المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وكثر يومئذٍ مصطف للوزراء المتنقبين ببذل النصح وإهداء الوسائل، والمتقدم - نفاضة الجراب في علالة الاغتراب

[لسان الدين بن الخطيب]

الفصل: وكثر يومئذٍ مصطف للوزراء المتنقبين ببذل النصح وإهداء الوسائل، والمتقدم

وكثر يومئذٍ مصطف للوزراء المتنقبين ببذل النصح وإهداء الوسائل، والمتقدم على الجملة محمد بن موسى بن إبراهيم المنبز بالسبيع باكورة النازعين إليه. واضطر إلى المال فتوجه الطلب على الجملة من أذيال الدولة وبعض المياسير تناولهم الضغط وأصابتهم الجلاوز، فرشح بعضُهم وأطمع بعضٌ ولم يحصل منهم إلا على بُلالة ريثما فُصِلت الخطة وانتاشهم الله من الورطة. وتعرض إليه قومٌ من الصفاعين والأوغاد من أهل سلا ممن يأنف يهود لعنة الله على كفارها من انتسابهم إلى نحلتها وتعلقهم بأذيال ملتها كالرُّطلي اللعين الأهرت الشدْق المستكره الوخط، الوضر الأطواق، المعروف القحة والبُهْت وتلوه الحاج السالمي اللعين المعروف السَّرق والبُهْت وحنثِ اليمين، الدَّغل العقد، والمخزي الشَّيْبَة المهان السَبَلة عدو أهل القبلة، المقعد على النطْع في سبيل العقاب المرة بعد المرة لولا سابق الأجل والشفاعة، فأطمعوا في أموال تتبين وجوهُها ببلدهم كيما تجد حياتُهم السبيل إلى لدغ أرباب النعم وأولي الهيئات على عدم ذَيْن النَّمطين بهذا البلد، وظن بهم الصدق فأصبحوا بوزير أخي السلطان من قبيل بني واطاس، ووصل معهم من غير خطاب سلطاني للمشيخة، ولا حثَّ على البيعة، نادى بالبلدة المعتدّة خِطْباً فقالت نكح. وحضر أعيانها وأين الأعيان من كل حلف الخمول ضئيل الجاه شَحْتِه مُغْرىً بعضهُم بسيئة بعض، طالبهم بالمال الفاضل عن نفقات الحُبُس من شروب المياه ورياع المساجد وأموال اليتامى، فحضرت نُتافة تافهة لا تسمن ولا تغني من جوع حسْب الملك الصراح أن يستقيل الله من عثرة التشوف إليها، ويستعدي مجده على من غمس يده مرة في قذرها، وأنفذ معه مقدماً على خطة سوائم السلطان الراعية بأبي طويل وهي العِمالَة التي يتقلدها أولو الكفاية والتحقق بالأمانة لدرور الفوائد من الجبن الذي يعم الدور والأسواق غريضه، والجلائب التي تكسو الأوضام لحْمانُها والأدهان التي تضيق الأوعية عن مُهالِها، وشمول النظر على من تجاوز المراعي المحدودة بهذه الأمم من الأنعام من قاطن أو ظاعن والتحكم في أولي البَهم المحظور عليهم سرح الحمى، والمغضوض عنهم الطرف بحسب الرشا، فأسند ذلك إلى بعض الأخابيث ممن لصق به قوادُه بالأندلس وتردد في أمره إلى تلمسان يعرف بالقناع، أشأم الخلق نصبة، وأحقرُهم طلعة وأظهرهم هَوَجاً ودَمامة خامل الأبوة مجهولها، معروف العهر مَثَل في النميمة والكذب، مَشْنُوء جميع الخلال، استظهر لأول حلوله بصك خَطَّتْهُ جميعَه يدُ سلطانه المتصفة بالخَصْل فجعل له إن تم الأمر فالولاية المذكورة معززة بخطة قيادة الرجْل جمعاً له بازاء بلائه، فأطلق للحين لَقْلَقَة بالنداء، وذِبْذِبَهُ بالخنا، وتعاطي عموم النظرات حتى في خطيب الصلاة، واستدعى الرُّشا وضمَّ الأخابث فأنس بهم ونافر أضدادهم من أهل الصون، فخافه المريب واستراب به البريء. وشرع في طوامير يخاطب بها سلطانه بالغاً أقصى مبالغ التحكم والدالة، فظهرت في هذه الخلال مبادئ النجح وبدا للناس سوء ما ارتكبوه من إجرارهم أرسانهم وتسويغهم مدينتهم، وكان من الأمر ما يأتي به الذكر إن شاء الله.

‌رَجْعُ التاريخ

ص: 103

وفي يوم السبت التالي لسبت النزول، كانت المناجزة بين طائفة الاحتجاز والأفحاص بعد مواقفات خف بها عند المنحصرة وزانُ القوم ممن سواهم، فخرجوا على تعبئة محكمة قد أسبغوا الدروع وأكثفوا العدد ونشروا الرايات والبنود، وهولوا بالطبول، والبوقات والدبادب والغيطات واستغلظوا بالصراخ والعجيج والجلبات، تقدمت الجمع كراديس الغز الرماة الناشبة بين أيديهم قوم من مشاهير الميدان وذوي الثقافة. وركب الجيش بظاهر البلد. وانتظمت التعبئة المرينية على السلطان عبد الحليم من الشيوخ الرجح، والفرسان أحلاس الصهوات الذين لا تفضلهم أمة من الأمم في إجادة الركض، ومثاقفة ميدان السلم، وغريب الكر والفر والانعطاف مع اللَّي. فكانت المدافعة عند الأخدود الذي أعمقوه بين المحلة والبلدة على غَلْوة من باب المدينة. واقتحمه سَرَعان الخيل من درج مغفل طاردت مَنْ وراءه بخلال ما تلاحقت الفعلة واجتهدت في العمل والتسوية، وجازت المقاتلة يتخللها رِجْل الدبَّا كثرةً من الرماة الرَّجْل وأولي العِصِي منهم، فتستروا بجدرات الجبانة وأطلال البناء، لا يمر بهم مار إلا أثبتوه، فانشمر الناس، ولاذ بهم الفرسان، فوقفوا وصبروا تسري إليهم من سحاب النَّبْل عوارض الغَيْم، وقطرات المطر السجم بحيث تحتجب عين الشمس. وأبلى المرينيون أحسن البلاء ثم أعذروا، ثم خرج السلطان يقفو التعبئة في جملة حسنة، فحميت الناشبة ونقلوا الخطا وتحرك جمع الروم يمشي الهوينا، ثم سال منهم الآتِيْ، ودكَّت بسنابك بَراذِينِهِم الأرض فتولى القوم رغماً وثنوا الأعنة على حال استجماع، فانهار قوم على العَقَبة الكؤود المفضى مسلكها الوَعْر إلى باب الجيسة. وانصرف معظم القوم ملتفين على السلطان شرقي البلد في مساوقة المصارة إلى الزاوية الحديثة، فعبروا النهر إلى هضب الرمكة، ووقفوا ملياً ثم استبصروا في الانصراف، وأقصر الجند عن الأتباع، ووقع القنوع بما تهيأ من الأمر، وعاثت الأيدي في المحلة، فوقع بها النهب، واستأصلها العياث، فعادت المضارب مزقاً، وتقسمت الآلات انتهاباً، واكتسح كثير من الظهر، وتُحدث بحسن ثبات السلطان المنهزم، واتفق القول على شجاعة أخيه عبد المؤمن ومضائه، واعترف الناس بجميل مواساته، والفضل ما شهدت به الأعداء. وتعرف بعد أن القوم قصدوا رباط تيزي اتخذها سلطانهم مُستنداً منها إلى المنعة، ومستظهراً بأهل وطنها من قبيل بني عسكر وبني ورتاجين، وشرعوا في لَمِّ الشَّعْث ورأب الثأي، فتوجه منهم إلى بني زيان وإلى العرب الأحلاف وجبال الريف، خدام مستصرخون مستنصرون يطلبون المدد ويجلبون الرجل ويستدعون الحَمِيَّة. وتفرق آخرون شَذَر مَذَر وذهب الشيخ يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطى، قطب هذه الدوائر ومحاول هذه اللعب إلى جهة مراكش متضمناً إفساد من بها وصرف دعوتهم إلى سلطانه. وهذا الشيخ عريض المال دَثرُه، وافرُ الصامت جمه، كثير الذخيرة زعموا متملكٌ للعقار، محوط النعمة بسياج الإمساك، جامد الكف كميش البنان، قفر الخوان، أكله بلاغ وشرابه نغبة، محجورٌ لِحُجُوله المقيَّضة لنمو وفره، ولا يفتر مع الحَظْوة وقرب السواد من مضجع الملك ومبدأ السياسة من الإنكار للأحوال والسعي في الإدالة، والغمز على سقطات الدولة وإغراء أضدادها، في سبيل المشاره وفتح أبواب الغِيَر عليها، في سَنَن غريب من النبل مصرف في موضوع الشمات، وشره الإعاضة، وتَسَخُّط الأحوال، جر عليه ذلك كثيراً عند وجود الملوك أولي الحلوم والحزامة، إطالة الثقاف وجرَّ الأداهم، ومساكنة صُرعاء الغير. ولله درُّ الحكيم إذ يقول) المرء أسير مولده (، كبحنا الله عن الركض في هذه الميادين بلُجُم العبرة، وأرانا وَكْسَ هذه الحظوظ بعين البصيرة. وهو مع ما رُمي به وزُنَّ من هذه الخلال حسن المجالسة، مختصر البأو، معتدل الوقار، ظاهر النبل فطن المعاذير، كثير الحبكة وربما غُرزت في أديم ماله إبرة الصدقة.

