلُ موسى وآلُ هرون (تحت غفارة، وبعوضة في الآذان، تغني عن الاستئذان، وتَطْرُق حتى سُباتِ الإقامة والأذان، قادرٌ على تلفيق الثبوت، وحملِ اليهود على نِسيان السُّبوت، يرى الحكمة خَبِيثَةَ جَيْبِه، ويشتغل بعيُوب الناس عن عيبه. قلت: فابن جَدار؟ قال: ألوفٌ ودود، أنوف عن الخُبْث صَدود، محسوبٌ من الأسرياء معدود، كثير الهشاشة والأريحية، مبذول المشاركة شائع التحية، بادي النُّبلِ والظُّرفِ، مُؤْتَمِرٌ لوَحْيِ الطَّرف، عدةٌ للعدل والصرف، ينظم الأبيات ويوضح من الفضل الغرر والشيات:
عَلَيَكَ بِكاتبٍ لَبِق ذَكِيّ
…
أَديبٍ في شَمائِله حَرارة
تُشيرُ لَهُ بِلَحْظِكَ مِنْ بَعِيدٍ
…
فَيَفَهم طَرْفَهُ عَنْكَ الإشارة
قلت: فالو إلى الريب؟ فشد خيشومه، واستدفع بيمن الله شومه، ثم قال: الروض الأنف، محتاج إلى الكنف. اعلم أنني على طول تجربتي، وتكرر تشريقتي وتغريبتي، لم أعثر له على شبيه، فلعنة الله عليه وعلى أبيه، الجهل والرعونة، والطلعة الملعونة، والخيانة التي يَعْرِفُها الوجود، واليد التي في غير الخَنَا لا تجود، نار الخيانة التي تأكل في اللحظة الواحدة بجِطامها، وخنجر الأمانة الذي يقد حبالها، المارنُ على النكال والعقاب، المخلُّ بالألقاب، الخاملُ البيت والهمة، الكثيرُ الذَّام القليل الذمة، ولله درُّ أبي محمد العلكوم ذي العارض المركوم حيث يقول:
لأبي الفَضْلِ بن الربيب خِلَالُ
…
شَهِدَتْ بالوفاءِ والفَضلِ فيهِ
ساقِطُ الأصْلِ عاهِرُ الفَرْجِ مُذْ كا
…
نَ سَفيهاً قد بَذَّ كُلَّ سَفيهِ
ذي مُحَيَّا مِن الحياءِ عَديمٍ
…
وَقَفاً ممتل وشَكل كَريهِ
سُلْحُفَاةٌ قد عُمِّمَتْ وجراز
…
في رداءٍ مُوَشَّعٍ يَلْويهِ
يَحمِلُ السَّرْجُ منه دَنَّ رَجِيعٍ
…
يَعْرِفُ الناسُ ذَوقَهُ مِنْ فِيهِ
حَجَّرَ اللهُ جُودَهُ ونَدَا كَفّيْ
…
هِ إلَاّ عن أَسوْدٍ يَشْفِيهِ
فهو لا يَسْتَكِفُّهُ مِنْ بَلاءٍ
…
ومجابي البلاد لا تَكْفِيهِ
قلتُ للنَاسِ والسُّؤَالُ شِفَاءٌ
…
وهوَ قِدْماً شأنُ النبيلُ النَّبيهِ
لِمَ يُدعى بابنِ الرَّبيبِ فقالوا
…
كانَ يَزْني بِأُمِّهِ ابنُ أبيهِ
أبْعَدَ اللهُ ذلِكَ الوَجْهَ مِنْ كُلِّ
…
مَقَامٍ بَرٍّ وَقَدْرٍ وَجيهِ
وكأني به وقد بَثَرَتْ منه
…
يَدُ الذُّلِّ غَلْطَةَ التنويهِ
تنزع السِّتْرَ عنه سَخْطَةُ رَبِّ
…
لم يَدِنْهُ يَوْماً بِمَا يُرْضيهِ
قَدْ أهالَتْ منه السِّيَاطُ كَثِيباً
…
وأَلَمَّتْ رَمْلَهُ رِيَاحُ التِّيِهِ
وَرَسَتْ مِنْهُ في الأداهِمِ رِجْلٌ
…
ودَّعَتْهَا نَضَارَةُ التَّرْفيهِ
كانَ عاراً على الوُجُودِ ومَنْ يُبْ
…
لَى بعارٍ وكَيْفَ لا يَخْفِيهِ؟
عادَةُ اللهِ كُلَّما اعْتَزَّ بَاغٍ
…
بِضَلالٍ فإنه يُكْبِيهِ
