الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ص 9]
المراد بالظهور
المراد بالظهور هو الظهور للمخاطب الذي أريد إفهامه، ومن هنا يُعلم أن القرينة الصحيحة هي التي يعلم المتكلم أو يظن إن كان ممن يجوز عليه الظن أن المخاطب يدركها، بحيث لو غفل عنها عُدّ مقصرًا.
قال لك عاميّ أميّ: إنّي اشتريت أربع عشرة ربطةَ مناديل، في كل ربطة اثنا عشر منديلًا، ودفعت الثمن اثني عشر جنيهًا، ورجع لي البائع ثلاثين قرشًا، وأريد أبيع المناديل فرادى، فأخبِرْني كم يخص كلّ منديل من أصل الثمن؟
وتعرف أنّ الجنيه صرفه سبعة وتسعون قرشًا، فحسَبْتَ فوجدت ثمن كل منديل ستة قروش وثلاثة أرباعٍ قرشٍ، فقلت لسائلك الأمي: يخص كل منديلٍ ستة وثمن! ونويتَ ستةً وثُمُنَ الستة وهو ثلاثة أرباع، فهل لك أن تزعم أنك بهذه التورية مع قيام الدلالة العقلية القاطعة المدركة بطريق الحساب لم تكذب على ذلك المسكين، وقد صدَّقك، ولم تغشَّه إذ ائتمنك، وأنّك غير مؤاخذ بما يناله من خيبة الأمل ونقصان رأس المال وضياع التعب، وما ينجرّ إلى ذلك من افتقاره واحتياجه وجوع أهله وعُرْيهم وغير ذلك، وأنّ لك الحق فوق ذلك أن تلوم [ص 10] ذلك المسكين وتوبِّخه على فهمه وما نشأ عنه، وتعاقبه إن كان أجيرك مثلًا؟
هذا في القرينة العقلية، ومثله يقال في اللفظية، كأن قلت في الجواب:«ستة وثُمنها» ولكن أخفيتَ الهاء عمدًا، فلم يسمع إلا «ستة وثُمن» . وقس على ذلك الحالية والعادية.
وقد يشكل عليك تطبيق هذا في النصوص الشرعية، وسيأتي حلّ الإشكال إن شاء الله تعالى.
كيف الاقتران
المتبادر من قولنا: «قرينة» أن تكون مقترنة بالكلام، ومعنى الاقتران الاجتماع، وذلك على ثلاثة أوجه:
الأول: أن تكون موجودة قبل الكلام ومعه وبعده، وهذا يتحقق في العقلية والعادية، وقد يتحقق في الحالية، وكذا في اللفظية بالنظر إلى العلم بها؛ فإنّه إذا قدم المتكلم كلامًا يدل على أنّ زيدًا
(1)
حي اليوم، ثم قال: إنّ زيدًا مات البارحة، والمخاطب قد سمع الكلام الأول، كان علمه بالكلام الأول قرينة يُصرف بها الكلام الثاني عن ظاهره، والعلم بها موجود قبل الكلام الثاني ومعه وبعده.
والثاني: أن تكون معه وبعده.
والثالث: أن تكون بعده متصلة به.
(1)
في الأصل: «زيد» مرفوعًا ..
وصرَّح
(1)
البيانيون بأنه لابدّ للمجاز ــ سواء أكان استعارةً أم غيرها ــ من علاقة ومن قرينة، وذكروا في بحث الاستعارة أنها مجازٌ علاقته التشبيه، وأنها مبنية على دعوى دخول المشبَّه في جنس المشبَّه به.
وبعد أن بيَّن السكّاكي في «المفتاح»
(2)
هذا، ذكر أن الاستعارة تفارق الدعوى الباطلة ببناء الدعوى فيها ــ أي الاستعارة ــ على التأويل، وتفارق الكذب بنصب القرينة المانعة عن إرادة الظاهر.
والذي يظهر لي أنه لما ذكر أن الاستعارة مبنية على الدعوى، أراد أن يبيِّن أن تلك الدعوى ليست بباطلة، إذ ليس المدَّعى دخول المشبَّه في جنس المشبَّه به حقيقةً فتكون دعوى باطلة، وإنما ذلك على جهة التأويل. فهذا معنى قوله:«إن الاستعارة تفارق الدعوى الباطلة ببناء الدعوى فيها على التأويل» . ثم كأنه استشعر أن التأويل عمل ذهني لا يظهر في الكلام، فلا يخرج به الكلام عن البطلان الظاهر وهو الكذب.
ولعل هذا الذي قررته هو مراد عبد الحكيم بقوله في «حواشي المطول»
(3)
: «الأظهر عندي أن الاستعارة من حيث المعنى تشابه الدعوى الباطلة، ومن حيث اللفظ تشابه الكلام الكاذب، فتبيَّن الفرق بأن مبنى معناها على التأويل بخلاف الدعوى الباطلة، وأن مبنى لفظها على نصب القرينة بخلاف الكذب.