ومن ذا الذي تُرضي سجاياه كلها

كفى المرء فضلاً أن تُعدَّ معايبه

ص: 104

وكان أهل العقد والحل من أهل سلا قد كتبوا البيعة، ونفذوا لوجهتهم معهم قائد الأسطول مستدعى بالآلات البحرية والرماة، واتصل بالقوم خبر الهزيمة فكرَّ ليلاً، وتقبض على من كان بالبلد من خدام الأمير عبد الحليم وتحصلهم في حكم الثقاف، ثم نقلوا إلى الحضرة فاستنقذوا في طريقها لكثرة الخوض وفساد السبل، وعادت الأمور إلى بعض سكون.

ووصل الكتاب المنبئ عن الكائنة فاستدعى الناس لسماعه وقرئ على المنبر منه كتاب مرسل المقاطع عادل عن السجع. أوجب ذلك من أصحابنا المنشئين مكاني من سكنى المدينة وإيثاري لهذه الطريقة، فمدوا فيه الأعنة وذهبوا فيه إلى كثير من الإجادة ونصه: من عبد الله تاشفين أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحسن بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي سعيد بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أيده الله ونصره وأطال في السعادة عمره، إلى الأشياخ المكرمين المؤثرين المرعيين الملحوظين المحترمين الشرفاء والفقهاء والخطباء والقضاة والوجوه والأعيان والأمناء والخاصة والعامة من أهل مدينة سلا حرسها الله ووصل إكرامهم ووالى رعيهم واحترامهم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

ص: 105

أما بعد، فإنَّا نحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، محب الصابرين ومجازي الشاكرين وجاعل العاقبة للمتقين، الذي أيد أولياءه، وأسبغ نعماءه، وأجزل للصابرين ثوابه وجزاءه، وأورث الأرض عباده الصالحين كما اختاره وشاءه فضلاً من الله ونعمة، والله عليم حكيم. ونصلي على سيدنا ومولانا محمد سيد الرسل وخاتم الأنبياء وصفوة الخليقة والهادي إلى سواء الطريقة، بعثه الله على حين فترة من الرسل، وفشُوٍّ من الباطل وعنُوٍّ من الجهل، فدعا إلى الحق وجاهد في ذات الله وإظهار دينه ولم يزل صابراً على العداوة والأذى داعياً إلى الرشد والهدى حتى أنزل الله عليه النصر وأذهب عنه البأس وأصبح المؤمنون بنعمة الله إخواناً، وأظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون، وعلى آله وأصحابه حماة دينه وأهل هجرته وأنصار ملته، وأولياء دعوته الذين فرقوا الأحزاب وبذلوا في مناصرته الأموال، وقال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم، ونسأله لهذا الأمر العلي عزّاً تتفيأ ظلاله، وسعداً تشرق آياته وتأييداً يتعرف لأولياء بركته وتمكيناً يقيم الرعايا في ظل حرمه، وإلى هذا أكرمكم الله باتصال البشائر وأعانكم على تحمل أعباء الحمد، فإِن النعم أغفال إذا لم توسم بالشكر والثناء، وشوارد إذا لم تأنس بالاعتراف والإقرار، وأوابد إذا لم تقيد بالإخلاص والدعاء. وإنّ من أعظمها قدراً، وأجلها خطراً وأولاها بالشكر سراً وعلناً والإقرار خفاءً وجهراً - وإن كان الحمد لله في كل حال - نعمة الله فيما سنَّاه لمقامنا العلي، وهيأه من نصر الأولياء والظفر بالأعداء والفتح الحميد الأنباء، الجميل الإعادة والابتداء، والتأييد الذي ضربت الدولة معه بعطنها، وألقت الدعوة له بجرانها. وذلك أن الحائن المغرور عبد الحليم بن عمر كان، حين إِجازته البحر من بلاد الأندلس، يطلب ما ليس له، والدعاية بغير حق لنفسه. احتل من هذه العدوة بتلمسان مستجيراً ببني عبد الواد، راضياً بالدنيّة في تحية سلطانهم والاستظلال بظلهم والدخول تحت حكمهم والتذلل لعزتهم والاعتماد على إعانتهم، فاستبق إليه بعض الغواة الأشقياء ممن يخبُّ في الفتنة ويُوضع ويسدي في تفريق الكلمة ويلحم، وجعل يوسوس إلى من بحضرتنا الكريمة من الأولياء ويزين لهم بما يزعمه من الكفاية والغناء طالباً منابذتهم لأمرنا وإظهار دعوته في عقر دارنا، فدلاهم بالغرور وأطمعهم في سراب يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. ونزغ الشيطان بينهم فخرج علينا منهم بظاهر البلد الجديد من خلع طاعتنا ونَبَذ عهدتنا وقدح في إيالتنا، والله من ورائهم محيط وعليهم شهيد، وبهم فيما ارتكبوه من البغي كفيل. وأرسلوا إليه فجاءهم ضارباً بسوطه مُغِذّاً في سيره مستعجلاً أوان حتفه، وخالفهم إلينا مِنْ أَعزة قبيلنا ووجوه أوليائنا، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فما بدلوا تبديلا، ولا سلكوا غير الوفاء سبيلا، فأوليناهم من إعلاء الرتبة وترفيع المنزلة وإسباغ ما عهدوه من النعمة ما ناسب جميل الاعتناء بهم وحميد الوفاء منهم، وجعلنا ذلك لهم سائر مديتنا وعهدنا لهم به من بعدنا جزاءً لما اتسموا به من الوفاء وعرف منهم من الانقياد وأخذنا في إحصاء من معنا بالبلد الجديد من الجند والمماليك والأغزاز والنصارى ورِجْل الأندلسيين، وموالي النعمة وغيرهم ممن كان مستخدماً من قبل، أو مستلحقاً بعد، أو تحيز إلينا وفاءً بالطاعة التي لَزِمته ومعرفة بقدر النعمة التي أنشأته. وجلسنا لعرض طبقاتهم ومباشرة تمحيصهم، وفتحنا ديوان العطاء فقسمنا فيهم الأعطيات، وأجزلنا لهم الهبات، واستثرنا بترغيبهم الحفائظ والعزمات. ووصل الشقي إلى قومه يوم السبت السادس عشر لشهر تاريخه يظن أمره قد استَفحل وملكه قد استوسق، وأن دعوته توطدت وخلافته قد تمهدت، فعبأّ المواكب ورتب المصاف وجرَّ السواد والغوغاء مجتازاً من قبلي البلد إلى ناحية كدية العرائس فضربوا أبنيتهم وأقاموا أخبيتهم ثم بدا له ما لم يَحْتسِب وعلم من نفسه أنه لا تنهض إلى إضافة البلد قوتُه، ولا تستوفي إحاطتَها جموعه ولا تُحْتسب الآمال عطيته، فانعكس أمله وخاب ظنه وداخله من اليأس والجزع ما داخله، ورجع إلى فناء حائط

