الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المقوم الخامس التلازم بين المعنى الحق والشكل الجميل]
المقوم الخامس: التلازم بين المعنى الحق والشكل الجميل. إن التحليل الإعلامي لخطب النبي صلى الله عليه وسلم يكشف لنا أهمية هذا المقوم كأصل من أصول الإعلام الإسلامي، فقد فطر الله الإنسان على الميل إلى الجمال وحب الجمال، واعتمد البلاغ النبوي على هذا الأساس الفطري في تبليغ حقائق الدعوة للناس، وقد كان صلوات ربي وسلامه عليه يقتفي في ذلك منهج القرآن الكريم، فهو حق كله ومع ذلك قدم للناس في شكل بلاغي جميل أعجز العرب وهم أهل الفصاحة والبيان قديما وحديثا، واعترفوا بأن ما خفي منه كان أكثر مما فطنوا له، وأن الذي وصفوه مما أدركوه أقل مما ضاقت به عباراتهم، ولم تقف به إشاراتهم (1) وهذا التلازم بين المعنى الحق والشكل الجميل توجبها وظيفة الاتصال الإقناعي، وتشهد لها خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيما تقدم من هذا الكتاب (فقد كان حسن الابتداء وبراعة الاستهلال من أهم دلالات خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه الدلالة ظاهرة لم تخل منها خطبة من خطبه حيث كانت لإثارة الانتباه عند المتلقي ثم تقدم له الحقائق كاملة بعد ذلك، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كان أسلوب حسن العرض وفن الصياغة ومخاطبة المتلقي بلغة مفهومة واضحة الدلالة قوية الحجة من الدلالات البارزة في خطب الرسول صلى الله عليه وسلم موضوع الدراسة-، وقد أشير إلى هذه الدلالات عند تحليل كثير من الخطب) فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يغير واقعا لا يرضى عنه وهو المجتمع العربي في الجاهلية، ونقطة البداية
(1) انظر مزيدا من التفصيل في هذا الجانب عند: د. عبد الغني محمد سعد بركة، أسلوب الدعوة القرآنية، (القاهرة: بدون دار النشر، 1403هـ) ، ص:53.
هي النفس الإنسانية، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11](1) وتغير النفس يستوجب التعامل مع جميع ملكاتها وجوانبها الفكرية والوجدانية والإرادية، وألا نتجاهل أيا منها، ولذلك كانت خطب الرسول صلى الله عليه وسلم تتسم بالأسلوب البلاغي الجميل، والمدخل الجمالي المناسب؛ لأن الكلام البليغ في جوهره هو الذي يبلغ به المتكلم ما يريد من نفس السامع بإصابة موضع الإقناع من العقل والإمتاع من الوجدان.
وانطلاقا من ذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشرح مبينا ومقنعا ، أو ينذر مرهبا ومحذرا، أو يعظ مرغبا ومستميلا مستخدما في كل ذلك الحجة الكاشفة ، والتصوير المؤثر، والتأكيد المثبت للمعاني إلى آخر الأساليب التي كشف عنها التحليل الإعلامي حتى يصل إلى هدفه ويحقق غايته.
ورجل الاتصال الذي ينبغي له التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في تقديم الحقائق للناس في شكل جميل يستمد ذلك من المنطلقات التالية:
1 -
الله تعالى جميل يحب الجمال، يقول جل وعلا:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180](2) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله جميل يحب الجمال» (3) .
وليس معنى ذلك وسامة الشكل والملامح فهذا تضييق للمضمون، لأن الجمال أوسع من ذلك.
2 -
القرآن الكريم عرض الحقائق في شكل جميل {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ - فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} [الأنعام: 95 - 96](4)
(1) سورة الرعد، آية:11.
(2)
سورة الأعراف، آية:18.
(3)
هذا طرف من حديث أخرجه الإمام مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر، رقم:147.
(4)
سورة الأنعام، آية:95.
والقرآن العظيم منح اللفظ العربي قيمة حينما جعله حاملا لهذه الصورة الأنيقة؛ لأنه من المعروف عند علماء اللغة: أن دلالة الألفاظ تنحط وترقى بالاستعمال، ولذا فإن استعمال القرآن الكريم يمنح اللفظ العربي الذي كان ميتا رقيا لا يصل إليه إذا لم يستخدمه القرآن الكريم.
3 -
القرآن كله حق، وعرض ما فيه بشكل جميل غاية في الإحكام والتناسق الجميل قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82](1) .
4 -
دعوة القرآن الكريم للإنسان إلى ملاحظة وتدبر ما في الكون من التناسق والاتفاق الجميل، وما فيه من الزينة والبهجة، يقول الله تعالى:{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3](2){صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88](3){فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60](4){وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر: 16](5) .
5 -
خلق الإنسان في أحسن تقويم، قال الله تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4](6) وقال تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64](7) .
(1) سورة النساء، آية:82.
(2)
سورة الملك، آية:17.
(3)
سورة النمل، آية:88.
(4)
سورة النمل، آية:60.
(5)
سورة الحجر، آية:16.
(6)
سورة التين، آية:4.
(7)
سورة غافر، آية:64.
6 -
الدين الإسلامي دين الجمال، يقول الله تعالى:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138](1) وقال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125](2) .
7 -
الأمر بالتحلي بالخلق الجميل ، يقول الله تعالى:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ} [يوسف: 18](3) وقال عز من قائل: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85](4) وقال تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10](5) .
