الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ص 27]
تقسيم الأخبار
قسم بعض الأصوليين
(1)
الأخبار إلى مقطوع بكذبه، ومقطوع بصدقه، وغيرهما.
فذكروا من المقطوع بكذبه ما قام البرهان القاطع على خلافه.
أقول: الشأن كل الشأن في البرهان القاطع، فإذا صح فالحديث المخالف له لا يخلو عن وجهين:
الأول: أن يكون في إسناده خلل.
الثاني: أن يكون وقع تغيير في متنه بزيادة أو نقص، أو تقديم أو تأخير، أو تبديل لفظ بآخر، أو نحو ذلك مما يغير المعنى.
ولن تجد إن شاء الله تعالى برهانًا قاطعًا يقينيًّا
(2)
مخالفًا لحديث إلا وجدت ــ إن كنت من أهل الحديث والفهم ــ ما يدلك على أحد الوجهين المذكورين.
قال بعضهم: ومن المقطوع بكذبه ما نُقِّب عنه فلم يوجد عند أهله. وردَّه بعضهم.
وأقول: له وجه إذا كان يتضمن حكمًا شرعيًّا لم يثبت بغيره، فإن الله تبارك وتعالى متكفل بحفظ الشريعة؛ لأن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء،
(1)
انظر: "المستصفى"(1/ 140 وما بعدها) و"إرشاد الفحول"(ص 40، 41) ط. المنيرية 1347 هـ.
(2)
في الأصل: "يقينًا".
وشريعته خاتمة الشرائع، فلا يجوز أن يذهب حكم من أحكامها بحيث لا يبقى في ما حفظ منها حجة عليه.
والحق أنه إذا وجد خبر منسوب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يخلو عن واحد من أربعة أوجه:
الأول: أن يكون هو ــ أو حجةٌ توافق معناه ــ موجودًا في المحفوظ من الشريعة بنقلٍ تقوم به الحجة.
الثاني: أن يكون كان شيء فنُسِخ.
الثالث: أن يكون وقع في متنه تغيير، كما تقدم.
الرابع: أن يكون كذبًا، عمدًا أو خطأً.
فإذا قامت الحجة على نفي الثلاثة الأولى تعين الكذب. والله أعلم.
قالوا: ومنه المنقول آحادًا، والعادة قاضية بأنه لو صح لنُقِل بالتواتر، لتوفر الدواعي على نقله.
وأقول: ينبغي التثبت في هذا، فقد تقع القضية ولا يحضرها إلا الواحد أو الاثنان، وقد يحضر جماعة ولا ينتبه لها منهم إلا الواحد أو الاثنان، وقد يشاهدونها ولا يرون لها أهمية فلا ينقلونها. ومثال هذا: اليوم الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالخلاف فيه بين المتأخرين كثير، ولا يكاد يصح فيه شيء.
وقد يشاهدونها ويرون لها أهمية، ولكن لا يرون لنقلها أهمية، إما لاعتقادهم [أنها] قد نُقِلت نقلًا كافيًا في بيانها، وليس هناك من ينكرها، كما في انشقاق القمر؛ لأنهم يرونه ــ مع الشهرة بينهم ــ مذكورًا في القرآن، ولم يبق من العرب من يرتاب في القرآن.
وإما لاعتقادهم أنها أمر معلوم
مكشوف لا يحتاج إلى أن يُذكر، ومن هذا ــ والله أعلم ــ معنى "الإله" و"العبادة"، فقد كان واضحًا عند المشركين فضلًا عن المسلمين، ثم صار بعد القرون الأولى مشتبهًا، كما أوضحته في رسالة "العبادة".
وقد يخلو عن هذه كلها، ولكن يتواطؤون على الكتمان.
نعم، هذه الأمور كلها لا تحتمل فيما مثَّلوا به، وهي دعوى بعض الشيعة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع أصحابه وبيَّن لهم بيانًا قاطعًا أن عليًّا رضي الله عنه ولي عهده، وولي أمرهم من بعده. ولكن قد يحتمل بعضها في غير هذا المثال.
وقد أشار الحازمي في "الاعتبار"
(1)
إلى ذلك في بحث الجهر بالبسملة، وإن كان فيه نظر.
وقد ثبت أن الأئمة في عهد عثمان تجوَّزوا في الجهر بتكبيرات الصلاة، ومضى على ذلك زمان حتى جهله كثير من الناس، فصلى عكرمة خلف أبي هريرة، فجهر أبو هريرة بالتكبيرات، فذهب عكرمة إلى مولاه ابن عباس فقال: صليت خلف شيخ أحمق، فكبر
…
، فقال ابن عباس: ثكلتك أمك، تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم
(2)
.
وصلى علي رضي الله عنه بالكوفة، فجهر بالتكبيرات، فقال عمران بن حصين: قد ذكَّرني هذا صلاةَ محمد صلى الله عليه وآله وسلم
(3)
.
(1)
(ص 58).
(2)
أخرجه البخاري (788).
(3)
أخرجه البخاري (784، 786) ومسلم (393) من حديث مطرف بن عبد الله. وفي الرواية الأولى للبخاري أنه صلاها بالبصرة. وفي "المسند"(19840، 19860) بالكوفة.
وقال أبو موسى: ذكَّرنا عليٌّ صلاةً كنا نصليها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إما نسيناها وإما تركناها عمدًا
(1)
.
وجاء عن عمران ما حاصلُه أن عثمان رضي الله عنه لما كبر وضعف صوته لم يكونوا يسمعون تكبيره، فاتخذ أمراؤه أو بعضُهم ذلك سنة بجهلهم
(2)
.
والمقصود هنا أنه ينبغي التثبت في رد الأحاديث بما ذُكِر، فلا يُقدَم على ذلك مع قيام الاحتمال. والله الموفق.
[ص 28] وأما المقطوع بصدقه فذكروا منه أمورًا:
الأول: خبر الرب عز وجل، وخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وذلك واضح، ولكن خبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد يكون عن ظنِّه نصًّا، كقوله: أظن كذا، ولعل كذا. أو بدلالة القرائن. وقد وقع هذا في الأمور الدنيوية. فأما الدينية، فمن قال من أهل العلم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد يقول في الدين باجتهاده، فإنه يقول بوقوع هذا.
أقول: وسواء كان خبره عن أنه يظن في أمر ديني أو دنيوي، فهو مقطوع بصدقه فيما أخبر عنه، وهو الظن. أعني أنه أخبر أنه يظن، فالمقطوع به هو كونه يظن، فأما الأمر الذي ظنه فقد لا يكون واقعًا، وليس ذلك من الكذب، وإنما فيه خطأ الظن.
