الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الدلالات والمعاني الإعلامية في خطب الغزوات]
المبحث الثالث
الدلالات والمعاني الإعلامية في خطب الغزوات - نماذج من خطب الغزوات:
* روايات خطبة بدر الكبرى.
* روايات خطبة فتح مكة.
* روايات خطبة غزوة تبوك.
- مبررات اختيار هذه النماذج بعينها.
- الدلالات والمعاني الإعلامية في خطبة بدر الكبرى.
- الدلالات والمعاني الإعلامية في خطبة فتح مكة.
- الدلالات والمعاني الإعلامية في خطبة غزوة تبوك.
نماذج من خطب الغزوات: إذا كانت خطبة الجمعة تعد نموذجا اتصاليا فريدا لتوجيه الرأي العام الإسلامي ، في إطار كتاب الله وهدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وفق استراتيجية مستمرة، فإن خطب الغزوات نموذج أيضا لتعبئة الرأي العام في زمن الحرب؛ وذلك لرفع الروح المعنوية وإقناع الرأي العام بمشروعية القتال، والتصدي لحملات التشكيك، وحملات الحرب النفسية المتمثلة في الدعاية المضللة، والشائعات المروعة التي يبثها الأعداء، ولذلك تعد الدول عددا كبيرا، وتسخر الخبرات الإعلامية؛ لهندسة المواقف، والمتتبع لخطب الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزوات يدرك تميز خطب الجهاد ببعض الخصائص والسمات التي كانت من أهم عوامل الإقناع، الذي ظهرت آثاره باهرة في كثير من المواقف، وسوف نعرض بعض هذه الخطب لإبراز دلالات الاتصال والإقناع في خطب الغزوات.
ومن خطب الغزوات: أولا: خطبة يوم بدر: حيث خطب صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد: فإني أحثكم على ما حثكم الله عز وجل عليه ، وأنهاكم عما نهاكم الله عز وجل عنه، فإن الله عز وجل عظيم شأنه، يأمر بالحق ويحب الصدق، ويعطي على الخير أهله، على منازلهم عنده، به يذكرون، وبه يتفاضلون ، وإنكم قد أصبحتم بمنزل من منازل الحق، لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه. وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله عز وجل به الهم وينجي به من الغم، وتدركون به النجاة في الآخرة، فيكم نبي الله يحذركم ويأمركم، فاستحيوا اليوم أن يطلع الله عز وجل على شيء من أمركم يمقتكم عليه، فإن الله عز وجل يقول:{لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر: 10](1)
(1) سورة غافر، آية:10.
انظروا إلى الذي أمركم به من كتابه ، وأراكم من آياته، وأعزكم بعد الذلة، فاستمسكوا به يرضى به ربكم عنكم، وأبلوا ربكم في هذه المواطن أمرا، تستوجبوا الذي وعدكم به من رحمته ومغفرته ، فإن وعده حق، وقوله صدق، وعقابه شديد. وإنما أنا وأنتم بالله الحي القيوم ، إليه ألجأنا ظهورنا، وبه اعتصمنا (1) وعليه توكلنا، وإليه المصير ، يغفر الله لي وللمسلمين» .
(1) الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي، المتوفى سنة 942هـ، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الواحد والشيخ علي معوض، جـ 4، ط / 1، (بيروت: دار الكتب العلمية1414هـ) ، ص:34.
ثانيا: خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لن تحل لأحد كان قبلي، وإنها حلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يفدى، وإما أن يقتل فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر، فقام أبو شاه - رجل من أهل اليمن - فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاه، قال الوليد فقلت للأوزاعي: ما قوله اكتبوا لي يا رسول الله؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1) .
وساق ابن إسحاق نصا لهذه الخطبة أوفى وأبسط فقال: حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على باب الكعبة فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو موضوع تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت، وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه
(1) أخرجه الإمام البخاري، صحيح البخاري بشرح ابن حجر العسقلاني، ط / 1، (الرياض: نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 1379هـ) ص: 205، (ك: العلم، ب: كتابة العلم، وقال ابن حجر: الزيادة عن الوليد بن مسلم قلت للأوزاعي ما قوله اكتبوا لي؟ قال هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم المدرك نفسه، ص:206.
- وأخرجه الإمام مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ص: 51، ط / 2، (بيروت: دار الفكر، 1392هـ) ص: 128-129 (ك الحج، باب تحريم مكة، وتحريم صيدها وخلاها وشجرها) .
العمد، بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظامها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13](1) . يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء» (2) .
(1) سورة الحجرات، آية:13.
(2)
أخرجه ابن إسحاق نقلا عن محمد الصادق إبراهيم عرجون، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، جـ 4، (دمشق: دار العلم، 1405هـ) ، ص:354.
