الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخبار الآحاد
تقدَّم تقسيمُ الأخبار إلى مقطوع بكذبه، ومقطوع بصدقه، وما لا ولا.
وتقدم تفصيل القسمين الأولين، وبقي الثالث، وهو المشهور بأخبار الآحاد. وقد قسمها أهل الحديث إلى: صحيح وحسن وضعيف، وحدودها معروفة في كتبهم، وإنما أنبه هنا على ما أراه مهمًّا. وسأسرد ذلك في فصول.
فصل
كان الثنوية من المجوس يعلمون وجود الله عز وجل وعظمته وجلاله، ثم أخذوا يثبتون له ما يرونه كمالًا، وينفون عنه ما يرونه نقصًا، إلى أن قالوا: هو سبحانه خير محض. فوسوس لهم الشيطان قائلًا: فمن أين جاءت هذه الشرور المشاهدة في العالم؟ فكانوا قد سمعوا عن الأنبياء إثبات وجود الشيطان وسعيه في إضلال العباد، فقالوا: من الشيطان. فقال لهم: والشيطان من أوجده؟
فلم يرجعوا إلى الأنبياء وسننهم، بل اغتروا بعقولهم، فتفكروا قائلين: إن قلنا: أوجده الله عز وجل، لزِمَنا أن يكون الله سبحانه خلق جرثومة الشر، وكيف يكون سبحانه مع ذلك خيرًا محضًا؟ وإن قلنا: أوجده غيره، أثبتنا ربًّا غير الله عز وجل، وذلك أشد. وإن قلنا: وُجِد بغير موجدٍ أوجده، فذاك محال. فتخرَّصوا فقالوا: أوجده الله بغير قصد، وذلك أنه سبحانه فكَّر فكرةً رديئة فكان منها الشيطان. فقال لهم: إذا جاز أن يفكر فكرة رديئة لم يكن خيرًا محضًا.
فوقعوا في المهواة. قالوا: الشيطان قديم. ولم يقنع منهم الشيطان بذلك، بل قال لهم: فقد كان ينبغي أن يُهلِكه الله عز وجل ويقطع دابر الشر. فوقعوا في المهواة الأخرى. قالوا: للشيطان قدرة ذاتية عظيمة، والله عز وجل جادٌّ مجدٌّ في إهلاكه، والحرب بينهما مستمرة.
ثم خادعوا أنفسهم فقالوا: في آخر الأمر يتمُّ انتصار الله عز وجل على الشيطان، ويلقيه وحزبه في جهنم، ويتخلص العالم من الشر.
كان قدماء المصريين موحدين، ثم طال بهم العهد، فاستغنوا عن هدي الأنبياء، وأخذوا يعظمون الله عز وجل بما تقتضيه عقولهم.
فقالوا: إن الرب عز وجل بغاية العظمة والكبرياء، والبشر في غاية من الجهل والفساد والحقارة، ومن شأن ملوك الدنيا أن يأنفوا من مقابلة سقط الناس، ويُعدُّ تعرُّض سقط الناس لمقابلة الملك ومباشرة تعظيمه تحقيرًا له. كما لو اجتمع نفرٌ من كنَّاسي المراحيض وقالوا: نحب مقابلة الملك، لِنُحيِّيه ونُهنِّئه مثلًا؛ لاستحقوا العقوبة. فنسبة البشر إلى الرب عز وجل أبعد بما لا نهاية له من نسبة سقط الناس إلى ملوكهم.
فقيل لهم: لكن البشر محتاجون إلى عبادة ربهم وسؤال حوائجهم. وكان قد بلغهم عن الأنبياء إثبات الملائكة.
فقالوا: كما أن سقط الناس يجعلون تعظيمهم وسؤال حوائجهم إلى أناس أعلى منهم قليلًا، ثم تكون لهم درجات، إلى أن ينتهي الأمر إلى الوزراء. فمَن دون الوزراء يعظِّم الوزراء ويسألهم، وهم بدورهم يعظِّمون الملك ويسألونه. فكذلك ينبغي للبشر أن يوجِّهوا عبادتهم إلى الملائكة؛
لأنهم فوقهم ودون الرب عز وجل، ثم الملائكة يعبدون الله عز وجل؛ لأنهم مقربون عنده.
