الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومع هذا كله فسيأتي أن إبراهيم ومحمدًا عليهما الصلاة والسلام قضيا على تلك الكلمات بأنها كذباتٌ وخطايا، وأن إبراهيم عليه السلام يرى يوم القيامة أن صدورها منه يُقصِّر به عن رتبة الشفاعة، ويقضي عليه بأن يستحيي من الله عز وجل لأجلها.
فأما ما قاله بعض أهل العلم من الكذب المرخّص فيه، فسيأتي الكلام فيه، والسرّ في قولهم باشتراط التأويل في النفس يُعلَم مما قلناه في حقّ إبراهيم عليه السلام.
[ص 41]
المطلب الرابع في القرينة
أجمع أهل العلم على أنه لابدَّ للمجاز من قرينة، فمنهم من قال: إنها ركن كالبيانيين، ومنهم من قال: شرط، ونُسِب هذا إلى الأصوليين. وأجمعوا أنه إذا لم تكن هناك قرينة فالكلام على حقيقته، فإن كان معناه الحقيقي مخالفًا للواقع فهو كذب. ومن الناس مَن يشترط في تسميته كذبًا أن لا يكون المتكلم مخطئًا يعتقد أنه واقع.
واعلم أنه إذا دلّ الخبر بظاهره على معنى، وكان هناك دليلٌ يخالف ذاك الظاهر، فذاك على أوجه:
الأول: أن
(1)
…
(1)
يوجد بعده بياض في الصفحة. والكلام غير متصل بما بعدها.
الدنيا، وليس في تلك الجهة غِربانٌ البتةَ، وأهل تلك الجهة سود، ولعل المخاطب أن يعرف ذلك ولو بعد سنين، أو يعرفه مَن بعده ولو بمئات السنين. فمن يبلغه هذا الخبر فحينئذٍ يتبيَّن أنني إنما قصدتُ بالغراب رجلًا أسود، فعلى هذا المخاطب إن راعى هذا الاحتمال [ألَّا] يقطع بظاهر الخبر.
وبعدُ، فلو احتمل هذا لاحتمل مثله في نصوص الأحكام من الحلال والحرام وغيرها، إذ لا فرقَ بين أن يعتدّ في القرينة بعقلٍ غير حاصل للمخاطب، وبين أن يعتد بقرينة أخرى غير حاصلة له.
ومعلوم بالضرورة أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا يتوقفون عن العمل بما ينزله الله تعالى عليهم مما له معنى ظاهر بيِّن، لاحتمال أن يكون هناك [تأويل] وإن لم يظهر لهم، وأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يتوقفون عن اعتقاد ظاهر الكتاب والسنة إذا لم يظهر لهم بعد التدبر قرينة صارفة عن ذلك، ولا كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل المراد بهذا الكلام هذا الظاهر؟ بل لو كلِّفوا بذلك لاحتمل مثل ذلك في الكلام الثاني، وهكذا ويتسلسل، ولو كان يلزم الناسَ شيء من ذلك لكان من أحق ما ينبِّههم عليه الله ورسوله، إذ كيف يُقِرُّهم عليه طولَ أعمارهم وهو غلط يؤدي إلى اعتقاد الباطل؟
وفوق هذا فكثيرًا ما يكون في سياق الكلام وسباقه ما يصير به نصًّا في المعنى لا يحتمل التجوُّز أصلًا، وقد يحتمل النص الواحد التجوّزَ ولكنه إذا ورد ذلك المعنى في مواضع كثيرة وكلها تفيد ذلك الظاهر متفقة عليه= استفيد من مجموعها القطعُ بذاك الظاهر.
فإن قيل: فإن الله تبارك كما وصف نفسه بأنه يهدي، فقد وصف نفسه بأنه يُضلّ، وكما وصف كتابه بأنه هُدًى، فقد وصفه بأنه يُضلّ به.