قلت) بياض (قال شُعْلَةٌ منْ ضِرَام، ودُمَّلٌ من أَوْرَام، ولا بد لكل شيء من انصرام:
سَعِيدُ الدَّارِ خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ
…
وَطَرْحُ الكَلْبِ خَيْرٌ مِنْ سَعِيدِ
قلت فوالي مكناسة عبد الله بن محمد؟ فقال: صاحب هَدْي وسَمْت وطريقةٍ غير ذاتِ عِوجٍ ولا أَمْت، متصفٌ بعفافٍ، واشتمالٍ بالطهارة والتفاف، مع عدل وإنصاف، وامتياز بالخير واتصاف، مُعْتَدُّ الجود، واضعٌ إياه في ضرورات الوجود، كثيرُ الضيف، مُطْعِمٌ في الشتاء والصيف، أَمِنَ جارُه من الحيف، يرعى الوسيلةَ ولا ينساها، ويصل مَغْدَى الصنيعة بِمُمْسَاها، فإذا ذكرتَ الخيار فاذْكُرْهُ فيها، وحْسُب الولاية به فخراً ويكفيها، لا تسمع النجوى مجالسُه، ولا تَضُمُّ الخَنَا سقائفه. قلت) بياض (فقال: إنْهَدْ، وفي غير الكبار لا تَجْهَدْ، ودَعْنَا من الحضيض الأَوْهَد، فالأمر أَزْهَد، ولا تَعُد إلى مثلها والله يشهد. قلت:) بياض (وهو لعمري مسلس القياد، وحنيب جياد، فلم يَفُهْ بِبِنْتِ شفه، لا أدري، أبِرِضىً أم أَنَفَة. قلت: فزكريا بن يحيى؟ قال: مُقيمُ رَسْم، وممتازٌ من الشهرة بوسم، ورجلٌ عاقل، وجَالِي صفحات البِرِّ وصاقل، ومتماسك عن الغاية متثاقل، لا بفصاحة سَحْبَانَ ولا بِعِيِّ باقل، يروقك لقاؤه، ويُعْجِبُك خوانه وسقاؤه، ويُثني على خُلَّتِهِ أصدقاؤه. قلت: فأخوه الأحسن بأزمور؟ قال: دُرَّة بيتهم، وغُرَّةُ كُميْتِهِم، ومشكاةُ زيتهم، منزلُهُ مَتْرَعُ جِفَان، ومَحطُّ ضيفان، يركب المطية، ويمهد الأريكة الوطيّة، ويُتبع بالعذر أثر العطية غير البطية، ويجدد العهد بالعصابة البَرْمَكِيَّة، وأخبارهم المَحْكِيّة. قلت فوال تيط، ابن بطان؟ قال: كوكب سَحَر، وكريم قرى ونَحَر، وأَبْهَتَ وسَحَر، ما شئت من ترتيب وتقدير، وخليق بالبر جدير، وروض وغدير، وخَوَرْنَق وسَدِير، هذَّب الأدبُ خُدَّامه، وأطاب الاحتفال خبزه وأَدامه، إلى عطاء يحسب الأمل، ويثقل الناقة والجمل، عَضَّه الدهر فما عضَّ من طباعه، واستأثر بماله ورباعه، وتركه فريسة بين سباعه، فما حطَّ من همته ولا قصَّر من باعه:
وطَالَمَا أُصْلِيَ اليَاقُوتُ جَمْرَ غَضىً
…
ثمَّ انْطَفَى الجَمْرُ واليَاقوتُ ياقوتُ
قلت، فمشرف دُكَّالة اللحائي؟ قال: أمين، وذخر ثمين، وشمال للنصيحة ويمين، أي صدر سليم، وتفويض وتسليم، وسَرْوٌ عميم، ومَرْعى للفضل جميم، يَقْنَعُ بالمُصَاصة ويؤثر على الخصاصة، ويحافظ على القُلامة والقُصاصة، قلت) بياض (قال: لفظ بلى معنى، وشجر بلا مَجْنَي، مَرُوَّتُهُ سقيمة، وسَرَوَاتُه عقيمة، مدين، الحرمان له خدين، لا يُحمد قِراه، ولا تُمْسِك البُلالة ثراه، وإن تسمع بالْمُعَيْديِّ لا أن تراه. قلت: فالغفاري بمَرَّاكُش. قال: حُمول الكلفة، كثير الألفة، أخلاقه وَطِيَّة، وهو قَعود ذَلولٌ ومطية. قلت فالوالي الكبير محمد بن أبي العلي؟ قال: سورة الفضل والكمال، ومعنى الجلال والجمال، وسيف الجباية والمال، وحجُّ العفاة وكعبة الآمال، العَفّ الإزار، ذو المواهب الغزار، ما شئت من حياء ووقار، واهتضام للعرَض الأدنى واحتقار، يَهبُ الجزيل، ويكرم النزيل، ويحكِّم السنة والتنزيل، اسم لو سبق الزمانَ زمانُه، وانتظم في سلك العهد المتقادم جُمانه، لَمَا كان لكعب من عُلُوِّ كعب، ولا ساعد ابن سُعدى ذكر، ولا أُعْمِلَ في مدح هرم بن سنان فكر، ولَطُوِيَ حاتم طيئ فلم تأخذه يد النشر إلى الحشر، ولا عُمِلَت في أخباره يد الإضراب والبَشْر، فهو العامل العالم، والعادل الذي تُكَفُّ به المظالم، والبحر الذي ما دونَه بُلالة، والكفاية التي ما سواها عُلالة:
مَدَحْت الوَرَى قَبْلَهُ كَاذباً
…
وما صدَقَ الفجرُ حتى كَذَب
فإن طرقتَ منزله هشَّ ورحب، وتبسط جالباً للأنس وتسحب، وحكَّم كمالَه، وألقى قبل الوسادة ماله، فهو حسنة الدولة الغراء، وطِرَاز حُلَّتِها السِّيَرَاء، وحديثها المنقول، وصفيحها المصقول، ولله درُّ الذي يقول:
سَلِينِي عَنِ النَّدْبِ وَالِي الوُلَاة
…
فإنِّي عَلَى وَصْفِهِ قَادِرُ
مُخَدَّرَةٌ في سَبِيلِ الحَيَاءِ
…
ويَوْمَ الوَغَى أسدٌ خَادِرُ
ولما بلغ هذا الحد كأنما كان ثوب الحديث على جسد الرحلة مقدوداً، وعدده مع أميالها المحسوبة معدوداً، أتى السير منه على القواعد والفروق، وانتهب عمر الليل إلى الشروق وكان آخره بباب المحروق، وجعل كلٌّ وَجْهَه إلى داره، وعاد إلى مركزه عَقب مداره، وعَلِق بقلبي كلامُه، فاستقر في اختزانه، فأنا أزن القوم بميزانه، والله يتغمد ما يُوَاقُعه العبد من هفوة لسانه، ويغَطّي الإساءة بإحسانه.
ومن المنظوم الصادر لهذا العهد، ما خاطبت به المقام السلطاني المستعيني في غرضي المعروف:
عن بابِ والِدِكَ الرِّضَا لا أبْرَحُ
…
يَأْسُو الزَّمانُ لأجْلِ ذَا أَوْ يَجْرحُ
ضُرِبَتْ خِيَامِي في حِمَاهُ فصِبْيَتي
…
تَجْني الجَمِيمَ بِهِ زَبَهْمِي تَسْرَحُ
حتَّى يُرَاعَى وَجْهَهُ في وِجْهَتِي
…
بِعِنايَةٍ تَشْفِي الصُّدُورَ وتَشْرَحُ
أَيَسُوغُ عن مَثْواهُ سَيْرِي خائِباَ
…
ومنابِرُ الدُّنْيَا بِذِكْرِكَ تَصْدَحُ
أنا في حِماهُ وأنتَ أبْصَرُ بالَّذي
…
يُرْضيهِ مِنْكَ فَوَزْنُ عَقْلشكَ أَرْجَحُ
في مِثْلِها سَيْفُ الحَمِيَّةِ يُنْتَضَى
…
في مِثْلِها زَنْدُ الحَفِيظَةِ يُقْدَحُ
وعَسَى الذي بَدأَ الجَمِيلَ يُعِيدُه
…
وعَسَى الَّذِي سَدَّ المّذَاهِبَ يَفْتَحُ
وخاطبت السيادة الخطيبية في الغرض المذكور بما نصه:
بَرِئْتُ للهِ مِن حَوْلي ومِن حِيَلِي
…