فجَرَوا على ذلك مدة، ثم نشأ فيهم فرعون، فقال: درجة الملائكة عالية، وبينهم وبين البشر بون بعيد، فعبادة عامة البشر للملائكة فيها توهين للملائكة. فقال قومه: وكيف نصنع؟ قال: إن بين عامة الناس وبين الملائكة واسطة، وهي ملوكهم، فإن المَلِك ما نال المُلكَ إلا بعناية من الملائكة تدل أنه محبوب عندهم مرضي لديهم مقرب إليهم، وعلى كل حال فدرجته فوق درجة العامة. فعلى العامة أن يعبدوا السلطان، [ص 41] والسلطان يعبد الملائكة، والملائكة يعبدون الرب عز وجل.
وقد أوضحتُ هذا بأدلته من القرآن والتاريخ في رسالة "العبادة".
ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127].
أي: أن موسى لم يقنع بأن يذر عبادتك ويساويك فيعبد آلهتك الملائكة، بل ترقَّى عن ذلك فترك عبادة آلهتك الملائكة، وادَّعى مساواتهم في أنه يعبد الرب مباشرة.
وقد قصَّ الله عز وجل عن فرعون قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] فتدبر.
وتمام هذا والجواب عما يورد عليه في رسالة "العبادة".
هذا، ولعامة أمم الشرك أشياء من هذا القبيل. أعني أنهم يكونون على هدى، ثم يقصِّرون في الاهتداء بهدي الأنبياء والتمسك بآثارهم، ويستغنون بعقولهم وأفكارهم؛ فيهلكون.
وفي "الصحيحين"
(1)
وغيرهما أنه بينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقسم مالًا إذ قام رجل
…
بين عينيه أثر السجود، فقال: يا رسول الله، اتقِ الله. وفي روايةٍ: اعدِلْ يا رسول الله. وهناك روايات أخرى قريبة من ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ويلك! أوَ لستُ أحقَّ أهل الأرض أن يتقي الله؟ ". وفي رواية: "ويحك! ومن يَعدِل إذا لم أعدل؟ ". وهناك روايات أخرى قريبة من ذلك. فاستأذن عمر وخالد بن الوليد في قتله، فلم يأذن لهما صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال:"إن له أصحابًا يَحْقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يَمرُقون من الدين كما يمرق السهمُ من الرميَّة" الحديث.
فهذا الرجل أسلم وقرأ القرآن، وأكثر من الصلاة، فتوهَّم أنه قد عرف كل شيء ولم تبق له حاجة في دينه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل يمكن عنده أن يقع الجور من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون له أن ينكر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ذاك الرجل أصل الخوارج، وصدق صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن هذه النزغة هي التي استولت على الخوارج، فإنهم قرأوا القرآن، وأكثروا من الصلاة والصيام، فتوهموا
(2)
أنهم قد عرفوا كل شيء، وأنه لا حاجة بهم إلى عرض ما يفهمونه من القرآن على هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وذلك أنه وقع في أنفسهم أن القرآن كلام الله عز وجل، وهو بلسان عربي مبين، وهم عربٌ خلَّص، فاستهواهم هذا حتى وقعوا فيما وقعوا فيه.
فمن ذلك: أنهم لما رأوا أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه رضي بأن
(1)
البخاري (3610، 6163، 6933) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2)
في الأصل: "فتوهم".
يعرض ما نشب بينه وبين أهل الشام من الخلاف على رجلين يعرضان ذلك على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله، ويبينان ذلك، وقيل للتفويض إلى الرجلين "تحكيم"، وقيل لهما "حكمان" = ذكر الخوارج أن الله عز وجل قد قال في كتابه:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57، يوسف: 40، 67]. وقال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ} [الأنعام: 62]. وقال تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ} [القصص: 70، 88]، وقال تعالى:{فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12]. فتوهموا أن ذلك الحكم الذي رضي علي رضي الله عنه بجعله للرجلين هو من قبيل الحكم الذي أخبر الله عز وجل في كتابه أنه له وحده.