وفي «شرح المفتاح الشريفي» (يعني شرح السيد الشريف الجرجاني
(1)
وجدنا ورقتين بخط المؤلف فيهما خرم في مواضع وتآكل في الأطراف، تحدث فيهما عن بعض الموضوعات التي تناولها في القطعة الأولى. فألحقناهما في آخر الكتاب.
(2)
(ص 373).
(3)
انظر «فيض الفتَّاح على حواشي شرح تلخيص المفتاح» (4/ 152).
للمفتاح) أنه أراد بالدعوى الباطلة الـ[ـجهل المركب، وصاحبه مصرٌّ على دعواه متبرئ عن التأويل فضلًا عن نصب القرينة]»
عبد الحكيم .... مع كونه خلاف ظاهر العبارة .... لا وجه لتخصيص مفارقة الاستعارة لهذين بأنها تفارق الدعوى الباطلة مطلقًا
…
بالتأويل، وعن الكذب مطلقًا
…
بنصب [القرينة].
أقول: إذا رأيت [جرمًا منيرًا على جبلٍ كأنه متصل بالجبل في رأي العين فقلت: «رأيتُ نجمًا يُصطلى به»، فقولك «يُصطلى به»]
(1)
قرينة أخرجت الكلامَ عن دلالته على أنك رأيت نجمًا حقيقيًّا. فالذي يستفاد من هذا أنك أردت أن تُفهِم مخاطبك أنك رأيت نارًا تُشبه النجم، ومع ذلك فقد يكون الذي رأيته هو في نفس الأمر نجمًا حقيقيًّا، ولكنك حسبته نارًا، أو علمت أنه نجمٌ حقيقةً، ولكنك أردتَ أن تُفهم مخاطبك أنه نار. فلعل العلامة أراد بقوله:«ما في الضمير» أي ما يريد المتكلم إفهامه. وعلى هذا فلكلامه وجه.
فإن قيل: لكن مخالفة الخبر لما يريد المتكلم إفهامَه ليست هي الكذب عند الجمهور، ومنهم السكاكي.
(1)
ما بين المعكوفتين قد أتى التآكل في طرف الورقة على أكثره، وقد أكملناه من كلام ضرب عليه المؤلف.
قلت: هذا لا يمنع أن يظن العلامة أن السكاكي أراد بالكذب في ذاك الموضع هذا المعنى، لكن قد يقال: فكذلك التأويل لا يطّرد فيه إخراجه الدعوى عن البطلان في نفس الأمر.
ففي المثال المتقدم قد يكون المرئي نجمًا في نفس الأمر، واعتقدتَ أنه نار فقلتَ:«رأيتُ نجمًا» مدّعيًا دخول تلك النار في جنس النجم.
وهذه الدعوى ــ لولا التأويل ــ صحيحة في نفس الأمر، باطلة في اعتقادك، فالتأويل إنما أخرجها عن البطلان في اعتقادك.
وقد يكون المرئي نجمًا وعرفت أنه نجم، ولكنك بنيتَ على زعم أنه نار، فقلتَ: رأيت نجمًا، على دعوى دخول المرئي في جنس النجم، فهذه الدعوى صحيحة في نفس الأمر، صحيحة في اعتقادك، وإنما أخرجها التأويل من الصحة إلى البطلان.
فقد كان على العلامة أن يلاحظ ما تقدم أن تفسير الدعوى الباطلة بما يكون على خلاف ما في الضمير ويريد به زعم المتكلم أنه قد أراد إفهامه. وقد يقال: لا مانع أن يلاحظ ما تقدم في شيء ويغفل عنه في غيره.
وقد عدل صاحب «التلخيص» عن صنيع السكاكي فقال
(1)
: «والاستعارة تفارق الكذب بوجهين: بالبناء على التأويل ونصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر» . كأنه فهم أن مراد السكاكي بالدعوى الباطلة الدعوة الكاذبة، وأن مراده بالكذب مطلق الكذب. وعلى هذا جرى السعد في «شرحه» ، زعم أن الباطل والكذب متحدان بالذات.
(1)
(ص 306). وانظر «فيض الفتاح» (4/ 151 - 152).
فإن قيل: فإذا كان لابدَّ من القرينة، فكان ينبغي الاكتفاء بها، والإعراض عن التأويل.
فالجواب: أن التأويل لابد منه في الإخراج عن الكذب. وقد زعم السيِّد في «شرح المفتاح»
(1)
أن الاستعارة تدخل في الاسم العلم على وجه المبالغة، بجعل المشبَّه عينَ المشبَّه به، قال:«فإن المقصود من قولك: «رأيت اليوم حاتمًا» أنه عين ذلك الشخص (أي حاتم الطائي المشهور)، لا أنه فرد من الجُوَّاد».
اعترضه عبد الحكيم فقال: «جَعْلُه عينه
…
إن كان لا عن قصدٍ فهو غلط، وإن كان قصدًا فإن كان بإطلاقه عليه ابتداءً فهو وضع جديد، وإن كان بمجرد ادعاءٍ من غير تأويل فهو دعوى باطلة وكذب محض، فلابدّ من التأويل».
