الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس
الكلام على بعض المحرمات
الفصل الأول
المسكرات
52 -
وَيَحْرُمُ مَا أَفْضَى إِلَى السُّكْرِ أَكْلُهُ
…
أَوِ الشُّرْبُ مِنْهُ كَالْحَشِيشَةِ وَالْخَمْرِ
53 -
وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ فَهْوَ نَظِيرُهُ (1)
…
وَإِنْ قَلَّ كَالنَّزْرِ الْقَلِيلِ (2) مِنَ الْمِزْرِ (3)
الفصل الثاني
المعازف والغناء
(1) والعلة الجامعة هنا هي الإسكار، وإذهاب العقل، وروى البخاري (5/ 2122)(5266)، ومسلم (4/ 2322) (3032) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل، والخمر ما خامر العقل)، وما ذُكِرَ فهو على سبيل التمثيل لا الحصر، وكل ما تحقق فيه علة تغطية العقل وإذهابه، فهو خمر مهما كان اسمه، ومادة صنعه قلَّ، أو كثر كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم عند أصحاب السنن:(ما أسكر كثيره فقليله حرام).
(2)
أي القلة القليلة.
(3)
المِزْرُ: نوع من الشراب يصنع من الذرة، ومن الشعير، ومن الحنطة، وقد روى البخاري (4/ 1579)(4088)، ومسلم (3/ 1585) (1733) من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ ابن جبل إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله إن شرابا يصنع بأرضنا يقال له: المزر من الشعير، وشراب يقال له: البتع من العسل، فقال:(كل مسكر حرام). واللفظ لمسلم.
54 -
وَيَحْرُمُ ضَرْبُ الدُّفِّ (1) إِلَّا لِنِسْوَةٍ
…
بِعُرْسٍ (2). . . . . . . . . . . . . .
(1) الدف معروف، وهو ما كان يشبه الغربال، جاء في الموسوعة العربية العالمية: (الدُّف: آلة للنقر تتكون
من طوْق خشبي، أو معدني ضيق ذي غشاء رقيق من البلاستيك، أو جلد الحيوان مشدود عبر جانب واحد
…
) قال ابن حجر في الفتح (2/ 440): [والدف: بضم الدال على الأشهر، وقد تفتح: ويقال له أيضا الكربال بكسر الكاف، وهو الذي لا جلاجل فيه، فإن كانت فيه فهو المزهر].
وقد قرر الناظم هنا أن الضرب بالدف محرم للرجال، وقد وقفت على بعض الآثار والعلل التي تؤيد ذلك، منها: ما رواه البيهقي (10/ 222) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [الدف حرام، والمعازف حرام، والكوبة حرام، والمزمار حرام] قال الشيخ الألباني رحمه الله في رسالة " تحريم آلات الطرب "(ص/92): [أخرجه البيهقي (10/ 222) من طريق عبد الكريم الجزري عن أبي هاشم الكوفي عنه. قلت: وهذا إسناد صحيح إن كان (أبو هاشم الكوفي) هو (أبو هاشم السنجاري) المسمى (سعدا) فإنه جزري كعبد الكريم، وذكروا أنه روى عنه لكن لم أر من ذكر أنه كوفي، وفي " ثقات ابن حبان " (4/ 296) أنه سكن دمشق والله أعلم.].
ومنها: ما رواه ابن أبي شيبة (3/ 496) عن إبراهيم قال كان أصحاب عبد الله يستقبلون الجواري في الأزقة معهن الدف فيشقونها)، ورواته ثقات، ويحتمل الرفع لابن مسعود رضي الله عنه أو أنه كان بأمره. وإن كان هذا في حق الجواري، فالرجال أولى، ويحمل في حقهن على غير الأحوال المسموح لهن بالضرب عليه كما سيأتي - إن شاء الله -.
ومنها: أن فيه تشبه بالنساء، قال ابن رجب في فتح الباري (8/ 434):[جمهور العلماء على أن الضرب بالدف للغناء لا يباح فعله للرجال؛ فإنه من التشبه بالنساء، وهو ممنوع منه، هذا قول الأوزاعي، وأحمد، وكذا ذكر الحليمي، وغيره من الشافعية.] ونص عبارة الحليمي كما ذكرها الشيخ الألباني في رسالته المشار إليها، قال: قال الحليمي كما في " شعب الإيمان "(4/ 283): وضرب الدف لا يحل إلا للنساء؛ لأنه في الأصل من أعمالهن، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء ".