(1)
أخرجه أحمد في "المسند"(19494) والطحاوي في "معاني الآثار"(1/ 221). وصحَّح الحافظ إسناده في "الفتح"(2/ 270).
(2)
أخرجه أحمد (19881) وابن خزيمة (581). وهو حديث صحيح.
وقد أخبر الله عز وجل عن آدم أنه ظنّ صِدقَ إبليس لما قاسمه بالله، وكذلك ظن يعقوب صدق بنيه في قولهم:{وَنَحْفَظُ أَخَانَا} [يوسف: 65]، وكذَّبهم في خبرهم عما جرى لهم من أخذِ أخيهم بتهمة السرقة، فقال:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 83]، وظن موسى أن أخاه قصَّر، فأخذ برأسه يجرُّه إليه، في نظائر لذلك.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربما سها في الصلاة وهو يظن أنه لم يَسْهُ، فصلى مرة خمسًا
(1)
، ومعنى ذلك أنه عند قيامه للخامسة كان يظن أنها الرابعة.
وسلَّم مرة من ركعتين في رباعية الحضر، ومعنى ذلك أنه ظن أن قد أتمَّ أربعًا، فأما قوله لما سُئل أقُصِرَت الصلاة أم سهوتَ يا رسول الله؟ :"كل ذلك لم يكن"
(2)
؛ فهو يتضمن خبرين:
أحدهما عن أمر ديني، وهو صدقٌ قطعًا، وهو كون الصلاة لم تُقصَر.
والثاني عن أمر دنيوي، وهو كونه لم ينْسَ. ومراده بالنظر إلى هذا أنه يظن أنه لم ينس، بمعونة القرينة، وهي أن هناك جمعًا كثيرًا يغلب عليهم التيقظ لأعمال الصلاة، فإن كان قد نسي فإنهم يعلمون أنه إنما نفى النسيان بالنظر إلى ظنه، فيرجع ذلك إلى الخبر بأنه يظن أنه لم ينس.
ومن ذلك: خبر تأبير النخل، وهو في "صحيح مسلم" من حديث طلحة
(3)
،
(1)
أخرجه البخاري (1226) ومسلم (572) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (573) من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ. وعند البخاري (842 ومواضع أخرى): "لم أنسَ ولم تُقْصَر".
(3)
رقم (2361).
ومن حديث رافع بن خديج
(1)
، ومن رواية حماد بن سلمة بوجهين
(2)
: حماد عن هشام عن أبيه عن عائشة، وحماد عن ثابت عن أنس.
ورواية طلحة صريحة في أنه شهد القصة، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجزم، وإنما قال:"ما أظنُّ يُغنِي ذلك شيئًا"، ثم قال لهم بعدُ:"إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدَّثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله".
وفي رواية رافع: قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا"، ثم قال أخيرًا:"إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر". قال الراوي: أو نحو هذا.
فما وقع في رواية حماد من الوجهين الأخيرين: "لو لم تفعلوا لصلح" من التقصير في الرواية بالمعنى؛ ولهذا قدَّم مسلم رحمه الله رواية طلحة، لأنه شهد القصة وتحرّى في بيانها، ثم عقَّبها برواية رافع لأنها قريبة منها، ثم ذكر رواية حماد من الوجهين على أنها شاهد لأصل القصة.
فثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما أخبرهم عن ظنه أن التلقيح لا فائدة له، وإنما وقع له صلى الله عليه وآله وسلم هذا الظن لأنه لم يكن قد عرف حال النخل، وقد عرف بمكة والطائف وغيرهما أن عامة الشجر تثمر ويصلح ثمرها بلا تلقيح، فظن أن النخل كذلك، حملًا للفرد المجهول الحال على ما عرف من حال الغالب.
ومن هذا: ما رُوي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لقد هممتُ أن أنهى عن الغِيْلة، ثم
(1)
رقم (2362).
(2)
رقم (2363).
نظرتُ في فارس والروم فإذا هم يُغِيلون أولادهم، فلا يضر ذلك أولادَهم شيئًا"
(1)
.
فقد كان مشهورًا بين العرب أن الغَيْل يضر بالطفل، فوقع في ظنه صلى الله عليه وآله وسلم صحة ذلك وأنه مبني على تجربة صحيحة، فأراد أن ينهى عنه لما فيه من الإضرار، ثم سأل عن حال فارس والروم فأُخبِر أنهم لا يتوقَّون كما يتوقَّى العرب، ثم رأى أنه لا يظهر بأولادهم ضرر، فظن صلى الله عليه وآله وسلم أن الغيل لا يضر، فقال ما تقدم.
[ص 29] وجاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم حديث آخر: "لا تقتلوا أولادكم [سرًّا]، فإن الغَيْل يدرك الفارسَ فيُدَعْثِره عن فرسه"
(2)
.
فإذا صح هذا فلا بد أن يكون متأخرًا؛ لوجوه:
الأول: أن هذا نهي صريح، وقوله في الأول:"لقد هممتُ أن أنهى عن الغيلة" ظاهر في أنه لم يقع منه قبل ذلك نهيٌ، فعُلِم بذلك أن الخبر الصريح بالنهي لم يكن قبل ذلك.
الثاني: أن الخبر الأول مبني على الظن في الجانبين، كما تقدم، والخبر الثاني بتٌّ وقطع، فهو مبني على علم.
الثالث: أن قوله: "يُدرك الفارسَ فيُدعْثِره" شيء لا يُعرف بالقرائن
(1)
أخرجه مسلم (1442) من حديث جُدامة بنت وهب.
(2)
أخرجه أحمد (27562) وأبو داود (3881) وابن ماجه (2012) من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن. وصححه ابن حبان (5984)، وفي إسناده المهاجر بن أبي مسلم، لم يوثقه غير ابن حبان، وبقية رجاله ثقات.
الظاهرة المتيسرة، فالظاهر ــ إن لم نقل: المتيقن ــ أنه علمه صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي.
الرابع: أن في هذا كالإشارة إلى ردِّ ما في الأول من حال فارس والروم، فكأنه يقول: إن ضرر الغيل خفي، فلا يدفعه أن الظاهر من حال فارس والروم أنه لا يضر.