إنْ نامَ عَنِّي وَلِيِّ فَهُوَ خَيْرُ وَلِي
أصبحت مَا لِي مِنْ عَطْفٍ أُؤمله
…
مِنْ غَيْرِهِ في مُهِمَّاتٍ ولا بَدَلِ
ما كنتُ أَحْسِبُ أنْ أُرْمَى بقاصية
…
للهجر أقْطَعُ فيها جَانِبَ المَلَلِ
من بعد ما خَلَصَْ نحوي الشفاعة ما
…
بين الفَلَا والدجى والبيض والأسل
لكان كَرْبيَ قد أفضَى إلى فرج
…
حُزْنِيَ قد أوْفَى على جَذَلِ
أَلْمَمْتُ بالعتْبِ لم أَحْذَرْ مَوَاقِعَهُ
…
) أنا الغَرِيقُ فما خَوْفِي منَ البَلَلِ (
ولَسْتُ أجحد ما خُوِّلْتُ من نِعَمٍ
…
لكنها النفسُ لا تَنْفَكُّ عن أَمَلِ
ولستُ أيأس من وَعْدٍ وُعِدْتُ بِهِ
…
وإنما) خُلِقَ الإنسانُ مِنْ عَجَلِ (
وخاطبت المقام المولوي السلطاني وقد بذل نصفة وعدلاً من جملة تشتمل على نظم ونثر:
أنْتَ للمسلمينَ خَيْرُ عِمَادٍ
…
وملاذٍ وأي حِرْزٍ حَريزِ
لَوْ رَأَى ما شَرَّعْتَ للخَلْقِ فِيهِ
…
عُمَرُ الفاضِلُ ابنُ عَبْدِ العَزِيزِ
لَجَزَى مُلْكَكَ المُبارَكَ خَيْراً
…
وَقَضَى بالشُّفُوفِ والتَّبْرِيزِ
فاشْكُر اللهَ ما اسْتَطَعْتَ بِفِعْلٍ
…
وبِقَوْلٍ مُطَوَّلٍ أَوْ وَجِيزِ
كُلُّ مَلْكٍ يُرَى بِصُحْبَةِ أَهْلِ العِ
…
لْمِ قَدْ بَاءَ بالمَحَلٍّ العَزِيزِ
فإِذَا ما ظَفِرْتَ مِنهُمُ بإِكْسِ
…
يرٍ مَلأْتَ البلادَ مِنْ إِبْريزِ
والبَرَايَا تَبِيدُ والمُلْكُ يَفْنَي
…
أَيْنَ كِسْرَى المُلُوكِ مع أَبْرَوِيزِ
وأنشدتُ ابني عبد الله، وقد وصل لزيارتي من الباب السلطاني، حيث جرايته ووظيفته، وانجرَّ حديثُ ما فُقِد بغرناطة في شجون الكلام:
يَا بُنيَّ عَبْدَ الإلَهِ احْتِسابَاً
…
عَنْ أَثَاثٍ ومَنْزِلٍ وعَقَارِ
كَيْفَ يَأْسَى على خَسَارةِ جُزْءٍ
…
مَنْ يَرَى الكُلَّ في سَبيلِ الخَسَارِ
هَدَفُ لا تَنِي سَهَامُ اللَّيَالي
…
عَنْ سِبَاقٍ تِجَاهَهُ وَبِدَارِ
وَاحدٌ طَائِشٌ وثَانٍ مُصِيبٌ
…
ليس يُنجى منها اشتمالُ حِذَارِ
غير ذي الدار صَرِّفَ الهَمّ فيها
…
فمناخ الرحيل ليس بدار
وأنشدته وأمرته بحفظه والتأدب به، واللَّهَجِ بحكمته:
إذَا ذَهَبَتْ يَمِينُكَ لا تُضَيِّع
…
زمانَكَ في البكاء على المُصِيبَة
ويُسْرَاهَا اغتنم فالقوس تَرْمِي
…
وما تدرِي أرشقتُها قريبة
وما بغريبةٍ نُوَبُ الليالي
…
ولكنَّ النَّجَاةَ هي الغريبة
ومن المنظوم في قريبٍ من هذا:
أيا أَهْلَ هذا القُطْرِ ساعده القَطْرُ
…
دُهِيتُ فَدُلُّونِي لمن يُرْفَعُ الأمرُ
تَشَاغَلْتُ بالدنيا ونِمْتُ مُفَرِّطاً
…
وفي شُغُلِي أو نَوْمَتِي سُرِقَ العُمْرُ
وقلت وقد انصرف عني الولد إلى مدينة فاس لإقامة رسمه من الخدمة، وأشجاني انصرافُه لوقوع قَرحة على قرح والله المستعان:
بَانَ يَوْمَ الخَمِيسِ قُرَّةُ عَيْنِي
…
حَسْبِيَ الله أيُّ مَوْقِف بَيْنِ!
