الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ص 5]
الفصل الثاني
(1)
في الأحكام
الحكم في الأصل: القضاء، والمراد به هنا: قضاء الله تعالى على عباده إيجابًا أو تحريمًا أو غيرهما مما يأتي.
* والأحكام على ضربين:
الضرب الأول: التكليفي:
وهو خمسة:
الأول: الوجوب، وهو الأمر المحتَّم، على معنى أنه إن لم يفعل كان عاصيًا.
الثاني: الندب، وهو المرغَّب فيه، على أنه إن فعل فقد أحسن، وإلَّا فليس بعاصٍ.
الثالث: الإباحة، وهو الإذن على وجهٍ يُعلَم به استواءُ الفعل والترك.
الرابع: الكراهية، وهي التنفير عن الفعل، على أنَّه إن فعل فقد أساء، ولم يبلغ أن يكون عاصيًا.
الخامس: التحريم، وهو حظر الفعل، على أنَّه إن فعل فهو عاصٍ.
وهنا مسائل:
الأولى: لا خلاف أن الوجوب له درجات، يتفاوت بها ما للعامل من الأجر، وما على التارك من الوزر. فوجوب ردِّ السلام ليس كوجوب الصلوات الخمس.
(1)
كذا في الأصل ..
والفرض والوجوب يتواردان على معنى واحد، إلَّا أنَّ الفرض يُشعِر بتأكد الوجوب. وقد اصطلح الحنفية على تخصيص الفرض لما ثبت بدليل قاطع، والواجب لما ثبت بدليل ظني. كذا نُقل عنهم، ولهم تفصيل، قيل: والخلاف لفظي.
أقول: لكنه يتعلق به خلاف معنوي، سنُلِمُّ به في محله إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية: الوجوب منه عيني؛ وهو ما لا يسقط الحرج عن المكلَّف بفعل غيره له. وإما كفائي؛ وهو ما يطلب حصوله، فإذا قام به بعض المكلَّفين لم يأثم الباقون بتركه.
المسألة الثالثة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وذلك كغسل شيء من حدود الوجه مع الوجه، والسفر لأداء الحج، وتحصيل ما يستر العورة وسترها للصلاة، ونحو ذلك.
فإنَّ الرجل إذا كان هو وولده خارجَ حجرةٍ مقفلةٍ فيها مصحف، وهو يعلم ذلك كله، وقال لولده: ناوِلْني المصحف؛ عُلِم من هذا الأمر أمرُه بالحركة إلى الحجرة وفتحها ونحو ذلك مما لا بدَّ منه للتوصُّل إلى مناولة المصحف.
فأما ما لا يتم الوجوب إلَّا به فلا يجب؛ فالتوبة من الذنب واجبة، ولا يتم وجوبها إلَّا بإتيان الذنب، وليس بواجب. وقضاء الدين واجب، ولا يتمُّ وجوبه إلَّا بأخذ الدين، وليس بواجب. وهكذا تحصيل النصاب للزكاة، وغيره.
المسألة الرابعة: الواجب المخيَّر، يكفي المكلَّفَ أن يأتي بواحدٍ مما خُيِّر فيه، وهذا مقطوعٌ به متّفق عليه.
واختلف في الثواب والعقاب إذا فعل اثنين منها فأكثر معًا، أو تركها كلها.
ومما يدل على الحق فيها: أنه لو أتلف زيد سلعةً لعمرو تساوي عشرة دراهم مثلًا، وكان عمرو محتاجًا إلى سكنى دارٍ لزيد، وأجرتها في الشهر نحو ثلاثة عشر درهمًا، وكان الصرف: الدينار
(1)
باثني عشر درهمًا = جاز أن يقول الحاكم لزيد: أَسكِنْ عمرًا دارَك شهرًا، أو ادفَعْ إليه دينارًا أو عشرة دراهم. فلا ريب أنَّ الواجب في نفس الأمر هو عشرة دراهم أو ما يعدِلُها، والتخيير بين ذلك وبين ما زاد عليه هو على طريق الفضل، فإذا لم يفعل شيئًا مما ذُكِر لم يكن عليه إثم إلا بمقدار عشرة دراهم، كما لا يخفى.
المسألة الخامسة: الندب تختلف درجاته في التأكيد وعدمه، وهو والمسنون والمستحبُّ والمرغَّب فيه بمعنى.
واصطلح الحنفية على تخصيص كل منها بدرجة، ولا يتعلَّق بذلك خلافٌ معنوي فيما أعلم.
المسألة السادسة: المكروه تختلف درجاته، وكثيرًا ما يطلق على الحرام، ويميِّزون بينهما بقولهم:"مكروه تنزيهًا" و "مكروه تحريمًا".
وفي المنقول عن السلف ما يقتضي أنهم إنما يطلقون المكروه بمعنى الحرام حيث لم يكن التحريم منصوصًا؛ يتباعدون عن مقتضى قوله تعالى:
(1)
كذا في الأصل.
{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} الآية [النحل: 116].
