المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الدلالات والمعاني الإعلامية في أول خطبة جمعة للرسول صلى الله عليه] - الجوانب الإعلامية في خطب الرسول صلى الله عليه وسلم

[سعيد بن علي ثابت]

فهرس الكتاب

- ‌[المقدمة]

- ‌[الفصل الأول الدلالات والمعاني والمفاهيم الإعلامية في خطب الرسول صلى الله عليه وسلم]

- ‌[توطئة الفصل الأول]

- ‌[الدلالات والمعاني والمفاهيم الإعلامية في خطبة الصفا]

- ‌[الدلالات والمعاني الإعلامية في أول خطبة جمعة للرسول صلى الله عليه]

- ‌[الدلالات والمعاني الإعلامية في خطب الغزوات]

- ‌[الدلالات والمعاني الإعلامية في خطبة حجة الوداع]

- ‌[الفصل الثاني مقومات منهج الخطاب الإعلامي في خطب الرسول صلى الله]

- ‌[المقوم الأول الثقة بالمصدر]

- ‌[المقوم الثاني العلم]

- ‌[المقوم الثالث التلازم بين الحرية والمسؤولية]

- ‌[المقوم الرابع عالمية الإعلام الإسلامي]

- ‌[المقوم الخامس التلازم بين المعنى الحق والشكل الجميل]

- ‌[الفصل الثالث أصول الإقناع في خطب الرسول صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الأصل الأول المصدر المقنع]

- ‌[الأصل الثاني الهدف من الإقناع]

- ‌[الأصل الثالث الرسالة المقنعة]

- ‌[الأصل الرابع الوسيلة المناسبة]

- ‌[الأصل الخامس مراعاة أحوال المخاطبين]

- ‌[الخاتمة]

- ‌[قائمة المراجع]

الفصل: ‌[الدلالات والمعاني الإعلامية في أول خطبة جمعة للرسول صلى الله عليه]

13 -

أسلوب حسن العرض وفن الصياغة: هذه الدلالة تؤكدها نصوص هذه الخطبة جميعها فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يبتكر جديدا في ألفاظ اللغة العربية، ولكن الأمر أمر حسن الاختيار في تلك الألفاظ والأوضاع أيها أحق بالأخذ لتأدية الغرض، سواء بالنسبة للألفاظ المفردة باعتبارها اللبنات التي تصاغ منها الجمل، أو طريقة تركيب الجمل وصياغة العبارة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخير أشرف المواد وأمسها رحما بالمعنى المراد، ويضع كل لفظ في موضعه الذي هو أحق به.

وأسلوب العرض الجيد لا تخفى أهميته على المنظرين للفلسفة الإعلامية والعاملين في حقل الإعلام، كما أن هناك بعضا من رجال الاتصال والدعاة إلى الله أهملوا قضية أسلوب الصياغة وطرحوه جانبا، وانطلقوا يقدمون ما يحفظون من نصوص للناس، فأخفق الاتصال بالناس، ونفروا الناس بأسلوبهم السيئ، وخالفوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في استخدام بلاغة القول وفن صياغة الرسالة الاتصالية لإقناع الناس بمبادئ الإسلام وقيمه.

[الدلالات والمعاني الإعلامية في أول خطبة جمعة للرسول صلى الله عليه]

وسلم في المدينة المنورة

ص: 26

المبحث الثاني

الدلالات والمعاني الإعلامية في أول خطبة

جمعة للرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة - روايات الخطبة.

- الدلالات والمعاني الإعلامية في هذه الخطبة.

ص: 27

روايات أول خطبة جمعة للرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة لقد كانت الهجرة النبوية فتحا عظيما للدعوة الإسلامية، كما كانت نقلة كبيرة للإعلام النبوي؛ حيث تعد هذه الخطبة قاعدة لإعلام جماعة المسلمين في مجتمع قائم وشريعة مطبقة، ولذا فإن هذه الخطبة هي في الحقيقة نموذج لشكل من أشكال الاتصال في المجتمع الإسلامي، وهو الاتصال الجمعي؛ حيث يخاطب القائم بالاتصال جماعة من المسلمين متجانسة عقيدتها واحدة وإيمانها واحد وقيمها السائدة ومعاييرها وأفكارها متجانسة، ولذلك فإن الطرح الإعلامي سيأتي بلا شك مختلفا عن متطلبات خطبة الصفا التي كانت الخطبة فيها موجهة إلى القوم والعشيرة من أمة الدعوة ، وليس لأهل الرابطة الإيمانية.