لَوْ جَنَي مَوْقِف النَّوى حَيْنَ حَيِّ
…
كان يومَ الوداع والله حَيْنِي
ضَايَقَتْنِي صروفُ هَذِي اللَّيالِي
…
وأَطَالَتْ هَمِّي وأَلْوَتْ بِدَيْنِي
وَطَنٌ نَازِحٌ وشَمْلٌ شَتِيتٌ
…
كَيْفَ يَبْقَى مُعَذَّبٌ بَيْنَ ذَيْن؟؟
يَا إلَهِي أَدْرِك بِلُطْفِكَ ضَعْفِي
…
إنَّ ما أَشْتَكِيهِ لَيْسَ بِهَيْن
ومن أبيات في المدح وتضمنت معنىً غريباً:
كأنما قِرنُهُ في صَفْحِ مُرْهَفِهِ
…
قُرْبَان هِنْدٍ أَتَى يسْعَى عَلَى قَدَمِه
تبدو به في مبادي الأمر صورتُه
…
وتغلِب النارُ إذ يكسو شعاع دمه
ما زال قربانُ نارِ الهند معتقَداً
…
في الدّهْر أن الوجود الحقَّ في عدمه
ومن المقطوعات في النسيب:
أرسلت عيني في حُلَاك بنظرة
…
هي كانت السببَ الغريبَ لما بي
وأراك بالعَبَرات قد عاقبتها
…
ليس الرسولُ بموضع لعِقاب
ومن الأغراض الغريبة:
كأنما الغَيْثُ مَلْكٌ
…
يَبْآى به جُلَسَاهُ
يُرْضِي النديمَ فمهما
…
سقى الرياضَ كساه
وخاطبت السيادة الخطيبية مع طَيْفُور طَعَام:
تعَلَّمَ طيفوري خِلالَ سَمِيِّه
…
وإنْ كان منسوباً إلى غير بِسْطَامِ
وجاء فقير الوقت لابِسَ خِرْقَةٍ
…
فليس براضٍ غير صحبة صَوَّامِ
فَدَيْتُكَ لا تَرْدُدْهُ عنك مُخَيَّباً
…
ودَرِّسْهُ يا مولاي قِصَّةَ بِلْعَامِ
ونظمت في هذه الأيام موشحتين استطردت فيهما إلى مدح السلطان تنويعاً في الوسائل وسَبْراً للقريحة، إحداهما:
د قامت الحُجة
…
فليعذر العاذر فالعذل لا يُجدي
شيئاً سوى الكرب
…
وشِقْوة الخاطر وشدة الوجد
حدِّثْ عن السُلوانْ
…
أو شئتَ يا صَاحِ حدث عن العنقا
إنهما سِيَّان
…
فليُقْصِرِ الَّلاحِ عمن شكا العِشقا
قد عزني الكتمان
…
فبان إفصاحِ ببعض ما ألقا
من صَادقِ اللهجة
…
وسْنَان عن ساهر لِمْ يُبْلَ بالصدِّ
مُنَزَّه القلب
…
مُبَرَّأَ الناظر عن حالةِ السُّهد
عُذّب بالتيه
…
قلبي وبالبَيْنِ فلم أطق صبرا
ظبيٌ تَجَنِّيهِ
…
ما كان بالهَيْنِ قد واصل الهجرا
مُكَمَّلٌ فيه
…
مسْرَحةُ العين قد أخجل البدرا
في طرفه حجَّة
…
للفاتن الساحر ونافث العَقْدِ
يَذهَب باللُّب
…
محكِّمُ السادر في الحُرِّ والعبد
ناديت في الظلمة
…
يا مالك الملك يا دافعَ البلوى
فَرِّج لِيَ الغمة
…
أنت الذي تُشْكِي مَنْ أعلَنَ الشكوى
بمن طوى الهمَّة
…
لِطِيَّةٍ يبكي ويعلن النجوى
في عشر ذي الحجة
…
من راكش سائر للعلَم الفرد
مغتفر الذَّنب
…
معتمرٌ زائر مُبَلّغ القصد
مذ جال في سمعي
…
فراقه حقاً ظَلِلْت كالهائم
كأنما دمعي
…
يَهمي فلا يَرْقا جودُ أبي سالم
معالِجُ الصَّدع
…
والعروة الوثقى وقامع الظلم
ومُصْمتُ الضجَّة
…
ومُطفئ النَّائر ومُوضِحُ الرُّشْد
خليفة الرَّب
…
والباذخ الفاخر بالأب والجَدِ
الواهب الأَلْفِ
…
تأتي معاليه من رجْعِهِ الطرفا
وخارق الصف
…
إلى أعاديه إن شاهد الزَّحفا
ومُرْسِلُ الحتف
…
فمن يناويه يصادم الحتفا
والأرض مرتجة
…
بالعسكر الزاخر قد ماج بالجُرد
وغُصَّ بالقُضْبِ
…
والصارم الباتر والحَلَقِ السَّردِ
