المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[رثاء البقاعي لابن حجر]: - الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر - جـ ٣

[السخاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[إحسانه للغرباء]

- ‌[برُّه لأهل مكة والمدينة:]

- ‌[برُّه بشيوخه:]

- ‌[ستره:]

- ‌[صبره على الطلبة]

- ‌[عاريته للكتب]

- ‌[اهتمامه بطلبته]

- ‌[استجلاب الخواطر]

- ‌[تواضعه:]

- ‌[انبساطه:]

- ‌[رغبته في العلم:]

- ‌[أدبه مع العلماء:]

- ‌[تهجده:]

- ‌[صومه:]

- ‌[تلاوته للقرآن:]

- ‌[عيادته المرضى:]

- ‌[محبته للصالحين:]

- ‌[اتباعه للسنَّة:]

- ‌[خوفه مِن اللَّه:]

- ‌[جمعه بين العلم والعمل:]

- ‌[برنامجه اليومي:]

- ‌[أوصافه الخِلْقيَّة:]

- ‌الباب الثامنفي سَرْد جماعةٍ ممَّن أخذ عنه دراية أو رواية

- ‌ مرضه

- ‌[مَنْ عاد ابن حجر في مرضه]:

- ‌[جنازته]:

- ‌[المنامات التي رؤيت له]:

- ‌[وصيته]:

- ‌[زوجاته وبنوه وذريته]

- ‌[زوجته أنس خاتون]:

- ‌[ابنته زين خاتون]:

- ‌[ابنته فرحة]:

- ‌[ابنته غالية]:

- ‌[ابنته رابعة]:

- ‌[ابنته فاطمة]:

- ‌[سبط ابن حجر]:

- ‌[سُرِّيَّتُه خاص ترك]:

- ‌[ابنه محمد]:

- ‌[أبناء محمد ابن الحافظ ابن حجر]:

- ‌حوراء

- ‌جويرية

- ‌لطيفة

- ‌حسين

- ‌[علي]:

- ‌[ومن زوجاته]:

- ‌[زوجته ليلى الحلبية]:

- ‌[خدمُه]:

- ‌الباب العاشرفيما علمته من مراثي أُدباء العصر فيه مرتبًا لهم على حروف المعجم

- ‌[رثاء البقاعي لابن حجر]:

- ‌الخاتمة

- ‌[كتب السيرة النبوية]:

- ‌[مناقب الأئمة الأربعة]

- ‌[سيرة الملوك والسلاطين]

- ‌آخر الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر

- ‌فهرس المصادر والمراجع الواردة في الكتاب

الفصل: ‌[رثاء البقاعي لابن حجر]:

[رثاء البقاعي لابن حجر]:

فمنهم برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، فأنشدنى مِنْ لفظه قولَه:

رُزْء ألَمَّ فقلتُ: الدَّهرُ في وَهَجٍ

وأعْقَلُ النَّاسِ مَنْسُوبٌ إلى الهَوَجِ

وللقلوب وجيبٌ في مَرَاكِزِها

يَهُولُ فهو بتَشقيق الصُّدُورِ حَجِي

وللعُيُونِ انهِمَالٌ كالغَمَامِ بُكًا

فكُلُّ فجٍّ به غالٍ مِنَ اللَّجَجي

يا واحِدَ العَصْرِ يا مَنْ لا نَظِيرَ لَهُ

إذْ كُلُّ شَخْصٍ مِنَ الأمْثَالِ في لَجَجِ

يا شَيْخَ الاسْلامِ يَا مَوْلَى لَقَدْ خَضَعَتْ

غُلْبُ الرِّجَالِ لِمَا تُبْدي مِنَ الحُجَجِ

يا بَرَّ حِلْمٍ بُحُورُ العِلْمِ قَدْ تُرِكَتْ

لمَّا سَمِعنَا بَدَاعي نَعْيِكَ السَّمِجِ

أصَمَّ أسماعَنَا لما تلا سَحَرًا:

قَدْ مَاتَ مِنْ تُهزَم الأهْوالُ حِينَ يَجِي

قاضي القُضاةِ المُفَدَّى مِنْ بَني حَجَرٍ

مَنْ خلْقُه لَيْس في شَيْءٍ مِنَ الحَرَجِ

فَلَوْ رضي الدَّهْر مِنَّا فِدْيَةً عَظُمَتْ

إذًا -وحَقِّكَ- جُدْنَا فِيكَ بالمُهَجِ

ولو حُمِيتَ بضَرْبِ السَّيْفِ ما وَجَدَتْ

لَهَا المَنَايَا إِلَيْكَ الدَّهْرَ مِنْ وَلَجِ

في حَقِّ عَهْدِكَ ما زِلنَا ذَوِي شَغَفٍ

بِعَهْدِ وُدٍّ لَكُم بالرُّوح مُمْتَزِجِ

خَفَّتْ سَجَايَاكَ والألْبَابُ قَدْ رَجَحَتْ

بِها نُهاك عن الإحْصَاءِ بالسَّبَجِ (1)

ألفتَ يَا حُلْوُ مُرَّ الصَّبْرِ تَرْشُفُهُ

فأنْتَ للصَّبْرِ صَبٌّ بالغَرامِ شَجِ

مَنْ لِلْقِيَامِ بِجُنْحِ اللَّيْلِ مُجْتَهِدًا

يَبِيتُ تَرفَعه آياتُ ذِي الدَّرَج

تُعْلي النَّحِيبَ خُضُوعًا والأسَى قَلَقًا

كأنَّه في الدَّيَاجِي بالحرَابِ وُجِي (2)

قَدْ كَانَ مِصْرُكَ لَيْلًا كالنَّهارِ بِه

شِهَابُ فَضْلِكَ يُغْنِيه عَنِ السُّرُج

والْيَوْمَ بَعْدَكَ مِثْلُ اللَّيْلِ فِي سَدَفٍ

(3) يَا لَهْفَ قَلْبي فَمَا صُبْحٌ بمُنْبَلِجِ

(1) السبج: كساء أسود.

(2)

وجي، مِنْ "وجأ"، أي: ضرب وطعن بالحراب.

(3)

السدف: الظُّلمة.

ص: 1232

لكانَ فَقدُكَ فَقْدَ النَّاسِ كُلِّهِمِ

وفَقْدُ غَيرِكَ قد يُلْفَى منَ الفَرَجِ

مَنْ للأحاديثِ يُحْييها ويَحْفَظُهَا

فَوَقْتُهُ لَيْسَ دَجَّالٌ إلَيْهِ يَجِي

قَدْ كُنْتَ للسُّنَّةِ الغَرَّا شِهَابَ عُلا

حَمَيْتَ آفَاقَها عَنْ مَاردٍ عَلِجِ

مَنْ كَانَ في عِلْمِهِ في الشَّكِّ (1) مُرْتَبِكًا

فأنْتَ في عِلمِكَ الأشيَا عَلَى تلَجِ

وأنْتَ أذْكَى الوَرَى قَلْبًا ورائحة (2)