قلت: أخبر الله تعالى بأنه يُضِلُّ من يشاء، ثم أخبر بأنه يُضلّ مَن هو مسرف كذاب، ويضل الكافرين، ويضل الظالمين، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 15]، يعني ــ والله أعلم ــ فإذا لم يتقوا تعرضوا لإضلال الله عز وجل.
وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124 - 125].
فالإضلال بالقرآن ليس منه أن ينزل عز وجل آية لها ظاهر لا يفهم المخاطبون منها غيره، ويكون ذلك المعنى في نفس الأمر باطلًا، فإن هذا ــ مع ما فيه من التلبيس والكذب الذي يتعالى الله عز وجل عنه ــ من شأنه أن
يضل المؤمنين قبلَ غيرهم، لأنهم هم الذين يسارعون إلى تصديق القرآن والعمل به.
وإنما الإضلال بالقرآن على وجهين:
الأول: أن يكون فيه ما يستنكره مَن في قلبه ريب، أو يخالف هواه لتقليدٍ أو إعجابٍ برأي أو غير ذلك.
الثاني: أن يُنزِل الله تعالى آية إذا سمعها المؤمن وتدبَّرها، ونظر في سياقها وفي الآيات الأخرى، عرف المراد بها فاهتدى بها، وإذا سمعها الكافر أو الضال رأى أنها تحتمل ما يُوافق هواه، فتمسَّك بها اتباعًا لهواه لا إيمانًا بكتاب الله.
فتدبَّر الآيات المتقدمة، وانظر ما فتح الله عليَّ، تجدْه هو الحق بحمد الله عز وجل، فإياك أن تكون من القسم الأخير، فتضلَّ بقوله عز وجل:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} ، فتكونَ من ذلك الكثير.
ثم ارْجعِ النظرَ، فانظر مَن هو المستحق لأن يهديه الله تعالى وأن يكون القرآن له هدًى، ومَن هو المستحق أن يضلَّه وأن يكون القرآن له عَمًى؟ وقد قال تعالى:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [أول سورة البقرة]، فهل الأحق بالهدى والاهتداء بالقرآن مَن يؤمن بالله وكتابه ورسوله، ويجعله إمامًا لا يطلب منه بدلًا، ولا يرضى بغيره حَكمًا، ولا يطلب على صدقِ خبر الله عز وجل دليلًا، ولا يتوقف عن الأخذ به لاحتمال أن يكون تلبيسًا، ولا يردُّه لمخالفته قولَ أفلاطون وأرسطو، والفارابي
وابن سينا، وفلان وفلان، وفلان وفلان، أم مَن هو على خلاف ذلك؟ والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم.
[ص 92]
(1)
أحبارهم ورهبانهم أربابًا.
هذا، وقد أخطأ في معنى عبادة الشيطان فرقتان:
الأولى: الخوارج؛ زعموا أن الآيات المتقدمة أو بعضها تدل على أن طاعة الشيطان شرك بالله، وحملوا ذلك على الإطلاق، فقالوا: إن كل من ارتكب كبيرة فقد أطاع الشيطان، فهو مشرك.
وقد كان يلزمهم أن يطردوا ذلك في جميع المعاصي حتى الصغائر.
وقد علمت الحق، وهو أن الشرك هو طاعة الشيطان في شرع الدين، بأن يوسوس للإنسان أن هذا حلال وهذا حرام، وهذا مقرب إلى الله، وأشباه ذلك، فيطيعه الإنسان، ويتخذ ذلك دينًا بغير سلطان من الله عز وجل.
فأما من يطيعه في شرب الخمر مثلًا، إيثارًا لشهوته، عارفًا معترفًا بأن ذلك الفعل معصية لله عز وجل، ضارٌّ في الدين، سببٌ للخسران المبين، راجيًا أن يوفّقه الله للتوبة= فهذا ليس من الشرك في شيء؛ فإنه لم يطلب بترك الطاعة وارتكاب ذاك الفعل نفعًا غيبيًّا، بل هو عارف معترف بأن ذلك مقتضٍ للضرر الغيبي.