- وأخرج بعضها ابن ماجه: 478 نقلا عن الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي، حياة الصحابة، مرجع سابق، جـ 3، ص: 395-396.
ثالثا: خطبته صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: روى البيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فاسترقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة لما كان منها على ليلة، فلم يستيقظ فيها حتى كانت الشمس قيد رمح، قال: ألم أقل لك يا بلال اكلأ لنا الفجر، فقال: يا رسول الله ذهب بي النوم الذي ذهب بك، فانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك المنزل غير بعيد، ثم صلى ، ثم ذهب بقية يومه وليلته فأصبح بتبوك، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أيها الناس، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عوازمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدي ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرا، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من جثى جهنم، والكنز كي من النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبالة الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المأكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه ، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر إلى الآخرة، وملاك العمل خواتيمه، وشر
الروايا روايا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معصية الله عز وجل، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتأل على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه ، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لي ولأمتي - قالها ثلاثا - ثم قال: أستغفر الله لي ولكم» (1) .
(1) أخرجه الحاكم عن عقبة بن عامر والجهني رضي الله عنه نقلا عن ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، جـ 3 (بيروت: المكتبة العلمية، د ت) ، ص:7.
- أخرجه ابن كثير في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، تحقيق مصطفى عبد الواحد، (بيروت: دار المعرفة، 1402هـ) ص: 24-25.
- أخرجه البيهقي في الدلائل 5 / 241.
- وانظر أيضا محمد بن يوسف الصالحي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، مرجع سابق، جـ 5، ص:452.
- وانظر محمد يوسف الكاندهلوي، حياة الصحابة، جـ 3، ط / 3 (الرياض: نشر وإهداء شركة الراجحي للصرافة والتجارة، 1403هـ) ص: 419، 420، 421.
مبررات اختيار هذه الخطب دون غيرها: لقد تم اختيار هذه الخطب دون غيرها كنماذج لخطب الغزوات بناء على عدة اعتبارات منهجية ولا سيما الأحداث والملابسات المرتبطة بكل خطبة من خطب هذه الغزوات الثلاث، التي تمثل كل منها مرحلة من مراحل الجهاد في سبيل الله تعالى إبان عهد النبوة، ويمكن إجمال هذه المبررات في النقاط التالية:
أولا: مبررات اختيار خطبة غزوة بدر الكبرى: 1 - إن غزوة بدر الكبرى تعد إعلانا لبدء حياة جديدة تعلو فيها كلمة الحق؛ لبناء عقلية جديدة مستضيئة بنور الهدى والإيمان؛ ولذا سماها الله تعالى الفرقان في سورة الأنفال.
2 -
كانت خطبة بدر الكبرى الدرس التعبوي الأول، فهي أول تجربة لجماعة المسلمين في التضحية والقتال في سبيل حمل الدعوة الإسلامية حملا جهاديا، ولا تخفى أهمية الإعداد الإعلامي؛ لرفع الروح المعنوية؛ لخوض مثل هذه التجربة.
3 -
كانت فتح الفتوح للدعوة الإسلامية، ارتفع فيها صوت الحق، وكبت الباطل أي كبت، فقد سمعت الجزيرة العربية كلها بقوة دولة الإسلام الجديدة.
4 -
استوعبت بدر الكبرى الإسلام كله، والهجرة كلها، وبيعة الأنصار كلها، عندما أعلنت في ساعة واحدة للناس في كل مكان المفاصلة على عقيدة الإيمان بالله الواحد الأحد ، فكانت بدر الكبرى شامة في جبين الزمان، واستحق أهلها بجدارة أن يكونوا سادة في الأرض، وسادة في السماء، ففي الأرض يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حادثة حاطب بن أبي بلتعة: «لعل الله اطلع على أهل بدر يوم بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت
لكم الجنة، أو قد غفرت لكم» (1) ولعل هذا ما جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجعل أهل بدر في مقدمة أهل العطاء.
ثانيا: مبررات اختيار خطبة فتح مكة: 1 - لقد كانت نصرة للمظلوم، ووفاء بالعهد لخزاعة حليفة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أول غزوة يخرج فيها الجيش الإسلامي لنصرة المستضعفين من جماعة المسلمين، فقد «جاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رب إني ناشد محمدا
…
حلف أبيه وأبينا الأيكدا
فانصر رسول الله نصرا أبدا
…
وادع عباد الله يأتوا مددا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا
…
إن قريش أخلفوك الموعدا
هم بيتونا بالوثير هجدا
…
وقتلونا ركعا وسجدا
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " نصرت يا عمرو بن سالم» .
