الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المقوم الأول الثقة بالمصدر]
الفصل الثاني
مقومات منهج الخطاب الإعلامي
في خطب الرسول صلى الله عليه وسلم المقوم الأول: الثقة بالمصدر. المقوم الثاني: العلم. المقوم الثالث: التلازم بين الحرية والمسؤولية. المقوم الرابع: عالمية الإعلام الإسلامي. المقوم الخامس: التلازم بين المعنى الحق والشكل الجميل.
توطئة الفصل الثاني في هذا الفصل من هذه الدراسة يمكن إبراز الجانب التالي من الجوانب الإعلامية في خطب النبي صلى الله عليه وسلم وهو معالم مقومات منهج الخطاب الإعلامي إذ إن التحليل الإعلامي للخطب المختارة لم يكشف عن دلالات ومعاني ومفاهيم الإعلام التي جاءت في الفصل الأول فقط بل كشف أيضا عن معالم لمقومات منهج الخطاب الإعلامي النبوي، وهي تؤكد على أن للإعلام الإسلامي أسسه وقواعده وأصوله الإعلامية السليمة التي تستند إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأن للمسلمين خصوصيتهم المنهجية في الفلسفة الإعلامية.
المقوم الأول: الثقة بالمصدر للقائم بالاتصال أهمية كبيرة في منهج الاتصال في الرؤية الإسلامية ، فالمصدر سواء أكان شخصية حقيقية أم اعتبارية لا بد فيه من الثقة، وهي تأتي من وجهين:
الأول: ثقته بنفسه.
الثاني: ثقة مجتمعه به أي الجمهور المتلقي لرسائله الاتصالية، ويظهر الوجه الأول في قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو النموذج الأول لرجل الاتصال في المجتمع الإسلامي-:«والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته» (1) والظرف الذي قيلت فيه هذه المقولة المنهجية هو ظرف الكثرة العاتية التي تهجم بكل كيانها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه ضعيفة لا تساوي في وزنها الاجتماعي ثقل المجتمع المتكتل عليه بقوة رجاله ورأيه السائد لما أمكنه أن يضع هذا المعيار الخالد الذي يصور المستوى السامي، في عزة النفس، والثقة بالله، وبما يدعو إليه، مما ينبغي أن يتسلح به رجل الاتصال الذي يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما ينبغي عليه أن يحذر من جاذبية الإغراء، ليرتفع إلى هذا المستوى السامي من عزة النفس، والثقة بما عنده من الحق.
أما الوجه الثاني: فثقة المجتمع والجمهور المتلقي بالقائم بالاتصال ومصدر الرسالة، ويظهر ذلك في قول الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الصفا:«أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا» (2) نعم لقد كان
(1) ابن هشام، السيرة النبوية لابن هشام، مرجع سابق، جـ1، 267.
(2)
انظر خطبة الصفا، ص: 3 من هذه الدراسة.
عندهم الصادق الأمين والحكم العدل في مدلهمات الأمور ، وقد أجمع مجتمع مكة على ذلك وهم شوكة العرب. والرسول صلى الله عليه وسلم بهذا التساؤل يحدد مستوى الثقة برجل الاتصال الإسلامي الذي يضطلع بأعباء الإعلام إذ لا بد أن يكون على هذا المستوى من الثقة بالنفس ومن ثقة المجتمع به (1) إن القائم بالاتصال هو أس العملية الإعلامية، فهو الذي منه يصدر الإعلام ، وفيه سماته التي تفيض بعلم الإعلام الإسلامي، إسلامي الروح، وإسلامي الوجه ، وإسلامي الفاعلية في حياة الناس، وإسلامي أخلاقيات العمل الإعلامي. وهذا المصدر هو إسلامي الطموح، وإسلامي الانتماء، وإسلامي التوثيق، وإسلامي التعمق ، وإسلامي الامتداد، وإسلامي الأشواق والأذواق، وإسلامي التوحد والتوقد، هذا المصدر هو الذي ينبغي أن تشع منه بتلقائية خصائص الإعلام الإسلامي الصادق الأمين، حتى نحقق للناس صدق الخبر، وسلامة المعلومة، وأمانة الكلمة، وصدق التوصية والإرشاد، وصدق الحكم، عندما يلتزم المصدر بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ويتأسى به فيكون صادقا وأمينا، سواء أكان المصدر شخصية حقيقية أم شخصية اعتبارية بدءا من المراسل والمندوب والمحرر الإعلامي، وانتهاء برئيس وكالة الأنباء أو مدير بنك المعلومات.