الفرقة الثانية: جماعة من المفسرين وغيرهم؛ لم يحققوا معنى «العبادة» ، ولا تدبروا الآيات حق تدبرها، فقالوا: إن هذه الآيات مما جاء على طريق التشديد، وإلا فطاعة الشيطان لا تكون عبادة له، ولا شركًا بالله عز وجل، إلا أن يطيعه في السجود لصنم مثلًا، فيكون ذلك شركًا،
(1)
من هنا تبدأ القطعة الثالثة، وفيها استطراد في ردّ شبهة المشركين في قوله تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} . وفي آخره ذكر تأخير البيان عن وقت الحاجة، ثم الضرب الثاني من المجمل (التورية).
ومع ذلك [ص 93] فليس عبادة للشيطان.
وقد علمت الحق، ولله الحمد.
وقال الله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50].
أي ــ والله أعلم ــ: أنه لا أحد أضلُّ ممن اتبع هواه في أمر الدين، فتديَّن بالباطل لأنه يهواه، ورفض الدين الحق لأنه لا يهواه.
وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23].
وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43].
فمن سوَّلتْ له نفسه شيئًا فهوِيَه، فاتخذه دينًا، فقد أطاع هواه تلك الطاعة التي هي عبادة، كما تقدم.
واعلم أن المشركين كانوا يعلمون معنى «العبادة» والتأليه، كيف والشرع إنما خاطبهم بلغتهم، ولكن قد يغفلون عن بعض الفروع حتى ينبههم الشرع. ويتضح ذلك بما يأتي:
1 -
كانوا يتخذون الأصنام تماثيل للإناث الغيبيات، التي يزعمون أنها الملائكة، ثم يكرمون تلك الأصنام، ويتبركون بها، ويتمسحون بها، ويعكفون عندها، ونحو ذلك، ويسمون ذلك عبادةً وتأليهًا للأصنام ولتلك الإناث اللواتي جعلت الأصنام تماثيل لهن.
2 -
[ص 94] كانوا يدعون تلك الإناث، يسألون منها أن تنفعهم، ويقولون: إنهم إنما يطلبون منها أن تشفع لهم عند الله عز وجل الذي بيده ملكوت كل شيء، ويسمون مع ذلك دعاءهم ذاك عبادةً وتأليهًا لتلك الإناث، أو قل: للملائكة؛ فإنهم كانوا يزعمون أن تلك الإناث هي الملائكة.
3 -
كانوا يطيعون أسلافهم ورؤساءهم في شرع الدين، كا تخاذ الأصنام، والتحليل والتحريم، وغير ذلك، ولا يسمون تلك الطاعة عبادة وتأليهًا لمن أطاعوه، فنبههم القرآن والسنة على أنها عبادة وتأليه لمن أطاعوه، وبين لهم أنهم يطيعون بتلك الطاعة الشياطين التي توسوس لهم بأن تلك الأمور من الدين، وأهواءهم التي تزين لهم اتخاذ تلك الأمور دينًا، وأن ذلك عبادة وتأليه للشياطين والأهواء.
4 -
كانوا يحترمون الكعبة أبلغ من احترام الأصنام، ويرون ذلك عبادة لله، لا عبادة وتأليهًا للكعبة، وكانوا يرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يحترمون الكعبة، يطوفون بها، ويقبِّلون الحجر الأسود، ونحو ذلك، ولم يتشبث بذلك أحد من المشركين بأن يقول مثلًا: إن محمدًا يعبد الكعبة، ويتخذها إلهًا، فكيف يزعم أنه لا إله إلا الله، وأنه لا ينبغي أن يعبد سواه؟
ما ذلك إلا لأنه كان من الواضح المكشوف عندهم أن تلك الأعمال عبادة لله عز وجل، لا للكعبة.