ص: 106

نحاه بباب الوادي معترض في الطريق، يتمنَّع به من اجتياز أوليائنا إليهم، فأمرنا بإزالته وتسهيل الطريق إليهم، فأزيل بعد محاولة بين الفريقين، انتهب فيها كثير من أمتعة العدو وكُراعِهِم وأخبيتهم ومعائشهم لولا أن الليل حال بينهم وأَمْرُنا لم يتقدم لأوليائنا بالحمل عليهم وقطع دابرهم آخر الدهر. ثم إنهم استدرَكوا حفر خندق بين يدي بنائهم حسبوه أشد عناء وأمكن تحصيناً، وخرج أولياؤنا إليهم عشي يوم الجمعة بعدَهُ في روض المصارة فناشبوهم القتال وطاولوهم النزال وأوقعوا بهم وأعظموا الفتك فيهم ونالوا منهم بالسلب والجراحة والقتل أكبرَ النيل، فقوي الرجاء في دفاعهم، وامتدت الأعين إلى ما بأيديهم، فاستخرنا الله سبحانه في الخروج إليهم، وأخلصنا النية في الذب عن المسلمين وتسكين دهمائهم وإطفاء نار الفتنة بينهم، وجعلنا الموعد صبيحة يوم السبت. ونَمَى الخبرُ بذلك إليهم فأصبحوا متأهبين للقتال متحيزين إلى المراقب ثابتين في المصاف متميزين بشعائر الألوية المختلفة ألوانها باختلاف الجموع والقبائل، وبرز أولياؤنا من باب الوادي رجالاً وركباناً دارعين مستلئمين شاكين في الدروع السابغة متلثمين بالأسلحة الرائقة الحلية مما احتوته خزائن العدد بدارنا، وصانت المدد من ذخائر أسلافنا يقْدُمُهم سيف دولتنا وظهير دعوتنا وخالصة أمرنا ونجي سرنا وكبير أوليائنا وعضد ملكنا الذي نقذف به ثغر الأهوال ونوهن به عزائم العداة وزير أمرنا أبو علي عمر بن عبد الله بن علي أعزه الله تعالى، فنقدم بجميع الأولياء في أحسن هيئة وأكمل شكة تلتاح الأشعة من قواضبهم وتلتمح الكواكب من أسنتهم، وقد ربط الله على قلوبهم وثبت أقدامهم وأوجدهم ريح النصر على عدوهم، وقصدوا إلى ما خندقه العدو حفيراً وقد استصحبوا الفعلة بالآلات المعدة لتسوية الطريق وإزالة ما اعترض فيها من البناء فصَدَقوهم القتال وصابروهم في الدفاع فلم يكن إلا كلا ولا حتى اختلت مراكزهم ووهنت عزائمهم وبَطَل ما كانوا يعملون، وزحف أولياؤنا إليهم بجملتهم على الهيئة والتدرج في المشية والنصر تخفق بنوده والدولة يهب ريحها والسعود تشرق آياتُها فالتحم القتال واشتد الجلاد وصابروا ملياً يكرون في وجه أوليائنا ويفرون، والنبل تحصبهم والرَّمي يثبتهم والرماح تستبق إليهم وطيورُ المنايا تحلق عليهم، وما راعهم إلا خروجُنا في موكبنا المنصور من خواص المماليك ووجوه العبيد والحاشية يزدلف إليهم ازدلافاً قد خفقت أعلامه وتجاوبت لجابته، فشارفوا ثم وقفوا وأضعف الرعب أيديهم وملأ أفئدتهم وزلزل أقدامهم، وصدق الأولياء بين يدينا الحملة عليهم فمنحهم الله أكتافهم، واستمر الطلب لهم والنهب في أخبيتهم، واكتُسح ما كان فيها من الذخائر والأمتعة والكراع والأسلحة، وأصبحت منازلهم خاوية كأن لم تَغْنَ بالأمس، ووقفنا بكدية العرائس بعد الظهر من يومنا ومضى الأولياء في اتباعهم فتفرقوا طرائق قدداً وأفلت الحائن ناجياً برأس طِمِرَّةٍ ولجام وتخيرنا من اتحاد الأولياء من يتبعه حذراً من إفلاته، وكتابنا هذا إليكم من حضرتنا العلية وقد افترَّ بالبشر ثغرها، وازدان بالنصر جيدها، وعمرت بالمسرات أقدارها، واستقام الأمر وظهر الحق وزهق الباطل وعادت الدولة إلى ما كانت عليه من رسوخ القَدَم ونفوذ الأمر والحمد لله على ذلكم. ولِمَا لكم عندنا من العناية الواضحة والنظر الجميل، أعلمناكم بذلكم لتأخذوا بحظكم من السرور به، وتشيعوه فيمن يَلِيكم من الأولياء، وتعلموا عناية الله بهذا الأمر الكريم وما منَّ عليكم به من حماية حوزتكم وحفظ سياجكم، وتشكروه على ما منحكم من ائتلاف الكلمة وذهاب الفتنة والله يصل إكرامكم ويوالي احترامكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

ص: 107

وكتب في الخامس عشر المحرم فاتح عام ثلاثة وستين وسبعمائة: وأَظْلَمَ جوُّ الشدة لهذا العهد فأمسك الله السحاب ورفع الغيث، وقد ذهب من فصل البذر أكثر من شطره والسماء زجاجية الأديم، مشتعلة الكواكب، متقاذفة الرجوم، والأرض عليها قَتَرة، وبيضة الملك قد اقتصرت على حوزتها، والفَلُّ الموتور قد انطلقت أيديهم، وَرُجْعَى المستبصرين في الوفاء للمنهزم متوقع، والعرب قد شرهت إلى الإدالة ومنَّاها بذلك كل عراف ومنتحل كهانه فاشرأبت أعناقها إلى استباحة ما يليها، والله يضم شمل المؤمنين ويرأب صدع الدين، ويرفع مرير الفتنة عن العالمين، وكان من الأمر ما يذكر بحول الله.

