الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[محبته للصالحين:]
وأما اعتقاده في الصالحين، ومن يثبت عنده انجذابه منهم، فمعلوم. قد زارَ جماعةً منهم، بل وبرهم، وعادت بركتهم عليه، ورأينا يحضُرُ عنده في مجلس الإملاء ممَّن يُنْسَبُ إلى الخير شخص يقال له الشَّيخ عوض، يأكل مِنْ صنعة الحياكة، فكان يشتري منه غالبًا شيئًا مِنْ صنعته، ويلبس منه قصدًا لحصول البركة، وبرًا منه له، وكان المذكور ظريفًا، طال ما كان يقول له: يا ابني يا أحمد افعل كذا وما أشبه ذلك، ومرَّة غاب المستملي الشَّيخ رضوان، فقال لشيخنا: اتَّخذ لك رضوانين ثلاثة. كل ذلك وشيخُنا يجِلُّه ويتوسَّم البركة فيه، وناداه مرَّةً: يا شيخ عوض، فأبشع في حقِّ مَنْ سمَّاه بذلك، فقال له صاحبُ التَّرجمة: إنما سمَّاك أبوك وأمُّك.
إلى غير ذلك مما يُستدل بدونه على حُسْنِ الاعتقاد والميل لمن (1) لم يخرج عن (2) الكتاب والسنة، بل أنشد المذكور شعرًا بحضرته، فقال لصاحبنا النجم بن فهد: اكتب هذا عن الشَّيخ، فما اتَّفق أنَّه كان معه دواة.
وكان يقول عن الشَّيخ محمد بن صالح المجذوب كان: إنه فقيرٌ ظريف، وبرَّه غير مرَّة.
وزار في سنة ست وثلاثين العلامة العارف باللَّه تعالى الشِّهاب ابن رسلان صاحب التصانيف والأحوال المرضية بالرملة.
وحضر إليه الشَّيخ مدين رحمهما اللَّه بسبب استرضائه على الولوي البلقيني، فرأيت شيخنا أكثرَ مِنَ التَّأدُّب معه.
وكذا سيأتي في أول الباب التاسع (3) ذكرُ شيءٍ مِنْ صنيعه مع الكمال المجذوب.
وجاءه الشَّيخ أبو العباس أحمد ابن الشَّيخ محمَّد الغمري نزيل المحلَّة
(1)"لمن" ساقطة مِنْ (أ، ح).
(2)
في (أ): "مِنْ".
(3)
ص 1185.
وهو صغيرٌ، فقام إليه، واحتضنه قائلًا له: المؤمن محفوظٌ في ولده وولدِ ولدِه، وأجلسَه بجانبه.
وكان يرسل لبعض الفُقراء المعتقدين الكسوة وغيرها، وربَّما قدِمَ عليه بعضُهم ويدفع إليه الشَّيء اليسير مِنْ المأكول كالحمص ونحوه، فيأخذه منه تبركًا، ومرة أرسل لعياله مِنْ ذلك، وممن فعل معه ذلك الشَّيخ مُبارك، بل حكى لي السَّيدُ جلال الدين الجرواني النقيب أنَّ السَّبب كان في اعتقال إياه أنَّه حضر إليه مرَّةً، فلم يلتفت شيخنا إليه، بل أعرض عنه، فخرج وفهم منه شيخُنا التغيُّر. قال: وقدر أنَّه عزل بعد يسير، فأمر السيِّد أن يتلافى خاطر المشار إليه، فلم يزل يتتبَّعه حتى أحضره إليه، فاستدرك شيخُنا ما كان فاته مِنَ الإحسان إليه، واعتذر عَنْ فعلِه السَّابق، حتى رضي ودعا ثم انصرف.