روى ابن كثير عن ابن جرير قال حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن، أنه بلغه عن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عون رضي الله عنهم: «الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة، على فترة من الرسل ، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، [وانقطاع من الزمان] ، ودنو من الساعة ، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا، وأوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله. فاحذروا ما حذركم الله من

ص: 28

نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرى، وإنه لتقوى لمن عمل به على وجل وفخامة، وعون وصدق على ما تبتغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذخرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوء يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30] (1) هو الذي صدق قوله وأنجز وعده، لا خلف لذلك فإنه يقول تعالى:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29](2) واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية إنه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5] (3){وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71](4) وأن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة.

خذوا بحظكم، ولا تفرطوا في جنب الله ، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين ، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة ، ولا قوة إلا بالله فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، إنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» (5) .

(1) سورة آل عمران، آية:30.

(2)

سورة ق، آية:29.

(3)

سورة الطلاق، آية 5.

(4)

سورة الأحزاب، آية:71.

(5)

ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد جـ 2 (بيروت: دار المعرفة 1402هـ) ص: 299 وما بعدها، قال ابن كثير رحمه الله: هكذا أوردها ابن جرير وفي السند إرسال. وليس هذا تضعيفا للنص، ولكنه بيان لواقع الحال وتعريف بالسند، والإرسال لا يكون ضعيفا في السند على الإطلاق، بل هو عند من يقبله كغيره من السند المرفوع. وانظر أيضا نص الخطبة عند كل من:

- ابن كثير، البداية والنهاية جـ 3 (بيروت: منشورات مكتبة المعارف، 1404هـ) ص:213.

- محمد بن يوسف الصالحي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، تحقيق عادل أحمد عبد الواحد عوض، جـ 3، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1414هـ) ص:331.

- محمد الصادق إبراهيم عرجون، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، جـ 2 (دمشق: دار القلم 1405هـ) ص: 582.

ص: 29

نص آخر لهذه الخطبة: روى ابن كثير رحمه الله عن البيهقي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما قال: كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن قام فيهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:«أما بعد أيها الناس: فقدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ثم ليقولن له ربه، ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالا وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك؟ فينظر يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم ينظر قدامه فلا يرى غير جهنم فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، والسلام عليكم وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته» (1)

(1) ابن كثير، السيرة النبوية، مرجع سابق، ص:301.

- ابن كثير، البداية والنهاية، مرجع سابق، ص:212.

- انظر الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي، حياة الصحابة، حققه نايف المجداس ومحمد علي دوله، جـ 3 (الرياض: شركة الراجحي للصرافة والتجارة، 1403 هـ) ص:391.

ص: 30

نص ثالث لهذه الخطبة: ثم خطب الرسول صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فقال:«إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم [ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم] فإن من كل ما يخلق الله يختاره الله ويصطفي، فقد سماه خيرته من الأعمال مصطفاه من العباد والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، واتقوه حق تقاته واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم ، وتحابوا بروح الله بينكم، وإن الله يغضب أن ينكث عهده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ، قال ابن كثير رحمه الله تعالى وهذه الطرق مرسلة إلا أنها مقوية لما قبلها، وإن اختلفت الألفاظ (1) .

إن ألفاظ الخطبتين الثانية والثالثة اللتين رواهما البيهقي بسنده عن

(1) ابن كثير، السيرة النبوية، المرجع السابق، جـ 2، ص: 301-302.

- ابن كثير، البداية والنهاية، المرجع السابق، جـ 3، ص:214.

