الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وممن جاء لعيادته الشَّيخ مِدين، وأحضر له كتابًا كان في عاريته، وعُدَّ هذا مِنْ مكاشفاته.
إلى أن كان يوم الثلاثاء رابع عشري ذي الحجة، حضر عنده قاضي المالكية البدر بن التِّنسي مع الجماعة على العادة للسَّلام عليه، فأطال الجلوس معه، واستأنس به، وبعد أن ظهروا، استدعى بالوضوء، وأخذ يتوضَّأ، فما تمكَّن، ومِنْ يومئذٍ اشتدَّ مرضُه جدًا، بحيث صار يصلِّي الفرضَ جالسًا، وترك قيامَ اللَّيلِ، وصُرعَ يوم الأربعاء، ثم تكرَّر ذلك منه، وسُمِعَ منه يوم الجمعة عند الأذان لها إجابةُ المؤذِّنِ.
وكانت وفاتُه ليلة السَّبت ثامن عشري ذي الحجة، بعد العشاء بنحو ساعة رمل، بعد أن جلس حولَه سبطُه ومِنْ جماعته الفخرُ بن جَوْشَن، والشيخُ شمسُ الدِّين السُّباطي، والشهاب الدَّوادار، وقرؤوا عنده سورة يس مرَّة، ثم أعيدت إلى قوله تعالى:{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ، ثم مات.
وتولى السُّنباطي المذكورُ تغميضَه، وأخذ ولدُه يومَ السبت في تجهيزه، فغُسل بحضرةِ الشَّيخ زين الدين البُوتيجي، ويقال: إنه لم يخرج منه كثير شيء.
[جنازته]:
وحصل -وهو على الدكة وكذا في حال المسير بجنازته- غيمٌ، وأرخت السَّماءُ مطرًا خفيفًا جدًا لا يُبلُّ الثياب شبه الغبوق.
وقد أشار إلى ذلك ابن النقاش في مرثيَّته الآتي ذكرُها، وغيره، وعمل ذلك في بيتين الشِّهابُ المنصوري وغيره كما سيأتي (1).
وكُفِّنَ في إزارٍ في وسطه ساترٌ للعورة شُدَّ بحفاظٍ ولفافتين لجميع بدنه وقميص وعمامة، فهذه خمسة. قال لي سبطه: وثوبٌ آخر، فاللَّه أعلم. وجعلوا على تابوته مُرَقَّعَة الخانقاه الصلاحية.
(1) انظر ص 1237 مِنْ هذا الجزء.
وكانت ساعة عظيمة، وأمرًا مهولًا، ووقع النَّوْحُ (1) في سائرِ النَّواحي مِنْ أصناف الخلق، حتَّى مِنْ أهل الذِّمَّة.
واجتمع في جنازته مِنَ الخلق مَنْ لا يحصيهم إلا اللَّه عز وجل، بحيث ما أظن كبير أحد مِنْ سائر النَّاس تخلَّفَ عَنْ شهودها. وقفلت الأسواقُ والدَّكاكين، ويقال: إنَّه حُزِرَ مِنْ مشى في جنازته بنحو خمسين ألف إنسان، وعندي أنَّه لا يتهيأ حصرُهم، ولا يُدْرَك حدُّهم (2).
وقد احتجتُ للوضوء وأنا تُجاه الظَّاهرية القديمة في أوائل الجنازة، فدخلتها وتوضأتُ بعد دخول الطهارة، ثم ظهرتُ، فإذا الناس لم يتكامل اجتيازُهم.
وقد روينا عن أبي عبد الرحمن السُّلمي، قال: حضرتُ جنازة أبي الفتح القوَّاس الزَّاهد مع الدارقطني، فلما نظر الدارقطنيُّ إلى ذلك الجَمْعِ الكثير، أقبل علينا، وقال: سمعتُ أبا سهل بن زياد القطان يقول: سمعتُ عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز. انتهى.
وقد حُزرَ مَنْ شهد جنازة صاحبُ هذه المقالة الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل، فكان عددًا بالغًا، بل قال ابنُ الصَّلاح: إنَّه قرأ بخط البيهقي في رواية ذكرها أنَّه أسلم يوم مات عشرون ألفًا مِنَ اليهود والنَّصارى والمجوس. قال: وهي في كتاب أبي نعيم، يعني "الحلية"، فقال عشرة آلاف، فاللَّه أعلم.
قلت: وتحدَّث الناسُ كثيرًا مِنَ الصُّلحاء وأرباب الأحوال بشهود الخَضِر (3) وغيره جنازته، وسمعت ذلك مِنْ غير واحدٍ منهم.
(1) ومعلوم أن هذا الفعل مما نهينا عنه، بدلالة كثير مِنْ الأحاديث الواردة في ذلك، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه مِنْ فعل الجاهلية.
(2)
في (ب، ط): "عدُّهم".
(3)
هذا مما لا يصح، وقد كان صاحبُ التَّرجمة الحافظ ابن حجر رحمه الله لا يرى حياة الخضر عليه السلام، ويرجح وفاته قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ألف في ذلك كتاب =
وفي ظني أنَّه ما بعد جنازة التقي ابن تيمية أحفل منها، وما رأينا أحدًا مِنَ الشُّيوخ يذكر أنَّه رأى مثلَها، بل ولا ما يقاربُها، حتى بلغني عن الشَّيخ شمس الدين النَّشائي أَنَّه حضَر جنازة البُلقيني ولم تكن كهذه.
وتولى الأُمراء مقدَّموا الألُوف حمل جنازته. وكان جهد الشخص الشَّديد الذي يتمكَّنُ مِنَ الوصول إلى نعشه، أن يمسَّ النَّعشَ برأس إصبعه.