هذا، وقد عكس الطحاوي
(1)
رحمه الله ما تقدم، فذكر أنه ينبغي أن يكون حديث "لا تقتلوا أولادكم
…
" كان أولًا، بناه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما تعتقده العرب، ثم تبين له بطلان ذلك الاعتقاد فقال: "لقد كنتُ هممتُ
…
".
وهذا كما ترى إن كنت ترى!
واعلم أن الأدلة على أن ظن الأنبياء في الأمور الدنيوية غير معصوم كثيرة، وفيما ذُكِر كفاية. ولو كان ظنهم معصومًا لما بقي لهم ظنٌّ، بل يكون علمًا.
فأما في الأمور الدينية، فإن كان خبرًا عن حكم شرعي، فهم معصومون قطعًا. فإذا جوّزنا أنهم قد يجتهدون فيها، ويخبرون عن اجتهادهم، فإنه إن جاز الخطأ في هذا فإن الله عز وجل لا يُقِرُّه، بل ينبِّههم فورًا على الخطأ، فإذا اجتهدوا وأخبروا ثم لم يقع تنبيه من الله عز وجل ثبت قطعًا صحة اجتهادهم وصدق ما قالوه يقينًا، والله الموفق.
الثاني: قال بعضهم: ومن المقطوع بصدقه أن يخبر إنسان بمرأى ومسمعٍ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا ينكره عليه.
(1)
في "معاني الآثار"(3/ 47، 48) و"مشكل الآثار"(9/ 284).
أقول: أما أن يخبر رجل بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم بأمر ديني، بحيث يظهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما سكت تصديقًا له؛ فهذا حق. وذلك كما روي أن جماعة اختلفوا في القراءة، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبروه، وكان عنده علي رضي الله عنه، فقال لهم علي: يقول لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
(1)
....
وأما غير ذلك، ففيه نظر. ولاسيَّما إذا احتمل كونه صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم الواقعة، أو يظنها كما ذكر المخبر.
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشك في ابن صياد أنه الدجال؛ لعلامات كانت فيه، فقوي ظنُّ عمر بذلك، فحلف بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ابن صياد هو الدجال، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(2)
، ثم جاءت أحاديث تدلُّ أنه تبيَّن للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك أن الدجال غير ابن صياد
(3)
.
الثالث: وذكروا من المقطوع بصدقه: المتواتر.
قالوا: وهو خبر جماعة يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب عن أمر محسوس.
وذلك حق لا ريب فيه، ولكن أشار بعضهم إلى أن هذا ــ أعني المتواتر ــ والخبر الذي يفيد العلم بمعونة القرائن شيء واحد.
(1)
بعده بياض في الأصل .. والحديث أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(747) والحاكم في "المستدرك"(2/ 223، 224) من طريق زر عن ابن مسعود مطولًا. وفيه: "فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما عُلِّم، فإنما أهلك من قبلكم الاختلاف".
(2)
أخرجه البخاري (7355) ومسلم (2929) من حديث جابر بن عبد الله.
(3)
انظر "الفتح"(13/ 326 - 329).
وشبهتُه إلى أن كثرة العدد لو كانت هي المؤثرة لتعين العدد المؤثر، والأمر بخلاف ذلك، فإنه قد يحصل العلم بخبر الواحد أو الاثنين أو الثلاثة، ولا يحصل بخبر مئة ألف أو أزيد. كما لو أخبر مليون جندي من الألمان بعد هزيمتهم بأن زعيمهم هتلر مات.
[ص 30] فالمدار إذًا إنما هو على ما يحتفُّ بالخبر من القرائن.
وأقول: الخبر تكون معه قرائن تساعده، وقرائن تخالفه، فعدد التواتر هو الذي يحصل بخبرهم العلم مع فَقْدِ القرائن الموافقة والمخالفة أو تكافُئِها، وإنما يعسُر تعيينه لأنه لا يخلو الخبر عن قرائن من الجانبين، ويعسر العلم بتكافئها.
هذا، والمدار على حصول العلم، فسِيَّانِ: كان حصوله بكثرة العدد مع عدم القرائن المخالفة أو مع تكافُؤِ القرائن [من] الجانبين، أو كان حصوله بمعونة القرائن. ولا حرج في تسمية ما حصل به العلم متواترًا، وإن شككنا في حصوله بالوجه الأول أو الثاني.
وقد شكَّك بعضهم في حصول العلم بالمتواتر، قال: لأن كثرة العدد قد لا تفيد إذا اقترن بالخبر قرائن تخالفه، فيمكن أن يكون مع الخبر قرائن تخالفه ولكنها خفية، فعلى هذا يتوهم سامعه حصول العلم به.
ويتحقق ذلك بأن تفرض أن ألف رجل تواطؤوا سرًّا على خبر، ثم بالغوا في إخفاء ما يُوقِع التهمة بتواطُئِهم، وتفرقوا. فإنه إذا فُرِض أن أحدهم أخبر، ثم جاء الثاني وكأنه لا يعرف الأول ولا يعلم بخبره فأخبره بمثله، وهكذا، فقد يتوهم بعض السامعين حصول العلم، وقد تلوحُ لبعضهم قرينة على احتمال التواطؤ، فلا يكاد يحصل له الظن فضلًا عن العلم.
والجواب: أن النفس إذا خُلِّيتْ وفطرتها لا يخفى عليها موضع احتمال التواطؤ، ولو على بعدٍ، فلا تجزم حتى يجتمع لها من القرائن ما يبين أن احتمال التواطؤ مستحيل.
بلى، لا ننكر أن من الناس من يدعي التواتر في خبر وليس كذلك، وإنما يكذب على نفسه في دعوى حصول العلم، أو يغالطها في ذلك، والله المستعان.
واعلم أن تواتر الخبر قد يكون مع اتفاق العدد على جميع العوارض، كأن يخبر كل منهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب الناس يوم النحر سنة عشر بمنى في وقت كذا، فقال كيت وكيت. وقد يذكر بعضهم سماع الحديث في زمان ومكان، ويذكر غيره سماعه في زمان أو مكان آخر.
وهذا كله تواتر؛ إذ المدار على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك. اللهم إلا أن يكون للزمان أو للمكان اختصاص، كأن يقول بعضهم:"وقف بمكان كذا من عرفة فقال: هذا الموقف"، ويقول غيره:"وقف بمكان كذا ــ ويذكر مكانًا آخر ــ وقال: هذا الموقف"، أو نحو ذلك.