[ص 42] ولو كانوا مؤمنين بقدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما جعل له من المنزلة، وما جعل لسنته من المنزلة في دينه= لرجعوا إلى من يعلم ذلك، وهو علي رضي الله عنه ومن بقي من الصحابة.
ولو رجعوا إليهم لأرشدوهم إلى تدبر سياق الآيات المذكورة، وذكَّروهم بغيرها، كقوله عز وجل:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]، وقوله:{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، وقوله:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. ولبينوا لهم أن لفظ "الحكم" يجيء لمعانٍ، أذكر منها ثلاثة:
الأول: القضاء المحكم بالوجود أو العدم. أعني الإرادة التي يستحيل أن يتخلف عنها المراد. وهذا هو المعنيُّ في الآيتين الأوليين بدلالة سياقهما:
قال الله عز وجل: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي
مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]. يعني ــ والله أعلم ــ أنني وإن أردت ما تستعجلون به فليس إرادتي بالإرادة التي يستحيل أن يتخلف عنها المراد، وإنما ذاك لله عز وجل.
وقال سبحانه في شأن يعقوب: {وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]. المعنى ــ والله أعلم ــ أنني وإن أردت بما أرشدتكم إليه دفعَ الضرر عنكم، فليس إرادتي بالإرادة التي يستحيل أن يتخلف عنها المراد، وإنما ذلك لله عز وجل.
الثاني: الحكم الشرعي، بمعنى جعل الشيء حرامًا أو حلالًا، أو نحو ذلك.
وهذا أيضَا خاص بالله عز وجل. فأما ما حكي عن المعتزلة من قولهم: "إن للعقل حكمًا"، ففي العبارة تسامح يمكن أن يكون من الناقلين بقصد زيادة التشنيع.
وإنما الذي يقوله المعتزلة: أنه يمكن للعقل أن يدرك من غير طريق الشرع بأن حكم الله في هذا الشيء أنه حرام مثلًا.
وذلك أنهم يقولون: ما دامت أحكام الله عز وجل لا بد أن تطابق الحكمة فلا بد أن تلازمها، فكلما وجدت الحكمة وجد الحكم الذي تقتضيه. فإذا أدرك العقل الحكمة في شيء وأنها تقتضي التحريم، أدرك أن حكم الله تعالى في ذلك الشيء هو التحريم، وذلك كقتل النفس. فهم موافقون على أن الحكم بهذا المعنى لله وحده، وإنما الخلاف في أمور:
الأول: في أحكام الله عز وجل، أهي بمقتضى الحكمة؟
الثاني: في الحكمة، أتستلزم الحكم ولا بد؟
الثالث: في العقل، أيستقل بإدراك أن الحكمة في هذا الشيء تقتضي هذا الحكم حتمًا؟
وللكلام معهم موضع آخر.
الثالث: الفصل المحكم فيما يشتبه أو يختلف فيه ببيان أن الحق كذا.
وهذا جعله الله عز وجل للناس، كما تقدم بعض الآيات في ذلك، وهو الذي رضي به أمير المؤمنين علي عليه السلام.
وزعم بعض من فهم هذه الحجة ممن ينتحل نحلة الخوارج من المتأخرين أن ما رضي به علي من تحكيم الحكمين ليس من الضرب الثالث، بل هو من الثاني، وذلك أن حكم الله عز وجل في أهل الشام منصوص في كتاب الله عز وجل بقوله:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، فتركُ عليٍّ لتنفيذ هذا الحكم وعدولُه إلى جعل الحكم للرجال معناه أنه جعل للرجال أن يحكموا بغير حكم الله.
وحل هذه الشبهة أن أهل الشام لم يكونوا يعترفون بأنهم بغاة، وقد تركوا القتال، ورفعوا المصاحف، ودعَوا إلى تحكيم القرآن، ووعدوا بالرضا بما يتبين أنه حكم الله. [ص 43] وهذا داخل في الفيئة إلى أمر الله. فكأنهم [قالوا: ] إننا نفيء إلى أمر الله، ولكن لا نعرفه بعينه، ونحسبه معنا، ونحن تاركون القتالَ وطالبون البيان.
