الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم: بعض الغلاة في الرأي
، حاولوا أن يثبتوا أن في الأحاديث التي يصححها أهل الحديث ما هو معارض للقرآن، أو معارض للقواعد الشرعية.
ولم يصنعوا شيئًا.
وبالجملة، فهذه الأقوال الأخيرة ليست طعنًا في حجية خبر الواحد من حيث هو، وإنما هي محاولة توهينه في الجملة، ليسهُلَ على أولئك المحاولين ردُّ ما يخالف أهواءهم.
وحقيقة الحال أنهم يحاولون أن يزيدوا في شروط قبول خبر الواحد.
وذلك أن من الشروط المتفق عليها: أن لا يخالف صريح المعقول. وأهل الأهواء يحاولون زيادة: أن لا يخالف ما زعم أئمتهم ــ كجهم، والجبائي، وابن سينا، وأضرابهم ــ أنه معقول. حتى يحاول الأشاعرة أن لا يخالف قول الأشعري، ولا قول الباقلاني، إلى غير ذلك. وجرى مثل ذلك للمقلدين في الفروع.
ومن الشروط المتفق عليها في الجملة: أن لا يخالف نصًّا قطعيًّا من كتاب الله عز وجل. وبعض الفقهاء حاولوا توسيع دائرة القطعية في دلالة الكتاب، وللكلام معهم موضع آخر.
فأما النزاع في الجزئيات، كطعن بعض الجهمية في حماد بن سلمة؛ فليس هذا موضع الكلام فيه، ولكن هاهنا تنبيه كلي، وهو أن من هذا الضرب أن تكون أشعريًّا مثلًا، فتنظر في مسألة قد خُولِف فيها الأشاعرة، وأنت
تذهب إليها، وتجد مخالفيهم قد احتجوا بحديث، وأجاب بعض الأشاعرة بالطعن في بعض رواته، كحماد بن سلمة.
فحقُّك إن أردتَ الله والدار الآخرة أن تقوم للحق على نفسك، فتتدبر حجة الأشاعرة، فإذا وجدتها ليست بالقاطعة فرضتَ مسألة أخرى قد ذهب إليها الأشاعرة وخالفهم غيرهم، وليست حجة الأشاعرة بالقاطعة، ولكنهم احتجوا بحديث، فنظرتَ في رواية ذلك الحديث، فإذا هو من رواية ذلك الرجل أو مثله. ثم وازِنْ بين حالَيْك: حالك وأنت تنظر في حال ذلك الرجل بسبب روايته الحديث المخالف للأشاعرة، وحالك وأنت تنظر في حاله أو في حال نظيره بسبب روايته للحديث الموافق للأشاعرة.
فإذا وجدت نفسك تميل إلى توهينه في الأولى وتثبيته في الثانية، فاعلم أن لهوى نفسِك تأثيرًا شديدًا عليك، فاعرِفْه وجاهِدْ نفسك، فإن لم تستطع فعلى الأقل ينبغي أن تكُفَّ نفسك عن الكلام في مثل ذلك، وتَعذِرَ مخالفك عالمًا أنه أحد رجلين:
إما رجل بريء من الهوى، يتبيَّنُ الحقَّ من حيث يصدُّك هواك عن تبيُّنِه.
وإما رجل له هوى مخالفٌ لهواك، فحاله مثل حالك، فكما تجنَحُ إلى عذرِ نفسك ورجاءِ أن يُغفَر لك، وتقبيح شناعة من شنَّع عليك؛ فكذلك ينبغي أن ترى لمخالفك، فترجو له العذر والمغفرة، ولا ترضى بتشنيع عليه.
وفي الحديث: " [لا يؤمن أحدكم] حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه"
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (13) ومسلم (45) من حديث أنس بن مالك. وما بين المعكوفتين منهما.
وإن من أبين الظلم وأشنعِه أن ترجو لنفسك العذر والمغفرة، وتأبى ذلك لمن حاله مثل حالك في الجملة. ومثل هذا الظلم واقع كثيرًا، وإظهار شناعته يحتمل كلامًا أكثر من هذا، ولكن لذلك موضع آخر.
وقد وجدتُ من نفسي ومن غيري دليلَ وجود الهوى المشار إليه. وحسبك أن تكون شافعيًّا مثلًا، فتجد الشافعيةَ قد احتجوا بحديث، ومخالفيهم كالحنفية قد احتجوا بآخر، وأنت تريد النظر في الحديثين، هل تجد نفسَك تتمنَّى أن تجد حديثَ أصحابك قويًّا وحديثَ مخالفيهم ضعيفًا؟ فإذا وجدتَها كذلك فهذا هو الهوى.
وقد ترى أنه لا يضرك وجوده، وقد أوافقك على هذا، لكنك إذا نظرت أثر ذلك الهوى في نظرك، فحملك على الطعن في حديث الحنفية بوجهٍ يوجد مثلُه أو أشدُّ منه في حديث أصحابك، وأنت تعمى أو تتعامى عنه في حديث أصحابك، أو تدفعه أو تتأوله بدافعٍ أو تأويلٍ قد يوجد مثله أو أقوى منه لحديث الحنفية، ولكنك تعمى عنه أو تتعامى أو لا تراه شيئًا.
هذا وقد انفتح لك الباب، فإن كنت تحبُّ الحق فأَنْعِم النظر واعملْ بما ينبغي.
وكذلك إذا كنت عثمانيًّا تميل إلى تفضيل عثمان رضي الله عنه، ثم وجدتَ حديثين، أحدهما فيه فضيلة لعثمان، والآخر فيه غضاضة عليه، فإنك قد تكتفي في الأول بأن أئمة الحديث صححوه، ثم لا تكتفي في الثاني بمثل ذلك، بل يبقى في نفسك منه حزازةٌ، فإذا نظرتَ في حال رواته وجدته ينفرد به رجل قد عُرِف بشيء من التشيع، فتقدح فيه بذلك، ولعلك تكتفي بذلك. ولعلك لو نظرت في رواة الأول لوجدته ينفرد به رجل كان فيه ميلٌ ما عن أهل البيت.
بل قد يغلو بك الهوى فتتلمس الاعتذار عن راوي الفضيلة، والطعن على راوي الغضاضة. بل وقد لا يكون راوي الغضاضة موصوفًا بالتشيع، فتحاول أنت أن تدلَّ على اتصافه بذلك بوجهٍ يمكن إثبات مثله أو أقوى منه في الدلالة على ميل راوي الفضيلة عن أهل البيت.
بل وقد تميل إلى الطعن في راوي الغضاضة لمجرد تفرده بذلك الحديث، وقد تحاول إبداء دلالةٍ على بُعْد أن يكون الحديث صحيحًا وينفرد به ذلك الرجل، ولا تلتفت إلى مثل ذلكَ أو أقوى منه في راوي الفضيلة.
وبالجملة فهذا باب واسع جدًّا، قد انفتح لمن يريد أن يناقش نفسَه الحسابَ، ويحرِص على نجاتها من العذاب، والتوفيق بيد الله سبحانه.