(2)
قرر هنا أصلاً متفقاً عليه، وهو أنه يجوز الضرب للنساء بالدف في العرس، والأحاديث في هذا الباب كثيرة منها: ما رواه البخاري (4/ 1469)(3779) عن الربيع بنت معوذ قالت: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم غداة بني علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، وجويريات يضربن بالدف يندبن
. . . . . . . . . . . . . وَإِلَّا فِي الْمَوَاسِمِ (1) لِلصُغَرِ (2)
من قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين).
(1)
الموسم هو المَعْلَم الذي يجتمع الناس فيه (كظرف للزمان، أو المكان)، أو إليه، وهي بهذا المعني أعم من الأعياد، فيدخل فيها: الختان، وقدوم الغائب، والولائم، ونحو ذلك. قال ابن منظور في لسان العرب مادة (وسم):(قال ابن السكيت كل مَجْمَع من الناس كثير هو موْسِمٌ)، وقال الزبيدي في تاج العروس، باب: الميم، فصل: الواو: ((موسم الحج) كمجلس (مجتمعه) وكذا موسم السوق والجمع مواسم قال اللحيانى ذومجاز موسم وانما سميت هذه كلها مواسم لاجتماع الناس والاسواق فيها وفى الصحاح سمى بذلك لانه معلم يجتمع إليه)، وقال النووي في المجموع (6/ 153):(الْمِيسَمُ الشَّيْءُ الَّذِي يُوسَمُ بِهِ. وَجَمْعُهُ مَيَاسِمُ وَمَوَاسِمُ. وَأَصْلُهُ مِنْ السِّمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ ، وَمِنْهُ مَوْسِمُ الْحَجِّ ; لِأَنَّهُ معلم يَجْمَعُ النَّاسَ).
(2)
الصُغَر: جمع الصُغْرى، والصُغْرى: تأنيث الأَصْغَرِ. من الصحاح للجوهري (مادة: صغر)، وقال أيضاً:(قال سيبويه: لا يقال نِسوةٌ صُغَرٌ، ولا قومٌ أَصاغِرُ، إلَاّ بالألف واللام).
ونجد الناظم رحمه الله هنا قد قرر مسألتين: الأولى - التفرقة بين الكبيرة، والصغيرة، فلم يرخص للأولى في الضرب بالدف إلا في العرس، ووسع الأمر في الثانية، وهذا التفريق لا دليل عليه، ويوضحه أن المتتبع للأحاديث التي فيها الضرب بالدف يجد أن الجواري هن اللواتي كن يضربن بالدف سواء كان ذلك في العرس، أو العيد، والجارية تطلق على الفتاة الصغيرة، والشابة، والأمة سواء أكانت شابة أو عجوزاً.، وأما هذا التفريق فلا دليل عليه فيما أعلم.
المسألة الثانية - التوسع فيما يجوز للصغيرة - على تفريقه - الضرب بالدف فيه غير الأعياد، وهذه المسالة هي محل خلاف بين علماء المذاهب، وقد يكون مقصود الناظم الأعياد فقط، فيكون من باب: العام الذي أريد به الخصوص، إلا أن ظاهر عبارته يأبى ذلك، والذي أراه راجحاً والذي يدل عليه أئر أصحاب ابن مسعود المشار إليه آنفاً أن الجواز للنساء في الضرب بالدف لا يتعدى العيد، والعرس. قال الشيخ الألباني رحمه الله في رسالة " تحريم آلات الطرب " (ص/121 - 125): [ورب سائل يقول: قد عرفنا مما تقدم من الأحاديث، والبحوث، وأقوال العلماء تحريم آلات الطرب كلها بدون استثناء، سوى الدف في العرس، والعيد، فهل هناك مناسبة أخرى يحل فيها الدف أيضا؟
فأقول: يرد في كلام بعض العلماء ما يشر إلى جواز الضرب على الدف في (الأفراح) - هكذا يطلقون -، وفي الختان، وقدوم الغائب، وأنا شخصيا لم أجد ما يدل على ذلك مما تقوم به الحجة، ولو موقوفا، وقد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
رأيت ابن القيم ذكر في كتابه " مسألة السماع "(ص 133) أثرا من رواية أبي شعيب الحراني بسنده عن خالد عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب كان إذا سمع صوت الدف سأل عنه؟ فإن قالوا: عرس، أو ختان سكت. ورجاله ثقات ولكنه منقطع، وقد أبعد النجعة في عزوه لأبي شعيب الحراني، وإن كان ثقة، فإنه ليس مؤلف معروف، وقد رواه من هو أشهر منه وأوثق، ومن المصنفين كابن أبي شيبة (4/ 192) وقال:"أقره" مكان "سكت" وعبد الرزاق (11/ 5)، وعنه البيهقي (7/ 290) من طريقين عن أيوب عن ابن سيرين: أن عمر كان
…
إلخ. ولفظ ابن أبي شيبة: عن ابن سيرين قال: (نبئت أن عمر) وهذا صريح في الانقطاع، وما قبله ظاهر في ذلك؛ لأن محمد بن سيرين لم يدرك عمر بن الخطاب، ولد بعد وفاته بنحو عشر سنين.
