الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جوع.
وأما التقدير النحوي فعلى نحو ذلك، إلا أنه قد عُرِف أن النعت إذا تقدم على المنعوت أُعرِب حالًا. والله أعلم.
[ص 60] إذا تقرر هذا فقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] معناها: إن الظن لا يدفع عن صاحبه شيئًا من الحق.
والحق الذي من شأنه أن يتوجه إلى الإنسان فيحاول إذا كرهه أن يدفعه بالظن= لا يخرج عن أربعة أشياء:
الأول: اليقين
.
الثاني: البراهين اليقينية.
الثالث: ما ثبت بالبراهين اليقينية.
الرابع: العقاب المتوجه إلى العصاة.
أما اليقين فإنه قد يحصل للإنسان بشيء، ثم تَعرِض له شبهة لا يتيسر له حلها، فتورثه ضربًا من الوسواس، فإن أعرض عن ذلك وصرف ذهنه عنه سَلِم له يقينه.
ومن هذا ــ والله أعلم ــ ما ورد في الأحاديث في شأن الخواطر التي تَعرِض للمؤمن مخالفةً لإيمانه.
ففي "الصحيحين"
(1)
وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى
(1)
البخاري (3276) ومسلم (134/ 214) ..
يقول: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعِذْ بالله ولْينتهِ".
وفي "الصحيحين"
(1)
عنه أيضًا، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل: آمنت بالله ورسله".
وفي "صحيح مسلم"
(2)
عنه أن جماعة من الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: "أوقد وجدتموه؟ "، قالوا: نعم، قال:"ذاك صريح الإيمان".
فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عن الشبهة، وصرف الذهن عنها؛ ولهذا كان أئمة السلف يجتنبون مجالسة أهل الأهواء، وينهون عن مجالستهم وعن سماع كلامهم.
فإن لم يُعرِض عنها فقد يتأتى له حلُّها، فيسلَم له يقينه، وقد لا يتأتى فتقوى في نفسه، لوجهين:
الأول: أن النفس تدعي أنها أهل للفهم والمعرفة، فإذا لم يتأتَّ لها حلُّ الشبهة توهمت أن ذلك لقوتها، وأنها لعلها حقٌّ لا شبهةٌ، ولعل الحجج التي تخالفها شبهات!
الثاني: أن الذهن يشتغل بالنظر فيها، فيغفُل عن الحجج المخالفة لها.
هذا، والحكمة التي اقتضت الخلقَ والتكليفَ اقتضت أن لا تكون
(1)
أخرجه مسلم (134/ 212)، ولم أجده عند البخاري بهذا اللفظ. وأصله فيه (7296) من حديث أنس. وانظر "الفتح"(6/ 341).
(2)
رقم (132).
حجج الحق في أقصى غاية الوضوح؛ لأنه يفوت بذلك الابتلاء والاختبار، وبفواته يفوت مقصود الخلق والتكليف، كما أوضحته في موضع آخر.
مع أن الناس قد شككوا في الحسيات، وفي العقليات الأولية، كما حكي عن السوفسطائية.
ثم يصير هذا الرجل: إن رجع إلى الحجج وتدبرها رجع له يقينه، فإن رجع إلى الشبهة وتابعها فقد يرجع له ارتيابه، وهكذا، فيكون ــ كما في الحديث
(1)
ــ مِثلَ المنافق كالشاة [العائرة] بين الغنمين، تارةً إلى هذه وتارةً إلى هذه.
وقد تكون الشبهة واهية ولكن يقوِّيها الهوى، فيمنع صاحبها عن فحصها، كما يمنعه عن تدبر ما يقابلها. وأكثر ما يتفق هذا إذا كان عند الإنسان يقين، وله هوى في رأي لا يستحضر أنه مخالف لذلك اليقين، فيقوم من ينازعه في ذلك الهوى، ويحتج عليه بذلك اليقين.
فمن هذا أن مشركي قريش كانوا يعلمون بفطرهم، وبما وصل إليهم من شرع إبراهيم عليه السلام، وما بلغهم عن غيره من الأنبياء المتقدمين: أن الإنسان مخيَّر في أفعاله، إن شاء فعل وإن شاء ترك، وأن الناس كثيرًا ما يعصون أمر الله عز وجل ويرتكبون مناهيه، وأنه يبعث إليهم الأنبياء فيدعونهم، فإن عصَوهم وأصرُّوا عُذِّبوا.