5 -
كانوا يعلمون أن المسلمين مما يخاطب أحدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو بحيث يسمع كلامه عادةً، قائلًا: يا رسول الله، ادع الله لنا. ونحو ذلك. ولم يتشبث أحدٌ منهم بهذا، كأن يقول:[ص 95] إن محمدًا يقر أصحابه أن يدعوه ليشفع لهم إلى الله عز وجل، فكيف ينكر علينا أن ندعو الملائكة؛ ليشفعوا
لنا إلى الله عز وجل؟
وما ذاك إلا لوضوح الفرق عندهم، وعلمهم بأن سؤالهم من الملائكة دعاءٌ وعبادةٌ للملائكة، وأن ما يقع من المسلمين ليس من الدعاء الذي هو عبادة لغير الله تعالى.
6 -
كانوا يعلمون طاعة المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأحكام الدينية، ويعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس إلى طاعته فيها. ولم يتشبث أحد منهم بذلك، كأن يقول: إن محمدًا يزعم أننا نعبد ونؤلِّه رؤساءنا والشياطين والأهواء بطاعتنا لهم في أمور الدين، فكيف يدعو الناس إلى طاعته في الدين، ويقر من اتبعه عليها، ثم يزعم أنه لا إله إلا الله، ولا تنبغي العبادة لغيره تعالى؟
ما ذلك إلا لعلمهم بوضوح الفرق بين الطاعتين، وأن ما وقع منهم مما ذكر حريٌّ أن يكون عبادة وتأليهًا لمن أطاعوه تلك الطاعة، واتخاذًا له ربًّا وندًّا، وأن ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقرّ عليه من طاعته في الدين ليس عبادة له ولا تأليهًا.
هذا كله يوضح أنهم كانوا يعرفون أن العبادة هي الخضوع، طلبًا للنفع الغيبي. فما كان كذلك، فإن كان الله تعالى أنزل به سلطانًا، وأقام عليه برهانًا، فهو عبادة لله سبحانه، ولو كان يتراءى من ظاهره أن فيه خضوعًا لغيره تعالى. وإن لم يُنزل به الله سلطانًا، فهو عبادة وتأليه لغيره.
فقد عرفوا أن الثلاثة الأمور الأولى عبادة؛ لأنها خضوعٌ يُطلَب به نفع غيبي.
أما الأول والثالث؛ فظاهر.
وأما الثاني؛ فلأن الملائكة أنفسهم غيب؛ لأنهم لا يعلمون بطريق عادية أنهم منهم بحيث يسمعون خطابهم، أو بحيث يبلغهم بطريقٍ عاديةٍ كما يعلم الإنسان أن صاحبه حي بهذه الحياة الدنيا قريب منه، [ص 96] بحيث يسمع كلامه في العادة، فيخاطبه بكلام يسمعه، أو بعيد عنه فيرسل إليه رسولًا، أو يكتب إليه كتابًا، أو يرفع صوته بمحضر الناس لعل بعضهم يبلغه.
وأما الأمر الرابع؛ فقد عرفوا أنه عبادة، كما مرّ.
وأما الأمر الخامس؛ فقد عرفوا أنه ليس بعبادة؛ لأن المسلمين إنما كانوا يسألون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء وهو حي هذه الحياة الدنيا، وبطريق عادية على نحو ما مرَّ قريبًا، حتى كانوا إذا كانوا بعيدًا منه صلى الله عليه وآله وسلم ولم يمكنهم الإرسال والكتابة، وأحبوا أن يعلم بأمرهم، قالوا:«اللهم بلِّغ عنا رسولك» ، كما قال عاصم بن ثابت
(1)
، أو كما قال الخزاعي
(2)
:
اللهم إني ناشدٌ محمدًا
…
حِلْفَ أبينا وأبيه الأتلدا
وكما قال خبيب بن عدي لما أراد المشركون قتله: «اللهم إني لا أجد من يُبلِّغ رسولَك مني السلام، فبلِّغْه»
(3)
.
وفي رواية
(4)
: «اللهم إنا قد بلَّغنا رسالة رسولك، فبلِّغه الغداةَ ما يُصنع
(1)
أخرجه البخاري (3989، 4086) من حديث أبي هريرة ضمن قصة قتله.
(2)
هو عمرو بن سالم الخزاعي، والرجز في «سيرة ابن هشام» (2/ 394).