ولا شك أن حكم الله عز وجل بقتالهم إنما هو ما داموا ممتنعين لا يُرجى رجوعهم إلا بالقتال.
ألا ترى أنه أمر بالإصلاح أولًا وآخرًا، فقال:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} [الحجرات: 9 - 10].
والبغي لا بد أن يكون متحققًا من أول الأمر؛ فإنه لا يمكن أن تقتتل طائفتان إلا وإحداهما باغية. فعلم أنه إنما أمر بالقتال إذا أصرَّت الباغية على بغيها وأبت الصلح، فإذا وقع منها ذلك ثم بعد شيء من القتال رجعت إلى طلب الصلح زالت علة الأمر بقتالنا إياها في الحال. ويوضح هذا قوله في الآية:{فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} .
وقريب من القصة أن يرفع رجل رجلًا إلى قاض ويُثبت عليه أنه قذفه، ويكون بين القاضي والقاذف عداوة، فيريد القاضي أن يحدَّه حد القذف، فيقول القاذف للقاضي: أنت عدوي، ولا آمن أن تكون جُرْتَ علي، فارفعني إلى قاضٍ أخر. فإذا توقف القاضي عن حده ورفعه إلى قاضٍ آخر، عالمًا أنه إن قضى بالحق فإنما يقضي بحده؛ لم يكن في هذا رائحة مما تقدم في الشبهة. فكذلك كانت القصة، بل القصة أولى من هذا؛ لأن القتال ليس حكمًا حتمًا كالحد، وإنما هو وسيلة للإرجاع إلى ترك البغي.
ومن ذلك أن الخوارج [لمَّا] سمعوا قول الله عز وجل: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]، وقوله
تعالى: {يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60]، ونحوها = توهموا أن كل طاعة للشيطان فهي عبادة له وشرك بالله عز وجل، فقالوا: من ارتكب كبيرة فقد أطاع الشيطان، ومن أطاعه فقد عبده وأشرك بالله، فكل مرتكب كبيرة مشرك.
وأحسبهم إنما اقتصروا على الكبائر لأنهم رأوا أن الصغائر لا يخلو منها أحد، أو لقول الله عز وجل:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31].
ولو رجعوا إلى من يعلم هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستضيء به في فهم القرآن، لقال لهم: أين يُذهَب بكم؟ إنكم تعلمون من العربية والقرآن أنه ليس كل طاعة عبادة؛ فقد أمر الله عز وجل بطاعة رسوله وأولي الأمر والوالدين، وعلم أن الناس يطيع بعضهم بعضًا في أشياء كثيرة تقع منكم ومن غيركم، وليس ذلك بعبادة ولا شرك.
وتعلمون ثانيًا: أن طاعة الشيطان في الصغائر ليست شركًا، وإذا تدبرتم سياق الآية التي تمسكتم بها عرفتم الحقيقة. قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ
…
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 118 - 121].
والمعنى الذي يدل عليه السياق هو ما يوضحه ما ورد في أسباب
النزول
(1)
أن المشركين قالوا للمسلمين: أما ما ذبحتم بأيديكم فتأكلون، وأما ما ذبح الله بيده ــ يعنون: الميتة ــ فتحرّمون! يعنون: إن كانت الميتة حرامًا وهي من ذبح الله فما ذبح الإنسان بيده أولى بالتحريم، وإن كان ما ذبح الإنسان بيده حلالًا فما ذبح الله ــ أي الميتة ــ أولى بالحل.
وكان محتملًا أن تؤثر هذه الشبهة في قلب بعض حديثي العهد بالإسلام، فيستحل الميتة أو يمتنع من أكلها ومن أكل المذكَّاة أيضًا، فيكون بذلك مطيعًا للشيطان في شرع الدين. أعني أنه يتدين بما وسوس به الشيطان. فحِلُّ الميتة من وسوسة الشيطان، فمن استحلها فقد أطاعه متدينًا بطاعته. [ص 44] وتحريم المذكّاة من وسوسة الشيطان، فمن امتنع عنها تدينًا فقد أطاعة متدينًا بطاعته.