- وقوله صلى الله عليه وسلم: " ولا تملوا كلام الله وذكره فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي " قال السهيلي الهاء في قوله: " فإنه " لا يجوز أن تكون عائدة على كلام الله تعالى ولكنها ضمير الأمر والحديث، فكأنه قال: إن الحديث من كل ما يخلق الله يختار، فالأعمال إذًا كلها من خلق الله، قد اختار منها ما شاء، قال سبحانه: وربك يخلق ما يشاء ويختار نقلا عن محمد بن يوسف الصالحي: سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد، مرجع سبق ذكره، ص:333.

ص: 31

عن شيخه أبي عبد الله الحافظ المعروف بالحاكم صاحب المستدرك.

وهذه الخطب وإن كانت مرسلة فإنها في جملتها على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة المؤمنين لتقوية إيمانهم وتغذيته بتقوى الله تعالى ، ولولا أن الحفاظ الثقات من أمثال ابن كثير والبيهقي أوردوها ما أقدمت على روايتها ونقلها، وقد أخرج ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ أخرى (1) .

، وهذه الروايات يقوي بعضها بعضا. كما أن بعض عبارات هذه الخطب في الأحاديث الصحيحة.

(1) نقلا محمد يوسف الكاندهلوي، حياة الصحابة، المرجع السابق، جـ 3، ص: 392، مثال ذلك:

أ) مقدمة الخطب الثلاثة جاءت في خطبة الحاجة.

ب) في الخطبة قوله صلى الله عليه وسلم: " فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل. . . إلخ "، يؤكد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة أخرجه الإمام مسلم صحيح مسلم، جـ 2، (الرياض: نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، 1400هـ) ص: 704، حديث رقم 1016.

ص: 32

الدلالات الإعلامية

لأول خطبة جمعة للرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة 1 - براعة الاستهلال والبداية المثيرة للانتباه: هذه الدلالة تؤكدها بدايات الخطب الثلاث (1) .

، ويظهر في هذا الاستهلال وبراعة الانطلاق من المسلمات الفكرية والعقدية في الاتصال بجماعة المسلمين وبناء الرأي العام المستنير على أساس عقيدة الإيمان بالله الواحد الأحد، والبداية المثيرة للانتباه ينبغي في إطار الأصل الاتصالي أن تكون قريبة من الصورة الذهنية للجمهور المتلقي، وبسيطة وبعيدة عن التعقيد، وقريبة جدا من الموضوع الذي يرغب القائم بالاتصال طرحه على الناس، والمتتبع لخطب الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك اختلاف البداية المثيرة للانتباه من خطبة إلى أخرى تبعا لموضوع الخطبة وطبيعة الجمهور المستهدف.

2 -

في هذه الخطبة نقلة كبيرة في مستويات التأثير الاتصالي: فمن الخطاب الإعلامي للجماعات الأولية البسيطة المتمثلة في الأفراد والجماعات العشائرية إلى مستوى الأمة ذات الرابطة القائمة على أساس العقيدة والمبادئ الإسلامية الخالدة، بدل النعرات العرقية الجاهلية، هذا بالإضافة إلى اعتبار أن الجمهور الذي كان يتلقى هذا الخطاب الإعلامي

(1) وهذا الاستهلال هو جزء من خطبة الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح بها خطبته أيا كان موضوعها لجماعة المسلمين، انظر نصها كاملا عند الحاكم في كتابه المستدرك على الصحيحين، جـ 2، (بيروت: دار الكتاب العربي، د. ت) ص: 182- 183.

- وانظر أبا داود، سنن أبي داود، ط1، جـ 2، (حمص: نشر وتوزيع محمد علي السيد 1389هـ) ص: 591.

ص: 33

النبوي لم يكن هو المقصود بالمضامين الدعوية فقط، وإنما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعد هذه الجماعة لتولي أعباء قيادة الأمة الإسلامية تلك القيادة الراشدة التي أخرجت الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن تسلط النظم والفلسفات المادية إلى آفاق الحرية الحقة في رحاب الإسلام، والذي يؤكد هذه الدلالة أسلوب مخاطبة الروح الجماعية في الروايات الثلاث لأول خطبة جمعة للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، والإطار المرجعي الذي صيغت رموز الخطبة من خلاله، وهو خلاصة خبرات جماعة المسلمين الأولين في المدينة وتجاربها وما تعلمته من الوحي ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فخاطبها الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال هذه التجارب.