ولما نابذ الوزير قادح هذا الزناد أشياخ القبيل لاتهامه إياهم بسوء الدخلة، قلب أمره ظهراً لبطن فرأى أنه لا يستقيم له الأمر مع استمساكه بأميره البادي العتاهية المختل عُقدة العقل بعد أن حصحص الحق وشف عما وراءه من عدم الصلوح ساترُ التمويه، وصده عن الميل لجهة الأمير المجلب عليه من أفق تلمسان لهذا العهد مكان الخويصة التي لديه ممن لا يأمن الإغراء به والتشمير لإبادته فرمى بأمله على خطر السُّرى، وغول اللجج، وبعد الشقة، جانب الأمير المستقر ببلد قشتالة لهذا العهد، نازعاً إلى مَلِكها من الإِيالة المخيفة بالأندلس على تفئة إفلاته من الجملة المعتقلة المغتالة بساحل مليلة وهو أبو زيان محمد بن أبي عبد الرحمن تاشفين بن أمير المسلمين أبي الحسن، صبي لمَّا استجمع وجهه مظنة للسداد، متين السبب منفرد في الوقت، بإِرث الفريضة لتقاعد عصبتها بين غُفل ومثلوم وطفل ومختبل، فارتهن عهد أوليائه من أمراء الجهة المراكشية كعامر بن محمد متحفه مع نبأ الكائنة بولاية أمر المصامدة وما اتصل بحدودهم إلى ما عبر النهر الأعظم شرقاً وما تمطَّت عليه العِمالة من الخطة إلى سِيْفِ بحر أقيانُس وتخوم دَرعة، طرقه بريده بمحل منعته من الجبل مرتبك الأمر، وقد ساء ظنه بالدولة الحائنة واضطر إلى مصانعة المتغلب على أمرها بالمال العريض، وظهر عليه عدوه لما آنسه من ركود ريحه لديها. فأسهل إلى مراكش في خف من غاشيته فتقبض على والي الوطن المحكَّم في صَفْرائه وبيضائه محمد بن حسون بن أبي العُلَى، فتى الفتيان الخرق الكف في مال الجباية، وعلى صهره رئيس الجيل المعروف بابن سعد الله، البُهْمَة البيس كاشف قناع المحادة لعامر المذكور، والمُصَارِفُهُ نقدَ الإحنة والمتحيف أطرافَه بلؤم الجوار، فلم يقله العثرة، وبادره بأكتاد الصيْلَم، واقتطف الذي فيه عيناه، وتهنّا ذلك المَصام بعده، وكشيخ العرب ذي السمعة بالقِري والبذل على نزارة المتعاطِية لهذا العهد مبارك بن إبراهيم عميد الخُلط. واستخرج قِتْله ووزير صريعه مسعود ابن رحُّو الفدودي الماتِّ إليه بذمة الصهر، ويا لها رحماً غير مجفوة تسفه رأي من وأَدَ البنات، واسود وجهُهُ لبشير الأنثى، أجارته وقد شٌهرت المُدية إلى غلاصمه، وقد أبقته رهن المحبِس موقفاً عليه معذولاً في استحيائه. فألطف له القول وجلا عليه اليد وقرره على المنّة، وأخذ عهده بالوفاء، ولم يرزأه من نعمته قُلامة ظفر، وصرفه عجلاً إلى مراكش صحبة الأمير ابن السلطان الموقع هُو به، وأوعز إلى جملتهم الالتفاف عليه والصمد به وبمن لف لفهم من العرب والأوشاب إلى إصراخه إن ضويق خلفُه أو أخفق في استدعاء مختاره المنبتّ بأرض الروم مسعاه.

ص: 108

وقد كان الرئيس أبو عبد الله بن نصر الشهير الموقف، المثل بين أفراد هذا البيت في الشجاعة والإيثار، وصدق الحَمِيَّة لهذا العهد، عاد من تشييعه السلطان أبا عبد الله بن نصر المتوجه إلى الأندلس طالباً بوِتْرِه ومؤملاً للكرة على دار ملكه لما سُقِط لموت ملك المغرب في يده، وفارقه مَنْ عَيَّنَهُ لإعانته من جنده، فأزعجه ثاني يوم وصوله إلى استجلاب السلطان المذكور واستخلاصه من إيالة سلطان قشتالة. وقد كانت السَّلم ارتفع حكمها لوفاة عاقدها، وعادت هَيْفُ الغِرَّة إلى أديانها من فساد طريقي البحر والبر، فظهر العدو البحري على بعض الأساطيل القافلة من الأندلس خاوية من الرجال فاقتادوها برمتها، وقارضه من بالجبل من حماة الإسلام صرف النكاية فصبَّحوا حصن أشويس على غفلة وإهمال احتراس من مسلحة العدو به فتملكوه وجمعوا الأيدي على هدمه فصيروه قاعاً صفصفاً على قوة أسْره، وعادى بنائه، وتلاحم كلسه، وضخامة صفاحه وعَمَدِه، فسار هذا الرئيس الشهم لطيّته والأمير عبد الحليم محاصر دار المُلك، ونذر به فأتبعه صِرْمة عدت خلفة مقصرة عن لحاقه متجافية عن مناوشته، فلحق بطنجة وقد سدّها هذا القائم بالجُذَيْلِ المُحَكَّكِ والعُذَيْقِ المرَجَّب، سليمان بن داود ثاني وزيري الحائن وقد سار فيه سيرته في صاحبه من الامتنان والاستعانة على ضبط مدينتي طنجة وسبتة. وعبر الرسول البحر واتصل ببلاد الروم، وتأتى القصد من بعثة الأمير بعد شروط أكدها الطاغية فكان حلوله بسبته في العاشر من شهر صفر من عام التاريخ، وبودر لما اتصل الخبر بتوجيهه الجملة من الحامية الكائنين بالبلد الجديد لإيصاله، فنفذ ذلك وسهّل الله عليه الصعب فقد كان عدوه الظاهر على مدينة مكناسة مركز الفحص الأفيح بين يدي الحضرة أرصد له وعزم على القطع به فأعجله عن الحيلة، وصدرت كتبه مؤرخة بيوم الاثنين الحادي والعشرين من الشهر يستحث من بمراكش من أولي التواطؤ على طاعته أخبث ما كانوا رأياً وأظهر فرقاً.

وقد كان الشيخ يحيى بن رحو وسوس لهم وأزلّهم فثبتوا مولين غدر اليمين، فانصرف من خيمة الشيخ مبارك وقد علق الانقياد له بانقياد صاحبه عامر بن محمد وتماسكوا وقد استهواهم بعض الهوى فطاروا قُدُماً على وجوههم وكان حلولهم بمدينة سلا حرسها الله في السادس والعشرين من الشهر ملتفَّاً أمرهم على عميد الصُّقع عامر بن محمد وشيخ عرب الخلط مبارك بن إبراهيم بن علي بن مهلهل المقصود الحلة إلى من سواهُمها كشيخ عرب سفيان وعرب العاصم.