فالإعلام الإسلامي يتجه إلى الجمهور المتلقي ، من أجل بناء مزيد من الثقة بالإسلام وقيمه ومبادئه، من أجل تعميم الانتماء إليه باعتباره نعمة تفضل الله بها على عباده، فالإعلام الإسلامي يتجه نحو الهداية لا التضليل لهذا كان الصدق أساسا في النظرة الإسلامية للإعلام، حيث يجب الالتزام به في صوره المختلفة (2) حتى يتحقق للرسالة الإعلامية أسباب السلامة
(1) انظر تفصيلات أكثر في هذا الجانب في الفصل الثالث: أصول الإقناع في خطب الرسول صلى الله عليه وسلم، الأصل: المصدر المقنع وشروطه، ص: 135 من هذه الدراسة.
(2)
انظر مزيدا من التفاصيل عند:
- د. سيد محمد الساداتي الشنقيطي، دراسة إعلامية في فكر ابن تيمية، ط /، (الرياض: دار المسلم للنشر والتوزيع، 1416هـ) ، ص:113.
- وانظر: راءوف شلبي، سيكولوجية الرأي والدعوة، (الكويت: دار القلم 1402هـ) ص: 143.
وعوامل الثقة بها، وذلك عندما يصدق المصدر وعندما يكون حريصا على هداية الناس، يدرك ذلك من يتتبع خطب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد كان حريصا أشد الحرص على ما فيه مصلحتهم، ليس هذا في خطب الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وفيما روي عنه من الأحاديث (1) .
وهذا الحرص يتفق مع هدي القرآن الكريم ويسير في ظله فقد ذم الله تعالى الذين التزموا فعل البر ثم انقطعوا عنه من الأمم السابقة، قال الله تعالى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27](2) .
والمصدر الراشد لا يكتفي بالحرص على المخاطبين فقط، بل لا بد من الرحمة بهم، تأسيا بالرسول صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى أعلم بما أودع في قلب رسوله صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق والرحمة؛ ليكون مسموعا ومطاعا، يقول الله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128](3) وقال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159](4) ثم يوجه الله تعالى نبيه الأمين إلى الأركان الأساسية لنجاح كل اتصال وكل إعلام فيقول الله تعالى:
(1) انظر: د. محمد منير حجاب، التفسير الإعلامي لصحيح البخاري، (القاهرة: دار الفجر 1415هـ) ص: 80.
(2)
سورة الحديد، آية 27.
(3)
سورة التوبة، آية:128.
(4)
سورة آل عمران، آية:159.
ومن الحكمة في الدعوة مراعاة أحوال المدعوين واختيار الأساليب المناسبة لهم، وقد ظهر ذلك جليا في التحليل الإعلامي لخطب الرسول صلى الله عليه وسلم، فأساليب إقناع المجتمع الجاهلي في خطبة الصفا شيء، وأساليب إقناع المسلمين في خطبة أول جمعة صلاها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة شيء آخر، وكذلك خطب التشويق والترغيب في الجهاد والتضحية والبذل بالنفس والنفيس في سبيل الله غير خطب تعليم الناس قيم ومبادئ الإسلام ونظامه كما جاء في خطبة حجة الوداع، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار الأسلوب المناسب للظرف الاتصالي المناسب ومثال ذلك في البدايات المثيرة للانتباه في خطبة الصفا " واصباحاه!! "، وفي خطبة أول جمعة بالمدينة الحمد والثناء على الله بما هو أهل، وذلك ارتباطا بمسلمات الأمة الإسلامية.
وفي خطبة فتح مكة: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل بعدي» . وفي هذا الأسلوب رعاية لهم الجمهور المتلقي - أهل مكة - في خطبة حجة الوداع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون أي يوم هذا أو أي شهر هذا وأي بلد هذا؟» عندما كان يريد أن يعلمهم مواقيت الحج والأشهر الحرم وفق المبادئ الإسلامية الخالدة والمرتبطة بسنة الله تعالى.