3 -

استثارة الدوافع الإيمانية والإنسانية: فقد جاءت الوصية بالتقوى ومراقبة الله تعالى في السر والعلانية في الروايات الثلاثة للخطبة ففي الرواية الأولى قال صلى الله عليه وسلم: «أوصيكم بتقوى الله فإن خير ما وصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله» .

وفي الرواية الثانية: «من استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة» .

وفي الرواية الثالثة قال صلى الله عليه وسلم: «فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته» ، وجاءت استثارة الدوافع الإنسانية في الدعوة للتكافل في المجتمع الإسلامي والبذل للمحتاجين ، ولا يستهان بالقليل فإنه كثير عند الله، ومن لم يجد فلا أقل من أن يواسي إخوانه في المجتمع الإسلامي بالدعاء والكلمة الطيبة، فالكلمة الطيبة صدقة كما في هذا القول الذي جاء في الرواية الأولى والثانية، بينما في الرواية الثالثة جاءت الدعوة صريحة إلى التحاب في ذات الله تعالى والوفاء بالعهود، قال صلى الله عليه وسلم: «تحابوا بروح الله

ص: 34

بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده» ، ومثل ذلك جاء في الرواية الأولى:«إن تقوى الله تبيض الوجه وترضي الرب وترفع الدرجة» ، وهنا استثار الرسول صلى الله عليه وسلم الدوافع الإيمانية والإنسانية لبناء الرأي العام الإسلامي المتألف والمتعاون على أساس سليم.

4 -

الإحاطة بالظرف الاتصالي جملة ، وتوجيه الرأي العام الإسلامي للمواجهة الفكرية والمفاصلة على أساس العقيدة والمبدأ: فقد جاء في الرواية الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم «فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة» ، وهنا يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم الرأي العام الإسلامي بالمكاشفة بالحقائق كاملة ، فقيام الدولة الإسلامية في المدينة يعني المواجهة لكل نظم الكفر الفاسدة ، والرأي العام الإسلامي الذي يؤسسه الاتصال الفعال على أساس من المصارحة بالحقائق تأتي مواقفه ثابتة، ويكون تأييده لقيادته قويا وثقته بها متينة، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62](1) وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173](2) وأهمية هذه الدلالة لا تخفى على المهتمين بالدراسات الإعلامية فأسلوب عرض الحقائق من أهم الأساليب الفعالة في تغيير الرأي العام (3) .

، والحقيقة هي التي تبقى في النهاية وتحدث آثارا

(1) سورة الأنفال، آية:62.

(2)

سورة آل عمران، آية:173.

(3)

انظر مزيدا من التفاصيل في هذا الجانب عند كل من:

- د. منير حجاب، مبادئ الإعلام الإسلامي، (الإسكندرية: المطبعة العصرية، 1982م) ، ص: 71، وما بعدها.

- انظر د. عبد الحميد حجازي، الرأي العام والإعلام والحرب النفسية، ط1، (القاهرة: دار الرأي العام 1987م) ص: 214.

- د. سيد محمد الساداتي، وظيفة الإخبار في سورة الأنعام. (رسالة دكتوراه، مقدمة لكلية الدعوة والإعلام عام 1405هـ) ص 439.

ص: 35

إيجابية على عكس التضليل والخداع الذي لا بد أن ينكشف ويحدث آثارا عكسية، أما الحقيقة فهي ذات وجه صريح وثابت لا يتغير وإن اختلفت الأساليب التي يلجأ لها باختلاف ظروف الاتصال.

5 -

مراعاة أحوال المخاطبين: يؤكد ذلك أسلوب الدعوة إلى التعاون بعد التأكيد على قضايا الإخلاص لله تعالى وتقواه في السر والعلانية ، وقد جاء هذا الأسلوب في صياغة بارعة تربط التآلف والتكافل الاجتماعي بالإيمان بالله الواحد الأحد والإيمان باليوم الآخر والجزاء والحساب في الدار الآخرة.