ص: 109

وقد كان الأمير عبد الحليم لما ضبثت يده برباط تيزي فاستند إلى جبلها ووفى له شيوخها من بني مرين طاعة معروفة، إذ كشفوا الوجوه في المناصبة، وأعطوا صفقة اليمين بين يديه على تفئة انصرافهم عن المحجر واستغنائه عنهم، فناصحوا والتأموا واستبصروا. ولقد حُدِّثْتُ أنهم احتفروا أُفحوصاً واستدعوا لجاماً يجعلونه في أعناقهم عند القسم سجية جاهلية أُذْكروا بها عند صحيفة قريش ويوم تَحْلاقِ اللِّمَمْ وغَمْس العرب أيديها في لدم عقداً تأذن الله بانحلاله إلى ما دون الشهر. وأقصر من بدار الملك إلى هذا العهد عن المناهضة، وقنع بالكسر وأبدى الاحتجاز مُسَلِّماً فيما وراءه، مستجمعاً مُصِيخ الأُذن إلى نبأ مستدعاه غير ملتفت إلى غير ذلك، فامتدوا وتغلبوا على مدينة مكناسة من غير قتال ولا مدافعة إلا ما كان من قبس أدنوه من بعض سياجات بساتينهم، وتوعدوا بتسليطه وإرساله فمكنوا من أنفسهم ومدينتهم، وخذلوا قائد قصبتهم فتقبض عليه وأُركب بعض الأداهم، واستقر عوضاً عنه دائل من قبل الدولة المطالبة. ولقبلُ ما كان هذا البلد مشاراً إليه في المنعة وشهامة القاطن ووفور الخزين واستبحار الدهن وهو آخر البلاد اللمتونية فتحاً على الدولة المؤمنية بعد المصابرة سنين سبعاً أقْتِيت فيها الحشرات والهوام وأمتكت العظام الرفات واستنقعت الجلود المُسْتَشِنَّة فأصبحت اليوم بَغِيّاً لا تردُّ يد لامس. ثم تولى أمرها ابن أخي السلطان المتغلب عليها، وصلها من تيزي في لمة خشنة، فضبطها وذاع خبرُ سوء المِلْكَة في أهلها من الطلب بالمعونة وافتراض عُددٍ من السلاح، واستعجال بوجيبة، مغرم الجزاء قبل إظلاله، إلى غير ذلك من طلب المترفين وأهل السعة بفرش ووطاء لاستمتاع أولي الأمر، وإنزال حامية الدولة ببيوت أهلها مجبورين على إطعامهم من أعالي ما يطعمونه أهلهم، إلى غير ذلك مما تنبسط به أذيال الدول غير المهذبة بالحكمة التي لم تأخذ بحُجْزَتها يد السياسة ولا أجالت قداحَها أكف الحرمة. ثم ذاع التنقير عن العُجَز اللائي يعتمدن في كراء الحُليّ عند المداعي والأعراس والمواشط المتناولات للزينة والتمويه والتطرية ليخبرن بمكان الحلي وأولي الذخيرة على قُلِّ هذا المتاع بهذا الأفق وخلو الأيدي منه، فلا تكاد تقع على طبقة أو بيت متهمٍ باقتناء عقد من الجوهر أو خيْتام من نفيس الحجر المفضل أو حلة مثقلة بالذهب النسيج كدين وطننا الذي هذا العَرَضُ به سلعة معروضة وماعون مستعار، إلا ما كان من الديار المرينية السلطانية وأذيالها، فالأمر جلل والذخيرة خطيرة، ذاع هذا الأمر عن هذا القدوم في تغلبهم هذا والله أعلم بيقينه. وامتدوا إلى تملك مدينة سلا وقد وجدوها لأول أمرهم مَهينةً لا تَدْفَع، وذلولاً لا ترمح، فوجهوا قوماً من العمال وقائداً بضبط البلدة، وصلوها عشية يوم التاسع من شهر محرم هذا العام، وتقدم بعض وزعتهم فسبق باب البلدة فأقفله على فراغ يمنع من التقاء مصراعيه، ففر الراتبون به لوظيفة الجباية، وتذامر أفذاذ من سواد المدينة ممن نبض له عرق الفتوة والمواساة وقليل ما هم، فأحكموا سده. ونزلوا بالزاوية تجاهه خارج المدينة فتسلل إليهم من ثلم السور صنائعهم بالأطعمة والعُلفة وبات الناس من أمرهم على مثل الرضْف، وقد ماج المشيخة المستضعفون متوقعو المكروه، من طرفَيْ أمرهم طاعة أو صدوفاً، وطيروا إلى قائد القصبة القريب العهد باللحاق بها العديم الصلوح للرأي وضم النشر وضبط البلاد يحيى الوزقوني المضعوف عند الهيعة المستأسد عند الأطماع. ولما أصبحوا مهدوا العذر للقادمين، وقد وقفوا حفافي بابهم يرومون دخول المدينة، وأفردوا والي البلدة بالرأي، وواعدوهم التوجيه إليه لسبر ما عنده، وعبروا الوادي إليه والخلق بين محتجر ومُصْحِر ومحوقل قد مثلوا بالعَبْرَيْن. ولما عرضوا ما لديهم على واليهم المذكور، صارفهم المكيدة، وقروهم على عقدهم فتبرعوا بالوفاء لسلطانه. وهتف منهم الشيخ محمد بن صاعد المُنْبَزْ بالعروس، هيدورة هذه النزوات، وكافي أهل البلدة مؤنة مثلها من الأمور الحرفية، وهو لهذا الوقت قد تثاقل وتوكأ على عصى يهش بها على ذوْد أثارة يرتسف بُلالَتَه، شَنُّ يحمل ريحاً، وصدىً لا يؤدي حقيقة، بكلمة فصلت الخطة، مشيراً بالقبض على الواصلين لتكون باكورة القطيعة وعنوان المنبز بالعروس سوء ما ارتكبه، فاضطرب

ص: 110

أمره وتمسك بقصوى العدوة وجعل يطل إطلال اليَرْبُوع من تلك الربوة، وبادر المشيخة بين يدي رجوعهم إعلام القوم، وتبرءوا من الأمر وأفردوا عروسَهم بهُجْر القول، وخزرت إليهم العيون وتَحلَّبَت الشفاه، فرجعوا أدراجهم، وبدا للناس في أمرهم فاتبعوهم، وظهروا لهم على ظَهْرٍ وأسباب سفرية رجعوا بها رجوع الجيوش الظافرة، والعساكر الغانمة يتحدثون بشدهم واستبصارهم في ركضهم. ولليلة الثالثة من ليلة مُنْفَضِّهِم، وهي ليلة الحادي عشر من شهر صفر ورد النذير العريان مخبراً باستجاشتهم مَنْ بأحواز سلا من الفرسان المرتبين وهشهم بعصى الزائد على رِجْل الدَّبا من الرَّجْل، فماج الناس بعضهم في بعض، لفيفاً عدموا الرؤساء وهمجاً فقدوا الرعاة، ثم تواتر الخبر ووقع النفير، فتبادر الناس بجملتهم تيار الوهْل، وأجهضت الحوامل، وعلا للنساء الصراخ وكثر منهن ببنيهن والرُّوقة من أزواجهن الغبطة والضنانة والتشبث بالشعور واللحى والقبض على الأطواق والخُصى، فاختلط الصراخ وعلا العويل تقية من معرة الحرب وصوناً لهم تحت الأغلاق لعدم مرانهم على المدافعة، وإغراقهم في الحضارة وفقدانهم السلاح، إنما هم على الأيام حَلَجَة قطن ومَوَاشُط كتان وأبطال مقاعدِ حياكة وماعز مَغْرم، سواسية كأسنان المشط لا يوجبون مزية ولا يشعرون برجحان كفة.

وبرزت إلى ما خلف السور حامية فرسان ساكَنوا الدهماء وإن كانوا من سِنخِ العدو، زعانف من بني يَرْنيان وغيرهم، سرحهم رث وكُراعهم هزيل، كشفوا الثنية، ثم عادوا وسرعان خيل العدو تطاردهم، ثم أطل القوم في لمة من الفرسان وعدد جمّ من رجل الأحواز فكانت بينهم وبين القوم محاولات. وتمرَّس بهم كثير من الغرباء المستخدمين في الأعمال من قبيل غمارة ولا سلاح إلا الجنْدَل ولا مجن إلا الأسمال - وغلَّ الله أيدي من تنخله اللفيف من رماة الأسطول وسواه فقل الانتفاع بهم يومئذٍ فانصرفوا بعد أن زالت الشمس وقد بَلَوْا من البلدة غير ما عهدوه من شِمَاسٍ واقْشِعرارٍ ونبوٍّ عن الملامسة. ثم وجدت الخرقاء صوفاً فجعل أهلها ملازمة الأسوار والخُفُوف إلى الهيعة واحتمال السلاح عُرساً، فاقتسموا الأقطار، وأقعدوا صراديك مشيختهم بدهاليز الأبواب وعلقوا السلاح وتناغوا في اتخاذ أطعمة السمر واستدعاء المغنين وإيقاد المشاعل، وحصنوا ثلم الأسوار ومدوا الخشب مُعْرَضَةً في أفضية الأبواب، وغشَّوْا أَعْرَاهَا بجلود ذبائح البقر.

ص: 111

وطُيرت الأنباء إلى عرب تامسنا وحِلَّةِ عميدهم، واستدعيت منهم النصرة وقد كان جيش مراكش نَهَدَ لنظر كبير الصقع عامر بن محمد بن علي، فاحتل ضفة وادي أم ربيع يَسْبِر الأعماق، ويوازن الأحوال ويعمل ميزان الترجيح، فبعث لمة من فرسان العرب إلى إصراخهم، وصلوا وخيموا بشط الوادي من جهة قصدهم، فنشق الناس ريح الانتياش على ضعف النصير وخمول المصرخ وأنسوا بجناب الأمنة. وعلى ذلك فما زالت رسل الوعيد مترددة والنفوس لعودتهم متوقعة، وفسدت طريق مكناسة، وسدت السبل ما بين دار الملك ومدينة سلا، فلا يلخص بها الطيف ولا ينفد الفكر، وربما اتحمته طائفة تدل بوسيلة دين أو دنيا فآوا بادياً بوارهم، عاريةً عوراتهم. وفي ذلك صدرت عني مقطوعة في غرض التورية استملحها الناس يومئذٍ وهي قولي:

مكناسةٌ حُشِرَتْ بها زُمَرُ العِدا

فمدى بريدٍ فيه ألفُ مَريدِ

من واصل للجوع لا لرياضة

أو لابس للصوف غير مُريد

فإذا سلكت طريقها متصوفاً

فابْنِ السلوك بها على التجريد

واستمرت الحال إلى أخريات شهر صفر من عام التاريخ وكان الأمر ما يأتي به الذكر إن شاء الله..