وقد استدل بعضهم للمسألة بحديث عبد الله بن بريدة عن أبيه: أن أمة سوداء أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع من بعض مغازيه - فقالت: إني كنت نذرت إن ردك الله صالحا (وفي رواية: سالما) أن أضرب عندك بالدف [وأتغنى]؟ قال: (إن كنت فعلت (وفي الرواية الأخرى: نذرت) فافعلي وإن كنت لم تفعلي فلا تفعلي). فضربت فدخل أبو بكر وهي تضرب ودخل غيره وهي تضرب ثم دخل عمر قال: فجعلت دفها خلفها (وفي الرواية الأخرى: تحت إستها ثم قعدت عليه) وهي مقنعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان ليفرق (وفي الرواية: ليخاف) منك يا عمر أنا جالس ههنا [وهي تضرب] ودخل هؤلاء [وهي تضرب] فلما أن دخلت [أنت يا عمر] فعلت ما فعلت (وفي الرواية: ألقت الدف)، أخرجه أحمد والسياق له والرواية الأخرى مع الزيادات للترمذي وصححه هو وابن حبان وابن القطان وهو مخرج في " الصحيحة "(1609 و 2261) وسكت عنه الحافظ في " الفتح "(11/ 587 - 588)، وقد ترجم لحديث بريدة هذا جد ابن تيمية - رحمهما الله تعالى - في " المنتقى من أخبار المصطفى " بقوله: باب ضرب النساء بالدف لقدوم الغائب وما في معناه. قلت: وفي الاستدلال بهذا الحديث على ما ترجم له وقفة عندي؛ لأنها واقعة عين لا عموم لها، وقياس الفرح بقدوم غائب مهما كان شأنه على النبي صلى الله عليه وسلم قياس مع الفارق كما هو ظاهر؛ ولذلك كنت قلت في " الصحيحة " (4/ 142) عقب الحديث: وقد يشكل هذا الحديث على بعض الناس لأن الضرب بالدف معصية في غير النكاح، والعيد، والمعصية لا يجوز نذرها، ولا الوفاء بها، والذي يبدو لي في ذلك: أن نذرها لما كان فرحا منها بقدومه عليه السلام صالحا منتصرا اغتفر لها السبب الذي نذرته لإظهار فرحها خصوصية له صلى الله عليه وسلم دون الناس جميعا فلا يؤخذ منه جواز الدف في الأفراح كلها؛ لأنه ليس هناك من يفرح به كالفرح به صلى الله عليه وسلم ولمنافاة ذلك لعموم الأدلة المحرمة
55 -
وَيَحْرُمُ فِي رُزْءٍ (1) لِكُلِّ مُكَلَّفٍ (2)
…
كَتَحْرِيمِ تَصْفِيقٍ وَرَقْصٍ (3) وَكَالزَّمْرِ
للمعازف، والدفوف، وغيرها إلا ما استثني كما ذكرنا آنفا، ونحوه في المجلد الخامس من " الصحيحة " (332 - 333). وقد شرح السبب الذي ذكرته الإمام الخطابي رحمه الله فقال في " معالم السنن " (4/ 382):[ضرب الدف ليس مما يعد في باب الطاعات التي يعلق بها النذور، وأحسن حاله أن يكون من باب المباح غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح بسلامة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة من بعض غزواته، وكانت فيه مساءة الكفار، وإرغام المنافقين صار فعله كبعض القرب التي من نوافل الطاعات، ولهذا أبيح ضرب الدف] قلت: ففيه إشارة قوية إلى أن القصة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فهي حادثة عين لا عموم لها كما يقول الفقهاء في مثيلاتها، والله سبحانه، وتعالى أعلم.].
