المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ما يأتي الخلل في فهمه من تقصير المخاطب - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ١٩

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌فرض اتِّباع السُّنَّة

- ‌ تقسيم الأخبار

- ‌تنبيهات

- ‌أخبار الآحاد

- ‌ شبههم وحلُّها

- ‌ شبه ذكرها الآمدي

- ‌ 2 - لو جاز في الفروع لجاز في الأصول

- ‌3 - لو جاز لجاز في نقل القرآن

- ‌6 - قبوله تقليدٌ، فلا يجوز للمجتهد

- ‌ الشبهة النقليَّة:

- ‌فصل

- ‌الأول: اليقين

- ‌ توقف عمر عن خبر فاطمة بنت قيس

- ‌الباب الأولفي بعض ما يتعلق بخبر الواحد

- ‌الفصل الأولفي وجوب العمل بخبر الواحد

- ‌حجة أخرى:

- ‌حجة ثالثة:

- ‌ومنهم: بعض الفرق الغالية، كالخوارج والروافض

- ‌ومنهم: أفراد من المعتزلة والجهمية

- ‌ومنهم: بعض الغلاة في الرأي

- ‌الفصل الثانيفيما يفيده خبر الواحد

- ‌ الفصل الثالثالمعنى الذي لأجله وجب العمل بخبر الواحد

- ‌الفصل الرابعالمقابلة بين الرواية والشهادة

- ‌ الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌ الباب الثانيفي شرائط حجية خبر الواحد

- ‌ ما يشترط في المخبر حال الإخبار

- ‌الشرط الثاني: الضبط

- ‌الخبر

- ‌الصدق والكذب

- ‌الخبر المحتمل لمعنيين أو أكثر

- ‌إرادة المخبر وإضماره

- ‌ القرينة

- ‌المطلب الثاني(1)في محطِّ المطابقة

- ‌المطلب الثالثفي المجاز

- ‌الفرق بين المجاز والكذب

- ‌ القطعة الثانية من الكتاب

- ‌المطلب الأول في تعريف الصدق والكذب

- ‌المطلب الثاني فيمن يلحقه معرَّة الكذب

- ‌المطلب الثالث في إرادة المتكلم

- ‌ المطلب الرابع في القرينة

- ‌ ما يأتي الخلل في فهمه من تقصير المخاطب

- ‌ في المعاريض وكلمات إبراهيم

- ‌المطلب العاشر(1)ما رُخِّص فيه مما يقول الناس: إنه كذب

- ‌المطلب الحادي عشر(1)فيما ورد من التشديد في الكذب

- ‌ الظاهر

- ‌القرينة

- ‌ المراد بالظهور

- ‌الفصل الأولفي معنى قولهم: "أصول الفقه

- ‌ فوائد:

- ‌المبحث الثانيالأصول

- ‌المبحث الثالثالفقه

- ‌الفصل الثانيفي أنَّ أصول الفقه لا بدَّ أن تكون قطعيةً

- ‌ الفصل الثاني(1)في الأحكام

- ‌الضرب الأول: التكليفي:

- ‌لم تُطبِق الأمة على هجر الكتاب والسنة

الفصل: ‌ ما يأتي الخلل في فهمه من تقصير المخاطب

(1)

‌ ما يأتي الخلل في فهمه من تقصير المخاطب

قد يكون الكلام بحيث يتراءى منه ظهوره في معنى، فإن قصَّر المخاطب فهم ذلك المعنى، وإن تدبَّر بان له أن الظاهر الحقيقي خلاف ما ظهر أولًا، أو يتدافع الاحتمالان، فيبقى الكلام مجملًا.

فمن أمثلة ذلك التي فتح الله ــ وله الحمد ــ عليّ بكشف جلية الحال فيها بما لم أره في كلام أحدٍ من أهل العلم:

[ص 49] ما في «الصحيح»

(2)

عن سهل بن سعد: «نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، ولم ينزل: {مِنَ الْفَجْرِ}، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ: {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار» .

أقول: يُعلم من مجموع الأخبار في هذا الأمر أنه كان من المقرر عند المسلمين قبل نزول هذه الآية حكمان:

أحدهما: أن الصائم يحرم عليه الأكل والشرب والجماع في النهار، وهو ما بين طلوع الفجر الصادق وغروب الشمس.