وهذا الخطاب لا شك أنه مبني على معرفة تامة بأحوال جماعة المسلمين في مجتمع المدينة الجديدة، وما فيه من المهاجرين الذين يحتاجون إلى المواساة بالمال ولو بالقليل، فإن لم تكن هناك مساعدة مادية فلا أقل من الكلمة الطيبة التي تثمر المحبة والألفة، وتبرز هذه الدلالة أيضا في التذكر بنعم الله تعالى على عباده المؤمنين وفي مقدمتها نعمة الإيلام. وقد ظهر ذلك واضحا في مقاطع من الرواية الأولى للخطبة وفي الرواية الثانية، وخص في الرواية الثالثة بنعمة القرآن الكريم، ثم طلب منهم أن يحسنوا كما أحسن الله إليهم، ولهذا الأسلوب أهمية في شحذ الهمم للتمسك بالحق والثبات عليه (1) .

لأن قوة هذا الاتصال وفاعليته في الإقناع تكمن في الحق الذي يحويه المضمون الاتصالي.

(1) انظر تفصيلا حول أهمية أسلوب التعاون عند د. محمد عبد القادر حاتم، الإعلام في القرآن الكريم، (لندن: مؤسسة هريس 1985م) ، ص:294.

ص: 36

6 -

اختلاف أنماط الاستشهاد باختلاف الإطار المرجعي للجمهور المتلقي: إذا قورنت مصادر الاستشهاد وأنماطه في هذه الخطبة وخطبة الصفا نجد أن مصادر الاستشهاد في هذه الخطبة تختلف، فبينما كانت الاستشهادات في خطبة الصفا تقوم على شواهد الواقع والعقل والمنطق فإن الشواهد في هذه الخطبة تقوم على أساس نصوص الوحي حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستشهد بالآيات كما في رواية الخطبة الأولى؛ وذلك لأن الخطاب الإعلامي كان موجها لجماعة المسلمين الذين يؤمنون بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه من القرآن، فكان الخطاب في كلتا الخطبتين يوجه للجمهور المستهدف من خلال المسلمات الأساسية له المرتبطة بقيمه وإطاره العام.

7 -

العوامل المؤثرة في الرأي العام الإسلامي: لقد تعددت نظريات بناء الرأي العام تبعا للنظم الفلسفية الإعلامية المختلفة، فمن نظرية تقول بالعامل الواحد، وأخرى تقول بالعوامل المتعددة ، وثالثة تقول بأثر البيئة والمحيط. . . إلخ (1) .

، والرسول صلى الله عليه وسلم في هذه يبني الرأي العام الإسلامي على أسس في مقدمتها الإيمان بالله الواحد الأحد، والإخلاص له في السر والعلانية؛ لأن الإيمان أس الحرية الحقة، التي تحقق للإنسان كينونته الحقة، التي أكرمه الله بها، وتخرجه من قيد الشيطان إلى قيد الرحمن، وتجعل قلب الإنسان معلقا بالله، والحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب (2) .

، وهذه الحرية الحقة هي التي كونت الإيرادات الإيمانية،

(1) انظر د. أحمد بدر، الرأي العام (الكويت: وكالة المطبوعات، 1982م) ، ص: 83 وما بعدها.

(2)

انظر مزيدا من التفاصيل عند د. سعيد علي ثابت، الحرية في ضوء الإسلام، (الرياض: عالم الكتب، 1412هـ) ، ص:20.

ص: 37

التي حملت الإسلام للناس في كل مكان. هذا بالإضافة إلى القرآن الكريم الذي شكل عقلية الأمة الإسلامية وصاغها صياغة فريدة، تجعل الإنسان المؤمن يرى بنور الله، فلا تتعدد مواقفه في قضية واحدة ولا تضطرب، وتكون أقرب إلى الحق، وقد ظهر ذلك واضحا في مواقف الصحابة والسلف رضوان الله عليهم أجمعين عندما التزموا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاتصال ، وأحسنوا التعامل مع الناس (1) .