[ص 61] هذا كان متيقنًا عندهم، لا يخالجهم فيه شك، وكانوا يعلمون أن أصحاب الفيل عَصَوا الله عز وجل بقصدهم هدم بيته، فعذبهم، وكانوا
(1)
الذي أخرجه مسلم (2784) من حديث عبد الله بن عمر.
يرون الحج واجبًا، واحترام البيت واجبًا، ويرون في بعض الأشياء أنها حرام، ثم يعلمون أن منهم من يترك الواجب، ومنهم من يرتكب الحرام، ويرون أنه عاصٍ، ويوبِّخونه على ذلك.
ولما بُعِث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعاهم إلى نبذ ما كانوا عليه من الشرك والمحدثات = أنكروا عليه وعلى أصحابه، وآذَوهم، وزعموا أنهم مسيئون وكاذبون وضالُّون، إلى غير ذلك مما هو معروف.
وكان عندهم يقين بوجود الله عز وجل وربوبيته، وأنه الخالق الرازق المدبر، إلى غير ذلك مما قررهم به الله عز وجل في كتابه.
وكان لهم مع هذا اليقين الثاني أشياء من الشرك، ومن تحريم ما لم يحرمه الله عز وجل، وغير ذلك، ولا يستحضرون أن هذا منافٍ لليقين الثاني.
فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم فقرَّرهم باليقين الثاني، وبيَّن لهم أن ما هم عليه من الشرك والتحريم منافٍ له= فزعوا إلى شبهة تخالف اليقين الأول، ولكن استروحوا إليها؛ لظنهم أنها تدفع المنافاة بين يقينهم الثاني وبين شركهم وتحريمهم.
وذلك ما قصَّه الله عز وجل بقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149].
وقال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ
شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 35 - 36].
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} الآيات [الزخرف: 20].
وحاصل شبهتهم: أن الله على كل شيء قدير، وهو المدبِّر الأمرِ في السماوات والأرض، فلو كان يكره الشرك والتحريم من دونه لمنعنا وآباءنا من ذلك بقدرته، فلما لم يفعل علمنا أنه لا يكره ذلك، وإذا كان لا يكرهه فمن المحال أن ينهى عنه، فالقول بأنه يكرهه وينهى عنه ويعذب عليه باطلٌ.
فأنت ترى شبهتهم هذه منقوضة بما تقدم من يقينهم الأول، وهو اعتقاد لا يفارقهم حتى في هذه الشبهة نفسها؛ فإن الأشياء التي حرَّموها يزعمون أنها حرام على كل حال، وأن من استحلها فقد عصى، مع أنهم يعلمون أن من الناس من يستحلها.
وكذلك زعموا في شبهتهم هذه أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم مُبطِلٌ وأنه مُسِيء في ذلك، مع أنهم لا يقبلون ممن استحل تلك المحرمات أن يقول لهم: لو شاء الله لم أستحلها، ولا يقبلون من محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أن يقولوا لهم: لو شاء الله لما سفَّهنا أحلامكم وطعنّا في دينكم، وفعلنا وفعلنا!
[ص 62] وأشدُّ قِحَةً وعنادًا منهم: اليهود، يعلمون ويعلم الناس أنه لا
مستند لهم إلا زعمهم أنهم أهل الكتاب الذي أنزله الله عز وجل على موسى، ثم لم يمنعهم ذلك إذا أرادوا أن يبالغوا في تكذيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء. قال الله عز وجل: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].
والمقصود أن ما تُحدِثه الشبهة من الوسواس في الصدر قد يقوى حتى يدافع اليقين.
وأما الثاني، أعني البراهين اليقينية، فمحاولة دفعها بالظن أوضح؛ لأنه لا يلزم من ذلك اجتماع الظن واليقين لرجل واحد، بل قد يكون سبقت إلى نفسه شبهة وافقت هوى فأورثه ذلك ظنًّا، ثم لما دُعي إلى خلاف ذلك، وعُرِضت عليه البراهين اليقينية، أعرض عنها ولم يتدبَّرها، وحاول دفعها عن نفسه بما عنده من الظن.
وقد يكون موقنًا بما قامت عليه البراهين ولكنه جاحد معاند، كما قال موسى لفرعون ــ فيما قصه الله تعالى ــ:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102].
وقال الله عز وجل في الآيات التي أراها الله تعالى فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. فمن كان هذه حاله فإنه يلفِّق شبهاتٍ من شأنها أن توقع ترددًا ما، أو من شأنها ــ لو لم يكن في مقابلها برهان ــ أن تكون غايتها أن تقتضي ظنًّا، ثم يحاول أن يدفع بها البراهين.