المسألة السابعة: الحرمة تختلف درجاتها، ويقسم في الجملة إلى قسمين: لَمَم أو صغائر، وكبائر. وجاء في بعض الذنوب أنها من أكبر الكبائر.
المسألة الثامنة: في التحريم المخيَّر، هناك ثلاث صور:
الأولى: ما يحدث بتعاطي أحد الشيئين مفسدةٌ في تعاطي الآخر، كالمرأة وابنتها في النكاح؛ فإنه إذا نكح البنتَ حرمتْ عليه الأم، وإذا نكح الأم ودخل بها حرمتْ عليه البنتُ.
الصورة الثانية: ما تكون المفسدة في الجمع، كالأختين في النكاح.
ومعلوم في هاتين الصورتين أنه قبلَ تعاطِي أحدِ الأمرين يكون تعاطِيْ كلٍّ منهما حلالًا.
الرسالة الخامسة
رسالة في التعصب المذهبي
[ص 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الدين شَرْعُ الله تعالى، فإنما يؤخذ من كتابه وسنة رسوله، مباشرةً إذا تيسَّر ذلك، وإلَّا فبواسطة مُخبِر موثوق به عنهما.
وقد علم الله تبارك وتعالى أن العالِم قد تعزُب عنه بعض دِلالات الكتاب أو السنة، وقد لا تبلغه السنة، مع أسبابٍ أخرى يقع بها العالِم في الخطأ، فتجاوز سبحانه عن العالِم وأثابه على اجتهاده المأمور به، وفَرَض على المخطئ أن يرجع إلى الحق إذا تبيَّن أو بُيِّن له. فكان العلماء من سلف الأمة يجتهدون ويقضون ويفتون بما رأوا أنه الحق، مع علم كلّ منهم وغيره أنه معرَّض للخطأ، إذ قد يغفل عن بعض دلالات القرآن، وقد تخفى عنه السنة، وقد يخطئ في التصحيح والتضعيف والترجيح، وقد وقد
…
ومن ادعى لواحد من الأئمة انتفاء الخطأ والغلط والزلل عنه، فقد ادَّعى له العصمة، وكفى بذلك خروجًا على الإسلام!
ومن كان له ممارسة للسنة وطالع كتب الشافعي رحمه الله عَلِم يقينًا أن كثيرًا من الأحاديث الثابتة لم تبلغه البتة، أو بلغته من وجه لا يثبت، وهي ثابتة عند غيره من أوجه أُخَر. وإن كان قد بلغه وثبت عنده من الأحاديث ما لم يبلغ أستاذَه مالكًا أو لم يعرف ثبوته، كما بلغ كلًّا منهما وثبت عنده أشياء لم تبلغ أبا حنيفة وما لم يعرف ثبوته. وكانوا هم يعرفون هذا يقينًا ولذلك كان كل منهم إذا تبيَّن له خطأ قولٍ من أقواله رجع عنه، ثم لم يعمل ولم يقضِ
ولم يُفتِ إلا بما تبيَّن له بعدُ أنه الحق. وكان العاميُّ يأخذ بفتوى عالم
(1)
، ثم إذا قيل له: إنه أخطأ، رجع فأخذ بما يترجح عنده أو احتاط لدينه.
وامتاز جماعة من العلماء بالتوسّع في العلم والتجرُّد لنشره مع الفضل والصلاح إلى أسباب أُخَر اقتضت أن يكثر أصحابهم ويُعنَوا بأقوالهم ويُمعنوا في ذلك. فهؤلاء أصحاب المذاهب.
لم يكن أولئك الأئمة يشعرون بأنها ستنشأ لهم مذاهب على هذا النحو المشاهَد أو قريب منه، وأقوالُهم وأحوالهم تبيِّن ذلك. ومن ألَّف منهم الكتب إنما ألَّفها تبليغًا لما فيها من السنة وتنبيهًا على ما تنبَّه له من الدّلالات وتعليمًا لوجوه النظر والاستنباط. وكانوا هم أنفسهم يمتنعون عن الجواب في كثير من المسائل، ويتوقفون عن الجزم في حكمها إذا ذكروها في كتبهم، ويقولون القول ثم يظهر لهم خطاؤه فيرجعون عنه، [ص 2] وينهون أصحابهم عن تقليدهم وتقليد غيرهم، ويأمرونهم بالنظر لأنفسهم واتباع الدليل كما ذكره المزني في أول "مختصره" عن الشافعي
(2)
، وذلك فرضُ الله تبارك وتعالى على هؤلاء وهؤلاء.
وكانوا يقرُّون العامة على ما جروا عليه إلى زمانهم؛ يستفتي العاميُّ فيما ينوبه مَن يلقاه من العلماء بدون تقيُّدٍ بمعيَّن. وجرى على ذلك أصحابُهم
(1)
من قوله: "إذا تبيَّن له" إلى هنا ضرب عليه المؤلف أولًا ثم كتب فوقه: "صح" عدة مرات لطول الكلام.
(2)
قال: "اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ومن معنى قوله لأقرِّبه على من أراده مع إعْلامِيه نهيَه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه. وبالله التوفيق".