كأنَّما كُنتَ مِسْكًا طَيِّبَ الأرَجِ

لَهْفِي عَلَيْكَ شِهابَ الدِّينِ مِنْ رَجُلٍ

لمَّا تَرَحَّلْتَ صَارَ النَّاسُ في مَرَجِ

قَدْ كُنْتَ حَافِظَهُمْ في كلِّ مُعْضِلَةٍ

فَبَعدَكَ اليومَ لا تَسْأَلْ عَنِ الهَمَجِ

كانوا إذا آذاهُمُ مَعْنًى وأخْرَسَهُمْ

فَتَحْتَ كُلَّ عَمِىٍّ مِنهُ مُرْتَتَجِ

لمَّا رَكِبْتَ عَلَى الحَدْبَاءِ مَا أحَدٌ

إلَّا انْحَنَى مِنْهُ ظَهْرٌ غَيْرُ ذِي عِوَجِ

رُوحي فِدَى ليالٍ قَدْ ظَفِرْتُ بِهَا

لَدَيْكَ يَا حَبْرُ بالآمَالِ بَلْ حُجَجِ

أرَوِّقُ سَمْعي بِدُرِّ النُّطْقِ مِنْكَ وَمَا

طَرْفي بِمُمْتَنِع مِنْ وَجْهِكَ البَهجِ

كأنها (3) لَمْ تَكُنْ يَومًا فَيَا أَسَفِي

ما كُنْت مِنْ بعْدِ ما مَرَّتْ بِمُبْتَهِجِ

كلا لَعَمْرِي وإنِّي فالِقٌ كَبِدِي

حُزْني عَلَيْكَ وَقَلْبِي جِدُّ مُلْتَعِجي

ولا أحِبُّ ديَارًا قَدْ قُبِضْتَ بِهَا

فَنَحْوَها بَعْدَ بُعْدٍ مِنكَ لَم أَعُجِ

نَعم، وأَبْغَضتُ- واللَّه- الحياةَ بِلا

وجودِ أُنسِكَ، فَاعلَم ذاكَ وابتَهِجِ

لهفِي عَلَى مَجلِسِ الإملا وحَاضِرِهِ

مِنْ كُلِّ حَبْرٍ لسُبْلِ الخَيْرِ مُنْتَهِجِ

كَمْ فيه مِنْ رأسِ راسٍ هزَّ مِنْ عَجَبٍ

والجَمْعُ مِنْ شِدَّةِ الإصْغَاءِ لَمْ يَمُجِ

كأنَّنَا لَمْ نَكُنْ يَوْمًا لَدَيْكَ وَلا

بِقَوْلِكَ العَذْبِ مِنَّا قَطُّ سرّ نَجِي

فَيَا دَوَامَ افتِكَارِي للسُّرُورِ بِكُمْ

ويَا بُكَائي طَوَالَ الدَّهْرِ والأبَجِ (4)

(1) في (أ): "للشك".

(2)

في (أ): "راحته"، تحريف.

(3)

في (أ): "كأنه".

(4)

الأبج: الأبد.

ص: 1233

لأمْلأَن بَسِيطَ الأرْضِ مِنْ أَدَبٍ

رَكِبْتُ فيكَ مَعانِيهِ مِنَ الهَزَجِ

جَمَعْتُ قلبًا بِحُبٍّ فيكَ مُمْتَلئًا

إلى لِسَانٍ بأنْواعٍ الرِّثَا لَهِجِ

عَلَيْكَ منِّي تَحِيَّاتٌ أُرَدِّدُها

ما هيَّجَ الوُرْقُ قَلبًا فيك ذَا وَهَجِ

وجَادَ عَهْدَكَ مِنْ صَوْبِ الرِّضَا مُزْنٌ

يا بَحرُ يُحْيِي بِقَاعَ الأرْضِ بالخُلُجِ

ومنهم العلَّامة الشِّهاب أحمد بن أبي السُّعود المنُوفي، فأنشدني مِنْ لفظه أبياتًا مِنْ قصيدةٍ يرثي بها صاحبَ التَّرجمة في وزن التي قبلها وقافيتها، حيث سُمِعَ مِنْ ناظمها تبجُّحُه بها، والقصيدة هي هذه. . . (1).