2 -
يعد فتح مكة ثمرة الجهاد والتضحية بالنفس والمال في سبيل الله، فبالأمس خرج المهاجرون فرارا بدينهم، واليوم يدخلون مكة منتصرين على أعدائهم، وفي هذا درس لجماعة المسلمين أنه لا نصر بدون الإسلام ، ولا إسلام بدون العبودية الحقة لله، ولا عبودية بدون التضحية والبذل والضراعة إلى الله والجهاد في سبيله.
3 -
في هذه الغزوات حرر البلد الأمين من رجس عبودية الأوثان والأصنام إلى الأبد.
4 -
كسرت شوكة جاهلية العرب في هذه الغزوة، وطوي نظامها، وحل مكانه النظام الإسلامي، ودخل العرب ميادين الحضارة الإسلامية، فأصبحوا قادة الأمة الإسلامية في فتوحاتها، وسياستها، ومعارفها ،
(1) أخرجه الإمام البخاري، صحيح البخاري، ك64.
وعلومها، فكانوا بحق كما أراد لهم الله أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس، بفضل الله ثم بفضل هذا الفتح العظيم، ولا يخفى أهمية الاتصال الإعلامي الذي عقب هذا الفتح العظيم لذا اختيرت خطبة فتح مكة.
ثالثا: مبررات اختيار خطبة غزوة تبوك: 1 - لقد كانت تبوك آخر غزوة للنبي صلى الله عليه وسلم فهي خاتمة غزواته.
2 -
كانت غزوة تبوك أول تجربة جهادية لمجتمع الجزيرة العربية المسلم.
3 -
كانت غزوة تبوك إعلانا للحرب على النظام العالمي الجاهلي، الذي حجر على عقول الناس وقلوبهم، ومنعهم من سماع صوت الحق بالإرهاب الفكري والمادي، والمتمثل في هيمنة الحضارة والثقافة الرومانية.
4 -
كانت غزوة تبوك معركة نفسية عنيفة، لتمحيص الصف الإسلامي، فقد أعلنت الحرب على أكبر قوة في العالم في ذلك الوقت، وأعلن النفير العام في ساعة العسرة ، وحينما طابت الثمار، وقرب قطفها، وقرب الحصاد، وفي شدة الحر مع بعد الشقة ، فالمعركة تحتاج أولا إلى السير الطويل في الصحراء.
ولذلك كشفت الغزوة سوءات المنافقين وظهرت ظاهرة النفاق مستفحلة منظمة في جوانب شتى، كالتخلف عن السير مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والاعتذار بأعذار واهية، وبث الشائعات المروعة، ولمز المطوعين في الصدقات من المؤمنين، ثم حركة الهمس والتشكيك في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ومقدرته على حرب الروم، ثم محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، بل وبناء المؤسسات للنفاق، مثل مسجد الضرار.
5 -
ظهرت في هذه الغزوة مستويات عظيمة من التضحية والبذل بالنفس والنفيس.
الدلالات والمعاني الإعلامية في خطب الغزوات
أولا: الدلالات والمعاني في خطبة غزوة بدر الكبرى 1 - توجيه الرأي العام الإسلامي من خلال الاحتكام إلى مسلمات جماعة المسلمين، وقد ظهر هذا الأمر واضحا في بداية الخطبة؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:«أحثكم على ما حثكم الله عليه، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه، فإن الله عز وجل عظيم شأنه، يأمر بالحق ،ويحب الصدق، ويعطي على الخير أهله» ، فخاطبهم صلى الله عليه وسلم من خلال عقيدة الإيمان بالله الواحد الأحد.
2 -
الإقناع المشترك؛ حيث يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الخطاب البليغ إلى جماعة المسلمين، الذين تسودهم روح الجماعة والحوار المشترك، وهذا الجو الاتصالي لا شك أنه يحقق الإقناع والإمتاع المشترك؛ لما فيه من التفاهم والقرب النفسي.
3 -
أسلوب انتهاز الفرصة للتأكيد على أهم القيم وفي مقدمتها الإخلاص لله تعالى وابتغاء مرضاته عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة:«قد أصبحتم بمنزل من منازل الحق، لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه» .
4 -
التجاهل المتعمد للعوامل المادية وتحول الانتباه إلى القوة الحقيقية، وهي قوة الإيمان، وهذا التحول مبني على معرفة تامة للعوامل النفسية والاجتماعية لجماعة المسلمين - الجمهور المستهدف بهذه الخطبة - وما تتميز به على الفئة الكافرة، وهذا الأسلوب يعمل على تكوين المواقف المؤيدة ورفع الروح المعنوية عند الجندي المسلم.
5 -
الاستشهاد بالقيم الدينية والاحتكام إلى المسلمات الأساسية للمجتمع الإسلامي، ويظهر ذلك في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فاستحيوا اليوم أن يطلع
الله على شيء من أمركم يمقتكم عليه، فإن الله عز وجل يقول:{لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر: 10] » .
