الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في أنَّ أصول الفقه لا بدَّ أن تكون قطعيةً
(1)
شاع بين أهل العلم أنَّ أصول الفقه لا يكفي فيها غلبةُ الظن، بل لا يصحُّ البناء عليها حتى تكون قطعية. ونازع فيه بعض أهل العلم؛ بأنَّ كثيرًا من القواعد التي تُذكَر في أصول الفقه ظنّي.
[ص 3] كيف وغالبها مختلف فيه بين أهل العلم، ونجد العالم منهم إنما يحتج لقوله بحجة ظنية، وكثيرًا ما يعبِّرون بما يفيد أنه ليس عندهم إلَّا الظن، كقولهم: الأصح، الظاهر، الراجح، وغير ذلك.
وقد أُجيب بأنَّ من القواعد ما هو قطعي بمجموع أدلّةٍ كلٌّ منها بانفراده
(1)
كتب المؤلف صفحة حول هذا الموضوع ضمن المجموع رقم [4658]، وهو ما يلي: اعلم أنَّ مسألتنا هذه أصل من أصول الفقه، وقد نصّ العلماء أنَّ أصول الفقه لا تثبت إلا بالقطع. ونظر فيه بعض المتأخرين قال: في الأصول مسائل لا يتحقق فيها القطع. وجوابه: أنّ أصول الفقه ما هو مستند إلى أصلٍ فوقه قطعي، فيكون الثاني قطعيًّا بهذا المعنى، وهكذا المسائل الفرعية الظنية المستندة إلى الأصول القطعية تكون قطعية بهذا المعنى، فلو شافه ملك زيدًا وعمرًا قائلًا: من جاء منكما إلى رجل فبلّغه عني أمرًا، فإن ظنَّ صدقَه فواجب عليه العمل بذلك الأمر، وإن ظنَّ كذبه فواجب عليه أن لا يعمل به، ثم جاءهما رجلٌ فبلّغهما أمرًا عن الملك فظنَّه زيد صادقًا وظنَّه عمرو كاذبًا، فإن العمل واجب على زيد وإن كان ثبوت ذلك الأمر بخصوصه عن الملك ظنيًّا، وحرام على عمرو وإن كان عدم صحة ذلك الأمر بخصوصه عن الملك ظنيًّا ..
ظني؛ فيعترض بعضُ الناس كلَّ دليلٍ منها بانفراده، فيتوهم أن تلك القاعدة ظنية.
وهذا جواب قد يصحُّ في بعض القواعد لا جميعها، فإنَّ كثيرًا منها لا ترتفع دلالةُ أدلتِه بمجموعها عن الظن.
وقد يجاب بأن تلك القواعد وإن لم تكن قطعية في صحتها، فهي قطعية في وجوب الأخذ بها.
فقولنا: "الأمر يقتضي الوجوب" إذا لم يتيسَّر للمجتهد القطعُ بصحتها، فإنه قد يتتبع عدةَ أوامرَ خاليةٍ عن القرينة المقتضية للوجوب والصارفة عنه، فيستظهر اقتضاءها الوجوبَ، وأنَّ اقتضاء الوجوب مقتضَى الأمر، فيلزمه قطعًا الأخذُ بذلك؛ لاندراجه تحت أصل قطعي، وهو وجوب حمل الكلام على ظاهره ما لم يَصرِفْ عنه صارف. ولا شك أن المراد بالظاهر هنا ما يشمل الظاهر للمجتهد:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
وقد يُقدَح في هذا الجواب بوجهين:
الأول: أن ظاهر عبارات مشترطي قطعية الأصول، وصريحَ كلام بعضهم أنَّ مرادهم قطعية الصحة، لا قطعية وجوب الأخذ.
الوجه الثاني: أن قطعية وجوب الأخذ عامة في جزئيات الشريعة، فلا وجه لتخصيص الأصول منها.
وبيانه أنه ليس للمجتهد أن يقول في الدين إلا بما رآه دليلًا شرعيًّا، والأخذ بما رآه دليلًا شرعيًّا واجب قطعًا. فيقول في كل جزئية: أرى هذا دليلًا شرعيًّا، والأخذ بما أراه دليلًا شرعيًّا واجبٌ عليّ قطعًا.
نعم، قد يستفاد من هذا جواب آخر، وهو أنَّ القواعد التي تُذكر في أصول الفقه على ضربين:
الأول: الأصول الحقَّة.
الثاني: ضوابط تحيط بجزئياتٍ تندرج تحت أصل من الضرب الأول؛ فكما أنَّ المجتهد إذا سمع قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ [الْكِتَابَ]
…
} [النور: 33]. فرأى أنَّ ظاهر الكلام وجوب المكاتبة بشرطها، لزمه القول بها قطعًا؛ للقطع بوجوب حمل الكلام على ظاهره ما لم يصرف عنه صارف.
فقد وجب الأخذ هنا قبل استحضار قولنا: "الأمر يقتضي الوجوب"، غاية الأمر أنه قد يتبع عدة أوامر إلى آخر ما تقدم، فيضع هذا الضابط:"الأمر يقتضي الوجوب".
وعلى هذا فتسمية هذه الضوابط أصولًا لا يخلو من تسمُّح.
[ص 4] ويجاب بأنَّ كثيرًا من القواعد إنما هي ضوابط لجزئيات كثيرة تندرج كلها في أصول قطعية.
فمن هذا قولهم: "الأمر يقتضي الوجوب"، و"النهي يقتضي التحريم"؛ فإنَّ الجزئيات التي تدخل تحت كل منهما تدخل تحت أصل "الكلام محمول على ظاهره ما لم يَصرِفْ عنه صارف". ولا ريب أنَّ الظاهر هنا يشمل الظاهر عند المجتهد ــ وقد خالفه غيره ــ، ويشمل الظاهر عنده ظنًّا، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} .
فإذا نظر المجتهد في نص فيه أمرٌ، فوجد الظاهر اقتضاء الوجوب، علم أنَّ تلك الجزئية داخلة في أصل "الكلام محمول على ظاهره
…
إلخ"، فلزمه
القول فيها بالوجوب. ثم ينظر في أوامر أخرى فكذلك، فينظر في سبب ظهور اقتضاء الوجوب في تلك النصوص، فيجده الأمر، فينتظم له ضابطُ:"الأمر يقتضي الوجوب". فإن تيسر القطع في هذا فذاك، وإلَّا كفى فيه الظن.
وقِسْ على هذا قولهم: "النهي يقتضي التحريم".
وربما يندرج تحت الأصل القطعي قاعدة، وتندرج تحت هذه القاعدة قاعدة أخرى، وقد تتعدَّدُ الوسائط.