(3)
انظر «فتح الباري» (7/ 383).
(4)
انظر «سيرة ابن هشام» (2/ 173) و «حلية الأولياء» (1/ 113).
بنا». انظر «فتح الباري»
(1)
عند شرح باب غزوة الرجيع، قوله: «ثم قال: اللهم أَحْصِهم عددًا
…
». وانظر «سيرة ابن هشام»
(2)
، ذكر يوم الرجيع.
أما ما يروى أن خُبيبًا نادى: «يا محمد» ، فإنما أخرجه أبو نعيم في «الحلية»
(3)
من طريق الهيثم بن عدي، وهو كذَّاب، كذبه ابن معين والبخاري وغيرهما، وفي السند علل أخرى.
ودعاء الإنسان الحي هذه الحياة، أعني أن يدعو الله تعالى لإنسان= ليس هو نفسه نفعًا غيبيًّا؛ لأن قدرته على ذلك واختياره فيه معروف في العادة، كسائر كلامه، والسائل إنما سأل الدعاء، لا ما يرجو أن يترتب عليه من النفع الغيبي. فإذا كان السؤال بطريق عادية، كما كان يقع من الصحابة، فليس من العبادة في شيء، [ص 97] وإنما هو سؤال نفعٍ عادي. بخلاف دعاء المشركين الملائكة ليشفعوا لهم؛ فإن الملائكة غيبٌ، وطريق السؤال مبني على الغيب، فتكون الشفاعة المطلوبة نفعًا غيبيًّا.
وأما السادس؛ فقد علموا أنه عبادة.
لكن كانوا ــ أعني المشركين ــ قد عرفوا أن الثلاثة الأولى عبادة لم ينزل الله تعالى بها سلطانًا، إنما هي مبنية على الخرص والهوى والتقليد لمن لم ينزل الله سلطانًا باتباعه.
وأن الرابع أنزل الله تعالى به سلطانًا مبينًا، يتناقلونه خلفًا عن سلف، عن
(1)
(7/ 383).
(2)
(2/ 173).
(3)
(1/ 245، 246).
خليل الله ورسوله إبراهيم الذي أنزل الله سلطانًا بتصديقه، والأمر باتباعه.
وأن الخامس ليس بعبادة، كما مرّ.
وأن السادس عبادة، لكن لما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنه رسول الله، وأن الله أنزل سلطانًا بتصديقه والأمر باتباعه، والمسلمون يقولون ذلك، علم المشركون أنهم إن اعترضوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أجابوهم بهذا، فلذلك تركوا ذاك الاعتراض، واقتصروا على التكذيب.
الوجه الثاني لدفع شبهة المشركين في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98]: أن المشركين كانوا يعبدون إناثًا غيبيات يزعمون أنهن بنات الله، وأنهن يحببن أن يُعبَدن، وأنهن يشفعن عند الله عز وجل لعبّادهن، ويسمونهن تسمية الأنثى: اللات، العزى، مناة، ويقولون: إنهن هن الملائكة.
ولا ريب أن الملائكة ليسوا بهذه الصفة، فصح بهذا الوجه أيضًا أنهم لم يكونوا يعبدون الملائكة.
فأما عبادتهم لتلك الإناث، فتارة يجعلها القرآن [ص 98] عبادة لما لا وجود له، وتارة يجعلها عبادة للشياطين.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت: 42].
وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ
وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} [النجم: 19 - 27].
فالمراد هنا باللات والعزى ومناة: تلك الإناث الخياليات التي يزعمون أنها بنات الله، وأنها الملائكة، فوبَّخهم الله عز وجل على نسبة الولد إليه، مع اختيارهم له تعالى الإناث.
ثم بين أنه لا وجود لتلك الإناث، وإنما يوجد منها الأسماء، كما قال في آية العنكبوت:{مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} .
ثم بيَّن أنه على فرض وجود إناث هن الملائكة، فالملائكة لا يستحقون العبادة؛ لأنهم لا يملكون نفعًا ولا ضرًّا، حتى الشفاعة فإنهم إنما يشفعون بعد إذنه ورضاه، وقال في آية أخرى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وفي ذلك آيات كثيرة.