إذن، فطاعة الشيطان المذكورة في هذه الآية طاعة خاصة، وهي طاعته في شرع الدين، بأن يتخذ ما يوسوس به دينًا. وهذا موافق للعربية؛ فإن العبادة في اللغة هي ما يفعله الإنسان من خضوع ونحوه طلبًا لنفع غيبي.
والطاعة المذكورة تنطبق على هذا، بخلاف طاعة الشيطان في ارتكاب المعصية، مع العلم والاعتراف بأنها معصية، وتألُّم القلب منها، واستحيائه من ربه عز وجل، وخوفه من عقابه؛ فإن من كان هذا حاله فلم يتدين بتلك الطاعة ولم يطلب بها نفعًا غيبيًّا.
(1)
أخرجه أبو داود (2819) وابن ماجه (3173) والطبراني في "الكبير"(12295) والحاكم في "المستدرك"(4/ 233) والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 240) من حديث ابن عباس. وإسناده صحيح.
فأما الآيات الأخرى كقوله تعالى: {لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] فلا إشكال فيها، لأن العبادة معروفة، كما تقدم، وليس طاعته في المعصية منها، وإن كانت منهيًّا عنها بغير هذه الآية.
كما أن قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] الشرك فيها معروف، وليس منه الصغائر اتفاقًا، وإن كانت منهيًّا عنها بغير هذه الآية.
ومما يوضح ما تقدم أن الله عز وجل جعل طاعة الأحبار والرهبان في شرع الدين عبادةً لهم. قال تعالى في أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة: 31].
وقد ذكر عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم لم يكونوا يعبدون الأحبار والرهبان، فبيَّن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم كانوا يُحِلُّون لهم ما قد عرفوا أنه حرام فيستحلونه، ويحرِّمون عليهم ما قد عرفوا أنه حلال فيحرمونه، ثم قال:"فتلك عبادتهم"
(1)
.
وجعل الله تعالى طاعة الرؤساء في شرع الدين عبادة لهم، وطاعة الهوى عبادة له. وقد أوضحت جميع ذلك في رسالة "العبادة".
(1)
أخرجه الترمذي (3095) والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 116) وغيرهما، قال الترمذي:"حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث". وللحديث شواهد وطُرق يحسَّن بها، انظر "السلسلة الصحيحة"(3293).
هذا، والخوارج عرب فصحاء، بِلُغتهم نزل القرآن، وإنما أُتُوا من جهلهم بالهدي النبوي، واستغنائهم عن الاهتداء بالعارفين به من الصحابة.
فما بالك بزماننا هذا وأنت تجد فيه أفرادًا من الأعاجم لا يستطيع أحدهم تركيب جملة صحيحة بالعربية، وليس عنده من معرفة السنة وتفاسير السلف قليل ولا كثير، ثم تجده يخوض في آيات الله عز وجل خوض المُدِلِّ بنفسه، فينظر في الآية، ثم يتتبع معاني ما فيها من الكلمات في كتب اللغة، ثم يلفق من ذلك معنى كما يوافق هواه، فيزعم أنه مراد الله عز وجل، ثم يبني على ذلك دينًا جديدًا وشريعة مخترعة، ويضلِّل سلف الأمة ويكذّب السنة، إلى غير ذلك؟! فإلى الله المشتكى.
وإنما سقت هذا الفصل تمهيدًا للذي بعده.
[ص 45] فصل
في "جمع الجوامع"
(1)
: "يجب العمل به ــ أي بخبر الواحد ــ في الفتوى والشهادة إجماعًا، وكذا سائر الأمور الدينية
…
، وقالت الظاهرية: لا يجب مطلقًا".