قال الشربيني: «قول المحشي: «فهو دعوى باطلة» ، إذ كونُ ذاتٍ ذاتًا أخرى ظاهر البطلان، ولا معنى للمبالغة بذلك
…
».
هذا، مع أن القرينة هنا موجودة، وهي أن حاتمًا المشهور بالجود قد هلك منذ زمان.
وهكذا قال بعضهم فيمن يشير لبصيرٍ إلى كتابٍ قائلًا: هذا فرس، إنه إن لم يكن غلطًا أو على قصْدِ وضع جديد فهو كذب. هذا مع وجود القرينة وهي المشاهدة. وإنما ذلك لأنه ليس هنا علاقة يُبنى عليها تأويل سائغ.
فإن قيل: فعلى هذا إنما ينتفي الكذب باجتماع الأمرين: التأويل السائغ والقرينة، وعبارة صاحب «التلخيص» تُشعِر بأن كلَّ واحد منهما كافٍ في دفع الكذب، وعبارة السعد في شرحه توافق ذلك.
(1)
انظر «فيض الفتاح» (4/ 153).
ويَرِد على ما في «التلخيص» أمران:
الأول: أن كلًّا من التأويل والقرينة لا يطَّرد فيه الإخراج عن الكذب كما تقدم بيانه.
وقد يجاب بأن الكلام إنما هو في دفع أن تكون الاستعارة كذبًا من جهة التعبير عن الشيء باسم غيره، فبنى على الغالب من أن يكون اعتقاد المخبر مطابقًا في نفس الأمر، وأنه إنما يريد إفهامه ولكن أتى بالاستعارة.
مثاله: أن تفرض أنه رأى نارًا على جبلٍ، فعرف أنها نار، وأراد إفهام ذلك فقال:«رأيت نجمًا يُصطَلى به» . فقد يتوهم في هذا أنه كذب، لأن الواقع أنه رأى نارًا، وفي الخبر أنه رأى نجمًا، فمقصود صاحب التلخيص دفعُ هذا الوهم فقط.
الأمر الثاني: أن الكذب هو عدم مطابقة الخبر للواقع، والتأويل عمل ذهني لا أثر له في الخبر، فكيف يُعدُّ مخرجًا له من الكذب؟ ويتبين فيما إذا لم يُؤتَ بالقرينة بل قال في المثال المذكور «رأيت نجمًا» ، فمدلول الخبر أنه رأى نجمًا على الحقيقة، والواقع أنه رأى نارًا.
وقد فسَّر السيد الشريف الجرجاني قول صاحب «المفتاح» : «وتفارق الكذب بنصب القرينة» بقوله
(1)
: «أراد بالكذب الكذب العمد، وصاحبه لا ينصب القرينة، بل يروج [ظاهره]» .
(1)
«فيض الفتاح» (4/ 152).
الرسالة الرابعة
رسالة في أصول الفقه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لدينه الذي ارتضاه، وعلَّمنا من أصول الفقه ما أوضح لنا سبيلَ هداه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فإني ممن عُدَّ لقلة العلماء عالمًا، فصار ينتابني بعض طلبة العلم، فلا يَسَعُني إلا أن أُسعِفهم بمرادهم، لا على أنني عالم معلِّمٌ، بل على أنِّي طالبُ علمٍ من جملتهم، أذاكرهم على حسب وُسْعي.
ومن جملة ما التمس مني القراءة في علم أصول الفقه، فوجدتُ الكتب التي بين أيدي الناس في هذا العلم على ضربين:
الضرب الأول: كتب الغزالي ومن بعده.
الضرب الثاني: بعض مختصرات لمن قبله، كاللمع للشيخ أبي إسحاق، والورقات للجويني.
فأما الضرب الأول فإنه قد مُزِجَ بمباحثَ كثيرةٍ من علم الكلام والأصول المنطقية. وأنا وإن كان لا يتعسَّر عليَّ فهمُ كثيرٍ من هذين الفنين راغبٌ بنفسي عنهما، متحرِّجٌ من الخوض فيهما.
وأما الضرب الثاني فإنه بغاية الاختصار، ولا يخلو مع ذلك عن تعقيد.
فرأيتُ أن أجمع رسالة، أعدُّها لمن يرغب من طلبة العلم في مطالعة هذا العلم معي، أُسهِّل فيها أمهاتِ المطالب بقدر ما أستطيع، معرضًا عن كثير من الاصطلاحات والتدقيقات، مقتصرًا من المباحث الكلامية على ما
لا بدَّ منه، سالكًا ــ على قلَّة بضاعتي ــ مسلكَ التحقيق.
وأنا أنصح طلبة العلم دائمًا أن لا يعدُّوني عالمًا، وأن لا يعتمدوا على قولي، إلا أنني أقول لهم: من اختبرني منكم زمانًا، ثم رأى من قولي ما هو موافق لإمام من أئمة العلم، وفهم الدليلَ، وقوِيَ في نظره= فلا حرجَ عليه إن شاء الله تعالى من اعتماده، وأسأل الله تعالى لي ولهم التوفيق.