ثم بين أن زعمهم أن الملائكة إناث، وتسميتهم إياهم تسمية الإناث، من جهلهم وضلالهم.
فبهذا يتبيَّن استقامة الكلام، وانتظامه، وائتلافه.
لكن كان المشركون قد جعلوا لتلك الإناث الخياليات [ص 99] تماثيل، وسموها بأسمائها، كما هي عادة المشركين إلى الآن في الهند والصين
وغيرها، وكما جاء في «الصحيح»
(1)
في شأن ودّ وسُواع ويغوث ويعوق ونسر: أنها أسماء رجالٍ صالحين كانوا في قوم نوح فهلكوا، فاتخذ لهم مَن بعدهم تماثيل، وسمَّوها بأسمائهم وعبدوها، وكما هي العادة العامة في الصور والتماثيل، فيقال في صورة الفرس:«هذا فرس» ، ويقال في صورة الرجل المعروف أو تمثاله:«هذا فلان» باسم ذلك الرجل، فاشتهرت تلك الأسماء: اللات والعزى ومناة في تلك التماثيل، وتُنوسِيَ أمر الجاهلية، فظن كثير من المفسرين أنها المرادة في آيات النجم، فوقعوا في خبط شديد.
وقد أوضحت هذا المقام في «كتاب العبادة» ولله الحمد، وذكرت أدلته من السنة والتاريخ وغيرهما.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 116 - 117].
وقد مر أن عبادة الشيطان هي طاعته في شرعِ الدين، ولعبادته وجه آخر، وهو: أن من شأنه أن يتعرض لعبادة البشر، لتكون في الصورة له. ولذلك جاء في الحديث:«إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار»
(2)
.
فالشمس لا تزال طالعة، تطلع على قطعة من الأرض، ثم على التي غربيها، وهكذا. فإذا طلعت على قطر [ص 100] انتصب الشيطان بين أهل ذلك القطر وبينها؛ لأن من أهل ذاك القطر من يسجدون لها عند طلوعها،
(1)
البخاري (4920).
(2)
أخرجه مسلم (832) من حديث عمرو بن عبسة.
فيخيل الشيطان أنهم إنما سجدوا له، مع أنهم عابدون له من جهة الطاعة، كما مر.
ولكنه لا يقف عند ذلك، بل يتعرض لعبادة الله عز وجل، فإذا رأى من يصلي لله عز وجل حاول أن يقف أمامه، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتخاذ السترة، مع الاستعاذة.
وتحقيق هذا يطول، وقد أوضحته في «كتاب العبادة» .
فلما رأى الشياطين أن المشركين يعبدون إناثًا غيبيات، وسموها: اللات والعزى ومناة، ونصبوا لها التماثيل= قال الشياطين: ليس هناك إناث غيبيات عن الناس يحببن أن يُعبدن إلا من الشياطين، فعمدوا إلى شيطانةٍ سموها «العزى» ، ووكلوها بتمثال «العزى» ، وهكذا
…
ويوضح ذلك ما روي في الحديث في قصة هدم «العزى» ، وفيه
(1)
(2)
، وغيره.
(1)
أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (11547) والبيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 77) من حديث أبي الطفيل.
(2)
(14/ 30، 31).
[ص 101] وفي رواية
(1)
: «فقطعها، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها
…
».
ففي هذا أن السدنة كانوا يقولون بعد الهدم وقطع الشجر: «يا عزّى! يا عزّى» فالعزّى عندهم غير ما هُدِم وقُطِع.
وفيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الشيطانة: «تلك العزى» . وهو واضح فيما تقدم.
هذا، وتمام الكلام في «كتاب العبادة» ، وإنما المقصود أن المشركين تمسكوا بتلك الشبهة في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ
…
}
مع ضعفها
(2)
.