ومنهم العلَّامة الشِّهاب أبو الطَّيِّب أحمد بن محمد الحجازي، فأنشدني مِنْ لفظه لنفسه قولَه:

كلُّ البَريَّةِ للمَنِيَّةِ صائرَه

وقُفُولُها شَيْئًا فَشَيْئًا سَائِرَهْ

والنَّفْسُ إنْ رَضِيَتْ بِذَا رَبِحَتْ وإنْ

لَمْ تَرْضَ كَانَتْ عِنْدَ ذَلِكَ خَاسِرَهْ

وأنَا الَّذي راضٍ بأحْكَامٍ مَضَتْ

عَنْ ربِّنَا البَرِّ المُهَيْمِنِ صَادِرَهْ

لَكِنْ سَئِمْتُ العَيْشَ مِنْ بَعْدِ الَّذي

قَدْ خَلَّفَ الأَفْكَارَ مِنَّا حَائِرَهْ

هو شَيْخُ الإسْلامِ المعَظمُ قَدْرُهُ

مَنْ كَانَ أَوحَدَ عَصْرِهِ والنَّادرَهْ

قاضي القضَاةِ العسقَلاني الذِي

لم ترفَعِ الدنيَا خَصِيما ناظَرَهْ

وشهابُ دينِ اللَّه ذي الفَضْلِ الَّذي

أرْبَى على عَدَدِ النُّجومِ مُكاثَرَهْ

لا تَعْجَبوا لِعلُوهِ فأبُوهُ مِنْ

قَبْلٌ عَليٌّ في الدُّنَيا والآخرهْ

هو كيمياء العِلْمِ كَمْ مِنْ طالِبٍ

بالكَسْرِ جَاءَ لَه فأضْحَى جابِرَهْ

لا بِدْعَ أنْ عَادَت عُلُوم الكيمياء مِنْ

بَعْدِ ذَا الحَجَر المُكَرَّمِ بائِرَهْ

لَهْفِي عَلَى مَنْ أَوْرَثَتْنِي حَسْرَةً

رُوسُ الرُّؤوسِ عليه إذ هي حَاسِرَهْ

(1) بياض في الأصول جميعها، ولم تذكر القصيدة. وقد أشار إليها المصنف في ترجمة ناظمها مِنْ الضوء اللامع 1/ 234، فقال. عمل مرئية لشيخنا. . وأودعتها في الجواهر!.

ص: 1234

لَهْفِي على المِدَحِ استَحَالَت للرِّثَا

وقُصُورُ أَبيَاتي غَدَتْ مُتَقَاصِرهْ

لَهْفِي عَلَيهِ عالِمٌ بِوفَاتِهِ

درَسَتْ درُوسٌ للمَدَارِسِ داثرهْ

لَهْفِي على الإمْلاءِ عُطِّلَ بَعْدَهُ

وَمَعَاهِدُ الإسمَاعِ إذ هِي شَاعِرهْ

لَهْفِي عَلَيْهِ حافِظُ العَصْرِ الَّذي

قد كَانَ مَعْدُودًا لِكُل مُنَاظَرَهْ

لَهْفِي على الفِقْهِ المُهَذَّبِ والمُحَرَّ

رِ حاوي المَقْصُودِ عِندَ مُحَاوِرَهْ

لَهْفِي على النَّحوِ الذي "تَسْهيلُه"

