الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ص 46]
شبههم وحلُّها
شبهة:
ذكروا عن هؤلاء أنهم استدلوا على منع القبول بأمرين:
الأول: أن الحكم الشرعي يترتب عليه أمور عظيمة، كإزهاق النفوس، وإحلال الفروج، وغير ذلك. وخبر الواحد يجوز أن يكون كذبًا، فإثبات الحكم الشرعي به يؤدي إلى إزهاق نفوس لا تحصى، وإحلال فروج لا تحصى، بخبر قد يكون كذبًا.
والجواب: أنكم تعلمون أن هذه النشأة الدنيا يشتبك فيها الخير بالشر، ألا ترون أن الخلق والتكليف وإرسال الرسل وإنزال الكتب جرَّ إلى كثير من الشر؟ وتعلمون أن المدار إنما هو على الموازنة، فإذا كان شيء يترتب عليه خير وشر بُنِيت الحكمة على الراجح. فإذا كان الخير أكثر وأعظم اقتضت الحكمة وقوعه.
ووجوب العمل بأخبار الثقات يترتب عليه من الخير والمصالح ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، من تيسُّرِ نقل الشريعة، والعلم والعمل بها، وما يترتب على ذلك من الثواب وقيام الحجة وتوسيع دائرة الابتلاء وغير ذلك. وكل ذلك داخل في حكمة الخلق والتكليف، وهذا كله متحقق لا ريب فيه.
وأما المفسدة التي حصرتم نظركم فيها فمع قلتها وصغرها في جانب ما ذكر من الخير هي محتملة فقط؛ لأن الغالب على أخبار الثقات الصحة، ولاسيّما إذا اعتبر فيها ما يعتبره أهل الحديث من شرائط القبول، ويعتبره الفقهاء في الاجتهاد والترجيح.
وحسبك أنك لا تكاد [تجد] حديثًا صحيحَا قامت الحجة على كذبه، فإن كان فقليل جدًّا، وقد يكون ذاك القليل هو جميع ما اتفق فيه الكذب عمدًا أو خطأ.
وهذا كافٍ في حلِّ هذه الشبهة لمن يريد الحق.
وفوق ذلك، فقد تكفَّل الله عز وجل بحفظ شريعته، فإن اتفق أن فاجرًا تظاهر بالثقة فاغتر به بعض الناس، فكذب في حديثٍ؛ فإما أن يفضحه الله عز وجل، وإما أن يرشد الناظر إلى ما يرد خبره، فإن تركه ففي بعض الأحوال والوقائع لحكمة يعلمها سبحانه، ثم يبين حاله في غير ذلك.
فإن قيل: قد يأخذ به آخذٌ، فيخطئ فيتبعه طائفة إلى يوم القيامة.
قلت: يبينه الله تعالى لغيره، ويكون على من تمكَّن من النظر من أتباعه أن ينظر، أو يسمع كلام من خالف متبوعه، أو يسأل، فيبين الله تعالى له. فإن أصرَّ الأتباع على رأي متبوعهم ولم يلتفتوا إلى غيره، فذاك ضلالٌ ارتضوه لأنفسهم، والدين بريء منه.
ومثل هذا يقع كثيرًا في النظر العقلي، وفي فهم القرآن، كما لا يخفى. وذلك غير خارج عن الحكمة، قال الله عز وجل:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26].
ومنكرو أخبار الآحاد يعترفون بالدلائل الظنية من القرآن، ومنهم من يعترف بالرأي والقياس، ويحتمل فيها مثل ما قالوا؛ بأن يذهب ذاهب إلى فهمٍ ظهَر له من القرآن، أو رأيٍ خطرَ له، ثم تتبعه طائفة أو طوائف.
[ص 47] شبهة أخرى:
قد يقال: إن خبر الثقة يمكن أن يكون باطلًا؛ إما لتعمده الكذب، وإما لغلطه. والغالب أن في الأخبار التي ظاهرها استجماع شرائط القبول ــ عند من يراه ــ عدة أخبار من هذا القبيل، أي باطلة. فلو جاز أن يتعبد الله عز وجل عباده بالعمل بالأخبار وفيها الباطل، للزم من ذلك أن يكون تعبدَهم بالباطل، وهو محال.
والجواب كما تقدم عن الشبهة الأولى، وقد تعبَّد الله الخلقَ بما فهموه من القرآن وقد يخطئون، وتعبَّد العامةَ بما يفتيهم العلماء وقد يفتونهم بالباطل، وتعبَّد الناسَ أن يبنوا في أمر صلاتهم وصيامهم على سماع الأذان، وقد يخطئ المؤذن، وتعبَّد القضاةَ بالحكم بما شهد به الشهود بشرطه، وقد يكذب الشهود أو يغلطون، وتعبَّد المرأةَ بأن تُمكِّن من عهدته زوجَها أو سيدها، وقد يحتمل أن يكون محرمًا لها في نفس الأمر أو يكون قد طلقها أو أعتقها ولا تعلم، وتعبَّد المسلمَ بأن يقتل من يراه في صف الكفار وعهده منهم أو لم يعرفه، وقد يكون مؤمنًا.
وأمثال هذا كثيرة. وفي الجواب عن الشبهة الأولى ما يفسر جميع ذلك، ولله الحمد.
شبهة ثالثة:
قد يقال: قد ثبت امتناع تكليف الغافل، وإنما ذلك لأنه لا بد لاستحقاق العبد العقابَ من قيام الحجة عليه. وخبر الواحد لا يتم به قيام الحجة؛ لأن للعبد أن يقول: يا رب، لم يبلغني هذا من وجه قاطع، وإنما بلغني من وجه
يجوز فيه الكذب والخطأ.
والجواب: لله الحجة البالغة، فسنثبت ــ إن شاء الله تعالى ــ أن وجوب العمل بخبر الثقة بشرطه ثابت بالدلائل القطعية، إذا ثبت ذلك فقد صار عمل المكلف بما يبلغه من ذلك واجبًا عليه قطعًا، ولا ينفعه كونه يجوز في نقل ذلك الخبر الكذب والخطأ؛ فإن الله تعالى يقول له: قد علمتَ قطعًا أنه يجب عليك العمل بمثله، وكفى.
ومع ذلك، فيقال لمن حاول الاعتذار بما ذكر: أرأيت لو أخبرك من تثق به بأن في هذا الجُحر حية، أتُدخِل يدك فيه وأنت تحب الحياة؟
أرأيت لو أخبرك من تثق به بأن في القارورة التي لا يُدرى ما فيها سمٌّ قاتل، أكنت شاربه وأنت تريد الحياة؟
أرأيت لو جاءك رجل تثق به، فقال لك: أنا رسول الأمير إليك، يأمرك أن تحضر في وقت كذا، فإن حضرت أنعم عليك، وإن لم تحضر عاقبك، أتتكاسل عن الحضور وأنت تعلم قدرة الأمير على نفعك وضرك؟
أرأيت؟ أرأيت؟
ثم يقال له: فلو كنتَ تؤمن بالله وترجو رحمته وتخاف عقابه لعملت بخبر الثقة عن رسوله. فإن كنت مؤمنًا ولكن غلب عليك الهوى فخالفتَ، فأنت تعلم أنك معرِّضٌ نفسَك للعقاب، وأنك إذا عُوقبتَ فعلى نفسك اللوم!