واعلم أن اختلاف الألفاظ والمعنى واحد لا يقدح في التواتر، وكأنهم قالوا: ذكر كلامًا هذا معناه.
وهناك ما يسمى "التواتر المعنوي"، وذلك كأن يروي أحدهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"من زنى بعد ما أحصن فعليه الرجم"
(1)
، ويروي آخر أن ماعزًا
(1)
لم أجد الحديث بهذا اللفظ، وقد أخرج البخاري (6878) ومسلم (1676) من حديث ابن مسعود بلفظ: "لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني
…
". وأخرج أحمد (452) والنسائي (7/ 103) من حديث عثمان بن عفان بنحوه فيه: "
…
رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم
…
".
زنى بعد ما أحصن فرجمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(1)
، وروى ثالث أن امرأة غامدية زنت بعدما أحصنت فرجمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(2)
، وآخر أن امرأة رجلٍ من أسلم اتُّهِمت بالزنا بعدما أحصنت فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"اغْدُ يا أُنيسُ إلى امرأة هذا، فإن اعترفَتْ فارجُمْها"
(3)
. وهكذا بحيث يحصل بمجموع هذه الأخبار القطع بما اجتمعت عليه، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقضي برجم من زنى بعد إحصان.
هذا، ولا يخفى أن العلم بصدق خبر العدد فيما كان عن محسوس يُعلَم منه أنهم إذا أخبروا أن فلانًا أخبر؛ إنما يتحصل العلم بأن فلانًا أخبر، فأما صدق خبر فلان ــ إذا لم يكن معصومًا ــ فلا يحصل العلم بصدقه. لكن [إذا] أخبر عدد التواتر أن عددًا آخر مستجمعًا للشروط أخبروا حصل العلمُ بخبر الفريقين.
وهكذا، فإذا تعددت الطبقات كأن يخبر عدد عن عدد عن عدد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا بد أن تتحقَّق الشرائط في كل الطبقات الثلاث، ولا يشترط أن يخبر كل واحد من العدد عن كل واحد من العدد الذي قبله.
بل يحصل العلم بأن يخبر كل واحد عن واحد، وآخر عن آخر، وثالث عن ثالث، وهكذا. [ص 31] بل هذا أقوى؛ فإن اجتماع عدد على الإخبار في وقت واحد
(1)
أخرجه مسلم (1694) من حديث أبي سعيد الخدري. وفي الباب أحاديث أخرى.
(2)
أخرجه مسلم (1695) من حديث بريدة.
(3)
أخرجه البخاري (6827، 6828) ومسلم (1697، 1698) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد.
مما يوهم المواطأة. فتدبر.
الرابع: قالوا: قد يفيد الآحاد العلم بمعونة القرائن. ومثَّلوه بما فيه نظر. ولكن القول صحيح؛ فإن من القرائن ما يفيد العلم مجردًا عن الخبر، فكيف لا يكون منها ما يفيده مع الخبر؟
كما إذا وضعتَ شيئًا ثقيلًا في صندوق، ثم غبت، ثم رجعت فرفعت الصندوق فإذا هو خفيف، بحيث تعلم قطعًا أنه لا يمكن أن يكون ذلك الشيء فيه.
وهكذا إذا وضعتَ حمامة في قفص محكم مقفل، ووضعته بحيث تعلم أنه لم تصل إليه يد إنسان، ثم تفقدته فإذا فيه بيضة! وقس على ذلك.
ويدخل في القرائن عدالة المخبر، وكونه معروفًا بالصدق، وكونه ليس له هوى في ذلك الخبر، وكونه مشهودًا له بالإتقان، وذكره للخبر قصة، وكون القصة تتعلق به، إلى غير ذلك مما بسطه أهل العلم في وجوه الترجيح.
والعدالة تتفاوت، فأعلاها عدالة من عدَّله الله تعالى، ثم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وشهد له بالجنة.
وكذلك الصدق، فأعلاه صدق من أخبر الله تبارك وتعالى بأنه صدوق.
وكذلك عدم الهوى، فمن أعلاه أن يكون للمخبر هوى في نقيض ذلك الخبر، كأن يكون في الخبر غضاضةٌ عليه.
وكذلك الإتقان، فأعلاه في الثقة أن يصفه جهابذة الحفاظ بأنه لم
يخطئ في حديث قطُّ، أو لم يخطئ إلا في حديث واحد، كما قالوه في إسماعيل بن إبراهيم المشهور بابن عُلَية.
وبالجملة، فمن أمعن النظر في كلام المحدثين في دقائق الرواية وأحوال الرجال عرف أنه قد يحصل للجِهْبِذ المتبحّر منهم العلمُ في بعض الأحاديث التي تُروى من طرق صحيحة عن صحابيين أو ثلاثة.
ومما يتأيد به الحديث أن يكون له شواهد توافقه، ولو في جنس المعنى، وأن يكون موافقًا لظاهر القرآن، أو مخالفًا له وظهر الحديث في زمن الصحابة وعمل به بعضهم؛ فإنه لو لم يكن ثابتًا عندهم ما تركوا له ظاهر القرآن، ولكانوا أنكروه.
ومما يتأيد به أيضًا أن تطمئنَّ إلى لفظه نفسُ الممارس للحديث؛ فإنه لطول ممارسته للكلام النبوي صار عنده تمييزٌ ما بين ما هو منه وما ليس منه. ونحو ذلك أن تطمئن إليه نفس المتبحّر في معرفة الشمائل النبوية والحِكَم الشرعية.
وهذا، وقد ضعفت في الأزمنة الأخيرة العنايةُ بالرواية، ولكن بقي بأيدينا حكم الجهابذة المتبحّرين، إذا وجدنا أحدهم صحَّح حديثًا أو احتج به، ويتأكد ذلك بموافقة آخر منهم عليه.
فإذا وجدنا في حديث أن مالكًا والثوري وأحمد والشافعي احتجوا به، وأن البخاري ومسلمًا صححاه؛ كان متمكنًا في القوة، فإذا ثبت أن بعض الصحابة عمل به، وعمل به جماعة من التابعين ازداد قوة.
وقد ذهب جماعة من المتأخرين إلى أن أحاديث الصحيحين تفيد العلم. ووجهوا ذلك بأنها تُلقِّيت بالقبول، والتلقي بالقبول عندهم يفيد العلم، وسيأتي ما فيه. لكن رأيت عن العلامة محمد أنور الديوبندي أنه وافقهم في إفادة العلم، ووجَّهه بمعنى ما تقدم
(1)
.
