الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الحادي عشر
(1)
فيما ورد من التشديد في الكذب
الكذب على وجهين:
أحدهما: الكذب على الله عز وجل، بأن تصفه بما لا علم لك به، أو بما تعلم أنه لا يتصف به، أو تنسب إليه حكمًا لا سلطان عندك بأنه حكم به، أو تعلم أنه لم يحكم به، ونحو ذلك.
والآيات في شدة هذا كثيرة، منها:
1 -
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21].
2 -
3 -
4، 5 - {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأعراف: 37،
(1)
كتب المؤلف أولًا «التاسع» ، ثم شطب عليه وكتب «الحادي عشر» .
يونس: 17].
6 -
7 -
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
…
} [هود: 18].
8 -
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} [الصف: 7].
9 -
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68].
10 -
[ص 89]
(1)
الوجه الثاني: الكذب على غير الله، قال الله عز وجل: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ
…
إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 101 - 105].
يتمسك بهذه الآية الأخيرة مَن يقول إن الكذب كفر وإن كان على غير الله.
وأجيب عن [هذا بوجوه:
منها: ]
(2)
أن المراد هنا الكذب على الله بقرينة ما تقدم.
ومنها: أن الحصر إضافي بقرينة ما تقدم، فإن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:«إنما أنت مفترٍ» ، فأجابهم الله عز وجل بما ذكر، كأنه قال: «إنما يفتري
(1)
وجدنا هذه الصفحة ضمن مسوَّدات المؤلف أخيرًا.
(2)
هنا خرم. ولعله قريب مما أثبت.
الكذبَ هم لا النبي». فالنفي المستفاد من الحصر خاص بالنبي، ويبقى غير النبي ممن يؤمن بآيات الله مسكوتًا عنه.
ومنها: أن الحصر على إطلاقه، ولكن ليس النفي على سبيل العموم المحقق، بل المعنى أن افتراء الكذب ليس من شأن مَن يؤمن بآيات الله ولا يناسبه، ولا هو مظنته، وهذا كما لو قال لك قائل وقد وقف عليكما سائل، فأردت أن تعطيه: ما أراه فقيرًا، فقلت: إنما يسأل الفقير.
ويظهر أن هذا الأخير أقرب الأجوبة، وهو وإن كان خلاف الظاهر فالأدلة الشرعية الأخرى تبيِّنه.
وفي «الصحيحين»
(1)
من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» . زاد مسلم بعد قوله: «ثلاث» : «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم» .
وفي «الصحيحين»
(2)
من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أربع مَن كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق» .
* * * *
(1)
البخاري (33) ومسلم (59).
(2)
البخاري (34) ومسلم (58).
حقيقة الكذب
(1)
قد تكلّم أهل المعاني وغيرهم في حقيقة الكذب لغةً فلا أطيل بذلك، وإنّما أذكر معناه حكمًا، وهو الذي يتعلق به القبح والإثم.
فأقول: يختلف معناه باختلاف النسبة إلى الخبر أو المخبر، فالخبر الكاذب هو ما كان ظاهره مخالفًا للواقع، وسيأتي تحقيق المراد بالظاهر فلا تعجلْ. والمخبر الكاذب هو من أخبر بخبر يرى أن ظاهره مخالف للواقع.
ولا يدفع عنه معرةَ الكذب خطاؤه في ظن ظاهر ذلك الخبر مخالفًا للواقع بأن يكون في نفس الأمر مطابقًا للواقع.
وعلى هذا فقد يكون الخبر كاذبًا والمخبر صادقٌ وعكسه. هذا فيمن يجوز عليه الخطأ.
فأمّا الله عز وجل فخبره كله صدق، فمن حمل خبرًا من أخبار الله عز وجل على معنى لو كان هو المراد لكان الخبر كاذبًا، فقد نسب الكذب إلى الله عز وجل، ويلزمه حكم ذلك إذا علم أو قامت عليه الحجة بهذا، أي: بأنَّ حَمْل ذلك الخبر على ذلك المعنى يلزمه ما ذكر، وإلاّ فهو معذور كما قُرّر في موضعه، وأوضحته في «رسالة العبادة» ، ولعلّه يأتي ما يتعلق به إن شاء الله تعالى.
وأمّا الأنبياء فإنّ أخبارهم تختلف، فما كان منها تبليغًا عن الله عز وجل وبيانًا لدينه فلا يجوز الخطأ فيه، ومن العلماء من جوّز أن يبدر الخطأ من
(1)
من هنا قطعة كتب فيها المؤلف عن حقيقة الكذب وغيرها من الموضوعات باختصار.