هذا هو رجل الاتصال الصادق الأمين الرحيم الذي يعرف لكل
(1) سورة النحل، آية:125.
حقه ولكل مقام مقال؛ فموضوع الاتصال ينبغي أن يتناسب مع بيئة المستمعين الثقافية والاجتماعية حتى يحقق الاتصال أهدافه وغاياته المرجوة.
وهكذا تدرك بجلاء أهمية الثقة بالمصدر في تحقيق نجاح العملية الاتصالية وفاعليتها في الإقناع بالأفكار مهما كانت شدة المعارضة، فقد شهد عتبة بن ربيعة بعظمة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم مع شدة معارضته؛ قال:(إني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ عظيم)(1) .
هذه الشهادة لنجاح الخطاب الإعلامي النبوي جاءت من عدو، والعرب تقول: الحق ما شهدت به الأعداء.
فليت شعري هل يتأسى المصدر في المؤسسات الإعلامية الإسلامية بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاتصال؛ فيحسن صلته بالناس، ويحب الخير لهم، ويكون ثقة عدلا عندهم، حتى يسمع صوته، وتقرأ كلمته، وينفع الله به الناس.
ويتحرى ويتثبت في رواية الأخبار حتى يكسب ثقة الناس فيه.
والخبر واحد الأخبار، وهو ما أتاك من نبأ عمن تستخبر، والخبر النبأ والجمع أخبار وجمع الجموع أخابير (2) وقيل الخبر: ما ينقل ويحدث
(1) ابن هشام، السيرة النبوية لابن هشام، مرجع سابق، ط / 1، ص: 294، قال هذا عتبة بن ربيعة بعد سماع سورة فصلت من النبي صلى الله عليه وسلم.
- وانظر: تفصيلات في هذا الجانب عند د. عبد القادر حاتم، الإعلام في القرآن، مرجع سابق،) ص:174.
(2)
ابن منظور، لسان العرب، جـ 4 (بيروت: دار صادر، د. ت) ، ص:227.
به قولا أو كتابة وهو يحتمل الصدق والكذب لذاته وجمعه أخبار الجموع أخابير (1) ومنه قول الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4](2) .
والخبر في الاصطلاح الإعلامي: هو وصف موضوعي دقيق تطلع به الصحيفة أو المجلة قراءها في لغة سهلة وواضحة وعبارات قصيرة على الوقائع والتفاصيل والأسباب والنتائج المتاحة والمتتابعة لحدث حالي أو رأي أو موقف جديد أو متجدد لافت للنظر أو فكرة أو قضية وقعت غالبا أو مستمرة الوقوع أو تأكد أنها ستقع، تتصل جميعها بمجتمعهم وأفراده وما فيه أو بالمجتمعات الأخرى كما تساهم في توعيتهم وتثقيفهم وتسليتهم وتحقيق الربح المادي والمعنوي لهم (3) .
والحقيقة أنه من المسلمات عند خبراء الإعلام والاتصال بالجماهير أن الخبر هو العمود الفقري للعملية الإعلامية وإن اختلف في مفهومه ومعايير انتقائه واختياره تأتي تبعا لاختلاف النظم الإعلامية المعاصرة، ونحن بحمد الله لنا في منهج الإعلام الإسلامي معاييرنا الواضحة التي تستند إلى أمور منها:
1 -
هدي كامل في الوحي بشقيه، فليس لأمة من الأمم مثل ما للأمة الإسلامية من المعايير لاستقاء الأخبار وعرض الحقائق على الناس قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119](4) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71](5)
(1) د. إبراهيم أنيس وآخرون، المعجم الوسيط، مرجع سابق، ط /، ص:215.
(2)
سورة الزلزلة، الآية:4.
(3)
هذا التعريف التوفيقي جاء به د. محمود أدهم بعد استعراض (100) تعريف للخبر في كتابه: فن الخبر، (القاهرة: بدون ناشر، 1987م) ، ص:48.
(4)
سورة التوبة، الآية:119.
(5)
سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6](1) .
ب - وفي ظل هذا المنهج الإخباري صاغ أهل الحديث ضوابط نقد الرواية سندا ومتنا، واشترطوا في الرواة العدالة، ويعنون بها أن يكون الراوي مسلما بالغا عاقلا، سليما من أسباب الفسق وخوارم المروءة، واشترطوا الضبط ويعنون به أن يكون الراوي غير مخالف للثقات ، ولا سيئ الحفظ، ولا فاحش الغلط، ولا مخطئ ولا كثير الأوهام (2) .