هذا هو المعروف في الشرع، وهو الراجح في اللغة.

(1)

كتب المؤلف هنا «المطلب السادس» ، ثم شطب عليه وكتب «الثامن» ، ثم شطب عليه أيضًا.

(2)

البخاري (1917، 4511) ..

ص: 231

وخالف في هذا قوم فقالوا: إنما هو من الإسفار إلى غروب الشمس. فعند هؤلاء لا يحرم على الصائم الأكل وغيره بطلوع الفجر، وإنما يحرم بالإسفار، مع موافقتهم على أن وقت صلاة الصبح يدخل بطلوع الفجر.

الحكم الثاني: أنه يحرم على الصائم ذلك كلُّه ليلةَ الصيام بعد النوم فيها، فمن نام بعد المغرب ثم استيقظ وهو يريد أن يصبح صائمًا لم يحل له الأكل ولا الشرب ولا الجماع بقيةَ ليلته، ثم يحرم عليه ذلك أيضًا في تمام اليوم بمقتضى الحكم الأول. ومن لم ينم لم يحرم عليه شيء في ليلته، وإنما يحرم عليه في نهاره بمقتضى الحكم الأول.

فكان الأمر كذلك حتى ظهرت في الناس شدة الحكم الثاني ومشقته عليهم، فكان من ذلك أن بعضهم كان يعود إلى بيته في أثناء الليل، فيريد امرأته، فتأبى عليه زاعمة أنها قد نامت في ليلتها تلك، وهي ليلة صيام، تريد أنه بنومها يحرم عليها ما يريده [ص 50] منها، وأنه ليس له أن يوقعها في ما يحرم عليها، وإن كان هو لم ينم، فلم يلتفت بعضهم إلى قول أزواجهم ووقعوا عليهن.

وكان بعضهم تغلبه عيناه بعد المغرب قبل أن يأكل، فيمتنع من الأكل بقية ليلته، ويصبح صائمًا، فيشق ذلك عليه، مع أن أكثرهم كانوا أهل عمل، يعملون بأيدهم في حوائطهم وغيرها، فغُشي على بعضهم نصفَ النهار، فأنزل الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ

ص: 232

الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187].

فمن عرف الحكمين السابقين، وعرف أن الليل ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ثم رأى في أثناء الآية {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} = علم أن الكلام مختص بالحكم الثاني، وهو حكم الوقاع ليلة الصيام، وحرمته على من قد نام فيها، وأن هذا ترخيص في ذلك.

وإذا فكّر علم أن الأكل والشرب في معنى الوقاع، من جهة منافاته للصوم، ومن جهة شدة تحريمه عليهم في ليلة الصيام على من قد نام فيها. فإذا بلغ قوله:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} استقر عنده ذلك. أي: أن الله عز وجل نسخ الحكم الثاني، فرخص في الوقاع والأكل والشرب في ليلة الصيام، وهي ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، لمن قد نام فيها.

فإذا سمع قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ، فإنه إن رأى أن تبيُّن الخيطين من الغزل لا يكون إلا بعد خروج الليل بمدة= علم أنه إن حملت الآية على ذلك كان مخالفًا لما دل عليه ما تقدم أن النسخ مختص بالحكم الثاني، [ص 51] مع ما دل عليه أولها وسياقها وسبب النزول، كما مر، فيحمله ذلك على تطلُّب معنى آخر، فيجده على طرف الثُّمام، فإن الكلام دائرٌ على وقت الفجر الذي يختلط فيه بياض النهار بسواد الليل، ويبدو ذلك جليًّا على ما يقرب من صورة الخيطين في الأفق الشرقي، وقد عبروا عنه في أشعارهم بالخيط.

ص: 233

قال أبو دُواد الإيادي

(1)

ــ وهو جاهلي ــ:

فلما تبدَّتْ لنا سُدْفةٌ

ولاح من الصبح خيطٌ أنارا

فيتضح له أن هذا هو المعنى الصحيح، وإن احتمل عنده أن يتبين الخيطان من الغَزْل أول دخول النهار، فقد يتوقف، لكن يبعد عنده ذلك [من] وجوه:

الأول: أن الليالي المقمرة يتبين فيها الخيطان من الغزل في أثناء الليل.