النبي فينبهه الله عز وجل عليه فورًا فيبين ذلك للناس. وفي «الصحيحين»
(1)
وغيرهما حديث ذي اليدين، وفيه قوله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا سلّم من ركعتين في الظهر أو العصر:«أنسيتَ أم قُصِرت الصلاة؟ فقال: «لم أنسَ ولم تُقصَر» ، قال: بلى، قد نسيت. وفيه سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبقية من كان معه، وتصديقهم الرجل، وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإتمام صلاته.
وأحاديث سهوه صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة مروية عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو هريرة
(2)
، وعمران بن حصين
(3)
، وعبدالله بن مسعود
(4)
، وغيرهم. وفي حديث ابن مسعود في «صحيح مسلم»:«قالوا يا رسول الله، هل زِيدَ في الصلاة؟ قال: لا! قالوا: فإنّك قد صليت خمسًا! فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلّم ثم قال: إنّما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون» (ج 2/ ص 85)
(5)
.
قال الحافظ في «الفتح»
(6)
في شرح حديث ذي اليدين: «وهو حجة لمن قال: إنّ السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع، وإن كان عياض نقل الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية وخصّ الخلاف بالأفعال، لكنّهم تعقبوه. نعم اتفق من جوّز ذلك على أنّه لا يُقَرُّ عليه، بل يقع له بيان ذلك» . «الفتح» (ج 3 ص 65).
(1)
البخاري (1229) ومسلم (573) من حديث أبي هريرة.
(2)
هو الحديث السابق.
(3)
أخرجه مسلم (574).
(4)
أخرجه البخاري (1226) ومسلم (572).
(5)
رقم (572/ 92).
(6)
(3/ 101) ط. السلفية الأولى.
[ص 5] أقول: وثَمّ أحاديث أُخرى يؤخذ منها جواز ما ذكر، وفي قصص الأنبياء الثابتة في الكتاب والسنة ما يفيده، ولاستيفاء ذلك موضع آخر.
وأمّا الأمور الدنيوية فجواز الخطأ فيها أشهر، فمن ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما ورد المدينة رآهم يؤبِّرون النخل، فظن أن لا حاجة لذلك؛ لأنّه كان قد رأى كثيرًا من الأشجار فرآها تؤتي ثمرها بدون تأبير، فقال لبعضهم:«ما أظن يغني ذلك شيئًا» فتركوا ذلك. فخرج شِيصًا، فمرّ بهم فقال:«ما لنخلكم؟ » قالوا: قلت كذا وكذا، قال:«أنتم أعلم بأمر دنياكم» . وفي رواية: «إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل» . وفي رواية: «إنّما أنا بشرٌ، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنّما أنا بشر» .
والحديث في «صحيح مسلم»
(1)
وغيره من حديث أم المؤمنين عائشة وطلحة بن عبيدالله وثابت بن قيس ورافع بن خَدِيج رضي الله عنهم.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فإني لن أكذب على الله عز وجل» يريد الكذب خطأ، فأما الكذب عمدًا فقد علم براءته منه مطلقًا، ومفهوم تلك العبارة جواز الكذب خطأً في الأمور الدنيوية كما هو واضح.
وعُلم من هذه القصة أنّه لا يلزم تنبيه الله عز وجل على الخطأ في الأمور الدنيوية فورًا بخلاف الأمور الدينية كما مرّ.
وعُلِم منها أيضًا أنّ المراد بالأمور الدنيوية ما كان دنيويًّا بالذات وإن تفرّع عليه أمرٌ له مساس بالدين، فترك التأبير يلزمه نقص الثمر، وفيه شبه
(1)
بأرقام (2361، 2362، 2363).
بإضاعة المال، والدين يكره ذلك.
وقد يُقال: القوم هم المقصِّرون؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينههم عن التأبير، ولم يخبرهم بأن تركه لا يضر، وإنّما أخبرهم بأنّه يظن، ومعلوم عندهم أنّه صلى الله عليه وآله وسلم عاش بمكة، ولا نخل بها، وأنّه لو بنى على أمرٍ ديني لجزم، ولَما اكتفى بالإخبار بالظن، فيثبت من ذلك أنّه إنّما استند إلى أمرٍ عادي، فكان عليهم أن يقولوا له: إنّه معروف عندنا بالتجربة أنّ النّخلة إذا لم تؤبَّر يخرج ثمرها شِيصًا، قد جرَّبنا هذا مرارًا لا تحصى، ثم ينظرون ما يقول لهم.
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عن جُدامة
(2)
بنت وهب قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أناس، وهو يقول:«لقد هممتُ أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضرُّ أولادَهم ذلك شيئًا .. » . الحديث.
وفيه
(3)
عن سعد بن أبي وقاص أنّ رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنّي أَعزِل عن امرأتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لِمَ تفعل ذلك؟ فقال الرجل: أُشفِق على ولدها. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لو كان ذلك ضارًّا ضرَّ فارس والروم» .