(1)
قال الجوهري في الصحاح، مادة (رزأ):[الرُزْءُ: المصيبة]
(2)
حذف الناظم الفاعل، والظاهر أنه يعود على الدف، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الاختيارات العلمية (5/ 361 - الفتاوى الكبرى):[ويكره رفع الصوت مع الجنازة ولو بالقراءة اتفاقا، وضرب النساء بالدف مع الجنازة منكر منهي عنه]، والرجال بهذا الحكم أولى.
(3)
التصفيق محرم على الرجال مطلقاً، وعلى النساء مقيداً بغير حالة التنبيه في الصلاة، ويدل على ذلك أمور: منها - أنه من عادات قوم لوط التي بها أُهلكوا، فقال الله سبحانه ذاما للكفار {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَة} (الأنفال: 35) وقد ثبت عن ابن عباس وابن عمر وعطية ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة أنهم قالوا (المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق).
ومنها - أن التصفيق من شأن النساء، وقد نهي الرجال عن التشبه بالنساء، ولما فعلها الصحابة رضي الله عنهم في الصلاة أنكرها الرسول صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (11/ 565):(وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بدف ولا يصفق بكف بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال (التصفيق للنساء والتسبيح للرجال) و (لعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء) ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثا ويسمون الرجال المغنين مخانيثا وهذا مشهور في كلامهم).
ومنها - أن التصفيق انتشر بين مبتدعة الصوفية فأكثر العلماء من التشنيع عليهم كابن الجوزي في تلبيسه، وابن الصلاح في فتاواه، والعز بن عبد السلام في قواعده، وشيخ الإسلام في كثير من المواضع، وابن القيم في الإغاثة، وغيرهم.
ومنها - أنه مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنه لم ينقل عنهم مطلقا أنهم كانوا إذا استحسنوا شيئا صفقوا، بل إما أن يعبروا عن استحسانهم للشيء بالقول، أو بالتكبير وذكر الله.
وأما بالنسبة للنساء فلا يجوز في غير المواضع التي سمح بها الشرع (كالتنبيه في الصلاة)؛ لعموم الأدلة الأخرى المحرمة للتصفيق. وانظر فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 307)، ومقال الشيخ: ناصر بن حمد الفهد سماه: " التحقيق في مسألة التصفيق".
وأما الرقص فقال الإمام القرطبي في تفسيره (10/ 318): [قال الإمام أبو بكر الطرطوشي وسئل عن مذهب الصوفية فقال: وأما الرقص، والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار، قاموا يرقصون حواليه، ويتواجدون، فهو دين الكفار، وعباد العجل].
وقال الشنقيطي في تفسيره "أضواء البيان"(3/ 538): [استدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِى الأَرْضِ مَرَحًا} (الإسراء/ 37)، (لقمان / 18) على منع الرقص وتعاطيه؛ لأن فاعله ممن يمشي مرحاً].
56 -
وَلَا قُرْبَةً فِيهِ إِلَى اللهِ (1) بَلْ إِلَى
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) قال الإمام ابن رجب في نزهة الأسماع (ص/ 68) وما بعدها: [القسم الثاني: أن يقع استماع الغناء بآلآت اللهو، أو بدونها على وجه التقرب إلى الله - تعالى -، وتحريك القلوب إلى محبته، والأنس به، والشوق إلى لقائه، وهذا هو الذي يدعيه كثير من أهل السلوك، ومن يتشبه بهم ممن ليس منهم، وإنما يتستر بهم، ويتوصل بذلك إلى بلوغ غرض نفسه من نيل لذته فهذا المتشبه بهم مخادع ملبس، وفساد حاله أظهر من أن يخفى على أحد، وأما الصادقون في دعواهم ذلك - وقليل ما هم - فإنهم ملبوس عليهم حيث تقربوا إلى الله - عزوجل - بما لم يشرعه الله - تعالى - واتخذوا دينا لم يأذن الله فيه فلهم نصيب ممن قال الله - تعالى - فيه:{وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (لأنفال/35) والمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق باليد، كذلك قاله غير واحد من السلف، وقال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى/21)، فإنه إنما يتقرب إلى الله عز وجل بما يشرع التقرب به إليه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فأما ما نهى عنه فالتقرب به إليه مضادة لله - عزوجل - في أمره. قال القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله في كتابه في السماع:" اعتقاد هذه الطائفة مخالف لإجماع المسلمين، فإنه ليس فيهم من جعل السماع دينا، وطاعة، ولا رأى إعلانه في المساجد، والجوامع، وحيث كان من البقاع الشريفة، والمشاهد الكريمة، وكان مذهب هذه الطائفة مخالفا لما اجتمعت عليه العلماء، ونعوذ بالله من سوء التوفيق ". انتهى، ما ذكره ولا ريب أن التقرب إلى الله تعالى بسماع الغناء الملحن لا سيما مع آلات اللهو مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام بل، ومن سائر شرائع المسلمين أنه ليس مما يتقرب به إلى الله، ولا مما تزكى به النفوس وتطهر به
…
].