6 -
بث الثقة بالله واليقين بنصره لأوليائه في جماعة المسلمين والجزم بأن الخصم ليس على شيء قال صلى الله عليه وسلم: «وأبلوا ربكم في هذه المواطن أمرا تستوجبوا الذي وعدكم» .
7 -
البشارة والنذارة، وتظهر دلالة هذا المبدأ الإعلامي في آخر خطبة غزوة بدر.
8 -
إحكام الاتصال، وهذا يعني التعامل مع الحدث الذي يهم الرأي العام بواقعية، وبدون تهويل، وعرض الحقائق كاملة على الرأي العام بدون مبالغة، ومخاطبة جماعة المسلمين بلغة مفهومة الدلالات وبأسلوب بسيط؛ لتهيئة الرأي العام الإسلامي لمواجهة الحدث بموقف إيجابي، ومعنويات مرتفعة.
9 -
البعد عن الهجاء السياسي، والمفاخرة والمنافرة الجاهلية، واللغو وإثارة النعرات، والشحن العاطفي، وإسقاط ذلك من اهتمامات الخطبة؛ لبناء الرأي العام الإسلامي على أساس من العلم والحكمة والإيمان بالله الواحد الأحد.
آثار ونتائج هذا الاتصال البليغ في خطبة بدر 1 - موقف الأنصار رضي الله عنهم: عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال: فتكلم أبو بكر، فأعرض عنه، ثم تكلم عمر، فأعرض عنه، فقال سعد بن عبادة: إيانا تريد يا رسول الله ، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادنا إلى برك الغماد لفعلنا، قال فندب الرسول صلى الله عليه وسلم الناس فانطلقوا حتى نزلوا بدرا» (1) .
قال النووي: (قال العلماء إنما قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم اختبار الأنصار؛ لأنه لم يكن بايعهم على أن يخرجوا معه للقتال، وطلب العدو، وإنما بايعهم على أن يمنعوه ممن قصده، فلما عرض الخروج لعير أبي سفيان أراد أن يعلم أنهم يوافقون على ذلك، فأجابوا أحسن جواب بالموافقة التامة في هذه المرة وغيرها)(2) .
وروى ابن مردويه أيضا عن طريق محمد بن عمر بن علقمة الليثي عن أبيه عن جده قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال: " كيف ترون؟ "، فقال أبو بكر: يا رسول الله إنهم بكذا وكذا قال ثم خطب الناس فقال: " كيف ترون؟ "، فقال عمر مثل قول أبي بكر، ثم خطب الناس فقال:" كيف ترون؟ "، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله ما سلكتها قط، ولا لي بها علم، لئن سرت
(1) خرجه الإمام مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، مرجع سابق، جـ 12، ص:124.
(2)
الإمام النووي، شرح صحيح مسلم، جـ 12، ص:124.
برك الغماد من ذي يمن لنسير معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24](1) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون، ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله لك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض ، وصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، فأنزل الله القرآن الكريم على رأي سعد بن معاذ {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] (2) وزاد الأموي في مغازيه: (وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من عمدان لنسيرن معك) » (3) وأخرج البخاري عن ابن مسعود يقول: «شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال موسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} [المائدة: 24] (4) ولكننا نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وبين يديك ومن خلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره» (5) .
ب- موقف عمير بن الحمام الأنصاري: لقد «كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرض المسلمين على القتال في سبيل الله ويقول: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا
(1) سورة المائدة، آية:24.
(2)
سورة الأنفال، آية:5.
(3)
ابن كثير، السيرة النبوية، مرجع سابق، جـ 2، ص:296.
(4)
سورة المائدة، آية 24.
(5)
أخرجه البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، المغازي، 64 ب: 4 إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم.
محتسبا، مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة، من قتل قتيلا فله سلبه "، وقوله: " قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض "، فسمع ذلك عمير بن الحمام الأنصاري، فقال: يا رسول الله: جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: " نعم "، قال: بخ بخ، فقال له رسول الله: " ما يحملك على قول بخ بخ "، قال: لا والله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: " فإنك من أهلها» ، وكان معه تمرات في يده يأكل منهن، فقال لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة!! فرمى بما بقي معه، ثم قاتل وهو يقول:
راكضا إلى الله بغير زاد
…
إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد
…
وكل زاد عرضة للنفاد
غير التقى والبر والرشاد
وما زال يقاتل حتى قتل شهيدا رضي الله عنه وأرضاه (1) .
ج- ولقد عبر حسان بن ثابت رضي الله عنه عن إجمالي موقف جماعة المسلمين في بدر بقوله (2) .