الثاني: أن هذا يكون مخالفًا لما تقرر سابقًا في الشرع في ما يعرف به خروج الليل ودخول النهار، وليس هناك ما يدعو إلى هذا؛ لأن ما تقرر سابقًا هو الأيسر والأظهر.

الثالث: أن من سنة الشرع أن ينوط الأحكام بعلامات جلية، كما في أوقات الصلوات، وليس تبيُّن الخيطين من الغزل مما يشبه ذلك. فيحمله ذلك على تطلُّب معنى آخر، فيجده من كَثَبٍ كما مر.

والظاهر أن جمهور الصحابة لم يَخْفَ عليهم الصواب، وإنما وقع في الخطأ أفراد، لعلهم كما قال عياض

(2)

وتبعه النووي

(3)

: ممن قرب عهده بالإسلام، وكأنهم أخذوا آخر الآية من قوله:{وَكُلُوا} ، ولم يتأملوا أولها.

(1)

«ديوانه» (ص 352) و «لسان العرب» (خيط).

(2)

«إكمال المعلم» (4/ 25).

(3)

«شرح صحيح مسلم» (7/ 201).

ص: 234

[ص 52] فقوله تعالى بعد ذلك: {مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ليس هو بيانًا لمجمل، كما توهمه بعضهم، فإن البيان كان حاصلًا قبله، ولكنه زيادة بيان وإيضاح.

وفي هذا دليل على عناية الله عز وجل بعباده؛ إذ يبين لهم ما اشتبه على بعضهم، وإن كان بينًا بنفسه لمن تدبر، وفي ذلك ما يوضح قبح دعوى ابن سينا ومن وافقه، كما يأتي.

هذا، وإن كان الحكم كان سابقًا ــ كما يقوله بعض أهل العلم ــ أنه إنما كان يحرم الأكل وغيره بالإسفار، فلم يترتب على خطأ الذين أخطأوا مفسدةٌ؛ لأن تبيُّن الخيطين من الغزل في غير الليالي المقمرة لا يتأخر عن الإسفار.

وقد زعم بعضهم

(1)

أن الحكم كان هكذا، فنسخ بقوله:{مِنَ الْفَجْرِ} . وهذا باطل، كما أوضحه ابن حجر في «الفتح»

(2)

وغيره.

نعم، لو قيل: كان الحكم سابقًا إلى الإسفار، ثم نسخ بقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ

}؛ لكان أقرب. والله الموفق.

المثال الثاني: ما روي أن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم اجتمعن عنده يومًا، فقلن له: أيتنا أسرعُ لحوقًا بك؟ فقال: «أطولكن يدًا»

(3)

. فكن بعد ذلك إذا اجتمعن

(1)

مثل الطحاوي في «معاني الآثار» (2/ 53 - 54).

(2)

(4/ 135).

(3)

أخرجه البخاري (1420) ومسلم (2452) من حديث عائشة.

ص: 235

يتطاولن في الجدار، ثم كانت أولهن لحوقًا به صلى الله عليه وآله وسلم زينب بنت جحش، وكانت من أقصرهن، ولكنها كانت أكثرهن صدقة، فعلمن أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما عنى بطول اليد كثرة الصدقة.

أقول: من تدبر أصل القصة بان له أن قوله: «أطولكن يدًا» ليس بظاهر في طول اليد الحقيقي، [ص 53] بل هو ظاهر في كثرة الصدقة، فمن لم يدقق تدافع عنده الاحتمالان، فيبقى الكلام مجملًا.

وبيان ذلك بأوجه:

الأول: أن التصريح بأن فلانة ستموت قبل صواحبها مخالفٌ للحكمة الشرعية، ما لم تتعلق به مصلحة، ولا تظهر هنا مصلحة. وقوله:«أطولكن يدًا» لو أراد به الحقيقة، لكان تصريحًا؛ لأنهن يتطاولن فيعرفن التي هي أطولهن يدًا.

الثاني: أنهن كن معتدلات الخلق، فأطولهن يدًا لابد أن تكون أطولهن مطلقًا، فلو أراد الطول الحقيقي لقال:«أطولكن» ، واكتفى به. فما فائدة زيادة «يدًا» ؟ !