من فاز بالسَّبق
…
في رفعة القَدْرِ والمنصب الأسمى
وفاق في الخَلْقِ
…
والخُلُقِ البَرِّ والسيرة الرُّحْمَى
ذو منظرٍ طلْقِ
…
مؤيّضدُ الأمر مُسَدَّدُ المرمَى
إذا امتطى سرجه
…
فالقمرُ الراصد لعين مستهد
ومخجلُ السحْب
…
في العارض الماطر إن جاد بالرِّفْدِ
عُلاهُ لا تُحْصَى
…
والشرطُ والثُّنْيا دَأْباً ينافيها
لو مُثّلَتْ شخصاً
…
لغالت الدنيا بالحق تُعييها
دولته اختصَّا
…
تأنق العليا بكل ما فيها
بدائع البهجة
…
ونزهة الخاطر وجنَّة الخلد
وراحة القلب
…
وبغية الناظر في ذلك الخدِّ
والأخرى:
يا حاديَ الجمال
…
عرج على سلا قد هام بالجمال قلبي وما سلا
عرج على الخليج
…
والرمل والحِمَى
في المنظر البهيج
…
بالبِيض كالدُّمَى
والأبطح النّسِيجِ
…
من صَنْعَةٍ السَّما
لله من جلال
…
تختال في حُلا لم تُلف في اعتدال عنهنَّ مَعْدِلا
وطف من الرباطِ
…
بركن طَائِفِ
بمنزل اغتباط
…
دار الخلائف
مُقَدَّسِ المواطِ
…
جم العوارف
كم من سنا هلال
…
بأُفْقِهِ انجلى أنحى على الصلال فانجاب واجتلى
جَنَي النعيم دانِ
…
والبحر والغدير
أَهِلَّةُ الشَّوانِي
…
في أفقه تسير
وقهوة الدنان
…
يديرها مدير
أغرُّ كالغزال
…
مُقَلَّد الطُّلا يسطو ولا يبالي بالأسْدِ في الفلا
أَوْلَى إليك أوْلَا
…
من ذكر معهد
أكثرت فيه قولاً
…
في كل مشهد
خُذْ في امتداح مولا
…
نَدْبٍ مؤيَّدٍ
مُمَجَّد الجلال
…
مشهَّرُ العُلا قد فاق في كمال وراق مُجْتًلا
موافق الخليل
…
في الاسم والسمات
ذي المنظرِ الجميلِ
…
الرايق الصفات
مُكرِّمُ الدخيل
…
ومُجزل الهبات
ومُحْسِب النوال
…
لمن توسلا ورافع المعالي سحباً مظللا
يا من عُلاهُ دَرَّتْ
…
بكل نائل
خذها إليك جَرَّت
…
ذَيْلَ الخمائل
وفي حُلاك أزرت
…
بِقَوْلِ قائل
يا منزل الغزالِ
…
حُييتَ منزلا فما أُرَى بسال عنه وإن سلا
وكتبت إلى السيادة الخطيبية، وقد وصل ولدها إلى سلا، ومنعني عن لقائه عذر من مرض، وكان نزوله بزاوية النساك
صدّني عن لقاء نجلك عذر
…
يمنع الجسم عن تمام العباده
واختصرت القِرى لأن حط رحلاً
…
في محل الغنى ودار الزهاده
ولو أني احتفلت لم يُعِن الدهر ولا نلت بعض بعضٍ أراده
وعلى كل حالة فقصوري
…
عادة إذ قبولك العذر عاده
لا عدمت الرضى من الله والحسنى
…
كما نص وحيه والزياده
وخاطبت من قَصَّر في حاجتي:
من لا نصيبَ لصحبه في خَيْرِه
…
وإذا سَعَى لم يَقْضِ حاجةَ غيره
فاقصد أباهُ متى أردتَ وقُلْ لَهُ
…
اللهُ يُلهِمُهُ العزاءَ بأَيْرِه
وقلت في غرض التورية أَرثي أحد الفضلاء بالعدوة واسمه الحسن:
أشكو إلى الله من بَثِّي ومن شَجَنِي
…
لم أَجْنِ مِنْ مِنَحِي شيئاً سِوَى مِحَنِ
أَصَابَتْ الحَسَنَ العَيْنُ التي رَشَقَتْ
…
وعادةُ العَيْنِ لا تُضْمِي سِوَى الحَسَنِ
ومما راجعتُ به أحد الفضلاء عن مكاتبةٍ وردت منه:
يا من تقلد للعَلَاءِ سُلوكاً
…
والمَجْدُ صَيَّر نَهْجَهُ مَسْلُوكَا
كاتبته متفضِّلاً فَمَلَكْتَني
…