وإذا حملت الآية على هذا تعين حمل الظن في الآية على الشبهات المذكورة. وقال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [المؤمن: 5].
وأما الثالث، وهو ما ثبت بالبراهين القطعية، فمحاولة الإنسان دفعه بالظن يكون على أوجه:
منها: نحو ما تقدم في الأول، وفي الثاني؛ لأن من يحاول دفع اليقين أو البراهين اليقينية فقد حاول دفع ما يترتب عليها. وذلك كبطلان الشرك، فإن من استيقن بطلانه، ثم عرضت له شبهة فحصل له بها ارتياب، فحاول أن يدفع به اليقين، فقد حاول بذلك دفع ما يترتب على ذلك اليقين من بطلان الشرك. وكذلك من كانت عنده شبهة فحاول أن يدفع بها البراهين المثبتة لبطلان الشرك، فقد حاول دفع ما ثبت بتلك البراهين من بطلان الشرك.
ومنها: أن يكون الرجل على أمرٍ وعنده شبهة فيه، فيبلغه أن داعيًا دعا إلى خلافه، وأنه يزعم أن عنده براهين قطعية، فيعرض الرجل عن ذلك قائلًا: أظنه كاذبًا، وأظن ما أنا عليه حق، فإن كان في نفس الأمر صادقًا فأنا معذور لظني هذا، فلا يلزمني ما يدعو إليه.
وتضعف شبهة هذا إذا قامت قرينة على صدق الداعي، وقد يكون من هذا قول الله عز وجل:{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16].
وأما الرابع، وهو العذاب، فيعرف حاله مما تقدم في الرابع
(1)
.
(1)
كذا في الأصل.
[ص 63] فظنُّهم أنه سيغفر لهم لا يدفع عنهم ما حق على العصاة من العذاب.
وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ
…
(34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 34 - 36].
فظنُّه أنها لن تبيد، وأن الساعة لا تقوم، وأنها إن قامت وجد خيرًا منها= لا يدفع عنه شيئًا مما حق على أمثاله من العذاب. وكذلك ظنُّ المشركين أن آلهتهم ستشفع لهم، وغير ذلك.
والذي يترجح أن المراد بالظن الشبهات، وبالحق البراهين القطعية. قال الله عز وجل:{وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56].
وعلى ذلك يدل السياق؛ فإن الله سبحانه قرر في آية "يونس"
(1)
البراهين المبطلة للشرك، وقد انضمَّ أيضًا خبر الرسول المؤيد بالمعجزات، وخبر القرآن المعجز، ثم قال: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ
(1)
في الأصل: "يوسف" سهوًا.
شَيْئًا} [يونس: 36]. فكأنه يقول: هذه براهين قطعية، وهم يعرضون عنها، ويتبعون شبهات غايتها أن تورث ظنًّا ما، أي في بعض الأحوال، كما تقدم توضيحه. و {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ، أي: وإن تلك الشبهات لا تدفع عنهم شيئًا من البراهين القطعية، أي: من قيام الحجة بها، ووجوب اتباعها عليهم، وما يترتب على ذلك في الدنيا والآخرة.
وكذلك في آيات "النجم".
وإنما قال في آية "يونس": {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} لأن منهم من كان يعلم بطلان الشبهات، وإنما أصرَّ على الكفر اتباعًا للهوى فقط، ولذلك قال في آية "النجم" الأولى:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} ، وذلك على التوزيع، والله أعلم. أي: أكثرهم يتبعون الظن والهوى، وأقلهم يتبعون الهوى فحسب. فأما الآية الثانية فقوله:{إِنْ يَتَّبِعُونَ} . أي: أكثرهم، والله أعلم.
وعلى هذا، فالآية عامة محكمة لا يخص منها شيء البتة، والمسلمون جميعًا قائلون بموجبها، فإنهم إنما يحتجون بالدلائل الظنية ــ ومنها خبر الواحد ــ ما لم تعارضها براهين قطعية.
فإن قيل: قد يكون هناك برهان قطعي لم يعرفه العالم، فيعمل بالدليل الظني.
قلت: هذا غير داخل في الآية، لأن تقديرها كنظائرها كما علمت: "إن الظن
(1)
لا يدفع عن صاحبه من الحق شيئًا". ودفع الشيء إنما يكون بعد
(1)
الأصل: "الحق" سبق قلم.