. . . . . . . . . . . . . . . .
…
لَظَاً شَرَرٌ يُرْمَي بِهِ فِيهِ كَالْقَصْرِ (1)
57 -
وَلَيْسَ الْغِنَا (2) بِالْحَدْوِ (3) وَالنَّدْبِ (4) مُشْبَهَاً
…
وَلَا شُبِّهَاً إِيرَادَ شَيءٍ مِنَ الشِّعْرِ (5)
(1) القَصْر: واحد القُصور، وهو البناء العظيم، والناظم يشير إلى قوله تعالى عن النار - أعاذنا الله منها -:{إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْر} (المرسلات/32).
(2)
قال الإمام ابن رجب في نزهة الأسماع (ص/64) نقلا عن الإمام الطبري: [إنما يكون الشعر غناء إن لحن، وصيغ صيغة تورث الطرب، وتزعج القلب، وتثير الشهوة الطبيعية، فأما الشعر من غير تلحين فهو كلام، كما قال الشافعي: الشعر كلام، حسنة كحسنة، وقبيحه كقبيحه. انتهى]. وسوف يأتي قريباً - بمشيئة الله - الكلام على معنى التلحين.
(3)
قال الرازي في مختار الصحاح مادة (حدا): (الحَدْوُ سوق الإبل والغناء لها)، وقد روى البخاري (5/ 2294) (5856) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسير له فحدا الحادي فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ارفق يا أنجشة ويحك بالقوارير)، والحدو مباح قال ابن قدامة في المغني (10/ 175): [فأما الحداء ، وهو الإنشاد الذي تساق به الإبل ، فمباح ، لا بأس به في فعله واستماعه؛ لما روي عن عائشة
…
] وساقه بنحو حديث أنس السابق رضي الله عنهما.
(4)
قال الجوهري في الصحاح مادة (ندب): (نَدَبَ الميِّت، أي بكى عليه وعدَّد محاسنه، يَنْدُبُه نَدْباً. والاسم النُدْبَةُ) والندب محرم كما ورد في فتوى اللجنة الدائمة رقم (2177).
(5)
لعل الناظم يقصد في هذا البيت أن الغناء، والشعر الغير مصحوب بآلة، ليس له حكم ثابت فهو ليس مباحاً كالحدو، ولا محرماً كالندب، بل إنه كالكلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ الألباني رحمه الله في رسالة: " تحريم آلات الطرب "(ص/126: 137): قد يقول قائل: ها نحن أولاء قد عرفنا حكم الغناء بآلات الطرب وأنه حرام إلا الدف في العرس والعيد فما حكم الغناء بدون آلة؟
وجواباً عليه أقول: لا يصح إطلاق القول بتحريمه؛ لأنه لا دليل على هذا الإطلاق كما لا يصح إطلاق القول بإباحته كما يفعل بعض الصوفيين وغيرهم من أهل الأهواء قديما وحديثا لأن الغناء يكون عادة بالشعر وليس هو بالمحرم إطلاقا كيف والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (صحيح)" إن من الشعر حكمة ". رواه البخاري وهو مخرج في " الصحيحة "(2851)،
…
قال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن الشعر: (صحيح)" هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح " وهو مخرج في " الصحيحة " أيضا (447) .... ثم أخذ الشيخ يسوق الأحاديث والآثار الدالة على جواز الغناء بدون آلة في بعض المناسبات، ثم قال: وفي هذه الأحاديث والآثار دلالة ظاهرة على جواز الغناء بدون آلة في بعض المناسبات كالتذكير بالموت أو الشوق إلى الأهل والوطن أو للترويح عن النفس والالتهاء عن وعثاء السفر ومشاقه ونحو ذلك مما لا يتخذ مهنة ولا يخرج به عن حد الاعتدال فلا يقترن به الاضطراب والتثني والضرب بالرجل مما يخل بالمروءة
…
].