لا زلتُ منك مُكاتَبَاً مملوكا
وأطلَّت ليلة الميلاد المعظم بوقع العمل على رسم ما قبله، ونظمت قصيدة وجهت نظيرها إلى الباب السلطاني، تولَّى الولد النيابة في عرضها مُعطفة - والفضل لله - جانبَ التقديم مُحْصبَة التنفيق، معقبة بسَنِي الخلعة وهي:
تَأَلَّقَ نَجْدِيَّاً فَأَذْكَرَنِي نَجْدَاً
…
وهاجَ بي الشوقَ المُبَرِّحَ والوَجْدَا
وَمِيضٌ رأى بُرْد الغمامة مُغْفَلا
…
فمدَّ يداً بالتير أعلمت البُرْدَا
تبسَّم في بحرية قد تجهمت
…
قما بذلت وصلاً ولا ضربت وعدا
وراودَ منها فاركاً قد تمنَّعت
…
فأهوى لها نصلاً وهددها رعدا
وأغرى بها كفَّ الغلابِ فأصبحَتْ
…
ذَلُولاً ولم تسطِعْ لإمرته ردا
فحُلَّتها الحمراء من شَفَق الضحى
…
نَضَاها وحلَّ المُزْن من جيدها عقدا
لك الله من برقٍ كأّنَّ وميضَهُ
…
يد الساهر المقرور قَدْ قَدَحَتْ زندا
تعلَّم من سكانه شِيمَ الندى
…
فغادَرَ أجراع الحمى روضةً تَنْدَى
وتوَّج من نُوَّارها قُنَن الرُّبَا
…
وخَتَّم من أزهارها القُضُبَ المُلْدَا
لسرعان ما كانت مناسفَ للصَّبا
…
فقد ضحكت زهراً وقد خجلت وردا
بلادٌ عهدنا في قرارتها الصِّبا
…
يقلُّ لذاك العهد أن يألف العهدا
إذا ما النسيم اعتلَّ في عَرَصَاتِها
…
تناول فيها البانَ والشِّيحَ والرندا
فكم في مجاني ورْدها من علاقة
…
إذا ما استثيرت أرضها أنبتت وَجْدَا
أو استشعرتْهَا النفسُ عاهدت الجوى
…
أو التَمَحَتْهَا العينُ عاقرت السُّهْدَا
ومن عاشقٍ حرٍ إذا ما استماله
…
حديثُ الهوى العُذريِّ صيَّرَهُ عبدا
ومن ذابل يحكي المحبين رقة
…
فيثنى إذا ما هبَّ عَرْفُ الصَّبا قَدَّا
سقى الله نجداً ما نَضَحْتُ بذكرها
…
على كبدي إلا وجدت لها بردا
وآنسَ قلبي فهو للعهد حافظٌ
…
وقلَّ على الأيام مَنْ يحفظ العهدا
صبورٌ وإن لم يبق إلا ذبالةٌ
…
إذا استقبلت مَسْرَى الصبا اشتعلت وقدا
خفوقٌ إذا الشوقُ استجارَ كتيبةً
…
تجُوسُ ديارَ الصبر كان لها بَنْدَا
وقد كنتُ جَلْداً قبل أَنْ يُذْهِبَ النَّوى
…
ذَمائي وأن يستأصل العَظْمَ والجلدا
أأَجْحَدُ حقَّ الحُبّ والدمعُ شاهدٌ
…
وقد وقَع التسجيلُ من بعد ما أدى
تناثر في إثر الحُمُول فريده
…
فلله عينَا مَنْ رأى الجوهر الفردا
جَرَى يَقَقاً في ملعب الخَدِّ أَشْهَبَا
…
وأجهده رَكْضُ الأسى فجرى وَرْدَا
ومرتحلٌ أَزْمَلْتُ دَمْعِيَ خلفَه
…
ليُرْجِعَهُ فاستَنَّ في إثره قصدا
وقلتُ لقلبي طِرْ إليه بِرُقْعَتِي
…
فكان حَمَاماً في المسير بها هُدَّا
سرقتُ صُوَاع العزم يوم فراقه
…
فلجَّ ولم يرقب سُوَاعاً، ولا وُدَّا
وكحلت جفني من غبار طريقه
…
فأعقبها دمعاً وأورثها سُهْدا
لِيَ الله كَمْ أَهْدِي بِنَجْدٍ وحاجر
…
وأكْنِي بدَعْدٍ في غرامي أو سُعْدَى
وما هو إلا الشوقُ ثار كمينُه
…
فأذهلَ نفساً لم تُبِنْ عنده قصدا
وما بِيَ إلا أن سَرَى الركبُ مَوْهِناً
…
وأعمل في رملِ الحمى النصَّ والوَخْدَا
وجاشت جنودُ الصبر والبَيْن والأسى
…