8 -
وصور القرآن جماعة المسلمين في صورة ذهنية جميلة إقرارا للحق، يقول الله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29](6) . وقال عنهم الله تعالى في الآخرة: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76](7) . وقال عز من قائل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ - ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38 - 39](8) .
9 -
وأمرنا الله بالدعوة الجميلة والقول الحسن في كتابه العزيز، قال الله تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33](9) .
(1) سورة البقرة، آية:138.
(2)
سورة النساء، آية:125.
(3)
سورة يوسف، آية:18.
(4)
سورة الحجر، آية:85.
(5)
سورة المزمل، آية:10.
(6)
سورة الفتح، آية:29.
(7)
سورة الرحمن، آية:76.
(8)
سورة عبس، الآيتان: 38، 39.
(9)
سورة فصلت، آية:33.
فالداعي إلى الله حامل الحق ينبغي أن يقدمه للناس في صورة حسنة، قال الله تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83](1) وقال عز من قائل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53](2) وقال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86](3) .
كل هذه المنطلقات تؤكد على أهمية التلازم بين المعنى الحق والشكل البلاغي الجميل الذي ظهر جليا في الخطاب الإعلامي النبوي ، والذي لا بد لكل رجل اتصال وكل إعلامي مسلم أن يلتزمه في الطرح الإعلامي.
ومما لا شك فيه أن العملية الاتصالية تتأثر بهذا المقوم، يقول الدكتور إبراهيم إمام:(نحن ننادي هنا بالتوصل إلى بلاغة خاصة بالتلفزيون حيث يصبح لكل قسمة من القسمات معنى، ولكل إيماءة دلالة، ولكل سياحة قدرة على إثارة التأمل في الصورة المتحركة)(4) .
والتلازم بين المعنى الحق والشكل الجميل في الإعلام الإسلامي إنما يكون لبيان الحق، وإعلاء الهمم، وشحذ الطاقات الإنسانية، فلا يهبط بالغرائز وإنما ينطلق بها إلى الأعلى، والعناية بالجمال في الإعلام الإسلامي هي التي لا تقود إلى الافتتان به، ولا ينبغي أن يصل حب الجمال إلى عبادة غير الله والتعلق به التعلق المطلق بحيث يكون شغل رجل الاتصال الشاغل كما
(1) سورة البقرة، آية:83.
(2)
سورة الإسراء، آية:53.
(3)
سورة النساء، آية:86.
(4)
شيخنا د. إبراهيم إمام، نحو بلاغة تليفزيونية في البرامج الدينية (الرياض: جهاز تلفزيون الخليج العربي، سلسلة بحوث ودراسات، رقم 4) ، ص:1.
ينبغي عدم التكلف؛ لأن الله يكره البيان من الرجل الذي يتخلل بالكلام كما تتخلل البقر، فالتقعر يحول الكلام الجميل إلى قبيح.
وقد اعوج في قضية الجمال فريقان:
الأول: ينظر إلى الجمال ويتذوقه دون مقياس أو معايير شرعية تحكمه وتحكم عليه، وهذا الفريق أفرط حتى رأى الجمال في المعصية والعري والوثنية والفساد، وبعض هذا الفريق من يتصور الجمال في كل شيء قبيح، قد فسدت فطرته وفسد ذوقه، ومثال ذلك يظهر في بعض شباب الغرب الذين خرجوا عن إلف الفطرة فهم يريدون النوم في العراء ولبس الثياب الممزقة وعدم الغسل متأثرين بفلسفة الحرية المطلقة من كل قيد في الحضارة الغربية، والتي ترى قمة الإنسانية في الحرية المطلقة وقمة الحرية في الجمال، وطالما أن الحرية تؤدي إلى الجمال فأي وضع كانت عليه حريتك أو كنت عليه في ممارسة حريتك فهو قمة الجمال!!! ومثل هؤلاء المتصوفة الذين يقولون الكلب أخي والخنزير حبيبتي كما يزعم محي الدين بن عربي (1) .
الثاني: فريق يرى أن هناك تعارضا بين الحق والجمال فأخذ يقلل منه؛ لأنه يتعارض مع الحق عنده، وهذا الفريق يلاحظ عليه قلة العلم والجهل بالدين، وقلة العلم بالقرآن والسنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم يرون القرآن حقا ولا يحتاج إلى التجميل، وما يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، ونسوا أنه صلى الله عليه وسلم مع ذلك قال:«زينوا القرآن بأصواتكم» (2) وهكذا نلاحظ أن
(1) نقلا عن شيخنا زين العابدين الركابي، من محاضرة ألقاها في قاعة كلية الدعوة والإعلام سنة 1409هـ.
(2)
أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، مرجع سابق، ج7، ص: 173، وقال: وثقه البخاري وغيره ورجاله رجال الصحيح.
الحق جميل في ذاته ومع ذلك لا بد له من الجمال، ورجل الإعلام الإسلامي ورجل الاتصال في المجتمع المسلم لا بد أن ينطلق من هذا التلازم بين المعنى الحق والشكل الجميل الذي يعد من أهم مقومات منهج الاتصال الإسلامي، وقد أبرز التحليل الإعلامي في الفصل الأول جوانب الظهور في طرح الخطاب النبوي نظرا لالتزامه صلى الله عليه وسلم في هديه في الاتصال بهذا المقوم.