58 -
وَلَكِنَّمَا التَّلْحِينُ (1) يَقْلِبُ طَبْعَهُ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أي التطريب، والتغريد، وترجيع الصوت. ومقصود الناظم هنا التكلف الذي قد يؤدي إلى تغيير الكلمة، لتحسين الصوت، قال الراغب في مفردات القرآن مادة (لحن): صرف الكلام عن سننه الجاري عليه إما بإزالة الإعراب أو التصحيف وهو المذموم. وانظر لسان العرب مادة (لحن)، والتعريفات للجرجاني (ص/91)، والتمهيد لابن عبد البر (22/ 198).
قال الإمام ابن رجب في نزهة الإسماع (ص/25 - 26): [أكثر العلماء على تحريم ذلك أعني سماع الغناء، وسماع آلآت الملاهي كلها، وكل منها محرم بانفراده، وقد حكى أبو بكر الآجري، وغيره إجماع العلماء على ذلك، والمراد بالغناء المحرم: ما كان من الشعر الرقيق الذي فيه تشبيب بالنساء، ونحوه مما توصف فيه محاسن من تهيج الطباع بسماع وصف محاسنه، فهذا هو الغناء المنهي عنه، وبذلك فسره الإمام أحمد، وإسحاق بن راهوية، وغيرهما من الأئمة.
فهذا الشعر إذا لحن، وأخرج بتلحينه على وجه يزعج القلوب، ويخرجها عن الاعتدال، ويحرك الهوى الكامن المجبول في طباع البشر، فهو الغناء المنهي عنه، فإن أنشد هذا الشعر على غير وجه التلحين، فإن كان محركا للهوى بنفسه، فهو محرم أيضاً؛ لتحريكه الهوى، وإن لم يسم غناء، فأما ما لم يكن فيه شيء من ذلك فإنه ليس بمحرم، وإن سمي غناء ..]
. . . . . . . . . . . . . . . . .
…
كَمَا قُلِبَ الْمِزْرُ (1) الْخَبِيثُ مِنَ الْبُرِّ (2)
59 -
وَلَيْسَ اسْتِمَاعُ اللَّهْوِ مِثْلَ سَمَاعِهِ
…
فَفَكِّرْ تَرَى التَّفْرِيقَ إِنْ كُنْتَ ذَا فِكْرِ (3)
(1) المِزْرُ بِالْكَسْرِ: نبيذٌ يُتَّخَذُ مِنَ الذُّرَة. وَقِيلَ: مِنَ الشَّعِير أَوِ الحِنْطَةِ، وانظر لسان المحكم، والنهاية، وتاج العروس وغيرهم مادة (م ز ر).
(2)
أي القمح وروى مسلم في "صحيحه"(3/ 1587) حديث رقم (2002) عن جابر، أن رجلا قدم من جيشان، وجيشان من اليمن، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يقال له: المزر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أو مسكر هو؟» قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كل مسكر حرام، إن على الله عز وجل عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال:«عرق أهل النار» أو «عصارة أهل النار» .
(3)
والاستماع يكون عن قصد وتلذذ، بخلاف السماع فقد يكون بدون قصد ولا تلذذ. قال أبو هلال العسكري في "الفروق":[الفرق بين الاستماع والسماع: قال الفيومي: " يقال " استمع " لما كان بقصد؛ لأنه لا يكون إلا بالاصغاء وهو الميل. و " سمع " يكون بقصد، وبدونه ". انتهى. قلت: ويؤيده قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} (لأعراف/204). إشارة إلى قصدهم إلى ذلك، وميلهم إلى السماع الخالي عن القصد.]، وقال الإمام ابن رجب في نزهة الإسماع (ص/48):[السامع من غير استماع لا يوصف فعله بالتحريم؛ لأنه عن غير قصده منه].