واتصل النبأ باحتلال الأمير المستدعى من ملك قشتالة مدينة سبتة واستقراره بها في العشر الأول لصفر من العام، بعد مراوضة من ملك الروم ومحاورة وضنانة وتشطط قطع السلطان المذكور فيه أطماعه عن المعيَّنات وتضمن له ما دونها، فاشرأبت الأعناق وسمت الأحداق ثم وردت مخاطباته مع أقوام من الساسانية على رؤساء الجيش المراكشي مستنجدة محركة باسطة للآمال متكفلة بحسن القرض بعيدة الشأو في ميدان التجلة والإطراء، فزال الشك وتمحضت الوجهة وانطلقت الخُطا، وأعمل السير على تؤدة كبيرة، وتثاقل واستبراء لقروء الفتنة، فكان كما قال الأول:

إن القُباعَ سار سيراً نُكْرَاً

يسير يوماً ويقيم شهراً

ديدن الجيوش التي لم تزح عللُها، ولا اصطفيت نقاوتُها ولا هُذِّبَ بالعرض ديوانها، وأحوال الدنيا متقاربة وأحوال الطالب والمطلوب في الضعف متناسبة، ولله أمر هو بالغه سبحانه.

ولما قاربوا مدينة سلا، وردت الكتب السلطانية مخبرة باستقرار ركابه بظاهر مدينة فاس أنفاً من دخولها قيل لعزم وإزماع وقيل لاختيار معدّل، فخيم لجراء بعض ذك بالهضبة المنسوبة إلى العرايس. إذ كان الوزير مُستَدعيه لما تحقق نبأ وصوله إلى سبتة، وجه إليه مِقْنَباً من خيل الروم وكتيبة خشناء من غيرهم فيها الكثير من الناشبة والرَّجْل الأندلسيين. ونوَّه بموكبه فأَصْحَبها صاحب العلامة الباهر الرواء الميمون النقيبة المارن على الألقاب، البارع الأدوات، المهديّ فأل الرضوان في عقد البيعة، أبو القاسم بن رضوان، وصاحب الأشغال وديوان الجيش الشيخ الوقور الحسن السمت، المُدْلي إلى أبوابهم بالقديم، المرموق بعين التجلة محمد بن أبي القاسم بن أبي مدين العثماني، فاتصلوا به، وقر بين أيديهم من كان قد حاصر قصر كتامة من حزب ضدهم، فالتف بهم. وعاد جميعهم إلى دار الملك لم يعترض طريقهم معترض ولا عاقهم عنه عائق. وبرز الوزير فأخذ على الناس بيعته، وسلم إليه أمانته وتولى خدمته، ووقع الرأي على بث العطاء بالمخيم المذكور واعتراض الجيش، والنهود لمدافعة الأمير الآخذ بمخنق الحضرة وقد أقعى برباط تيزي يصابر انسلاخ زمن القُر. وضبط ابن أخيه مدينة مكناسة، فكان أملك بها، ثم أمده بالأخ عبد المؤمن الصدَّقْ عند الحفيظة، الثبت الموقف في ميدان المدافعة وأضحت الحضرة بين لحْيَيْ أسد الضيق واليأس في أمر مَريج وكان من الأمر ما يذكر.

ص: 112

ومحّص الله هذا الأمير المتلاحق بدار الملك بفَرْي روعةٍ ومروج صاخَّة قامت بها عليه الساعة بغتة، لولا سابق السعادة وتملُّؤ الحظ واستحصاد حَبْل الإقبالِ، بما ترامى إليه أحد الأخابث، ممن أخذت بضَبْعِه شهوة الإقدام مع الانحطاط في القَمْر، والانهماك في إجالة حصباء الزَّدَشِير ومعاقرة القَدَح الريَّان، وخمول الأصل وانحطاط النشأة، شُعَيبٌ الوصيف، المدعو بأبي تُصُوكَيْت، منسوباً إلى صوت يقرقر به قوم من الأوقاح بين يدي القتال. كان قد اصطُنِع فأركب المُقْرَبات وألبس الخز وقلد الحلية البحتة، وأتبع الجملة، سوَّلت له نفسه عندما أفسد الثمل خيالها، التغلب على الأمر، وتحويل الدعوة. فركب في شرذمة من السِّفلة من كل مرخي الفكّ ماشٍ مشي الفِرْزان، وشهر السلاح، وقصد إلى قيُّوم الرماة، ومتولي الحكم وصاحب الشرطة العليا بباب السلطان الشيخ عيسى بن الزرقاء المنتسب إلى الرؤساء من بني أشقيلولة، القديم جنوحهم وهويّهم إلى هذه الإيالة اليعقوبية، شيخ رسخ له في الاصطناع قَدَم، لتعرُّقه ولَوْذَعِيَّتِه وتأتّيه للأهواء وتبريزه في ميدان الطنز والمقالعة، فأثرى وجمت أمواله محوطة بقفل الشحِّ معفاة عن الخرج فألفاه متفرق الوزعة حلس الأريكة، فرماه بحربة كادت تصيب حلقومه، وتراوغ فنجا باختلاطه مع الغمار في خفارة الأندلس، واستقر ببعض أبراج السور واقتدى به قائد جند الرَّجْل المُغراة به أيدي الاغتباط، من مضعوفي هؤلاء المتغلبة على الدولة، والمتورطة في خباط سياستها المضطربة، لتعلق آمالهم السخيفة بغناء من لديه من أبناء العَلَاّت وأذَّبة الأطماع ونَبذة الحياء، ورغاء البلاد وغثاء الجالية، وأولياء السَّرق والمعاقرة، إبراهيم بن أحمد البطروجي، الشيخ المنحل المنفك، المستشن الأديم، المتمسك بذيل البطالة والصَّبوة عن السن والكبْرة، المعرّق لسانه في الإمالة، المتفكِّه منه بالمهاترة وإرسال السجية، قاد الدنيا العريضة وابتنى المشارِبَ الملوكية لغير خصيصة ولا مزية، ولا استظهارٍ بنباهة قديم ولا صدق موقف، وشعيب بن وادَرَار بن ميمون من شيوخ الحشم ومواعين الجوْر وآلات التسليط، وقهر الملكة والعز مع الرخاء والذل عند الإحساس بالشدة. ما منهم من انضم إليه قومه ولا من دافع عنه رجله ولا من استمات دونه صنائعه، بل تحولوا عنهم وجهروا بأذاهم وتدربوا لإبادتهم واستعجلوا قمَمَ الفاقرة لانفرادهم عنهم بنفاضة الدنيا وضنانتهم بالعَرَض الأدنى وتمسكهم بفضلات أخونتهم وخُلقان ثيابهم. فامتنعوا بذروة السور وانتبذ الجند والنصارى فضبطوا مدينتهم المدعوة بالملاح، فكانوا أملك بها. وجعل ذلك الجَلَبُ السِّفلةُ يطوف بسكك المدينة هاتفاً بالخلعان، وإبقاء الأمر على المؤدب المعدول عنه. وكثُر الخوض واختلت الدعوة، فقومٌ يهتفون بدعوة الأمير عبد الحليم، وزعنفة تدعو لأبي عمر، وأخرى للسلطان المستدعى.

وفضت أقفال السجن فانتشر من به من بني مرين وبني زيان وغيرهم، واختلط المرعيّ بالمهمَل وطار الخبر الكريه إلى مخيم السلطان، فوقعت الواقعة وظن أنها القاضية.