وخبر بالذي لا عيب فيه
…
بصدق غير إخبار الكذوب
بما صنع المليك غداة بدر
…
لنا في المشركين من النصيب
غداة كأن جمعهم حراء
…
بدت أركانه جنح الغروب
فلاقيناهم منا بجمع
…
كأسد الغاب مردان وشيب
أمام محمد قد آزروه
…
على الأعداء في لفح الحروب
بنو الأوس الغطارف وازرتها
…
بنو النجار في الدين الصليب
فغادرنا أبا جهل صريعا
…
وعتبة قد تركنا بالجبوب
(1) ابن حجر العسقلاني، الإصابة في سير الصحابة، جـ 3، ص:31.
(2)
حسان بن ثابت رضي الله عنه، ديوان حسان بن ثابت تحقيق د. وليد عرفات جـ (بيروت: دار صادر، 1974، ص: 82) .
ثانيا: الدلالات والمعاني الإعلامية في خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الفتح إن المتأمل في نصوص خطبة فتح مكة يدرك ما اشتملت عليه من الدلالات الإعلامية التي تؤكد فاعلية الإعلام النبوي في الإقناع، ولعل أهم هذه الدلالات ما يلي:
1 -
البداية المثيرة للانتباه التي تؤكد على مسلمات الأمة الإسلامية الأساسية: في رفع شعار (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) ، وتبرز مقومات الشعار الجيد والناجح في جذب الانتباه وإثارة الاهتمام بسمة معينة بارزة يرى القائم بالاتصال أنها أكثر تأثيرا على الجمهور المستهدف (1) وهي هنا إبراز توحيد الألوهية، فالله وحده الذي أخلصت له جماعة المسلمين جميع أنواع العبادة هو الذي أيدها بنصره يوم الأحزاب، وهذا اليوم العظيم، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126] (2) فجماعة المسلمين التي يقودها النبي محمد صلى الله عليه وسلم مؤيدة بنصر الله، فلا غالب لها، وهذا الرمز والشعار يساق لمجتمع قريش في مكة، الذي كان يظن أن قريشا مؤيدة ومحمية بحمى الله لها بحراستها لبيته وولايته، وهذه دعوى لا أساس لها في الواقع، فبيت الله ليس تركة يرثها الخلف عن السلف، إنه بيت الله يرثه أولياؤه المتقون، قال تعالى:{وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34](3) هذا الشعار الذي رفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الفتح هو ذلك الشعار الذي
(1) انظر تفصيلا في هذا الجانب عند صفوت العالم، الشعارات والرموز الانتخابية، ط / 1، القاهرة: دار الطباعة الجامعية، 1986م) ، ص:13.
(2)
سورة آل عمران، آية:126.
(3)
سورة الأنفال، الآية:34.
رفعه في خطبة الصفا، وفي سني الدعوة المكية كلها ، وقد كانت قريش تدرك مدلول هذا الشعار على أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والعقدية، وتدرك تعلم علم اليقين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن إلف الواقع وعبادة المواريث الثقافية، والعادات والتقاليد الجاهلية حالت بينها وبين الانقياد لهذا الشعار وهو اليوم يعود بسلطانه القاهر، وبالحق العميق الذي يحمله ليكتسح قوى الجاهلية.
2 -
مدخل الهم والمشكلة: إن مشاركة الجمهور المتلقي في همومه، والتعاطف معه في مشكلاته، تعتبر من المداخل للتأثير في النفوس، فقد عظم في نفوس أهل مكة اقتحام الحرم عنوة ، لذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لن تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي» . لقد كانت هموم المجتمع المكي يوم الفتح مداخل خطبة الفتح، لتفسير هذا الحدث للرأي العام من خلال مسلمات الأمة الإسلامية، وللتأكيد على قيم الإسلام، والأحكام المتصلة بالحرم المكي.
وتؤكد الدراسات الإعلامية على أهمية مخاطبة هموم الناس وحاجاتهم في الإقناع بالأفكار، من خلال إشباع طموحات الجمهور، ومصالحه، والسعي إلى تلبية حاجاته المادية والمعنوية (1)
(1) انظر تفصيلا مفيدا في هذا الجانب عند كل من:
- د. زيدان عبد الباقي: علم النفس في المجلات الإعلامية، (الكويت: وكالة المطبوعات، 1978م) ، ص: 435-436.
- جون بيتنر، الاتصال الجماهيري مدخل، ترجمة عمر الخطيب، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات، 1987م) ، ص:334.
- وانظر الشيخ زين العابدين الركابي، النظرية الإسلامية، الإسلام والعلاقات الإنسانية؛ بحث منشور ضمن أبحاث ووقائع اللقاء الثالث لمنظمة الندوة العالمية للشباب الإسلامي المنعقدة في الرياض عام 1396هـ، ص:371.
- وانظر د. محمد فريد محمود عزت، دراسات في فن التحرير الصحفي في ضوء معالم قرآنية، (جدة: دار الشروق، 1404هـ) ، ص: 190، وما بعدها.