ويتأكد ذلك بأن كثيرًا من الأئمة المعاصرين [ص 32] للشيخين والمتأخرين عنهم، اطلعوا على الصحيحين، وشهدوا لما فيهما بالصحة، وسيأتي إن شاء الله تعالى البحث في ذلك.
الخامس: قالوا: ومما يفيد العلم ما أُجمِع على صحته، أو تُلقِّي بالقبول، بأن كان أهل العلم بين محتجٍّ به ومتأولٍ له، أو أُجمِع على الحكم الذي يدل عليه.
وردَّ بعضهم ذلك بأنه مبني على الإجماع، والكلام في الإجماع معروف، فإن من سلَّم حجية الإجماع يقول: إن العلم به قطعًا محال؛ لأنه يتوقف على النقل المفيد للعلم عن كل فرد من أهل عصر الإجماع، بحيث يُعلم قطعًا أنه لم يبق أحد منهم إلا ونقل عنه كذلك.
وأما الإجماع السكوتي فمختلف فيه، وممن ردَّه الإمامان الشافعي وأحمد، كما أنكرا العلم بالإجماع في غير أركان الدين، كفرضية الصلاة والصيام والحج ونحو ذلك مما إن خالف فيه مخالف كفر، فالعلم بالإجماع فيها إنما هو لهذا، أعني: لأن من خالف كفر، فخرج عن الاعتداد بقوله.
(1)
انظر "فيض الباري"(1/ 45، 46) من المقدمة.
ومع هذا، فتأويل العالم لحديثٍ لا يستلزم قوله بصحته؛ فإن كثيرًا من أهل العلم يتأولون الحديث وهم متوقفون في صحته، كأن أحدهم يقول: إن صحَّ فهذا تأويله، وربما يضعِّف أحدهم الخبر ثم يتأوله.
وهكذا الإجماع على حكم لا يستلزم صحة ما يُروى فيه. ألا ترى أنه لا يمتنع أن يَعمِد كذّاب إلى حكم مجمع عليه فيضع على وفقه حديثًا؟
أقول: قد سلَّم الإمامان الشافعي وأحمد أن العارف بأقوالِ مَن سلف من أهل العلم إذا عرف قول جماعة منهم ولم يعلم لهم مخالفًا بعد البحث= يكون هذا حجة في الجملة. فأقلُّ أحوال هذا أن يكون من أعظم ما يساعد على قطعية الخبر.
وتأويل العالم للخبر مع عدم تصريحه بضعفه يدل على أنه لم يعرف فيه مطعنًا، وذلك مما يقوِّيه.
وأما قولكم: إن الإجماع على حكم لا يستلزم صحة ما يُروى فيه، فهذا فيما إذا ظهر للإجماع مستندٌ غير ذلك الخبر، فأما إذا لم يظهر غيره ــ وهو في نفسه منقول نقلًا صحيحًا ــ فالظاهر أنه هو مستندهم، وبذلك يكون الظاهر أنهم اتفقوا على صحته.
وقد أيَّد هذا بعض الأجلّة بأن تجويز بطلان ذلك الخبر لاحتمال أن يكون المستند غيره= اتهامٌ للأمة بأنها أهملت الحجة الصحيحة فلم تُنبِّه عليها، أو لم تُعْنَ بها، أو لم تنقلْها، واعتنت بنقلِ ما ليس بصحيح في ذلك المعنى بعينه. وهذا بغاية البعد.
فإن قيل: استغنتْ عن نقل الحجة الصحيحة بالإجماع.
قيل: فما بالها نقلت غير الصحيحة في ذاك المعنى نفسه؟
وأنا أقول: أما الحكم بالضعف على الخبر المنقول نقلًا تقوم به الحجة، فلا وجه له. غاية الأمر أن يجوز أن يكون مستند الإجماع غيره، وهذا لا يضر ذلك الخبر بل يفيده قوة؛ لأنه على أحد الاحتمالين مجمع على صحته، وعلى الاحتمال الآخر صحيح في نفسه، وله شاهد مجمع عليه.
وبعد، فإذا سلِّم الإجماع على الحكم لم تبق فائدةٌ لإنكار كون الخبر مجمعًا على صحته؛ لأن الحكم هو المقصود.
[ص 33] وههنا مسائل:
الأولى: إذا صح من جهة الرواية خبر، ونُقل تصحيحه عن جماعة، ولم يُعلم لهم مخالف، ونُقل القول بالحكم الذي دل عليه عن جماعة، ولم يُعلم لهم مخالف ممن مضى، فهل يكفر منكره؟
أقول: فيه نظر، وله موضع آخر.
الثانية: هل يُعامَل معاملة القطعي في النسخ؟
أقول: أكثر أهل المذاهب يرون نقل الحكم عن جماعة ممن مضى، ولا يُعلم لهم مخالف= إجماعًا يدل على ناسخ، فيجزمون بالنسخ، حتى لو كان الحكم الآخر منصوصًا في كتاب الله عز وجل، ففي هذه الصورة أولى.
الثالثة: هل يثبت به الفرض وغير ذلك، عند من يفرق بين القطعي والظني في الأحكام؟
أقول: المفرِّقون يعدّون هذا الإجماع قطعيًّا، وعلى ذلك فيثبت به الفرض وغيره عندهم، ففي هذه الصورة أولى.
الرابعة: إذا وجد دليل يناقض ذلك الخبر وذلك الإجماع، هل يجوز لأحد أن يذهب إلى ذلك الدليل؟
أقول: أما إذا كان الدليل المناقض محتملًا أن يكون منسوخًا بذلك الخبر، فلا يجوز. بل المتعين القول بذلك، إذ القول بعكسه في غاية البعد؛ إذ يلزم منه اتفاق الأمة على التمسك بالمنسوخ وإهمال الناسخ.
فإن قيل: اتفاق الأمة لم يسلم؛ لأن الفرض أن الحكم إنما نقل عن جماعة.
قلت: الظاهر أنه لو كان هناك مخالف لأظهر قوله وإنكاره لهذا المنكر، وهو التمسك بالمنسوخ واطّراح الناسخ، وإلا كانت الأمة مجمعة على الضلال، بعضها بالتمسك بالمنسوخ واطراح الناسخ، وباقيها بالسكوت على هذا المنكر، والساكت على المنكر مع علمه به وإمكان أن ينكر شريك فيه، فكأنها أجمعت على ضلالة واحدة.