توجهه، والعالم إذا لم يعرف الدليل القطعي ولم يسمع به لا يصدُق عليه أن الدليل اتجه إليه فدفعه بالظن. فتدبر. والله الموفق.
قد يقال: فإن البراءة الأصلية يقينية، فهي من الحق، فعلى هذا لا يرفعها الظن، فلا تُرفع بخبر الواحد.
قلت: قولك "يقينية" إن أردت به أن استمرارها متيقن فباطل، وإن أردت أنه متيقنٌ أنها قد كانت قبلُ، فمسلَّم. ولكن المدار على ما هو يقين في الحالة الراهنة، وليست كذلك، بل قد يُتيقن ارتفاعها، كما إذا بُيِّن رفعُها بيقين. وقد يُظنّ، كما إذا كان الدليل الرافع عنها ظنًّا، فيصير بقاؤها وهمًا فقط، والوهم أضعف من الظن.
ولا يلزم من كون الظن لا يرفع اليقين الذي هو أقوى منه أن لا يرفع الوهم الذي هو دونه. بل الحق أنه كما أن الظن لا يرفع اليقين، فكذلك الوهم لا يرفع الظن.
فإن قلت: لكن البراءة الأصلية حجة إجماعًا، فهي مستندة إلى يقين، وخبر الواحد اختلف فيه.
قلت: أما أولًا فسنوضح أن خبر الواحد مستند إلى اليقين أيضًا.
وأما ثانيًا فالبراءة الأصلية إنما أُجمِع على صحة الاستناد إليها عند عدم الدليل.
فإن قلت: لكن لا نسلِّم أن خبر الواحد دليل.
قلت: أما أولًا فسنثبت ذلك بحججه إن شاء الله تعالى.
وأما ثانيًا فالإجماع الذي ذكرته في البراءة الأصلية إنما هو حيث لم يصح الخبر بما يرفعها ولم يكن هناك دليل آخر، فأما إذا صح الخبر فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم أصحابه وسلف الأمة متفقون على أنه يرفعها.
وهَبْ أن دعوانا هذه لا تقوم عليها الحجة، فالذي لا تنكره أنت ولا تستطيع إنكاره أن جمهور أهل العلم على أن الخبر يرفعها. وهذا كافٍ في دفع ما ادعيته من الإجماع.
فإن قلت: من رأيي أنا استصحاب الإجماع.
قلت: هو رأي ضعيف، ويكفينا هنا أن نقول: استصحاب الإجماع غير الإجماع، والإجماع المحقق قد يفيد اليقين، وأما استصحابه فيما تحقق فيه الخلاف فغايته أن يكون ظنًّا، فإذا عارضه ظنٌّ أقوى منه صار وهمًا، والوهم لا يدفع الظن.
فأما معارضة خبر الواحد لظاهر القرآن ونحوه من الدلائل المستندة إلى اليقين، فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
فصل
[ص 64] ذهب كثير إلى أن {يُغْنِي} في الآية هي نحوها في قولك: "إن الطعام لا يُغني عن الشراب". أي لا يقوم مقامه، ولا يسدُّ مسدَّه، وجعلوا "من" بمعنى بدل، كهي في قوله تعالى:{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38]، وجعلوا {شَيْئًا} مفعولًا مطلقًا، على أن المعنى:"شيئًا من الإغناء".
وهذا معترَضٌ بوجوه:
الأول: أنه إخراجٌ لكلمة {يُغْنِي} عن المعنى الذي اطرد في القرآن في نحو هذا التركيب استعمالها فيه.
فإن كان أصله مجازًا فقد صار بالاطراد في تلك المواضع ــ مع كثرتها ــ في قوة الحقيقة، إن لم نقل: حقيقة. وفي إخراجه عن ذلك إخراجٌ للآية عن نظائرها الكثيرة في القرآن، وقد تقدم طائفة منها. ومنها قوله تعالى:{لَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات: 31]، {وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 7]، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم: 21]، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر: 47].
والاسم الذي يلي "من" في هذه الآيات مدفوع، أي: متجه إليه ما في معنى "يغني" من الدفع، ولو جعلت "من" فيها للبدل لانعكس المعنى. إذ يصير المعنى: أن اللهب يغني، وكذلك الجوع، والعذاب، والنار. وذلك باطل قطعًا، فالواجب حمل هذه الآية على نظائرها الكثيرة، وإن أمكن حملها على خلافها.
الثاني: أن "من" البدلية قليلة، وإنما تحسُنُ حيث كان المعنى على الاستبدال والمعاوضة، كما في {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38]، فقد قال تعالى:{اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [البقرة: 86]، وقال سبحانه:{الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء: 74].
الثالث: أن حمْلَ "شيئًا" على المفعولية المطلقة، أي:"شيئًا من الإغناء"= بعيدٌ.
ومع ذلك، فقد يقال: أقصى ما هناك أن يصير المعنى: إن الظن لا يغني عن الحق، فيكون المراد بالحق هو اليقين. وحاصله أن الظن لا يقوم مقام اليقين ولا يسدُّ مسدَّه، فوِزانُه قولنا: إن الشرطة لا يُغنُون عن الجند شيئًا من الإغناء. فحاصله: أن هناك مقاصد لا يغني فيها إلا الجند، كمهاجمة الأعداء الأقوياء، وصدّ هجماتهم، ونحو ذلك. وأن الشرطة لا يغنون في ذلك عن الجند شيئًا من الإغناء، وهذا لا يدفع أن يكون الشرطة محتاجًا إليهم ومنتفَعًا بهم، وتقوم بهم كثير من المصالح.
أقول: في هذا نظر، إذ قد يقال: عدم المنافاة إنما استُفيد من خارج، فأما ظاهر العبارة فالعموم، وذلك في قولك:"إن الظن لا يغني عن اليقين شيئًا من الإغناء"= واضح؛ فإنه ما من شيء يُتصور أن يُنتفَع فيه بالظن إلا وينفع فيه اليقين، فلو كان الانتفاع بالظن ثابتًا لكان قد أغنى عن اليقين في تلك الجزئية.
فإن قيل: فنقول بأن هذا العموم مخصوص، أما أولًا فأمور الدنيا غالبها قائم على الظن، والظن في كثير من الأشياء يغني عن اليقين. ألا ترى أنه كثيرًا ما ينتفع المريض بالدواء وإن لم يكن يتيقن أن الدواء ينفعه؟ وأن التجار كثيرًا ما يربحون وإن لم يكونوا متيقنين أنهم سيربحون؟ إلى غير ذلك. وأما أمور الدين فتُخصَّص بالأدلة الموجبة العملَ بالظن في مواضعه.
قلت: نعم، هذا جواب، ولكنني أرى لزوم هذا مما يوهن هذا المعنى،
ويرجح المعنى الأول.
وذلك أن قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] مرسلةٌ إرسالَ المثل، وموضوعة وضع القاعدة، وما كان هكذا فحقه أن يكون سالمًا من التخصيص. والمعنى الذي قدمناه سالم من التخصيص كما تقدم، فهو أرجح من هذا.
وقد أجيب عن الآية بناءً على هذا المعنى الأخير أو نحوِه، بأجوبة قد أغنانا الله عنها بما تقدم، على أن بعضها قريب مما مرَّ في الأجوبة عن الآية الأولى. والله الموفق.
[ص 65] فصل
ومما يذكر هاهنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعمل بخبر ذي اليدين حتى سأل الناس فصدقوه
(1)
.
وأن أبا بكر رضي الله عنه سأل الناس في شأن ميراث الجدة، فأخبره المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة فأخبر بمثله
(2)
.
وأن عمر جاءه أبو موسى الأشعري فاستأذن ثلاثًا، ثم رجع، فسأله عمر بعد ذلك، فذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بمثل ذلك، فقال عمر: لتأتيَّن [على هذا
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 513) وأبو داود (2894) والترمذي (2101) من رواية قبيصة بن ذؤيب عن أبي بكر، وإسناده منقطع. وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم.
ببيِّنةٍ]
(1)
أو لأفعلنّ وأفعلنّ. فذهب أبو موسى إلى مجلس الأنصار، فجاء معه بعضهم، فحدث بذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(2)
.
وأنه ردَّ خبر فاطمة بنت قيس في جواز خروج المبتوتة من بيت زوجها في العدة، وقال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري حفظت أم نسيت
(3)
.
وأن ابن عباس لم يقبل خبر أبي هريرة، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"الوضوء مما مست النار، ولو من ثَورِ أَقِطٍ"، وقال له:"يا أبا هريرة، أتوضَّأ من الدهن؟ أتوضأ من الحميم؟ "
(4)
.
أقول: أما خبر ذي اليدين فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى أنه صلى أربعًا، فلما أخبره ذو اليدين بخلاف ذلك توقف؛ لأنه ليس احتمال كونه صلى الله عليه وآله وسلم سها بأولى من أن يكون ذو اليدين غفل، وكان سكوت غيره من أكابر الصحابة وانفراده من بينهم مما يقوي احتمال أنه غفل.
وأما قصة أبي بكر ففيه أنه قضى بخبر الاثنين، وتبعه الناس إلى يوم القيامة. وخبر الاثنين من جملة أخبار الآحاد اتفاقًا، فهذا من جملة الحجج على حجيته.
ثم نقول: إن أبا بكر لم يردَّ خبر المغيرة، ولا ترك العمل به، وإنما سأل:
(1)
ترك المؤلف هنا بياضًا.
(2)
أخرجه البخاري (6245) ومسلم (2153، 2154).
(3)
أخرجه مسلم (1480/ 46).
(4)
أخرجه الترمذي (79) وابن ماجه (485).
هل معك غيرك؟ وهذا محمول على التثبت والاحتياط، كما يأتي.
والمجتهد لا يكتفي بالآية من كتاب الله عز وجل حتى ينظر غيرها من الأدلة؛ لاحتمال أن يكون في غيرها ما يقيِّدها أو يخصِّصها، أو غير ذلك. ومعلوم أنه إذا لم يجد شيئًا من ذلك بعد البحث عمل بها، ولا بد.
وقد تواتر عن الصحابة رضي الله عنهم العمل بخبر الواحد وحده إذا لم يجدوا ما يعارضه.
فبان بذلك أن قول أبي بكر: هل معك غيرك؟ إنما محمله ما ذكرنا.
وأما قصة عمر مع أبي موسى ففيها أن عمر قنعَ بمتابعة أبي سعيد لأبي موسى، وهما اثنان.
ثم قد أجاب عنها الشافعي رحمه الله، قال في "الرسالة"
(1)
: "فإن قال قائل:
…
قيل له: لا يطلب عمر
…
إلا على أحد ثلاث معانٍ: إما أن يحتاط فيكون، وإن كانت الحجة تثبت بخبر الواحد فخبر اثنين أكثر، وهو لا يزيدها إلا ثبوتًا.
وقد رأيت ممن أثبت خبر الواحد من يطلب معه خبرًا ثانيًا، ويكون في يده السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خمسة وجوه، فيحدَّث بسادس فيكتبه؛ لأن الأخبار كلما تواترت وتظاهرت كانت أثبت للحجة، وأطيب لنفس السامع.
وقد رأيت من الحكام من يثبت عنده الشاهدان العدلان والثلاثة، فيقول للمشهود له: زدني شهودًا، وإنما يريد أن يكون أطيب لنفسه، ولو لم يزده المشهود له على شاهدين لحكم له بهما ....
(1)
(ص 432 وما بعدها).
قد روى مالك
(1)
عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم حديث أبي موسى، وأن عمر قال لأبي موسى: أما إني لم أتهمك، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
…
".
أقول: وفي "الفتح"
(2)
عن رواية أخرى: "فقال عمر لأبي موسى: والله إن كنت لأمينًا على حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن أحببت أن أستثبت".
وفيه
(3)
عن رواية أخرى: أن أُبي بن كعب أنكر على عمر مقالته لأبي موسى، وقال: يا ابن الخطاب، فلا تكوننَّ عذابًا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: سبحان الله! إنما سمعت شيئًا فأحببت أن أتثبَّت.
وفيه
(4)
: "قال ابن بطال:
…
وقد قبل عمر خبر العدل الواحد بمفرده في توريث المرأة من دية زوجها، وأخذ الجزية من المجوس، إلى غير ذلك، لكنه كان يستثبت إذا وقع له ما يقتضي ذلك.
وقال ابن عبد البر
(5)
: [66] يحتمل أن يكون حضر عند عمر من قرُبَ عهده بالإسلام، فخشي أن أحدهم يختلق الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الرغبة والرهبة
…
فأراد أن يعلمهم أن من فعل شيئًا من ذلك ينكر عليه حتى يأتي بالمخرج".
(1)
في "الموطأ"(2/ 964).
(2)
(11/ 30).
(3)
(11/ 28، 29). وفيه: "فلا تكون"، "وأن أثبت". والتصويب من "صحيح مسلم"(2154).
(4)
(11/ 30).
(5)
كما في "الفتح"(11/ 30). وانظر "التمهيد"(3/ 200).