"مغْنِي اللَّبيب""مُسَاعِدٌ" لمُذَاكِرهْ

لَهْفِي عَلى اللُّغَةِ الغَريبَةِ كَمْ

أرانا مُعْرِبًا بِصحَاحِهَا المُتَظَاهِرهْ

لَهْفِي على عِلْمِ العرُوضِ تَقَطَّعَت

أسبابُه بِفَوَاصِل مُتَغَايِرَهْ

لَهْفِي عليه خِزَانَةُ العِلْمِ الَّتي

كانَتْ بها كُل الأفَاضِل ماهِرَهْ

لَهْفِي على شَيْخي الَّذي سَعِدَتْ به

صَحْبٌ وأوجُهُ ناظِرِيهِ ناظِرَهْ

لَهْفِي على التَّقْصير منِّي حَيثُ لَمْ

أُمْلِي النَّواحي بالنُّواحِ مُبَادرَهْ

لَهْفِي على عُذْرِي على (1) اسْتِيفَاءِ ما

نَحْوي وَعَجْزِي أَنْ أَعُدَّ مآثِرَهْ

لَهْفِي على لَهْفِي وهل ذَا مُسْعِدي

أو كان يَنْفَعُني شَدِيدُ محَاذَرَهْ

لَهْفِي على مَنْ كُلُّ عام للهَنَا

تأتي الوُفُودُ إلى حِبَاه مُبَادرَهْ

والآنَ في ذَا العام جاؤوا للعَزا

فيه وعادُوا بالدُّمُوعِ الهَامِرَهْ

قَدْ خلَّفَ الدُّنْيَا خَرابًا بَعْدَهُ

لكِنَّما الأُخْرَى لَدَيْه عامِرَهْ

وَبِمَوتِه شعر الفؤاد وأعلم الـ

ـعين انثنَتْ في حالتَيها شاعرهْ

وَليَ المَحَاجِرُ طَابَقَتْ إذْ للرّثَا

أنَا نَاظِمٌ وَهْيَ المَدَامِعُ نَاثِرَهْ

فَكَأنَّه في قَبْرِهِ سرًا غَدَا

في الصدر والأفهامُ عنه قَاصِرَهْ

وكأنَّه في اللَّحْدِ مِنْهُ ذَخِيرَةٌ

أعْظِمْ بِهَا دُرَرُ العُلُومِ الفَاخِرَهْ

وكأنَّه في رمْسِهِ سيفًا ثَوَى

في الغِمْدِ مَخْبوءًا لِيَوْمِ الثائِرَهْ

(1) في (ب، ط): "عن".

ص: 1235

وكأنَّه كُشِفَ الغِطاءُ له بأَنْ

قَرُبَتْ مَنِيته أفاض مَحَاجِرهْ

وغدا بأبيات (1) الرِّثَا مُتَمَثِّلًا

وَحَبَا بِهَا بَعْضَ الصِّحَابِ وسَارَرَهْ

ونَعَى بها مِنْ قبلِ ذلك نَفْسَهُ

أكرِم بِهَا يَا صَاحِ نَفسًا طَاهِرَهْ

ولِصَاحِبِ "الكشَّاف" يُعْزَى نَظْمُها

والعَدُّ مِنْها أرْبعٌ مُتَفَاخِرَهْ

وأنا الَّذي ضَمَّنْتُها مَرْثِيَّتِي

جَهْرًا وأوَّلها بِغَيْرِ منَاكَرهْ

"قَرُبَ الرَّحِيلُ إلى ديَارِ الآخِرَهْ

فاجْعَلْ إلهِي خَيْرَ عُمْرِي آخِرهْ"

"وارْحَمْ مَبِيتي في القُبُورِ وَوَحْدَتي

وارْحَمْ عِظَامِي حِينَ تَبقَى نَاخِرهْ"

"فأنَا المُسَيْكينُ الَّذي أيَّامُهُ

ولَّتْ بأَوْزَارٍ غَدَتْ مُتَواتِرهْ"

"فَلأنْ رَحِمْتَ فَأَنْتَ أَكْرَمُ راحِمٍ

فَبِجَارُ جُودكَ يا إلهِي زَاخِرهْ"