وبالجملة، فكان في ذلك متوسِّط الحال، غير مُفْرِطٍ ولا مُفَرِّطٍ. نعم، كان ينكر على كثير مِنْ مكشوفي العورات المتضمِّخين في النَّجاسات، الناهبين البضائع مِنَ الطُّرقات، المتلذذين بالشَّهوات ممَّن لم يعْلَمْ صلاحه قبل هذه الحالات، ويقول: نصَّ أهل العِرفان مِنْ عُلماء الشأن على أنَّ مَنْ كان قبل طُروءِ مثل هذا على الكتاب والسُّنَّة، فهو واردٌ ربَّاني، وإلا فهو شيطانيُّ. ومَنْ يقدِرْ ينازع في هذا. نسأل اللَّه التوفيق. قال سيد الطائفة أبو القاسم الجنيد فيما رويناه عنه: طريقُنا مضبوطٌ بالكتاب والسُّنَّة، مِنْ لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، ولا يتفقَّه، لا يُقتدى به.
ونقل صاحب "مجمع الأحباب"، وهو الشَّريف الواسطي، عن الموفق ابن قدامة أنَّه سئل عَنْ هؤلاء المعتوهين الذين تمرُّ بهم أوقات الصلوات ولا يُصلُّون، فقال: هؤلاء قومٌ سلبهمُ اللَّه ما سلبَ، ووهب لهم ما وهبَ، فأسقط عنهم ما وجبَ لمَّا سلب.
وكذا كان يجهر بالإنكار على ابن عربي ومَنْ نحا نحوه، ويحكي مقالته الشَّنيعة في تفسير قوله تعالى:{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ (1) أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25]، ومذهبه القبيح في تفضيل الوليِّ على النَّبيِّ إذ يقول:
(1) في الأصول: "خطاياهم"، وهي قراءة أبي عمرو بن العلاء.
مقامُ النُّبُوَّة في برزخٍ
…
فُوَيْقَ الرَّسول ودُون الولي
ويتعجَّب مِنَ الإقدام على مثل هذا، ويُبالغ في الحطِّ على مَنْ يعتقدُه أو ينظر في مقالته، ويمقته بسبب ذلك لفظًا وخطًّا، ويتوقَّفُ في الرواية عَنِ الدَّاعية منهم.
واتفق أنَّه قبل القرن باهلَ شخصًا متجوهًا مِنْ معتقديه، فما تمَّت السَّنَةُ حتَّى هلك ذاك، وكفى اللَّه شرَّه، كما بيَّنَتْ القصَّة في "تصنيفي" المتعلق بابن عربي، بل وفي أوائل هذا الباب أيضًا (1)، أهلك اللَّه تعالى أتباعه ومن يعتقدُ مقالتَه.
وحكى لنا صاحبُ التَّرجمة، وأثبتهُ في "اللسان" (2) مِنْ تصانيفه: أنَّه سأل شيخَ الإسلام السِّراج البُلقيني عن ابن العربي، فبادر الجواب بأنه كافرٌ، وسأله عَنِ ابنِ الفارض، فقال: لا أحب أن أتكلَّم فيه. قال: فقلت: فما الفرقُ بينهما والموضعُ واحدٌ، وأنشدتُه مِنْ التائية، فقطع عليَّ بعد إنشادِ عدَّة أبياتٍ بقوله: هذا كفر هذا كفر! انتهى.
وقد بلغني عَنْ بعض الثِّقات ممن أخذ عن شيخنا أنَّه سمع صاحبَ التَّرجمة يقول: ثلاثةٌ أُلينَ لهم النَّظم كما أُلين لداود الحديد، وهم: الشَّاطبيُّ وابن الوردي وابن الفارض. انتهى.
وسمعتُه مرارًا يقول عن ابن الوردي مما أثبته في ترجمته (3): أقسم باللَّه لم ينظمْ أحدٌ بعده الفقه إلَّا وقصر دونه.
وكذا سمعته يحكي ما رُزِقَهُ الشَّاطبيُّ مِنَ القَبُول في "لاميَّته" بحيث إن أبا حيَّان رام مزاحمته في ذلك، فعمل قصيدة سماها "عقد اللآلي في القراآت السبع العوالي" فصرَّح فيها بالقُرَّاءِ مِنْ غير رمزٍ، والتمس مِنْ ولدِه حفظها، فما أجابَ لذلك، وحفظ "الشَّاطبية".
(1) ص 1001 - 1002.
(2)
4/ 318.
(3)
في الدرر الكامنة 3/ 195.