وهذا الأسلوب في الإقناع هو من أهم الأساليب لتحقيق الهدف الرئيسي للعملية الاتصالية في هذه الخطبة التي تعد من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، والتي تهدف إلى تغيير اتجاهات الرأي العام من الجاهلية إلى الإسلام، بالإضافة إلى نقل قيم الإسلام ومبادئه إلى هذا المجتمع ، وإحلال العقائد السليمة والمعلومات الصحيحة مكان التصورات والقيم الجاهلية الفاسدة لبناء الرأي العام الإسلامي في المجتمع المكي على أسس ثابتة. وفي مقدمة هذه القيم هدر دماء الجاهلية وعلاقاتها الاجتماعية والاقتصادية، «ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو موضوع تحت قدمي إلا سدانة البيت وسقاية الحاج» ، ومنها أيضا التأكيد على مبدأ المساواة في الإسلام، والبعد عن النعرات الجاهلية والحمية العصبية، قال صلى الله عليه وسلم «يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظيمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب» وهذه المساواة هي التي تزيل الشحناء والبغضاء، وتورث المحبة وتدفع إلى التعاون والتآزر على الخير، لبناء المجتمع الفاضل.
3 -
الاستشهاد بالمصادر الموثوقة والتمسك بالدليل: أثناء مخاطبة الرأي العام في المجتمع المكي، والدليل قد يكون نصا من الوحي بشقيه، وقد يكون استقراء الأحداث من التاريخ وشواهد الواقع، كما جاء في الخطبة من التذكير بحادثة الفيل، وما هي عن أذهان أهل مكة في ذلك الزمان ببعيدة، وكذلك التذكير بنصر الله للمسلمين يوم الأحزاب، فقد كان ذلك مقدمة لهذا الفتح العظيم، وعنده أكد الرسول صلى الله عليه وسلم على مبدأ المساواة في الإسلام، ودعا إلى نبذ نعرة الحمية الجاهلية، وتلا قول الله تعالى:
والتمسك بالدليل والاعتماد على المصادر الموثوقة يزيد من تأثير الرسالة الإعلامية، فكلما زادت الثقة في المعلومة كلما زادت قابلية تصديق الرسالة لدى الجمهور المتلقي، وزادت فاعلية الإقناع، وحمل الناس عليه ، وهذا ما تؤكده الدراسات العلمية في مجال الاتصال بالجماهير والرأي العام (2) .
4 -
استخدام المصطلحات والألفاظ في التعبير الخطابي: التي تحمل في دلالاتها قوة فطرية طبعية على الاقتناع بالأفكار، وهذه الدلالة واضحة في نص الخطبة الأول والثاني، ولعل هذه الدلالة هي التي دفعت الرجل اليمني الذي قام فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اكتبوا لأبي شاه» ، قال الوليد: فقلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي يا رسول الله؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا فإن استخدام المصطلحات التي تحمل في دلالتها قوة طبيعية على الإقناع ظهر أثرها عند اختتام الرسول صلى الله عليه وسلم لخطبته في قول هذا الرجل: اكتبوا لي يا رسول الله. وهذا الإقناع بالرسالة نقلها إلى بعد آخر، وهو الاتصال على مرحلتين، فهذا الرجل الذي اقتنع بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم أحب أن ينقل هذه الحقائق إلى أهله وقومه، وهكذا يكون الاتصال الفعال مفتاح
(1) سورة الحجر، الآية:13.
(2)
انظر تفصيلا مفيدا في هذا الجانب في كتابنا: الرأي العام في عهد النبوة والخلفاء الأربعة، (رسالة دكتوراه مقدمة لكلية الدعوة والإعلام عام 1407هـ)، ص:602.
- وانظر د. سيد محمد الساداتي، الرأي العام في ضوء الإسلام، ط / 1، (الرياض: عالم الكتب 1410هـ) ، ص:141.
- وانظر د. محمد علي العويني، دور التكنيك في الإعلام الدولي، (القاهرة: عالم الكتب، 1979م) ، ص 24.
لاتصال متتال، أو ما يعرف في الدراسات الإعلامية بالاتصال على مرحلتين.