فإن قيل: لعل بعض من لم ينقل قوله لم يطلع على تمسك الجماعة بالمنسوخ، ولعل بعضهم اطلع ومنعه مانع من الإنكار، ولعل بعضهم اطلع وأنكر ولم يُنقل إنكاره، ولعل بعضهم اطلع وأنكر ونُقِل إنكاره ولكن لم يبلغنا، بأن يكون في بعض الكتب التي لم نقف عليها.
قلت: هذا كله بعيد إذا بحث واسعُ الاطلاع منا فلم يجد، ويتأكد ذلك إذا كان قد نص إمام مطلع ممن قبلنا على الإجماع.
وبعد، فهَبْ أن ما ذكرناه لا يكفي للدلالة على كون الخبر الموافق للإجماع ناسخًا للدليل الآخر، فهل هناك إلا مخرج واحد وهو الأخذ
بالراجح؟ فالخبر الموافق للإجماع أرجح، فوجب الأخذ به على كل حال.
الخامسة: إذا وجد دليل يناقض الخبر والإجماع ولم يحتمل أن يكون منسوخًا به، كما إذا كان الخبر الموافق للإجماع مؤرخًا بزمان، والدليل المناقض مؤرخ بما بعد ذلك الزمان. فهل يجوز الذهاب إلى ذلك الدليل؟
أقول مستعينًا بالله عز وجل: إن ثبت أنه قد ذهب إلى وفق الدليل المناقض مجتهد من أهل القرون الثلاثة الأولى فذهاب من بعدها إليه موكول إلى اجتهاده، وذلك أن ذهاب ذلك المجتهد من أهل القرون الأولى إلى ذلك خادش في الإجماع، أما في إجماع أهل عصره فواضح، لأنه منهم وهو مخالف، فكيف يقال: أجمعوا؟ وأما من قبله فالظاهر أنه لم يذهب إلى ما ذهب إليه إلا وقد عرف أنه لم يتقدمه إجماع تمتنع مخالفته، وأما من بعده فالذي تبين لي رجحانه أنه لا يُعتدُّ بالإجماع بعد سبق الخلاف المستقر.
وإن لم يثبت، فلا يجوز لمن بعدها الذهاب إليه؛ لأن ظاهر اتفاق الثلاثة القرون على خلاف ذلك الدليل يُوهنه جدًّا، ويتأكد ذلك بأمور:
[ص 34] منها: أن الهمم قصرت، والمعرفة ضعفت، والدعاوى كثرت، والأهواء انتشرت، والتقوى خفَّت. فأصبح كثير من الناس يدَّعون العلم وهم قاصرون، فإن وجد راسخ لم يكد يَسلَم من هوى أو ضعف ورعٍ.
فإن وُجد مخلصٌ ورعٌ فهو نفسه يتردد فيما عسى أن يظهر له من دليل يدل على قولٍ المنقولُ عن أهل القرون الأولى خلافه، ولم يظفر بنقل عن واحد منهم يستند إليه، وذلك أن هذا المعنى يشككه في دليله، فيقول: لعلي غلطت في ظن صحة هذا الخبر وفي ظن أن هذه العبارة تدل على كذا؛ فإنه
ليس له من معرفة الحديث ورواته ما كان لأئمة السلف، وليس له من الذوق العربي ما كان لهم.
فإن فرضنا أنه قَوِيَ في نفسه ما ظهر له، فإن غيره من أهل العلم لا يوافقونه على ذلك، ويرون في فتح هذا الباب مفسدةً عظمى؛ فإن المنتحلين للعلم بلا رسوخ ولا ورعٍ كثيرٌ، فيأخذ كل منهم يتخوض في الدين، ولا يتمكن أهل العلم من إفحامهم بالمناظرة؛ لأن المناظرة إنما تفيد مع الإنصاف، ولا يرجى ذلك من المتخوضين.
نعم، قد كان في عهد السلف جماعة من علماء السوء، ولكن كانوا مقهورين، وكان العامة يعرفون علماء الحق؛ لقرب العهد بالسراج المنير صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فكان إذا قام رجل يدعي العلم والمعرفة فزع العامة إلى من عرفوه من علماء الحق فيكفيه أن يقول للعامة: ذاك رجل مبتدع، أو لا يوثق بعلمه، أو نحو ذلك.
وأما في الأزمنة المتأخرة فإن الحال تغيَّر، بل انعكس، فصار الملوك والأمراء والعامة يرون العالم هو من يوسِّع عليهم، ويوافق أهواءهم.
فلهذا عظَّم العلماء شأن الإجماع، حتى [إذا] نبغ نابغ من أولئك المتخوضين كفى أن يقال له وللناس: هذا خرق للإجماع.
ولهذا ــ والله أعلم ــ قال جماعة: إن باب الاجتهاد قد انسدَّ، وقال ابن الصلاح
(1)
: إن التصحيح والتحسين للأحاديث قد انتهى.
(1)
في "علوم الحديث"(ص 13). وردَّ عليه آخرون، انظر "فتح المغيث"(1/ 50، 51) و"تدريب الراوي"(1/ 143 وما بعدها).
أما أنا فلا أوافق على سدِّ باب الاجتهاد وتصحيح الأحاديث، ولكن أرى أنه لا ينبغي مخالفة حكم قد قال به أهل القرون الثلاثة، ولم يُعلَم منهم مخالف، ويبقى مجال الاجتهاد في أمرين:
الأول: الأحكام التي اختلف فيها علماء السلف، فيجتهد العالم في الترجيح بينها.
الثاني: في الأشياء التي لم يُنقل عن أهل القرون الثلاثة فيها شيء واضح.
أما الأول فإن العالم نفسه يطمئن إلى ما ظهر له؛ لأن له سلفًا، فيقول: هَبْني لم أبلغ درجة الاجتهاد فهذا قول مجتهد معروف، فكأنني قلدته، وقد جوَّز الناس تقليد المجتهد وإن لم يظهر للمقلد رجحان دليله، فأما أنا فقد ظهر لي رجحان دليله.
وكذلك يطمئن غير هذا العالم إلى قوله، إذا علموا أنه قول مجتهد معروف.
ولا يخشى من هذا ما يخشى من إطلاق الاجتهاد من التلاعب بالدين، اللهم إلا أن يدَّعي هذه المرتبة من ليس من أهلها، أو يكون ضعيف الدين، [ص 35] لكن مثل هذا لا يصعب على أهل العلم والدين كشفُ حاله إن شاء الله تعالى.