ص: 113

وبادر الوزير بالرَّجْل إلى باب البلد، فجلَّى له المتسورون من أوليائه الخفيّ فسكن إليه، ولم يكن ثمَّ من يمانعه عن معالجة الباب، واستثار حفائظ الرّجْل بين يديه وأطمعهم في الأموال، فدخل البلد وسكَّن الهرج، وقتل ذيالك الخبيث، وأمر بإحراق شلَوه، من داعر متسام للعظمة مستام بالفَلْس الزائف، ناقد للدولة، عظيم الجرأة، فاتح باب الطمع في الأمر للسُّوَق والسِّفلة كما شاء ربُّ العزة، واقتضت السياسة إرغام مَعْطس التتبع للجناة وحلفاء الريبة والمقتحمين غمرة هذا الهول، لفشُوِّ الفساد في الطبقات وما يؤدي إليه استتباعه من إيحاش البريء وفرار المريب وتمعُّط رياش الدولة، فزرَّت الأطواق منه على سِلّ وليِكَ صَبرُه لَوْكَ ضرورة وصُيِّرت به الكتب إلى المحلة المراكشية وسائر البلاد سُبوقاً لخبر السر ورفعاً للشبهة، ولو أعيت الحيلة إلى إمتاع النهار وانتشار الأمر، لم يكن لخرْقِه من رَمْد ولا لصدعه من شاعب. ولازم السلطان من يومئذٍ سُدَّة المُلْك ودخل المدينة باختيار من يخلق ما يشاء ويختار، وكثر استدعاؤه للجيش المراكشي، وقد كان القوم خيموا بظاهر رباط الفتح، أثر منصور آل عبد المؤمن، في أوشاب من العرب والجيش المستخدم بتلك الناحية، تدب بينهم عقارب المحاسدة وتَحْزَئِلُّ حيات النفاق، وتتجاذب عزماتهم أيدي الاختلال. أما عميدهم فأسهل عن جبله لغير ضرورة وفي غير كثف من الحامية وعن غير روية إلا الوفاق والمساعدة والحرمة وأخذ العفو والانقياد في زمام الألفة وهيْعة النهور والإقدام بقوم فوضى على أمرٍ شَعاع.

وأما شيخ العرب حليفه الغبيط بمكانه فمزاحم بالقبائل المغراة بالنفاس وإشعاب الكلمة. وقد كاشف قبيل الملك من بني مرين، نَبَأ لأوّل وهلة فأغرم ما بوطنه من بلادهم، واستباح حرمتها، وأما المُعين للوزارة في البطن الثالث من مناسختها أو الدور الثالث من تناسخها المموه به لديهم، فموتور بالوزير الدائَل مكبوح برئيس الوطن عن معتاده من علو اليد وفضل الحكم. وفشى تدبيرهم فلا مُلايلة ومياومة تتلقفه من شفاههم الدكاكين وحَلَقُ اللهو فلا يسترجع عنهم مسترجع، وعاء قِرى أو ظرف هدية إلا وَمِلْءَ وعائه ذرءٌ من سرهم لإشراكهم فيه أهلَ البطالة والأحداث إخوان المعاقرة الذين لا تستأثر صدورهم عند عمل الكأس وزهزهة الأزراد وانخراق جو المجانة، إذ قذفت الإخافة منهم بطوائف شردتهم الدولة لمطالبات وإحَن، اقتضت الصاغية إليهم والبر باستضافتهم والظن بغَنَاء لديهم، وإشراكُهم في الأمر واستخلاؤهم للسر وإجالةُ قداح الرأي. ولا كالشيخ طُوَيْس الوقت، الطِّرْفُ في الخلال المذمومة، الاسرائيلي الطلعة، بزاز سوق النميمة، وأستاذ حلقة الخديعة وقطب رحى المكيدة والمثل في الغفلة عن الله والدار الآخرة، الخَبُّ ذو الوجهين، المتنفق بخائنة الأعين خالد بن تاسكورت، الهارب من وطن إفريقية، منتهك البشرة مفلتاً من شد العصاب في مثل هذه السبل. دالت الدولة، وقد أحفظها بسعيه بياض اليوم وسواد الليلة، طوَّافاً لنقل الهنات وتفريق المجتمعات وإثبات عقود الزور، والولائج إلى إبانة النفوس والذمم، فلم تُقله العثرة، وأغرمته خمسة آلاف من العين رَزأ بيت المال إياها في زمن يسير تولى فيه بعض الأعمال من خدمتها بما دل على متانة الأمانة وعفاف الكف، ولحق بمراكش حذراً من تعقيبه أو كسوع إلى مطالبة، فما شئت من تخبيب وبنث سعاية وتسخير في حبل هوى. ولم يغب هذا الفتق على حصافة الرئيس أبي ثابت عامر بن محمد ودربته بمراوضة المهمات ووضع الهِنَاء مواضع النُّقب ولكن اشتبهت الأمورُ فتركها مرسلة، وتكاثرت الظباء فجعلها مهملة، وقد كان الحجاج يقول إذا اشتبهت عليه الأمور:

دعها سماويةً تجري على قَدَرٍ

لا تفسدَنْها برأيٍ منك مَنْكُوسٍ

ص: 114

فكان صنْع الله لها ولا القوم غطاء ستراً يفصح له الحمد دائباً والشكر واصباً. ولما خيموا بسلا وأطلوا على الأحواز المكناسية تهيئوا الولوجَ على أَجَمَتِها وقلقوا لامتساك أميرها وثبات فئته بها، ففتقوا بالمراسلة صِفَاق الوحشة وخطبوا من القبائل بها الإرعاءَ على البقية. وبرز الرئيس عامر بن محمد وهو الموثوق به في رجال المغرب كافة يتضمن لهم تَقَبُّل الفيئة ومراجعة الحسنى وتهذيب ما عرَّضوا به من إخلاء دَسْت الملك من الوزير مخيفهم والاستعاضة منه بمسعود بن رحو ضده، لما يرجون من ارتكابه فيهم خلاف غرضه مُحادّة له وانحرافاً عنه، وليروا مواقع منَّتهم في عنقه بتسبيبهم رجعاه وتحسينهم عقباه، فتكون أيدي دالَّتهم عالية وأصوات تعززْهم عليه غير خافتة، وأن يهادن أميرهم الذي خلص إليه هويهم في إرث أبيه بوطن سجلماسة وما إليها، فانحط عامر بن محمد في غرضهم وتحمل كلَّه وضمن عرضه ونفض اليد من الممالآت عليهم إن ترفَّع السلطان عنه، حافظاً بذلك سيقته وباذراً فيهم يده ومتوفراً عن حربهم جهده، ومعملاً في السلامة من معرة عدوانهم دهيته، ومدنياً من أمير متوفر الخلال جواره.

ولم يكد رسوله يتوسط طريق طيته، حتى تواترت مخاطبات السلطان مستحثَّة ترهقها سنابك بروزه إلى كبس من بمكناسة، فلم يسع التلوُّم خيفةً من ظهورٍ يتأتى له ولا يحضرون مَدْعاه ولا يأخذون بمقتضى من حمده، فارتحلوا يوم الجمعة ثاني شهر ربيع الأول إلى خميس فزارة. ولقيهم بريد الفتح وقد سالت الأباطح والرُّبا بخيل العرب مغيرة على ما واجهه من الأحواز، فاستأصلت ما شاء الله من الأمم المحروبة فلم تدع لهم غطاء ولا وطاء ولا خفّاً ولا ظلفاً، وبيعت يومئذٍ المرأة غير مستكشفة عن سنخ ولا مسؤولة عن حرية أو رق بثلاثة دنانير فما دونها، واستبيحت الفروج واستحلت الأموال. صاننا الله من المحن وحجبنا عن غوائل الفتن. فتُعرِّفَ ما كان من خروج الجيش المستعرض بدار الملك عن آخره، إلى من استنفر من مطَّوِّعَة الرِّجْل، لنظر وزير الدولة وماخض زق هذا الهوْل عمر بن عبد الله ضنانة بأميره وكفاية له وانتداباً إلى القيام بمهمِّه، غرة الشهر، وفي موكبه عُدَّة السلطان وأبهته من الطبول والبنود والرجال الرقاصة وتخييمه بوادي النجاة. وأنهم لما ارتحلوا صبيحة يوم الجمعة لحق بهم من عرفهم ببروز من بمكناسة لنظر أخي السلطان وابن أخيه في جيش من أولي البصائر من قبيلهم الماثلة دورهم بتلك الأحواز فيمن لف لفهم من أذيالهم واجتمع من القوم عسكر وافر هون عليهم الإقدام على جيش الحضرة مع الاستلحاق والعطاء.