، عندما كانت لهم غايات سامية ، وأهداف محددة، ويظهر في الخطبة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حدد غايات الأمة الإسلامية وأهدافها بوضوح. ففي الرواية الأولى لهذه الخطبة قال صلى الله عليه وسلم:«ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله تعالى يكن له ذخرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت» ، وهذا ما جعل مواقف جماعة المسلمين تتصف بالاتساق، كيف لا؟ وعقيدتها واحدة، وأهدافها واحدة، وغاياتها واحدة، وقيمها السائدة مشتركة، وأفكارها متجانسة (2) .

؛ وما ذلك إلا لأنه تم بناء المسلمين على أسس سليمة وغايات وأهداف واضحة ومحددة.

8 -

الإقناع بالأفكار: تميز الطرح الإعلامي في هذه الخطبة بالانطلاق من مبدأ الإقناع بالأفكار وليس التحكم في الفكر، إما عن طريق الإثارة والتهييج، كما في المدرسة الإعلامية الشيوعية الاشتراكية؛ حيث إن محور الاتصال عندهم هو الإثارة والتهيج (3) .

أو عن طريق التحكم في الفكر عن طريق الإرهاب

(1) انظر أيضا تفصيلا مفيدا في بناء الرأي العام الإسلامي في كتابي: الرأي العام في عهد النبوة والخلفاء الأربعة) ، ص: 181-196.

(2)

انظر تفصيلا مفيدا عند الدكتور إبراهيم إمام في كتابه: أصول الإعلام الإسلامي (القاهرة: دار الفكر العربي، 1985م) ص: 281.

(3)

انظر تفصيلا مفيدا في هذا الجانب عند د. راءوف شلبي، سيكولوجية الرأي والدعوة، (الكويت: دار العلم، 1403هـ) ، ص:328.

- انظر د. أحمد بدر، الإعلام الدولي: دراسات في الاتصال والدعاية الدولية، (الكويت: وكالة المطبوعات، 1982م) ، ص:311.

- انظر هربرت أ. ثيللر. ترجمة عبد السلام رضوان، المتلاعبون بالعقول، (الكويت سلسلة عالم المعرفة، رقم 106، 1986 م) ، ص.

ص: 38

الفكري، الذي يهدف فيه رجل الإعلام إلى إلزام الجمهور المتلقي بالتسليم لقضاياه وأهدافه بالحجة، ويظهر في هذا المدرسة الإعلامية الغربية عن طريق التحكم المنظم في المعلومات (1) .

ولذا تعمل وسائل الإعلام الغربية عمل سحرة فرعون، الذين سحروا أعين الناس واسترهبوهم، قال الله تعالى:{فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116](2) .

والذي يؤكد لنا هذه الدلالة في روايات الخطبة:

1 -

الاستعانة بمنطق الأخوة كما جاء في رواية الخطبة الأولى: هو اجتباكم وسماكم المسلمين.

ب - أسلوب الاستعانة بضرب الأمثال لتقريب المعاني وتجسيدها في أشكال محسوسة، لينتقل بالإنسان من الإلف بالفكرة إلى الاقتناع بها، وذلك واضح في المثل الذي ساقه الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان أهمية الإنفاق في سبيل الله تعالى، فالادخار الحقيقي هو ما يدخره الإنسان لآخرته كما جاء في الرواية الثانية لهذه الخطبة.

جـ- مخاطبة عقل الإنسان والثقة بمقدرته في حمل مسؤولية الاتصال والوفاء بواجب البلاغ المبين وهذه المخاطبة بينة في روايات الخطبة الثلاث،

(1) انظر د. سعيد بن علي ثابت، مفهوم الاتصال في ضوء الإسلام، بحث منشور في مجلة كلية الإعلام بجامعة القاهرة، العدد الرابع 1991م، ص: 98-114.

(2)

سورة الأعراف، آية 116.

ص: 39

والحقيقة أن بحوث الاتصال تؤكد أهمية مخاطبة عقل الإنسان في إطار السياق الذي يتم فيه الاتصال (1) .