وفي «مسند أحمد» و «سنن أبي داود»
(4)
عن أسماء بنت يزيد قالت:
(1)
رقم (1442).
(2)
قال مسلم في «صحيحه» (2/ 1066): «أما خلف فقال: عن جذامة الأسدية، والصحيح ما قاله يحيى بالدال» .
(3)
رقم (1443) عن أسامة بن زيد أنه أخبر سعد بن أبي وقاص.
(4)
أحمد (27562) وأبو داود (3881). وإسناده ضعيف.
سمعت رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ يقول: «لا تقتلوا أولادكم سرًّا، فإنّ الغيل يدرك الفارس فيُدَعْثِره عن فرسه» .
[ص 7] زعم الطحاوي
(1)
أنّ الحديث الأخير منسوخ، وأنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم قاله لما كان يظن أنّ الغيل يضرّ، ثمّ لما تبيّن له أنّه لا يضرّ ذكر الحديث الأول والثاني. هذا حاصل كلامه، والظاهر خلاف ما قال لوجوه:
الأول: أنّ أقواله صلى الله عليه وآله وسلم التي يبنيها على الظن يصرّح أو ينبه أنّه إنّما بناها على الظن، كما تقدّم في تأبير النخل، وأمّا في حديث ذي اليدين فاكتفى بقرينة الحال؛ لأنّ الحاضرين إن كانوا علموا أنه نسي علموا أنّه إذ قال: لم أنس، إنّما يعني في ظنه واعتقاده، وحديث أسماء جزم.
الوجه الثاني: أنّ قوله في حديث أسماء: «فإنّ الغيل يدرك الفارس فيدعثره» ظاهر في أنّه علم ذلك بالوحي، إذ لا يتأتّى علم مثل ذلك بالقياس.
الثالث: أنّ قوله في الحديث الأول: «لقد هممت» ظاهر في أنه لم يكن قد نهى، فالصواب أنّه صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن ينهى عن الغيل لما اشتهر بين العرب من أنّه يضرّ، ثم علم أن فارس والروم يغيلون، ولم ير ضررًا ظاهرًا يعتريهم؛ فظن أنّ الغيل لا يضر، فذكر الحديث الأول، وجاءه السائل عن العزل فنبهه على النظر في فارس والروم أيضًا، ثم أطلعه الله عز وجل على أنّ للغيل ضررًا وإن كان يخفى، فصرّح بذلك في حديث أسماء.
ولحديث أسماء شواهد، منها: أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا تزوج أمّ سلمة كانت
(1)
في «معاني الآثار» (3/ 47).
ترضع، فلم يقربْها حتى دفعت ابنتها إلى مرضعة أخرى
(1)
! واسترضع صلى الله عليه وآله وسلم لابنه إبراهيم
(2)
، وجاء عن الصحابة ما يوافق هذا، فجاء عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّ رجلًا أخبره أنه حلف لزوجته أن لا يقربها حتى تفطم ولدها.
فقال له: إنّ هذا ليس بإيلاء، إنّما أردت الإصلاح، أو كما قال
(3)
.
ويؤخذ من هذه الأحاديث ما أخذ من حديث التأبير أنّ الخطأ في الأمور الدنيوية لا يلزم التنبيه عليه فورًا، وأنّ الحكم يتناول كل ما كان دنيويًّا بالذات، وإن نشأ عنه ما له مساس بالدين، فإنّ إلحاق الضرر بالولد لا يجوز في الدين.
[ص 6] وإيضاح هذا البحث أنّ من الأحكام الشرعية ما يكون مبنيًّا على معنى يوجد بوجوده، ويعدم بعدمه، ويوكل الحكم بوجود المعنى أو عدمه إلى اجتهاد المكلف، فقد ينظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى صورة من الصور بصفته مكلفًا من المكلفين فيظهر له أن ذلك المعنى موجود فيها والواقع خلافه، أو أنّه مفقود والواقع خلافه، مع إعلامه بأنّ المدار على وجود المعنى، فإضاعة المال والإضرار بالأطفال منهي عنهما في الشرع، ولا يجوز أن يقع الخطأ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيخبر بأنهما جائزان، ولكن النظر في كون هذا الفعل إضاعة للمال أو يلزمه ذلك، أو ضررًا بالطفل أو يلزمه ذلك= موكول إلى المكلف، فنظر صلى الله عليه وآله وسلم بصفته مكلفًا، فظن أنّ ترك التأبير ليس فيه إضاعة للمال ولا تلزمه
(1)
انظر «السنن الكبرى» للنسائي (8926).
(2)
كما في «صحيح مسلم» (2316).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11632) وسعيد بن منصور في «سننه» (1874) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 382).