أقول: المعروف عن إمام الظاهرية داود أن خبر الثقة يفيد العلم، كما تقدم، واختار ذلك فحلهم ابن حزم، وكان منهم جماعة محدثون يحتجون بأخبار الآحاد. وإنما يُحكى هذا القول عن الظاهرية عن محمد بن داود والقاساني
(2)
، ولا أدري ما صحة النقل، فقد يحتمل أن يقول من يرى أنه
(1)
(2/ 158) بشرح المحلي وحاشية العطار.
(2)
انظر "إرشاد الفحول"(ص 43).
يفيد العلم: "لا يجب العمل بما لا يفيد إلا الظن من الآحاد"، فيتوهم سامعه أنه يريد رد أخبار الآحاد مطلقًا، وهو إنما يردُّ أخبار غير الثقات، لأن أخبار الثقات عنده تفيد العلم. فتأمل.
هذا، ومحمد بن داود لم يُذكر عنه معرفة بالسنة، فإنه كان مشغولًا بالعشق، وذكر عن نفسه أنه ابتُلِي بالعشق مذ كان في الكُتّاب، ثم لازمه حتى مات عشقًا؛ لأنه كان يستحل النظر ويتعفف
(1)
، كما قال عنترة
(2)
:
أغشىَ الوغَى وأعِفُّ عند المغنمِ
فقد لزمه العشق المُضْنِي من المهد إلى اللحد، وكان غاية في الأدب والظرف.
وأما القاساني
(3)
فهو من أصحاب داود، ولا شهرة له، وإنما ذكروا أنه خالف دواد في مسائل نقضها عليه ابن المغلِّس.
وحكي عن عبد الرحمن بن كيسان الأصم ــ من قدماء المعتزلة ــ، وعن تلميذه إبراهيم بن إسماعيل بن علية: أنه لا يقبل خبر الواحد في السنن والديانات، ويقبل في سائر الأحكام
(4)
.
(1)
انظر "تاريخ بغداد"(5/ 259، 262).
(2)
شطر بيت من معلقته، وصدره:
يُخبِرْك من شهد الوقيعةَ أنني
(3)
هو أبو بكر محمد بن إسحاق القاساني، ترجمته في "طبقات الفقهاء" للشيرازي (ص 176).
(4)
انظر "إرشاد الفحول"(ص 43).
والأصم لم يُذكَر عنه أنه سمع حديثًا أو رواه، فقد كان بعيدًا عن الهدي النبوي، وإنما عمدته على عقله وفكره
(1)
، وقد علمت في الفصل السابق حال من كان هكذا.
وأما إبراهيم فقد كان أبوه من جِلَّة المحدثين، ولكنه هو رغب عن السماع، وتبع الأصم. وله ترجمة في "الميزان" و "لسانه"
(2)
.
وحكي عن هشام والنظَّام: أنه لا يقبل إلا بعد قرينة تنضم إليه، وهو علم الضرورة، بأن يخلق الله في قلبه ضرورة الصدق. قيل: وإليه ذهب أبو الحسين بن اللبان الفرضي
(3)
.
أقول: إن أراد قائل هذا بـ "علم الضرورة" علم اليقين الذي لا يقبل التشكيك فهو كما ترى، فإن ما يفيد من أخبار الآحاد العلم بمعونة القرائن ونحوها مما تقدم سببه معروف، فأما أن يقع اليقين بلا سبب فمحال في العادة. وإن أراد أن يطمئن القلب بصدقه فهذا قريب، فإن أئمة الحديث لا يكادون يصححون حديثًا إلا وهو كذلك. ولا تتخلف طمأنينة القلب عن خبر الواحد الثقة إلا لعلةٍ إذا بحث عنها العارف عرفها، وبذلك يعرف أن الخبر معلول.
هذا، وهشام والنّظام من بابة الأصم، وأسوأ ذكرًا منه.
وثَمَّ أقوال جزئية ستأتي إن شاء الله تعالى.
(1)
انظر ترجمته في "لسان الميزان"(5/ 121).
(2)
"الميزان"(1/ 20) و"اللسان"(1/ 243).
(3)
انظر "إرشاد الفحول"(ص 43).