على اعتبار أن الجمهور المتلقي عنصر رئيسي وفعال في عملية الاتصال؛ لأن الرسائل التي يستقبلها ليست سوى خبرات محملة بالمعلومات، تصب في الصورة العقلية وتؤثر فيها، فإذا لم يفهم الإنسان ويدرك بعقله تلك الرسائل فإنه لا يحدث التغيير المقصود في الصورة الذهنية، وأما إذا لاحظ العقل الرسالة وبلغته واستوعبها، فإنه يحدث التغيير ويتراوح بين إضافة معلومات جديدة تعزز الصورة الذهنية ومعلومة جديدة تحدث مراجعات فيها أو تغيرها، وبقدر ما تكون المعلومات حقيقية وصادقة بقدر ما يكون التغير إلى الأفضل.

9 -

مخاطبة الجمهور والمتلقي بلغة مفهومة واضحة الدلالة قوية الحجة فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يخاطب جماعة المسلمين بلغتهم، فالمضمون الاتصالي لا يخرج عن خبرات ومعارف جماعة المسلمين الأولى في المدينة المنورة يوم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إليها، ولا تخفى أهمية العناية باللغة والإطار الدلالي؛ لأن التشويش الدلالي يعد عائقا من معوقات الاتصال (2) .

وهذا النوع من التشويش يحدث نتيجة عدم فهم المتلقي للرسالة حتى ولو نقلت بدقة فائقة. والمتتبع لروايات الخطبة الثلاث يجد سهولة اللغة ووضوح دلالتها ، وما ذلك إلا لتيسير التفاهم والتواصل والقرب النفسي بين جماعة المسلمين؛ لتحقيق الإقناع بمضامين خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلوها في المدينة المنورة.

(1) انظر تفصيلا مفيدا في هذا الجانب عند د. حمدي حسن، الاتصال وبحوث التأثير في دراسات الاتصال الجماهيرية (القاهرة: كويك حمادة الجريسي للطباعة، 1993م) ، ص:46.

(2)

انظر تفصيل ذلك عند د. انشراح الشال، دراسات في علم الاجتماع الإعلامي المدخل في علم الاجتماع الإعلامي، (القاهرة، مكتبة نهضة الشرق 1985م، ص: 51) .

ص: 40

10 -

من دلالات هذه الخطبة استخدام أسلوب التكرار للحث على بعض المضامين في خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي مقدمتها الحث على الإخلاص ومراقبة الله تعالى والتقوى، وقد كررت في روايات الخطبة جميعها، وقد أثبتت دراسات الاتصال ودراسات علم النفس الحديثة أهمية التكرار في إقناع الناس بالآراء والأفكار المختلفة، كما أن تكرار الحقائق والمعلومات يعمل على تثبيتها في العقول، وقد جاء هذا الأسلوب في القرآن لتحقيق الإقناع العقلي بغاياته الكبرى وفي مقدمتها عقيدة التوحيد (1) التي يتحدد على أساسها مصير الإنسان في الدنيا والآخرة. وهكذا جاءت أول خطبة جمعة خطبها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بهذا الأسلوب الذي استقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم الذي احتفى به احتفاء عظيما؛ لما له من الأثر النفسي في المتلقي، فهو لا يقنع بالمعاني فقط، بل يثبتها ويقررها ، حتى تصبح عقيدة راسخة. وعلى كل حال فإن هذه الخطبة بما اشتملت عليه من دلالات باهرة في الاتصال والإقناع تعد نموذجا للاتصال الإسلامي الفعال في حياة جماعة المسلمين، تميزت بسداد المنهج، القائم على هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ووضوح الهدف الاتصالي، وغزارة العلم والحكمة، وفاعلية الأساليب الإقناعية ، المرتبطة بالظروف البيئية المتغيرة.

(1) انظر د. محمد عبد القادر حاتم، الإعلام في القرآن الكريم، مرجع سابق، ص:264.

- انظر أيضا د. سيد محمد الساداتي، وظيفة الإخبار في سورة الأنعام، مرجع سابق، ص:416.

انظر د. عبد الحميد حجازي، الرأي العام والإعلام والحرب النفسية، مرجع سابق، ص:212.

ص: 41