وقسموا الخبر المقبول إلى الصحيح والحسن، والصحيح لغيره، والحسن لغيره ، وهكذا سجل لعلماء المسلمين فخر السيادة والريادة في مجال ضبط رواية الأخبار ، وليس هذا إلا لأهل الحديث الذين التزموا بضوابط صارمة في نقد الرواية؛ لأنه يقوم على روايتهم تشريع يحكم الحياة ويحكم عليها.
ج- أما أهل السيرة وكتاب التاريخ فقد تساهلوا قليلا لأن هدفهم تثقيفي للناس ولا يبنى على روايتهم أكثر من رأي أو موقف ولا يقوم عليها حكم شرعي، ولذلك روايتهم أقرب ما تكون إلى الرواية الإعلامية.
ومع ذلك فقد كان منهجهم في رواية الأخبار محددا، مثال ذلك واضح في مقدمة تاريخ الطبري التي حدد فيها منهجه في ضبط الرواية بالأمور التالية:
1 -
أخذ المعلومات في استقاء الأخبار من مظانها.
(1) سورة الحجرات، آية:6.
(2)
د. محمود الطحان، تيسير مصطلح الحديث، (لم يذكر مكان النشر ولا الناشر، 1978م)، ص:145.
2 -
إسناد الرواية إلى قائلها.
3 -
ترك الحكم على الرواية للقارئ.
حيث قال: (وليعلم الناظر في كتابنا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره منه، مما شرطت أني راسمه فيه إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها، دون ما أدرك بحجج العقول واستنبط بفكر النفوس، إلا اليسير القليل منه، إذ كان العلم بأخبار الماضين وما هو كائن من أنباء الحادثين غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم إلا بأخبار المخبرين، ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول ، والاستنباط بفكر النفوس، فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين ، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها من الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتى بعض ناقليه إلينا وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا (1) .
ثم جاء ابن خلدون رحمه الله فأضاف إلى منهج أهل التاريخ في الرواية قواعد للحكم على الرواية الخبرية حيث جعل من جملة الثقة بالأخبار جملة أمور منها:
1 -
دراسة أسباب الواقعة وظروفها المحيطة بالحدث ومن ثم دفع الترهات؛ ولذا فإن راوي الأخبار عنده لا بد أن يكون ناقدا بصيرا لديه الموهبة التي تمكنه من كشف الزيف في الرواية، ولا بد أن يكون عنده ميزان دقيق يرجع إليه عند نقد الروايات في إطار أحوالها التي ترجع إليها الأخبار وتحمل عليها الروايات.
(1) الطبري، تاريخ الطبري، جـ1 (بيروت: دار سويدان، 1387هـ) ، ص:25.
2 -
الرواية في نظره تحتاج إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق وسائر الأحوال ، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين عليها وأخبارهم حتى يكون مستوعبا لأسباب كل حادثة، واقفا على أصول كل خبر، وحينئذ يعرض الخبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها فهو صحيح وإلا زيفه واستغنى عنه (1) ومن خلال هذا المنهج الراشد لرواية الأخبار القائم على نصوص الوحي بشقيه، وعلى ضوابط أهل الحديث، وقواعد أهل السير، ورواة التاريخ يمكن لرجل الإعلام الإسلامي أن يستقي أخباره إن لم يكن وفق منهج أهل الحديث فلا أقل من منهج رواة التاريخ.
وفي إطار هذه المحددات الأساسية، ومن خلال الدلالات الإعلامية لخطب النبي صلى الله عليه وسلم يمكن إبراز عدة معايير يمكن انتقاء الأخبار في إطارها هي:
1 -
معيار القرب الفكري والعقدي ودليل ذلك عمل السلف من الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت {الم - غُلِبَتِ الرُّومُ - فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ - فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4](2) فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم؛ لأنهم وإياهم أهل كتاب وذلك قول
(1) ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، جـ1، (بيروت: مؤسسة جمال للطباعة والنشر 1399هـ) ص: 29.
(2)
سورة الروم، آية 1-3.