فلما تراءى الجمعان، أمر من في جيش السلطان من القبيل المريني بالمناوشة والاختصاص بباكورة اللقاء ثم أردفوا بالناشبة ورماة القسي العربية، فرجفت راياتهم على شأن غز المشارقة من المزمار والطبل وحمل جمة الشعر في أرينة سنان الراية.

ولم يكن إلا أن شارفهم القوم من قبيلهم وهب المكناسيون في وجوههم فانهزموا ضربة، وسالوا عن يمين القلب ويساره، وشالت نعامهم، وكادوا يجرّون الهزيمة على سائرهم، ديدنهم الذي صارفوه أمراءهم وناجزوه حروبهم من لدن ذَهَب أولوهم أولو الريح الهابة والدول الشابة.

ولما رأى الوزير قائد الجيش حلول الدَّبْرة وشافه موقف الفَضْح استجمع وأمر من لديه من فرسان الروم بالصدمة، فصَدَقوها عَدُوَّه، فكانت واحدة ركب بها أكتاف القوم فلم يثنوا عناناً ولا أفاقوا فواقاً، واستولت الأيدي على كراع كثير وأسباب، واستلحم السيف جمعاً يناهز المائة، وأسر من الماثلين بمصطف الوزارة شعيب بن وخديج، واستأمن إلى عامر بن محمد بطريق لحاقه طلحة التاورتي وهو أجلد القوم. وتحصل بيد العفة سبعة من هوادج نسائهم اللائي بادروهن بالنكاح في مصطلى فراسخ، وقد أفاق القوم وركبوا ثنية ينظرون منها إلى نشاط عدوهم واجتماع فلَه.

وجعل الجيش وجهه إلى مكناسة فنزل بظاهرها وبرز أهلها إلى وزيره خاشعين من الذل ينظرون من طرفٍ خفي تدمَى كلومُهم، فقرروا مهولاً من غلبتهم على الطاعة، وشرحوا عُظْماً مما رُموا به من سوء المُلكة، ووعدوا من أنفسهم بالاستماتة من دون حوزتهم مع فرض العودة.

ص: 115

وتلاحق بالوزير عشيتئذٍ من قبل سلطانه المخاطبة مستَحثة في اللحاق بدار الملك يوم السبت ثالث الشهر، فتحرك ووصل المدينة عشيَّ اليوم المذكور وقد شاع قرب منزل الأمير عبد الحليم ممداً لأخيه بنفسه قبل شياع خبر الوقيعة به. وترك بمدينة مكناسة حامية ورجلاً ورماة. وفي ليلة الميلاد الأعظم من هذا الشهر ورد كتاب الفتح على أهل مدينة سلا يتضمن الأنباء بالصُّنع المذكور، وأن الأمير عبد الحليم فر عنه من كان معه من قبيلهم وارتحل لوجهه شرقاً وكفى الله المسلمين معرة الفتنة.

ونص الكتاب الوارد بذلك: من عبد الله المتوكل على الله محمد أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين ابن مولانا الأمير أبي عبد الرحمن بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحسن بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي سعيد بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق أيد الله سلطانه، ومهد أقطاره وأوطانه، إلى الأشياخ المكرمين والشرفاء المرعيين والفقهاء المؤثرين والوجوه والأعيان والخاصة والعامة والدهماء من أهل مدينة سلا حرسها الله تعالى.

سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد حمد الله واهب النعماء ومجزل المنن الجميمة والآلاء، مؤيد من توكل عليه بالظهور والاعتلاء والفتح الحميد الأنباء، الجميل الإعادة والابتداء، والصلاة والسلام الأكملين على سيدنا ونبينا ومولانا محمد خاتم الأرسال والأنبياء، المخصوص بالحوض والشفاعة واللواء، المبعوث رحمة لإظهار الحنيفة السمحة البيضاء، المؤيد بالرعب على من راغ عن سبيل السواء، والرضا عن آله وأصحابه ذوي العزم والمضاء، الباذلين أموالهم ونفوسهم في مناصرته ومؤازرته فكانوا أعز الأنصار والظهراء، وصلة الدعاء لهذا الأمر العلي المؤيد الكريم السلطاني المجاهدي المحمدي المتوكلي بنصر الأولياء وكبت الأعداء وقسر متبعي الأهواء واتصال الفتوحات المجددة مع الآناء.

فإنا كتبنا إليكم وإلى الله وفود البشائر عليكم، وضاعف ضروب المسرات إليكم من حضرتنا العلية المدينة البيضاء حرسها الله تعالى) وكلاها (وإياة النصر رائقة، ورايات الفتح خافقة وآيات الظهور باعتلاء كلمتنا ناطقة. والحمد لله كثيراً ولكم عندنا عناية كفيلة بتيسير مأربكم وحفاية مؤكدة لرعاية جانبكم، وبحسب ذلك لا يتزيد عندنا مزيد إلا أوفدنا عليكم زائده، ولا يتجدد لدينا متجدد إلا أوردنا عليكم وافده، وإلى هذا أكرمكم الله تعالى فإنا أصدرناه إليكم نعلمكم أنه لما استقر ركابنا السامي بحضرتنا المذكورة وَالَى الله علوها، واستولينا منها على سرير ملك آبائنا وخلافة الكرام أسلافنا، اقتضى نظرنا الكريم أن وجهنا وزيرنا الحظي لدينا الأعز علينا المقرب بإمحاض النصائح إلينا، ظهير خلافتنا الأرضَى وحسام دولتنا الأمضى وعضد ملكنا وخالصة أمرنا ونجي سرنا، أبا عمر بن عبد الله بن علي أعزه الله تعالى، يقدم جملة منصورة من جيشنا المظفر للقبض على من كان بمكناسة المحروسة من طائفة الشقي عبد الحليم. فلما أحست الطائفة المذكورة بذلك، حدثتهم أنفسهم الخبيثة وأمانيهم الكاذبة بلقاء حزبنا الغالب بالله تعالى، فخرجوا بظاهر مكناسة المذكورة، حتى إذا تراءى الجمعان صدق أولياؤنا أعزهم الله الحملة عليهم، فولّى الأعداء الأدبار، ومنح الله منهم الأكتاف فأحال أولياؤنا عليهم القتل وأكثروا فيهم الفتك والسبي وفر متبوعهم عبد المؤمن خاسراً إلى أخيه عبد الحليم المذكور. فلما ورد عليه الخبر بذلك أسلمه جميع من كان معه بتازى من بني عسكر وغيرهم. وفر للحين على وجهه لحيث يعجل الله بالقبض عليه والانتقام منه ورجع من كان معه إلى بابنا العلي أسماه الله تعالى.

أعلمناكم بذلك لتأخذوا بحظكم من السرور بأوفى حظ والله سبحانه المشكور على ذلك وهو يصل كرامتكم ويوالي أثرتكم وحفايتكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وكتب في اليوم الخامس لشهر ربيع الأول المبارك من عام ثلاثة وستين وسبعمائة عرف الله خيره وبركته بمنه. وكتب في التاريخ المؤرخ به فغشينا بالبلد سرور كثير تأيد بسرور الموسم المخصوص بالاحتفال والحمد لله.

وكان من الأمر ما يلي به الذكر إن شاء الله.

ص: 116