وساروا وعلى مشهده مِنَ الخفر والسُّكونِ والتُّؤدة والمهابة والجلالة ما لا يعبَّر عنه، إلى أن وصلوا إلى سبيل المُومني، وافترق النَّاسُ سماطين، واجتاز نعشه مِنْ بينهما، فكانت هيئةً مهولة. وقال بعضُ طلبته حينئذٍ مواجهًا للسَّفطي: قتلُوه قاتلهم اللَّه، وأمن على دعائه.
وتلقَّى السُّلطانُ جنازنه ليشهد الصَّلاة عليه، ورام قاضي القُضاة علم الدين البُلقيني الصلاة عليه إمامًا، فأخَّره السلطان، وأشار إلى أمير المؤمنين الخليفة العباسي بالتقدُّم، ويقال: إنه قال: هو أمير المؤمنين وأنت أمير المؤمنين، فصلى بالناس عليه. وكذا لما حضر شيخُنا صاحبُ التَّرجمة الصلاة على القاياتي، قدَّم السُّلطانُ أمير المؤمنين.
وتوجهوا بشيخنا إلى المحل الذي عُيِّنَ لدفنه، ومعه أيضًا مِنَ الخلْقِ المشاةُ مَنْ لا يحصيهم إلا اللَّه تعالى، حتى جاوزوا قبة الإمام الشَّافعي رضي الله عنه، وانتهوا إلى تُربة بني الخرُّوبي المقابلة لجامع الدَّيملي والسَّروتين، فدفنوه هناك بمقصورةٍ صدْرَ التُّربة المذكورة مِنْ جهة يسار القبلة في فُسقيَّة فيها غيرُه، وكرهنا له ذلك، وهو فما كان أشدَّ إنكاره رحمه الله ورضي اللَّه عنه- لمثل هذا، واللَّه يعفو عمن أشار بذلك، وزعم أنَّه أوصى به، فإنَّ هذا شيءٌ اختلقه التماسًا لمرضاة ولده وعياله، والذي وُجِدَ في بعض وصاياه السَّابقة الوصيَّة بدفنه بحوش والده، وهو بتلك النواحي أيضًا، لكن اعتُذِرَ عَنْ ذلك بما لا يسوى سماعُه، ولو وُفِّقَ القائمُ بأعباء هذا الأمر
= "الزهر النضر في نبأ الخضر" استقصى أقوال العلماء في هذه المسألة وأدلتهم، ثم قال: والذي تميل إليه النفس مِنْ حيث الأدلة القوية خلاف ما يعتقده العوام مِنْ استمرار حياته.
لرشده، لكان حيث فوَّتَ على الرَّجُلِ مِقصده أشار بمقبرة الصَّلاحية سعيد السُّعداء، ليتمكَّن أتباعُه مِنْ زيارة قبره كلَّ قليل مِنْ غير مزيدِ كُلفةٍ ولا نصب، ولكن الأمر بيد اللَّه تعالى يفعل ما يشاء. وما أحقَّه بقول القائل:
لم أنْسَ يَوْمَ تَهَادَتْ نعشُه أسَفًا
…
أيدي الوَرَى وترامِيها على الكَفَنِ
كزَهرةٍ تَتَهَاداها الأكُفُّ فَلا
…
يُقيمُ في رَاحَةٍ إلَّا على ظَعَنِ
وقد شوهد كذلك؛ كان النَّاسُ يتعلَّقُون ليدركوا النَّعش بأيديهم أو بمناديلهم، ثم يمسحون بها وُجُوهَهم، ويقول القائل:
عَجَبًا لقبر فيه بَحْرٌ زاخِرٌ
…
عَجَبًا لبحرٍ لُفَّ في أكفانِ
وما أحسنَ قول القائل:
انْظُر إلى جَبل يَمْشِي الرِّجالُ به
…
وانْظُر إلى القبر ما يَحْوي مِنَ الصَّلَفِ
وانْظُر إلى صارِم الإسْلامِ مُنْغَمِدًا
…
وانْظُر إلى دُرِّةِ الإسلام في الصَّدَفِ
ولما انتهوا مِنْ دفنه، أخذوا في القراءة عنده بعد الذِّكر والابتهال في الدُّعاء له ساعة طويلة، وأقاموا على قبره أسبوعًا، تختم في كل يوم وليلة عنده ما شاء اللَّه مِنَ الخَتمات. فبطول النَّهار جماعة مِنْ طلبته يختم كلُّ واحدٍ منهُم القرآن غالبًا، ومِنَ العصر يأتي القُرَّاء ويكون ختمهم قُبيل الشمس، فلا يُحصى كم تُلِيَ على قبره مِنَ الختمات. وبلغني أن العلَّامة الجلال المحلي جمع جماعةَ بيتِه وقرؤوا ختمًا، وأهدوا ثوابه في صحيفته.
وقال الوُعَّاظ عند محلِّ دفنه ما عَمِلَ الشُّعراء فيه مِنْ المراثي وغير ذلك، وكثر الإنشاد لمرثيَّةِ الشَّيخ شهاب الدين الحجازي بخصوصها مِنْ الوعاظ والعامة، بحيث لم يشتهر غيرها. وأطعم بتُربته مِنَ المآكل وشبهها شيءٌ كثير.
وعند تمام الشَّهر فُرِّقَ على أكثر الطلبة مِنَ الذَّهب والفضة ما يفوقُ الوصف، ما بين عشرين دينارًا للشخص الواحد -وهم عددٌ يسير يأتي بيانهم- إلى نصفِ دينار.