وعلى كل حال، فالشر هنا أخف، والمفسدة التي في سدّ الباب مطلقًا أشدّ، مع أن أكثر أهل العلم من المتأخرين قد فتحوا هذا الباب بجواز التقليد، وهذا خير منه؛ إذ ليس فيه ــ إذا أُعطِي حقَّه ــ تتبعٌ للرخص، وإنما فيه تتبعٌ للراجح من الأدلة، فإذا اتفق في مسألة أن يكون رخصة كان في أخرى شدة.
وفيه مصلحة من أعظم المصالح، وهو إحياء علوم الكتاب والسنة، وإشعار الناس بأنهم إنما يتبعون الكتاب والسنة.
وأي فرق أعظم من الفرق بين من يقوم يصلي فيعمل بقول فلان وقول فلان، ومن يقوم يصلي فيعمل بتلك الآية وذلك الحديث؟ فهذا الثاني شاعرٌ تمامَ الشعور بأنه يعبد الله عز وجل بامتثال أمره في كل حركة وسكون، والأول بعيد عن ذلك.
وأما الاجتهاد فيما لم يُنقل فيه شيء صريح عن علماء القرون الثلاثة، فلا يمكن سدُّه إلا بأن يوكل إلى المقلدين يجتهدون فيه بالقياس على أقوال شيوخهم وشيوخ شيوخهم، ولعله يكون قياسًا على قياس على قياس! أفليس الأولى من ذلك استنباط حكمه من نصوص الشريعة نفسها؟
هذا، وقد أغفل كثير من فقهاء الشافعية وغيرهم درجة "المرجِّح"، أعني الذي يبلغ من العلم مبلغًا يتمكن به من النظر في أدلة المختلفين، وتعرُّف الراجح منها.
وقد رأيت عن الشافعي رحمه الله تعالى ما يثبت هذه الدرجة. ففي ترجمة إسحاق بن الفرات من "تهذيب التهذيب"(1/ 247): "وقال ابن قديد: حدثني ابن عبد الحكم
(1)
قال: قال لي الشافعي: أشرت على بعض الولاة أن يولي إسحاق بن الفرات القضاء، وقلت: إنه يتخير، وهو عالم باختلاف من مضى".
(1)
في "الولاة والقضاة" للكندي (ص 78) و"إكمال تهذيب الكمال"(2/ 108): "ابن قديد عن يحيى بن عثمان عن ابن عبد الحكم
…
". وهو الصواب.
فقوله: "يتخير" يعني أنه يرجح بين أقوال المختلفين، ويختار ما رجح دليله.
فصل
قد بسط أهل العلم حجج الإجماع
(1)
، وينبغي لطالب الحق أن يتدبرها، ثم ينظر إليها مجتمعة، فكم من قضية استُدِلّ عليها بأدلة قد يكون كل واحد منها إنما يفيد ظنًّا ضعيفًا، فإذا عمد العالم إلى دليل منها فخدشَ فيه وطرحه، ثم في الثاني فكذلك، وهكذا؛ أمكنه ذلك فيها كلها. لكن لو نظر إليها مجتمعة لرأى قوة لم يحسبها.
ونظير ذلك: المتواتر إذا كان عن خبر كفار أو فساق مثلًا، فعمدتَ إلى كل فرد منهم فطعنتَ فيه؛ أمكنك ذلك، مع أن المجموع يفيد العلم القطعي.
وينبغي له أن ينظر إلى أمور أخرى:
الأول: قضاء العادة. فإن المجتهدين كانوا كثيرًا، وطلب العلم ونشره كان محروصًا عليه، وفي المثل المشهور "خالِفْ تُذكر"؛ فالناس حريصون على نقل الأقوال الغريبة، ولاسيَّما إذا كانت مستندة إلى حجة قوية.
الثاني: أن هذه الكتب المتداولة بين الناس في هذا العصر هي بالنظر إلى الأدلة جامعة لغالبها.
الثالث: أن الله تبارك وتعالى متكفل بحفظ دينه وشريعته، كما يأتي تقريره إن شاء الله تعالى، ولا يتم حفظ الحجة منها إلا بحفظها حفظًا تقوم به الحجة.
(1)
انظر "إرشاد الفحول"(ص 65 وما بعدها).
فإذا نُقل عن جماعة من أهل القرون الأولى قول ولم يُنقل خلافه عن أحد منهم، ثم وجدت أنت دليلًا يدل على خلافه، فهذا الدليل لن يكون إلا ظنيًّا في نفسه، والدليل الظني في نفسه تُوهنه الأمارات والقرائن الدالة على خلافه.
فإذا وجد طالب الحق دليلًا من تلك الدلائل، ثم نظر في أدلة الإجماع، ما أراه إلا سيرتاب في صحة ذلك الدليل. فإذا كان الأمر كذلك دل هذا على بطلان ذلك الدليل في نفسه؛ لأنه لو كان من الحق [ص 36] لحفظه الله تبارك وتعالى حفظًا تقوم به الحجة، وتطمئن إليه النفس.
وعلى كل حال، فليس مقصودي هنا البتّ في هذه القضية، وإنما نبهت على ما قد يخفى. وعلى العالم أن ينظر لنفسه، ويحتاط لدينه، متضرعًا إلى مقلب القلوب سبحانه أن يثبِّت قلبه على دينه، ويهديه لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه، والله المستعان، لا رب غيره.
السادس مما ذكروا أنه يفيد العلم من الأخبار: أن يخبر إنسان بخبر بحضرة قومٍ لو صدَّقوه حصل العلم بصحة الخبر، ولكنهم سكتوا، ولا حاملَ لهم على السكوت عن تكذبيه لو كان كاذبًا.
أقول: الشأن في قولهم "ولا حاملَ لهم"؛ فإذا فُرِض انتفاء كل حامل من الحوامل الممكنة قطعًا فذاك، ولكن هذا مما لا يكاد يتفق؛ فإن الحوامل كثيرة، منها: أن لا يكونوا علموا ــ أو جماعة منهم ــ صدقه ولا كذبه.
ومنها: أن يكون لهم ــ أو لمن عرف كذبه منهم ــ هوًى في إيهام صدقه.
ومنها: أن يخافوا ــ أو العارفون بكذبه منهم ــ من شره.
ومنها: أن يتهاونوا به؛ لأنهم يرون أن كذبه واضح.
إلى غير ذلك.
فلا بد أن يحصل القطع بأنه لو كان كاذبًا ــ عمدًا أو خطأً ــ لرد عليه بعضهم.