5 -
الرحمة بالمخاطبين ودفء العاطفة نحوهم والحرص على سلامتهم ونجاتهم وسعادتهم: إن من أهم أساليب الإعلام الإسلامي في الإقناع الرحمة بالمخاطبين ، وفتح آفاق الأمل أمام الناس، والبعد عن التيئيس والتبكيت، ومخاطبة السلوك الإنساني على أساس الفرصة المفتوحة، وفتح حساب الاحتمالات، والبعد عن التيئيس والقرارات الحتمية المطلقة؛ لأن هذه الطرق المسدودة اتجاهات لا يقرها الإعلام الإسلامي، كما أرسى دعائمه الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة؛ لأن ذلك يحجر ما وسعه الله، ويربط الناس في سجن الواقع، ويخيب الآمال، قال صلى الله عليه وسلم «يا معشر قريش: ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم، وابن أخ كريم» هذا التساؤل كان بداية الخير وبداية الرحمة؛ لأن الذي يعزم على العقاب لا يستشير، ولذا استبشر أهل مكة خيرا فقالوا مقولتهم هذه، إن الرحمة بالمخاطبين والتعاطف معهم أسلوب تؤكد الدراسات الإعلامية فاعليته في الإعلام والاتصال الفعال بالجماهير (1) .
(1) انظر مزيدا من التفاصيل عند شيخنا زين العابدين الركابي، النظرية الإسلامية في الإعلام والعلاقات الإنسانية، مرجع سابق، ص:325.
- وانظر د. أنور السباعي، التخطيط الإعلامي السياسي، (دمشق سوريا: لم يذكر الناشر، 1971م) ، ص: 197، وما بعدها.
ثالثا: الدلالات والمعاني الإعلامية في خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك 1 - أسلوب فن التوقيت المناسب لإذاعة الحقيقة: إن الحالة النفسية المهيأة وظروف الزمان والمكان المواتية مناخ إعلامي مناسب لبث الحقائق والمعلومات والأفكار والإقناع بها (1) فلقد سار الرسول صلى الله عليه وسلم مع الجيش وحدثت في الطريق أحداث كونية وإنسانية وخوارق ومعجزات لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وخطب الرسول خطبا كثيرة، لكنه لم يسبق هذا الكم الكثير من الحقائق لتربية الجندي المسلم وإعداده إلا في هذا الوقت وهذا المكان عندما بلغ الجيش هدف سيره وعسكر في تبوك، والثابت في الدراسات الإعلامية أن القائم بالاتصال المتميز ورجل الإعلام الإسلامي النابه الذي يسعى لإقناع الناس، هو الذي يجمع الحقائق، ويختزل المعلومات، ويرصد الوقائع، ثم يدرس اللحظة، وينظمها في سياق التأثير والإقناع، ويعطي المعلومات في الوقت المناسب لا يتقدم ولا يتأخر، وهذا هو إحكام الاتصال، والإحكام من أسمى معاني الحكمة التي هي كما يرى الإمام ابن القيم رحمه الله:(فعل ما ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي)، ثم يقول أيضا:(وهي أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعديه عن حده، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه) ، ثم يعلل ذلك بأن الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها شرعا وقدرا، ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعداها، ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر، ولذا كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاث في الاتصال بالناس، وهذا ما فعله
(1) انظر الشيخ زين العابدين الركابي: النظرية الإسلامية للإعلام والعلاقات الإنسانية، مرجع سابق، ص:322.
- وانظر د. محمد فريد: دراسات في التحرير الصحفي في ضوء الإسلام، مرجع سابق، ص:83.
الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة التي ساق فيها كثيرا من الحقائق ، أعلم بها جيشه في الوقت المناسب، حتى يحقق للمعلومات أكبر قدر من الإقناع والفاعلية في حياة الجند الإسلامي والمجتمع الإسلامي.
2 -
أسلوب تقوية الجبهة الداخلية والإعداد المعنوي المناسب: لقد كشفت غزوة تبوك ظاهرة النفاق التي برزت في عدة جوانب منها:
- التخلف عن الجهاد في غزوة تبوك والاعتذار بالأعذار الواهية التي فندها القرآن الكريم.
- تثبيط الرأي العام ودعوة الناس إلى القعود عن الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة: 81](1) واتهام المنافقين بالرياء، بل ذهبت حركة النفاق إلى أبعد من ذلك كله من الاستهزاء بالله ورسوله والمجاهدين في سبيله الذين قال الله فيهم:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ - لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66](2) بل حاول المنافقون اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة (3) .
كما كشفت هذه الغزوة تفاوت المستويات الإيمانية بين الجند في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه المستويات هي غير حال المنافقين ، الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولكنها قد تتشابه المظاهر أحيانا بين المؤمنين الضعفاء وبين المنافقين، ولذلك جاء معظم هذه الخطبة البليغة منصبا أصلا على تربية جماعة المسلمين، وتقوية الجبهة الداخلية، والإعداد المعنوي للصف
(1) سورة التوبة، آية:49.
(2)
سورة التوبة، الآيتان: 65، 66.
(3)
انظر تفصيل ذلك عند محمد يوسف الصالحي: سبيل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، مرجع سابق، جـ 5، ص:466.