الثالث: أنه لو أراد الطول الحقيقي لكان تصريحًا، كما مر، فلماذا عدل عن أن يسميها باسمها إلى قوله:«أطولكن يدًا» ، وحملُهن على التطاول لا تظهر فيه مصلحة؟ !

الرابع: أن سرعة اللحاق به كانت عندهن فضيلة مرغوبة لهن، فالظاهر أن ترتب على عمل صالح، وليس الطول الحقيقي كذلك.

ص: 236

وفي «صحيح مسلم»

(1)

أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر ابنته فاطمة بموته، فبكت، فأخبرها أنها أسرع أهله لحوقًا به، فضحكت. فإخباره لها كان لمصلحة، وهي بشارتها بما تحبه؛ ليخفف ذلك من شدة حزنها، ويعينها على الصبر، وترتب ذلك على عمل صالح، وهو حسن الصبر، ففي بعض الروايات

(2)

أنه قال لها: «فاتقي الله واصبري» .

فمن تدبر ما تقدم حمله ذلك على تطلُّب معنى آخر، فيجده قريبًا، فإن الكناية بطول اليد عن كثرة الإنفاق قريبة جدًّا، والمناسب هنا هو الإنفاق في الخير، وهذا المعنى ينفي التصريح المخالف للحكمة، ولا يؤديه أن يقال:«أطولكن» ، [ص 54] فلم يكن بدٌّ من زيادة «يدًا» ، وليس فيه حملٌ لهن ــ لو تدبرن فعرفنه ــ على التطاول في الجدار، أو غيره مما لا مصلحة فيه. وكثرة الصدقة عمل صالح تناسب أن ترتب عليها تلك الفضيلة المرغوبة.

ويُشبه ــ والله أعلم ــ أن لا يكون خفي عليهن هذا كله، ولكن تدافع عندهن الاحتمالان، فتطاولن بناء على أحدهما، وإن كان غير متعين عندهن، فلما ماتت زينب تعين أحد الاحتمالين قطعًا.

فإن قيل: ولماذا لم يصرح لهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول: «أكثركن صدقة» أو نحو ذلك؟

قلت: قد يكون خشي عليهن أن يعتقدن أنها غير معينة، وإنما المدار على كثرة الصدقة، فيحملهن ذلك على التباري في كثرة الصدقة، فيضر ذلك

(1)

رقم (2450) من حديث عائشة.

(2)

رقم (2450/ 98).

ص: 237

بهن، لشدة رغبتهن في سرعة اللحاق به صلى الله عليه وآله وسلم، ومع أنه ما فيهن إلا من كانت كثيرة الصدقة.

فإن قيل: فعلى هذا يكون صلى الله عليه وآله وسلم أحب أن لا يفهمهن أن طول اليد معناه كثرة الصدقة.

قلت: لا بأس بهذا، فيكون أحب أن يبقى الكلام عندهن محتملًا للمعنيين.

فإن قيل: فيكون مجملًا تأخر بيانه إلى أن ماتت زينب بعد موته بمدة.

قلت: ليس هو بمجمل في الحقيقة، ورغبته صلى الله عليه وآله وسلم في أن يبقى الكلام عندهن محتملًا للمعنيين لا تضر، مع سلامة الكلام في نفسه من الإجمال، على أنه لو كان مجملًا محتملًا فليس في أمر الدين، فلا يضر تأخر بيانه.

المثال الثالث: ما يروى من مزاحه صلى الله عليه وآله وسلم.

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[ص 55] ربما لاطف بعض أصحابه بمزاحٍ تدعو إليه مصلحة، ولا يخرج عن الحق.

وقد قال له بعض أصحابه: إنك تداعبنا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إني لا أقول إلا حقًّا»

(1)

.

إنما قال هذا لأن أكثر الناس لا يحسنون المزاح بالحق، أو لا يكتفون به.

(1)

أخرجه أحمد في «مسنده» (8481) والبخاري في «الأدب المفرد» (265) من حديث أبي هريرة. وإسناده صحيح.

ص: 238

رُوي عن أنس: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فاستحمله، فقال:«إنا حاملوك على ولد ناقة» . قال: يا رسول الله، ما أصنع بولد ناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«وهل تلد الإبلَ إلا النوقُ؟ » . انظر «مسند أحمد» (3/ 267)

(1)

.