السابع: نقلوا عن الزيدية أن مما يفيد القطع: بقاء الخبر مع توفر الدواعي على إبطاله. ويمثّلون بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنه لا نبيَّ بعدي".
أقول: أما الحديث ففي الصحيحين
(1)
وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص. وفي رواية لهما واللفظ للبخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليًّا، فقال: أتُخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي".
وقد رواه عدد عن سعد، منهم: أبناؤه إبراهيم
(2)
وعامر
(3)
ومصعب
(4)
. ورواه عنهم جماعة، وسمعه سعيد بن المسيب من عامر بن سعد، قال ابن المسيب
(5)
: "فأحببتُ أن أشافِهَ بها سعدًا، فلقيتُ سعدًا فحدَّثتُه بما حدثني عامر، فقال: أنا سمعته، فقلت: آنت سمعته؟ فوضع أصبعيه على أذنيه فقال: نعم، وإلا فاستكَّتا".
(1)
البخاري (3706، 4416) ومسلم (2404).
(2)
من طريقه أخرجه البخاري (3706) ومسلم (2404/ 32) وغيرهما.
(3)
من طريقه أخرجه مسلم (2404/ 30).
(4)
من طريقه أخرجه البخاري (4416) ومسلم (2404/ 31) وغيرهما.
(5)
كما رواه النسائي في "خصائص علي"(50).
وذكر ابن حجر في "الفتح"
(1)
أنه جاء من غير حديث سعد بن أبي وقاص: عن عمر، وعلي نفسه، وأبي هريرة، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، والبراء، وزيد بن أرقم، وأبي سعيد، وأنس، وجابر بن سمرة، وحُبشي بن جُنادة، ومعاوية، وأسماء بنت عميس، وغيرهم.
أقول: لو قيل إنه من حديث سعد وحده يفيد العلم لم يبعد، فكيف مع ما انضمَّ إليه؟
وأما أن يكون كل حديث روي في فضائل علي مقطوعًا به فلا يقوله عاقل:
أولًا: لأن القاعدة واهية، كما يأتي.
وثانيًا: لأنه إن كان الحديث في فضيلة ليس فيها تعرضٌ للخلافة؛ فلم تتوفر الدواعي على نقله
(2)
مطلقًا.
نعم، كان بعض ولاة بني أمية يكرهون أن تُروى فضائله، ولكن أهل العلم لم يكونوا يبالون بهم، بل كانوا يروونها، وربما جَبَهوهم بها، على أن زمانهم لم يطل، وفوق ذلك فقد كان جماعة كثيرون من أهل العلم شديدو المحبة لعلي رضي الله عنه، ومنهم من يبالغ في ذلك، وكان أهل الكوفة كلهم شيعة له، ومنهم من يفرط في ذلك.
وإن كان في الخلافة فأئمة الزيدية أنفسهم يعترفون أن النص المدَّعى
(1)
(7/ 74) وقال: وقد استوعب طرقه ابن عساكر في ترجمة علي.
(2)
كذا في الأصل، ولعل الصواب:"على إبطاله".
لعلي رضي الله عنه غير صريح. هذا وهم من أهل البيت، فلو كان هناك نص صريح لحفظه عامة أهل البيت، وأخبروا به أبناءهم والثقات من شيعتهم.
وأما القاعدة فواهية؛ لأن توفر الدواعي على الإبطال وإن اقتضى أن تَعِزَّ رواية الخبر، فلا يقتضي أن كل خبر يُروى صحيح، فضلًا عن أن يكون مقطوعًا به. وها نحن نجد الدول تحرِصُ على إخفاء الأخبار التي تخشى أن تبلغ أعداءها، أو أن تُوقِع الاضطراب في رعاياها، ومع ذلك نجد الرعايا يتناجَون بكثير من الأخبار التي من شأنها ما ذُكِر، ولا أصل لها، وقد تَشِيع كثير من هذه التي لا أصلَ لها حتى يسمع به جميع الرعايا.
[ص 37] فصل
قال جماعة من المتأخرين
(1)
: إن أحاديث الصحيحين تفيد العلم لأنها تُلقِّيت بالقبول، عدا أحاديث انتقدها عليهما بعض الحفاظ الذين جاءوا بعدهما.
أقول: في "مقدمة الفتح"(ص 491)
(2)
:
"قال أبو جعفر العقيلي: لما صنّف البخاري كتابه الصحيح عرضه على ابن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث. قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري. وهي صحيحة".
(1)
انظر "علوم الحديث" لابن الصلاح (ص 25) و"فتح المغيث"(1/ 58 - 61) و"تدريب الراوي"(1/ 131 وما بعدها).
(2)
(489) ط. السلفية ..
وفي مقدمة "شرح مسلم"
(1)
للنووي: "بلغنا عن مكي بن عبدان ــ أحد حفاظ نيسابور ــ أنه قال: سمعت مسلم بن الحجاج
…
، قال: وسمعت مسلمًا يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علةً تركته، وكل ما قال: إنه صحيح وليس له علة خرَّجتُه".
وقد يقال: إذا استُثنِيَت الأحاديث التي انتُقِدت عليهما، فإنهما ــ أو أحدهما ــ قد أخرجا لجماعة ممن طُعِن فيهم والطعن في بعضهم مؤثر، فينبغي أن تُستثنى الأحاديث التي ينفرد بها هؤلاء، ولاسيما إذا كان الطعن من بعض أئمة عصرهما أو ممن بعدهما.
ويوضح ذلك: أن الأحاديث التي انتقدها الدارقطني عامتها إنما انتقدها بعللٍ أبداها، وهو نفسه يضعِّف جماعة ممن أخرج لهم في الصحيحين، فالظاهر أنه اكتفى بالقدح في الراوي عن انتقاد الأحاديث التي انفرد بها في الصحيحين.
والذي يتحرر لي في "صحيح البخاري" أن أحاديثه على أضرب:
الضرب الأول: ما يحتج به على قول يجزم به في العقائد أو الأحكام على أنه أصل في ذلك. فهذا يحتاط له البخاري جدًّا، وكذلك ينبغي أن يكون احتاط له الأئمة الذين أقروه على تصحيحه.
الضرب الثاني: ما يورده على أنه شاهد أو متابع للضرب الأول. فهذا مما يتسامح فيه، فقوته إنما هي فيما وافق فيه الأصل، فإن كان فيه زيادة عما عقد عليه البخاري الباب فهي نازلة عن الضرب الأول.
(1)
(1/ 15).