الإسلامي، وتذكير هذا الجمع الكبير بقيم الإسلام، إذ لا ينبغي مواجهة العالم والحضارات المادية المناهضة للإسلام بصفوف مضطربة وأفكار هزيلة مشوشة، ولا بد من وضوح الهدف، وسمو الغاية، واستقامة منهج التفكير ، ولذلك فإن الناظر في هذه الخطبة يراها منصبة على البناء الثقافي، الذي إذا سلم صحت التصورات الفكرية المرتبطة بعقيدة الإيمان بالله الواحد الأحد.
3 -
أسلوب تحويل انتباه الجماهير من المنافع المادية والمكاسب الدنيوية إلى قضايا الأمة الكلية: وشغل الجيش الإسلامي بما ينفعه في دينه ودنياه ويعود على المجتمع الإسلامي كله بالخير العميم، ولذلك فقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحمّل هذه الرسالة الزاخرة بقيم الإسلام وتعاليمه ثلاثين ألفا، أو أربعين، أو سبعين، على خلاف في عدد هذا الجيش، لينقلوا هذه المعلومات للناس، فتوجيه هذا الكم من المعلومات والأحكام والقيم الإسلامية لهذا الجند الإسلامي ليس الهدف منه فقط تربية الجند الإسلامي، بل كان الهدف الاتصالي أبعد من ذلك؛ لأن المضمون الاتصالي تناول قضايا اجتماعية واقتصادية ليست مباشرة في الجهاد، ويعد هذا الأسلوب في الاتصال الإقناعي من الأساليب الفعالة في الاتصال الجماهيري، ويعرف بانسياب المعلومات على خطوتين أفقية ورأسية في وقت واحد، مما يعني ضرورة الاعتماد على القيادات وقادة الرأي العام ودعاة التغيير في المجتمعات لإيصال المعلومات إلى عامة الناس كخطوة ثانية (1) .
4 -
لقد كانت هذه الخطبة ثمرة هذا الاتصال الحضاري: (2) الذي تمثل في
(1) انظر تفصيلا مفيدا في هذا الجانب عند د. سمير محمد حسين، الإعلام والاتصال بالجماهير والرأي العام (القاهرة: عالم الكتب، 1984م) .
(2)
انظر تفصيلا مفيدا عن الاتصال الحضاري في الإسلام مفهومه وأسسه ونطاقه عند شيخنا الدكتور إبراهيم إمام: الإعلام الإسلامي المرحلة الشفهية، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1980م) ، ص: 43، وما بعدها.
غزوة تبوك، التي كان لها أثرها الإعلامي الضخم ، فهي وإن لم يجر فيها قتال وطعان، ولكنها قوة إعلامية هزت قوى الكفرة العالمية هزا عنيفا، جعلت ركائز النصرانية في جزيرة العرب تأتي مسالمة، فقد جاء وفد إليه ليمثل نصارى العرب في الجزيرة، وصادف وصول رسول قيصر إمبراطور الروم إلى تبوك ليعلن نفس الهدنة، وبذلك دانت جزيرة العرب للإسلام (1) ؛ وليس مهمة القوة الإعلامية والجهادية في الإسلام التدمير والقتل وسفك الدماء (2) ؛ إنما هي القوة الرادعة المرهوبة الجانب، التي تمكن لحرية البلاغ حتى يعرض دين الله على الناس، وهي القوة التي تلجم الطغاة الذين يريدون فتنة الناس عن دين الله وكبت حريتهم.
وهذا كله يؤكد لنا أهمية القوة التي ينبغي أن تقوم أولا لحماية النظام الإعلامي الإسلامي، ولحماية رجال الدعوة والإعلام في كل أرض، فالعملية الاتصالية ترتبط بالظرف الاتصالي وما يتأثر به في الجملة.
(1) انظر تفصيلا مفيدا في هذا الجانب عند: منير محمد الغضبان: فقه السيرة، ط / 3، (مكة: جامعة أم القرى معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، 1415هـ) ، ص:597.
(2)
لقد تفرق العدو الذي جمع جموعه لقتال الإسلام قبل وصول جيش الرحمة والعدل الذي لم يكن كجيوش الحربين العالميتين الأولى 1914-1918م، التي قتل فيها ستة ملايين وأربعمائة ألف نفس 6. 400. 000، وفي الثانية قتل ما بين خمسة وثلاثين مليون نفس إلى ستين مليون نفس 35. 000. 000 - 60. 000. 000 كما جاء في دائرة المعارف البريطانية نقلا عن الشيخ أبو الحسن علي الحسيني الندوي، السيرة النبوية، ط7، (دار الشروق، 1986)، ص: 374، ومع ذلك فإن هاتين الحربين لم تقدم للناس مصلحة ولم يستفد منها العالم البشري في قليل ولا كثير، ولا يمكن أن تقارن بالحرب في الإسلام التي كانت لتحطيم الأغلال ونشر الأمن وهداية الناس.