فلو لم يكن معروفًا عندهم، مشهورًا بينهم أن تأخير البيان إلى وقت الحاجة لا يعد كذبًا ولا تلبيسًا ولا تناقضًا؛ لشنَّعوا في النصوص التي جاءت من هذا القبيل.
ومع هذا فقد ذهب كثير من أهل العلم إلى منع تأخير البيان عن وقت الخطاب، وأجابوا عن تلك النصوص بما هو معروف.
ومن الضرب الثاني من المجمل: ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد غزوةً ورَّى بغيرها
(3)
.
(1)
«طبقات ابن سعد» (2/ 146).
(2)
هنا وضع المؤلف خطًّا فاصلًا، وكتب في آخره في الهامش:«آخر الاستطراد» .
(3)
أخرجه البخاري (2947) ومسلم (2769/ 54) من حديث كعب بن مالك.
ومثلوا لتلك التورية بأن يسأل عن جهة أخرى غير التي يريدها، كيف طرقها ومياهها، وغير ذلك من أحوالها.
وذلك أنه كان إذا أراد غزوة أمر الناس أن يتجهزوا ويستعدوا، فيخشى أن يكون هناك من يتجسس للقوم الذي يريد غزوَهم، فيذهب فينذرهم، فيستعدوا ويتحرزوا، فيسأل صلى الله عليه وآله وسلم عن جهةٍ أخرى عسى أن يسمع المتجسسون سؤاله.
[ص 47]
(1)
فقد كانوا يتشبثون بأوهن الشبهات، فلولا أنه كان معروفًا عندهم، مشهورًا بينهم أن تأخير البيان إلى وقت الحاجة لا يُعدُّ كذبًا ولا تلبيسًا ولا تناقضًا؛ لشنَّعوا في النصوص التي جاءت على ذلك الوجه.
ومع هذا فقد ذهب كثير من أهل العلم إلى منع تأخير البيان عن وقت الخطاب، وأجابوا عن تلك النصوص بما هو معروف.
ومن الضرب الثاني من المجمل: ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها
(2)
.
ومثَّل أهل العلم لتلك التورية بأن يسأل عن جهة أخرى غير التي يريدها، أي بأن يسأل عن طرقها ومياهها، وغير ذلك من أحوالها.
وذلك أنه كان إذا أراد غزوة أمر أصحابه بأن يستعدوا ويتجهزوا، فيخشى أن يكون هناك من يتجسس للقوم الذين يريد غزوهم، فيذهب فينذرهم فيستعدوا ويتحرزوا، فيسأل صلى الله عليه وآله وسلم عن جهة أخرى عسى أن يسمع المتجسسون سؤاله، [ص 48] فيستنبطوا منه احتمال أنه إنما يريد غزو تلك الجهة التي سأل عنها.
ففي هذا أولًا: أن سؤاله عن الجهة ليس بخبر.
وثانيًا: الخبر الذي يدل عليه محتمل، فقد يسأل عن تلك الجهة خوفًا من أهلها أن يسمعوا بخروجه من المدينة إلى الجهة التي قصدها، فيخالفوه إلى المدينة، فيسأل عن جهتهم؛ ليعلم أيخشى منهم ذلك أم لا.
(1)
من هنا تبدأ القطعة الرابعة من الكتاب. والكلام الذي قبلها في القطعة الثانية، وتكرَّر جزء منه لأن المؤلف كتبه مرةً ثانية.
(2)
سبق تخريجه قريبًا.
وقد يسأل عنها ليغزوها يومًا من الدهر، لا ليغزوها بذاك الاستعداد الحاضر.
وقد يسأل عنها ليعرفها، لعل معرفتها تفيد يومًا من الدهر، مع صرف أوهام المتجسسين عن الجهة التي يريد غزوها، وظاهر الحال مع ذلك تدافع أنه إنما سأل عن تلك الجهة ليغزوها من فوره، وذلك أن من شأن الإمام المحارب أن يحرص على كتمان مقصوده.
فمن تدبر هذا تبين له أن ذاك السؤال لا يظهر منه للمتدبر ما هو خلاف الواقع، بل يبقى عنده محتملًا.
* * * *