لَدَيَّ فكان الصبرُ أضعَفَها جُندا
ورُمْتُ نهوضاً واعتزمت مودّعاً
…
فَصَدَّنِي المقدارُ عن وِجْهتي صَدَّا
رقيقٌ بدت للمشترين عُيُوبُه
…
ولم تلتفت دعواه فاستوجَبَ الرَّدَّا
تخلف مني ركب طيبة عانياً
…
أما آن للعاني المُعَنَّي بأن يُفْدَى
مخلَّفُ سِرْبٍ قد أُصيب جناحُه
…
وطِرْنَ فلم يسطِع مَرَاحاً ولا مَغْدَا
نشدتك يا ركبَ الحجاز تضاءلت
…
لك الأرضُ مهما استعرض السَّهْبُ وامتدا
وَجَمَّ لك المرعى وأذعنت الصُّوَى
…
ولم تفتقد ظلاًّ ظليلاً ولا وِردا
إذا أنت شافهتَ الديار بطِيبةٍ
…
وجِئْتَ بها القَبْرَ المُقَدَّسَ واللَّحْدَا
وآنسْتَ نوراً من جَنَابِ محمدٍ
…
يداوي القلوب الغُلْفَ والأَعْيُنَ الرُّمْدَا
فَنُبْ عن بعيد الدار في ذلك الحِمَى
…
وأّذرِ بِهِ دَمْعاً وَعفِّرْ به خَدَّا
وقلْ يا رسولَ اللهِ عبدٌ تَقَاصَرَتْ
…
خُطَاهُ وأَضْحَى من أَحِبّتِهِ فَرْدا
ولم يستطع من بعدِ ما بَعُدَ المَدَى
…
سوى لَوعةٍ تعتاد أو مدحة تُهْدَى
تَدَارَكْهُ يا غَوْثَ العِبَادْ برحمةٍ
…
فجودُك ما أجدى وكفُك ما أَندى
أجار بك الله العباد من الرَّدَى
…
وبوَّأَهم ظِلاًّ من الأمن مُمْتدَّا
حَمَى دِينُكَ الدنيا وأقطعك الرضا
…
وتَوَّجَكَ العَلْيَا وألبَسَكَ الحمدا
وطَهَّر منك القلبَ لما استخصه
…
فَجَلَّلَهُ نوراً وأَوْسَعَهُ رُشْدَا
دَعاه فما ولَّى، هَدَاهُ فَمَا غَوَى
…
سقاه فما يَظْمَا، جَلَاهُ فما يَصْدَا
تَقَدَّمْتَ مُخْتَاراً تأخَّرْتَ مَبْعَثاً
…
فقد شملت علياؤك القَبْلَ والبَعْدَا
وعلةُ هذا الكَوْنِ أنت، وكلما
…
أعاد فأنت القصدُ فيه وما أبدا
وهل هو إلا مظهرٌ أنت سرُّه
…
ليمتاز في الخلق المكِبُّ من الأهْدَى
ففي عالمِ الأسرار ذاتُك تَجتلِي
…
ملامحَ نور لاح للطور فانهدَّا
وفي عالَم الحِسِّ اغتديْتَ مُبَوَّأً
…
لتُشفى من استشفى وتَهدي من استهدى
فما كنت لولا أن نبتَّ هدايةً
…
من الله مثل الخلق رسماً ولا حدَّا
فماذا عسى يثني عليك مُقصِّرٌ
…
ولم يألُ فيك الوحيُ مدحاً ولا حمدا
بماذا عسى يجزيك هاوٍ على شَفىً
…
من النار قد أسكنته بعدها الخلدا
عليك صلاةُ الله يا خَيْرَ مُرْسَلٍ
…
وأكرمَ هادٍ أوضح الحقَّ والرُّشدا
عليك صلاةُ الله يا خيرَ راحمٍ
…
وأَشفَقَ من يَثني على رأفةٍ كبدا
عليك صلاةُ الله يا كاشفَ العمَى
…
وَمُذْهِبَ ليلِ الشكِ وهو قد ارْبَدَّا
إلى كم أُراني في البِطالة كانعا
…
وعمريَ قد وَلَّى، وَوزْريَ قد عُدَّا
تَقَضَّى زماني في لعلّ وفي عسى
…
فلا عزمةٌ ولا لوعة تهْدَا
حسامُ جبان كلما شِيمَ نَصْلُه
…
تراجع بعد العزم والتزم الغِمدا
ألا ليت شعري هل أُراني ناهداً
…
أقودُ القِلَاصَ البُدْنَ والضَّامرَ النَّهْدا
رضيع لبانِ الصدقِ فوقَ شِمِلَّةٍ
…
مُضَمَّرةٍ وُسِّدْتُ من كورها مهدا
فَتُهْدَى بأشواقي السُّراةُ إذَا سَرَتْ
…
وتُحْدَى بأشعاري الركاب إذا تُحْدَى
إلى أن أَحُطَّ الرحلَ في تُرِبك الذي
…
تضوَّع نَدَّا ما رأيتُ له نِدَّا