«استحمله» : أي سأله بعيرًا يركبه، ويحمل عليه متاعه وزاده في السفر.

و«ولد الناقة» : أصله في اللغة ما ولدته الناقة، صغيرًا كان أو كبيرًا، لكن من الحيوان ما لا يعرف للصغير من أولادها اسم خاص، فيقال مثلًا:«ولد زرافة» يراد الصغير ، كما يقال:«ابن زرافة» . فأما «الإبل» فللكبير منها اسم خاص، كبعير وجمل وناقة، وللصغير اسم خاص كفَصِيل. فقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«ولد ناقة» قد يتبادر منه الصغير، كما في «ولد زرافة» ، والوجه أن يكون محتملًا؛ لأنه إن قيل: لو أراد الكبير لقال: «على بعير» أو «على جمل» ، قيل: ولو أراد الصغير لقال: «على فصيل» . وإذا كان الأمر كذلك، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«إنا حاملوك» ظاهره بيِّن في أنه إنما أراد الكبير؛ لأن الصغير لا يحمل عليه، والرجل إنما سأل الحملان لحاجته إليه في الحال، والصغير لا يغني عنه شيئًا في حاجته، لكن لما كان لا يكاد الناس يقولون:«ولد ناقة» ، ويقولون:«ولد زرافة» ونحوه في الصغير= استعجل الرجل، ففهم الصغير.

وأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولًا ملاطفة الرجل؛ ليخفَّ عنه ما أصابه من غمّ الانقطاع، ولينبهه إذا أخطأ، فيكون في ذلك تعليم له، ليحتاط بعد ذلك فلا يستعجل في البناء على ما يتراءى له من الكلام حتى يتدبره.

(1)

رقم (13817). وأخرجه أيضًا البخاري في «الأدب المفرد» (268) وأبو داود (4998) والترمذي (1991) وغيرهم، وإسناده صحيح.

ص: 239

[ص 56] ومما قد يدخل في هذا القبيل: ما روي في إرشاد من أحدث وهو في صلاة الجماعة أن يأخذ بأنفه ويخرج من المسجد

(1)

.

قالوا

(2)

: والحكمة في ذلك إيهام أنه رُعِف.

وأقول: الأخذ بالأنف هنا عملٌ ليس بكلام، ولكنه يدل على خبر، كأنه يقول: إني رُعِفت.

وقد يقال: إن هذا داخلٌ في معنى الكذب.

وأقول: أما من علم بما روي في الإرشاد إلى ذلك، فإنه إذا رأى إنسانًا فعله لم يفهم منه معنى «إني رُعِفت» ، بل يحتمل عنده أنه رعف، ويحتمل أنه أحدث وإنما أخذ بأنفه اتباعًا للمروي في ذلك، وبهذا يخرج ذاك الفعل عن معنى الكذب البتة. وأما من جهل ما روي في ذلك، فقد ينسب التقصير إليه بجهله.

ومن عادة الناس أنهم يعيبون من أحدث في صلاته، ويضحكون منه، فقد يُخشى على من أحدث في صلاته أن يستمر فيها ظاهرًا خوفًا من عيب الناس وضحكهم، ففي الأخذ بالأنف ما يدفع المفسدتين، فإن الناس لا يعيبون من أصابه الرعاف في الصلاة، فإذا علم الإنسان أن أخذه بأنفه يدفع عنه عيب الناس وضحكهم لم يشق عليه قطع الصلاة والخروج.

(1)

أخرج أبو داود (1114) وابن ماجه (1222) وابن خزيمة (1018) وابن حبان (2238) وغيرهم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحدث أحدكم وهو في الصلاة فليأخذ على أنفه، ثم لينصرفْ» . وإسناده صحيح.

(2)

انظر «معالم السنن» (2/ 22).

ص: 240

ففي ذاك الفعل دفع مفسدتين، ولا مفسدة فيه، فإنه إذا لوحظ مع ذلك ما روي في أمر من أحدث بأن يأخذ بأنفه، انتفى الكذب البتة، كما مر، والله أعلم

(1)

.

* * * *

(1)

وللمؤلف كلام على هذه المسألة ضمن «فوائد المجاميع» (ص 138 - 141) في شرح حديث «الحياء لا يأتي إلا بخير» .

ص: 241