واللهو يحتمل أن يكون محرماً، ويحتمل أن يكون مباحاً، فإن كان الأول (المحرم): فالتفريق يكون في السماع لأول مرة دون معاودة، كنحو قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه:(يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة) - أخرجه أبو داود (1/ 652)(2149)، والترمذي (5/ 101)(2777)، وأحمد (5/ 351) من حدث ابن بريدة عن أبيه به، والحديث حسنه الشيخ الألباني رحمه الله، وحسنه لغيره الشيخ الأرناؤوط -.
قال الإمام ابن رجب في " نزهة الأسماع "(ص/49) وهو يتكلم عن الغناء المذموم: [وإن استمر جالسا وقصد الاستماع كان محرما وإن لم يقصد الاستماع بل قصد غيره كالأكل من الوليمة أو غير ذلك فهو محرم أيضا عند أصحابنا وغيرهم من العلماء
…
]. وقال أيضاً: (ص/63 - 64): [وقد صنف القاضي أبو الطيب الطبري الشافعي رحمه الله مصنفا في ذم السماع، وافتتحه بأقوال العلماء في ذمه وبدأ بقول الشافعي رحمه الله: هو لهو مكروه يشبه الباطل. وقوله: من استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. قال
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أبو الطيب: وأما سماعه من المرأة التي ليست بمحرم له فإن أصحاب الشافعي قالوا: لا يجوز بحال سواء كانت مكشوفة، أو من وراء حجاب، وسواء كانت حرة، أو مملوكة. قال الشافعي: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها، فهو سفيه ترد شهادته. ثم غلظ القول فيه وقال: هو دياثة
…
].
وأما إن كان مباحاً بألّا يصحبه آلة أو تلحين مذموم، ونحو ذلك فالتفريق له وجه؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/ 566): [وليس في حديث الجاريتين أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى ذلك، والأمر والنهى إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع، كما في الرؤية فانه إنما يتعلق بقصد الرؤية لا بما يحصل منها بغير الاختيار، وكذلك في اشتمام الطيب إنما ينهى المحرم عن قصد الشم فأما إذا شم ما لم يقصده فانه لا شيء عليه وكذلك في مباشرة المحرمات كالحواس الخمس من السمع والبصر والشم والذوق واللمس إنما يتعلق الأمر والنهى من ذلك بما للعبد فيه قصد وعمل وأما ما يحصل بغير اختياره فلا أمر فيه ولا نهى
…
]
وقال الإمام ابن رجب في " نزهة الأسماع (ص/51): [يباح للنساء في أيام الأفراح الغناء بالدف وإن سمع ذلك الرجال تبعا وهذا مذهب فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وغيرهما وهو قول الأوزاعي وغيره وروي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى وقد كان طائفة من الكوفيين من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه ومن بعدهم لا يرخصون في شيء من ذلك بحال].
وبيان وجه التفريق في هذه الحالة أن الاستماع يفهم منه المداومة على السماع، فمن المقرر أن هذا النوع من اللهو المباح رُخِصَ فيه على خلاف الأصل لعلة، ففي العرس لإعلان النكاح، وفي العيد فرحاً بجائزة الله عز وجل لعباده على تمام العبادة، والحداء إنما يكون في السفر لأجل الحاجة إليه في السير في الليل، لطرد النعاس، واهتداء الإبل إلى الطريق بصوت الحادي، والارتجاز عند الضجر لمزاولة الأعمال الشاقة، كالبناء ونحوه، وإنشاد الشعر المشتمل على مدح الإسلام، وذم الكفر وهجاء الكفار إنما أبيح لنصرة الإسلام والرد على أعدائه، وكل هذا إنما أبيح بصفة مؤقتة، عند وجود داعيه، ولا فرق في هذه الحالة بين إنشاده، وسماعه، وإسماعه. وأما اعتياد ذلك بأن يفعل في غير وقته الذي أبيح فعله فيه فمكروه، وإن قلنا بالتحريم فلا يبعد - ولقد نشأت ناشئة ضلت الطريق فامتهنت الغناء، وسموه بالأناشيد الإسلامية فلبسوا على العامة، وقد تكلم العلماء في بيان فساد هذا العمل. - ومن الوجوه التي يستدل بها على حظر تعود استماع الشعر في غير محله، ما يلي: