الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حجة ثالثة:
قال الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]
(1)
.
وقد تواتر تواترًا معنويًّا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكتفي في كثير من الأحكام بإخبار الواحد أو الاثنين، فلو كان خبر الواحد لا تقوم به الحجة لما حصل به مقصود التبليغ، إذ المقصود تبليغ يتيسَّرُ علم الناس به، ويُبلِّغه الحاضرُ الغائبَ، ثم يتناقله الناس إلى يوم القيامة؛ لما تقدم
(2)
. ولو كان كذلك
(3)
لما اكتفى صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، ولا أقرَّه ربه عز وجل عليه.
فإن قيل: فإن الذي سمع ذلك إن كان واحدًا أو اثنين قد يموت قبل أن يُخبر غيره، وقد ينسى، وقد يرتدُّ أو يَفسُق، فكيف يكتفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإخباره؟
[ص 3] فالجواب: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم أن ربه عز وجل حافظ له، وحافظ لدينه، وأنه إن علم عز وجل من ذلك الرجل الذي بلَّغه شيئًا مما مرَّ لنبَّه سبحانه نبيَّه، وهداه إلى تبليغ غيره ممن يعلم أنه سيبلِّغ مَن بعده على وجهٍ تقوم به الحجة.
(1)
في المخطوط: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ فا} وترك بعده بياض.
(2)
انظر في هذا الوجه من الاستدلال: "قواطع الأدلة"(1/ 322)، "رفع الحاجب"(2/ 338).
(3)
أي: ولو كان خبر الواحد لا تقوم به الحجة.
هذا، وفي كتب أهل العلم حجج كثيرة في هذه المسألة، وإنما نبَّهتُ على ما لا أعلمه في كتبهم مشروحًا، كما سلف، والله الموفق
(1)
.
فإن فُرِض أنه ليس في الحجج على وجوب العمل بخبر الواحد ما يفيد القطعَ بمفردها، فلا ريب أنها باجتماعها تفيد القطع، كما حققه الشاطبي في "الموافقات"
(2)
.
شبهة المخالف:
ذكروا أن بعض من خالف في هذا زعم أن العقل لا يُجوِّز أن يتعبد الله عز وجل عباده بخبر الواحد.
وظهور بطلان هذا أغناني عن البحث عن توجيه هذا القول، إلا أنه يخطر لي أن وجهه: أن الخبر قد يكون باطلًا، بأن يكون الراوي غلِطَ، أو يكون بخلاف ما ظهر لنا من ثقته فكذبَ، وإذا احتمل البطلان كان التعبد به في صورة بطلانه تعبدًا بالباطل، وذلك محال على الله عز وجل.
والجواب عن هذه الشبهة وغيرها: أنها في معارضة ما ثبت قطعًا، فلا يُعتدُّ بها، وإن كانت قد تُشكِّك الناظر حتى يكاد يرتاب في أن تلك الحجج تفيد القطع، فإن هذا شأن الشُّبه، كما رأينا السوفسطائية يثيرون شبهًا على
(1)
انظر في أدلة حجية خبر الواحد: "الرسالة"(383)، "الإحكام" لابن حزم (1/ 112)، "البرهان"(1/ 388)، "أصول السرخسي"(1/ 490)، "المحصول" لابن العربي (543)؛ "التحبير شرح التحرير"(4/ 1801).
(2)
(1/ 29، 30) ط. مشهور.
المحسوسات والمعقولات الأولية وغيرها مما هو من أجلى القطعيات، فإذا سمع الناظر تلك الشبهات تزلزلَ اعتقادُه قطعيةَ تلك القطعيات أو كاد يتزلزل. ولهذا كان حكماء الأئمة من سلف الأمة يتجنبون سماع الشبهات، وينهون الناس عن مخالطة أهلها وسماع كلامهم.
وحلُّ هذه الشبهة أن من أصل المخالف وغيره من مثبتي الحكمة: أنه لا يُعتدُّ بالشر القليل الناشئ عما ينشأ عنه الخير الكثير، ولا تُترك المصلحة الكبرى لانطوائها على مفسدة صغرى.
فالتعبد بخبر الواحد ــ بشرطه ــ فيه خير كثير ومصالح عظمى، فلا ينظر إلى احتمال أن يكون في بعض الجزئيات باطلًا. وأمثلة ذلك في خلق الله عز وجل معروفة مشهورة. وقد قال تعالى:{لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]. وكذلك له أمثلة فيما اتفق عليه من أمره سبحانه، وهو الشريعة، كالتعبد بما يظهر للعالم من دلالة القرآن، وتعبُّدِ القاضي بأن يحكم بالاعتراف وشهادةِ عدلين، والتعبد بركوب البحر وغيره وإن احتمل أن يؤدي إلى الهلاك، وتعبُّدِ المرأة بتمكينها مَن عهدته زوجَها أو سيدَها، وإن احتمل أنه قد طلق أو أعتق، إلى غير ذلك.
ولو اشتُرِط في ذلك وأمثاله حصولُ القطع بالعلم اليقيني لفسدت الأرض، إلا أن يجعل الله عز وجل جميع بني آدم أنبياء يوحى إليهم في كل شيء، وذلك خلاف الحكمة في خلقهم، كما هو مقرر في موضعه.
على أننا لا نسلِّم أن العمل بخبر الواحد ــ الجامعِ للشروط ظاهرًا، الباطلِ باطنًا ــ ليس فيه مصلحة، بل فيه المصلحة العظمى، وهي طاعة الله
ورسوله، وذلك هو العبادة التي خلق الله الخلق لأجلها، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فلا يضرُّها احتمالُ أن يكون الخبر في نفس الأمر باطلًا.
أوَلا ترى أن المرأة إذا مكَّنتْ من عهدته زوجَها أو سيدَها امتثالًا لأمر الله عز وجل، ثبت لها الأجر والثواب، حتى في صورة أن يكون ذلك البعل أو السيد لا يحلُّ لها في الباطن، كأن يكون قد طلق أو أعتق ولم تعلَمْ هي، وكأن يكون في نفس الأمر أخاها أو أباها أو ابنها وهي لا تعلم.
على أننا نقول: إن الله تبارك وتعالى رقيبٌ على كل حركة تقع في العالم، فيعدِل بقضائه وقدره ما عساه أن يقع من الخلل بسبب قواعد شريعته، وعلمه سبحانه محيط، وحكمته بالغة، وعلمنا وحكمتنا ناقصان محدودان، فإذا قامت الحجة الشرعية على شيء ولم نفهم وجه الحكمة فيه، أو رأينا أنه خلاف الحكمة فذلك ثمرة قصور علمنا، والله أعلم.
[ص 4] شبهة أخرى:
زعموا أن بعض الظاهرية زعم أن العمل بخبر الواحد وإن لم يمنعه العقل، فقد منع منه الشرع؛ لأنه إنما يفيد الظن
(1)
، وقد قال الله عز وجل:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] وما في معناها من الآيات.
وأجيب عنه بأجوبة:
منها: أن الظن في الآيتين هو الخرص، كما قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا
(1)
انظر لنفي نسبة هذا القول إلى الظاهرية ما سبق في (ص 64 - 65).
الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]. وعلى ذلك يدُّل السياق في الآيتين، فإنهما في صدد إقامة الحجة على المشركين في قولهم: إن الملائكة بنات الله، وإنهن يشفعن عنده ويستحقِقْنَ العبادة. فإن هذا من الخرص الذي ينبني على خاطر تخيلي.
كمن يرى إنسانًا لم يره قبل ذلك، فيقع في نفسه أنه يريد به شرًّا، فإذا تدبَّر في سبب هذا الظن وجد أن قد كان ناله شرٌّ قبل مدة من إنسان يُشبِهه هذا في الصورة بعضَ الشبه، وإذا رجع إلى عقله علم أن مثل ذلك الشبه الصوري لا يلزم منه ما ظنه، وقد قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].
ومنها: أن الظن هنا المراد به الظن المعارض لما هو أرجح منه، فإنَّ ظن المشركين الذي نعاه الله تعالى عليهم في الآيتين معارض للقواطع.
ومنها: أن المراد به الظن فيما لا يكفي فيه إلا القطع، كما في ظن المشركين المنْعِيِّ عليهم في الآيتين، فإنه في العقائد.
وقد يُنظر في هذه الأجوبة بأنها تقتضي تخصيصَ الظن ببعض صوره لخصوص السبب، والمقرر في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ويجاب عن هذا بأن هذا من التخصيص بالسياق لا بالسبب، وعلى كلٍّ فدلالة العام ظنية، ولاسيما في مثل هذا. فيقال للمخالف: دلالة الآيتين على خصوص خبر الواحد ظنية، فالآيتان بعمومهما تقتضيان بطلانَ هذه الدلالة.
فإن قال: أما الدلالة الظنية من القرآن فقد قام الدليل على خروجها من ذلك العموم.
قلنا: وكذلك خبر الواحد قد ذكر أهل العلم عدة حجج على وجوب العمل به، وذكرنا بعض الحجج كما مر.
ومن الأجوبة: أن العمل بخبر الواحد ليس عملًا به من حيث هو خبر واحد، ولا من حيث إنه يفيد الظن، بل من حيث إن الشارع أمر بالعمل به، وذاك الأمر ثابت قطعًا بما ذكره أهل العلم من الحجج، وما قدّمتُه منها، فالعمل به اتباع للحق المقطوع به لا للظن.
وكذلك نقول في جميع الأدلة التي تفيد الظن وقام الدليل القاطع على وجوب العمل بها.
أوَلا ترى أنه إذا اعترف رجل بالغ عاقل مختار عند القاضي، ولم يكن هناك ما يدل على بطلان اعترافه ولا صحته، فقضى عليه بمجرد اعترافه؛ فقد قضى بما أنزل الله قطعًا؛ لأن وجوب الحكم بالاعتراف مقطوع به، وإن كان الاعتراف لا يفيد إلا الظن. وهكذا إذا قضى بشهادة شاهدين بشرطهما.
وعن ذلك صاروا إلى أن أصول الفقه قطعية، والأمر كذلك، إلا أن من الأصول ما يكون فرعًا لأصلٍ أعلى منه، فيكفي القطع للأصل الأعلى.
شبهة ثالثة:
عرف جماعة من العقلاء أن الطعن في وجوب العمل بخبر الواحد المستجمع للشروط مكابرة لا تُجدِي، فعدلوا إلى دعوى أن عامة الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطرق الآحاد غير مستجمعةٍ للشروط.
فمن هؤلاء: كتّاب الإفرنج في العصور المتأخرة وأذنابهم.
وشبهتهم: أن المسلمين فشتْ فيهم من القرن الأول الأهواءُ السياسية، والحزبية، والمذهبية، والقومية، والوطنية، وغيرها. واستخدم كلٌّ منهم الأحاديث في ما يوافق هواه ويخالف خصمه، [ص 5] وكان فيهم من يضع الأحاديث احتسابًا، ومن يضعها لنصرة الحق في زعمه، ومن يضعها لترغيب العامة، دَعْ وضع الزنادقة المتظاهرين بالإسلام والزهد والتقوى، الساعين سرًّا في هدم الإسلام وتشويهه.
والجواب عن هذه الشبهة: أنها بمنزلة من يقول: إن الناس قد أكثروا من صنع ما يُشبِه المسك والعنبر، وتفننوا في ذلك كثيرًا، فلم يبقَ وثوقٌ بوجود مسك وعنبر حقيقي، وكذلك السمن والعسل، وكذلك الذهب والجواهر الثمينة. ولو خالط أهل الخبرة، وأطال مِن صحبتهم، لعلم أن عندهم من العلم والمعرفة والخبرة الفنية ما يميِّزون به بين الحقيقي من تلك الأشياء وبين غيره.
ومن أدوى الأدواء في كتّاب الإفرنج أنهم يقيسون أئمة المسلمين على أنفسهم، فكما يعلمون من أنفسهم أنهم لا يُحجِمون عن الكذب والافتراء إذا كان وسيلةً إلى تحصيل أغراضهم؛ يظنون أن أئمة المسلمين كذلك.
ولم يعلموا أن في المسلمين الآن رجالًا ــ رغمًا عن بُعدِهم من العهد النبوي، وتقصيرهم في الواجبات، وركوبهم لكثير من المحرمات ــ لأن يُلقَى أحدهم هو وولده وأهله وقبيلته في النار أحبُّ إليه من أن يكذِب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن ذاق طعم الإيمان، ومارس كتب الحديث والرجال، علم يقينًا أن في رجال الحديث عددًا لا يُحصى كانوا أحرصَ على الصدق منهم على الحياة،