الله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ - بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 4 - 5] فكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث فلما أنزل الله تعالى هذه الآية خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة: {الم - غُلِبَتِ الرُّومُ - فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ - فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4] قال ناس من قريش لأبي بكر الصديق فذلك بيننا وبينكم زعم صاحبكم (1) أن الروم ستغلب فارسا في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك. . . إلخ.
وهكذا نرى أن الاهتمام بالحدث كان على أساس معيار القرب الفكري والعقدي بالنسبة للفئة المؤمنة والفئة الكافرة.
2 -
الولاء والبراء على أساس عقيدة التوحيد ، وقد ظهر ذلك واضحا في خطبة الصفا عندما جمع الرسول صلى الله عليه وسلم قريشا فخص وعم فقال:«يا معشر قريش: أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله ضرا ولا نفعا، يا معشر بني عبد مناف: أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بني قصي: أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بني عبد المطلب: أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا فاطمة بنت محمد: أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا» (2) .
3 -
الاهتمام بالإنسان عامة انطلاقا من مبدأ عالمية الإعلام الإسلامي، ويمكن إبراز هذا المعيار في المقوم المتصل بعالمية الإعلام الإسلامي.
4 -
الاهتمام بالمصلحة العامة الضرورية للأمة انطلاقا من الكليات
(1) أخرجه الترمذي، صحيح الترمذي بشرح ابن العربي المالكي، جـ12، (بيروت: دار الكتاب العربي، د. ت) ، ص: 70، أبواب التفسير.
(2)
انظر نص الخطبة، ص: 10، من هذه الدراسة.
الخمس فالمصلحة المعتبرة الراجحة لجماعة المسلمين.
5 -
إذاعة الحقيقة في إبانها وفاء بواجب البلاغ.
وقد أثبت التحليل الإعلامي لخطب الرسول صلى الله عليه وسلم أن للإعلام الإسلامي هديا كاملا في خطب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا، وأعلن مفاصلة قومه على مبدأ عقيدة التوحيد انطلاقا من قول الله تعالى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94](1) .
وفي خطبة أول جمعة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض القيم التي تتصل بحياة الجماعة الإسلامية، وما ينبغي أن تكون عليه من التقوى، واستثار الدوافع الإيمانية لبناء المجتمع الفاضل والرأي العام المستنير المتألف المتراحم المتآخي في الله تعالى، وفي خطبة فتح مكة؛ حيث كان دخولها عنوة هم المجتمع القرشي الأول، فاتخذ من هذا الهم مدخلا لتثبيت حرمة مكة في أذهان الناس وإخلاص العبادة لله الواحد الأحد.
ولا يقف مقوم الثقة بالمصدر عند حد ثقة الجمهور به وثبت روايته وحسن اختياره لما يقدم للجمهور المتلقي، وإنما يعد تفسير الأحداث من أهم عوامل الثقة بالمصدر ، وللإعلام الإسلامي منهجه الراشد في تفسير الأحداث وربطها بسنن الله في الكون والحياة وآياته في الوحي بشقيه، وهذا المنهج يستمد بعده من منهج القرآن الكريم؛ ولذا فإن رجل الاتصال في الإعلام الإسلامي يفسر الأحداث على أساس هذه السنن التي تحكم الحياة الاجتماعية كما تحكم القوانين الطبيعية للكون، وقد سلك الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك عندما فسر لجمهور خطبة الفتح حادثة فتح مكة، حيث حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليه رسوله
(1) سورة الحجر، آية:94.
والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي» (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع مفسرا المواقيت الزمانية منه للحج: «أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. ورجب الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد» (2) .
وهكذا فإن القائم بالاتصال لا بد أن يفسر الأحداث على أساس ربطها بالآيات والسنن ومسلمات الأمة، بالإضافة إلى ربط القضايا بأصولها الفكرية عند التحليل والتفسير ثم استخلاص العظات والعبر، وتجليتها وتقديمها للناس، لتزكية أنفسهم ، وتزويدهم بالأخبار الصحيحة والمعلومات السليمة والتصورات الثابتة حتى ينعكس كل ذلك على آرائهم ومواقفهم في الحياة.
(1) انظر نص الخطبة في ص: 42، من هذه الدراسة.
(2)
انظر نص الخطبة في ص: 68، من هذه الدراسة.