هذا لَعَمْرِي آخِرُ الأبْيَاتِ إذ

هِيَ أرْبَعُ كَمُلَتْ تَرَاهَا بَاهِرَهْ

وأنَا أعُوذ إلى رِثَائِي عَوْدَةً

تَجْلُو لِسَامِعِها بِغَيْرِ مُنَافَرهْ

قَهَرتْنِي الأيَّامُ فيه فَلَيْتَنِي

في مِصْرَ مِتُّ ولا رَأَيْتُ (2) القَاهِرَهْ

هَجَرَتْنِيَ الأحْلامُ بَعْدَكَ سَيِّدي

واحَرَّ قَلبٍ قَدْ رَمِي بالهَاجِرهْ

مَنْ شَاءَ بَعْدَكَ فَليَمُتْ، أنْتَ الَّذي

كانَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ قِدِمًا حَاذِرَه

وسَهِرْتُ مُذْ صَرَخَ النَّعِيُّ بِزَجْرِهِ

فإذا هُمُ مِنْ مُقْلَتِي بالسَّاهِرَهْ

ورُزِئتُ فيه فَلَيْتَ أنِّيَ لَمْ أكُنْ

أوْ لَيْتَ أنِّي قَدْ سَكَنْت مَقَابِرَهْ

رُزءٌ جميعُ النَّاسِ فيه واحِدٌ

طُوبَى لِنَفْسٍ عِنْدَ ذَلك صابِرَهْ

يا نوْمُ عَنِّي لا تُلِمَّ بمُقْلَتِي

فالنَّوْم لا يَأوِي لِعَيْنٍ سَاهِرَهْ

يا دَمْعُ واسْقِ تُرْبَه ولَوَ انَّها

بِعُلُومهِ حَوَتِ البِحَارَ الزَّاخِرَهْ

يا صَبْريَ ارْحَل لَيْسَ قَلبي فارِغًا

سَكنَتْهُ أحْزَانٌ غَدَتْ مُتَكَاثِرَهْ

(1) في (أ): "بأمثال".

(2)

في (ب): "وما رأيت".

ص: 1236

يا نارَ شَوْقي بالفِرَاقِ تأجَّجِي

يا أدْمُعِي بالمُزْنِ كُوني سَاجِرهْ (1)

يا قَبرُ طِبْ قَدْ صِرْتَ بَيْتَ العِلْمِ أَو

عَيْنًا بهِ إنْسَان قُطْبِ الدَّائِرَهْ

يا موتُ إنَّك قَد نَزَلتَ بذي النَّدى

ومذِ استضفت حَبَاكَ نَفْسًا خاطِرَهْ (2)

يا ربِّ فارْحَمهُ وَسَقِّ ضَرِيحَهُ

بَسَحَائِبٍ مِنْ فَيضِ فَضْلِكِ غَامِرهْ (3)

يا نَفْسُ صَبرًا فالتَّأسِّي لائقٌ

بِوَفَاة أعْظَمِ شافعٍ في الآخِرَهْ

المصطفى زَيْنِ النَّبِييِّن الَّذي

حاز العُلا والمُعْجِزَاتِ البَاهِرهْ

صلى عليه اللَّه ما صَالَ الرَّدَى

فينَا وَجرَّدَ للبَرِيَّة باتِرَهْ

وعلى عَشِيرَتِهِ الكِرَامِ وآلهِ

وعلى صَحَابتِهِ النُّجُومِ الزَّاهِرَهْ

ومنهُم الشِّهاب أحمد بن محمد بن علي المنصُوري، صاحبُ القصيدة الماضي ذكرُها في المدائح (4)، فقال يومَ وفاةِ صاحبِ التَّرجمة:

قَدْ بَكَتِ السُّحْبُ على

قاضي القُضَاةِ بالْمَطَرْ

وانْهَدَمَ الرُّكْنُ الَّذي

كانَ مشيدًا مِنْ حَجَرْ

ومنهم العلَّامة الفاضل أبو هريرة عبد الرحمن بن علي بن أحمد بن عثمان ابن النَّقاش الأصم، فقال فيما أنشدنيه لفظًا (5):

قِفَا نَبْكِ بالقاموس الغامضِ الزَّخِر

والمُرسَلاتِ بمَاءِ الغَيْثِ والمَطَرِ

مُذكرًا لك بالأذْكَارِ ذَا أسَفٍ

على المَعَاهِدِ والرَّوْضَاتِ والأثَرِ

على ديَارٍ إذا صَحَّ الحَدِيثُ وَلي

في الحُسْنِ مُعْتَقَدٌ والضَّعْف للِغِيَرِ

على رِباعٍ خَلا دَرْسُ الحَديثِ بهَا

والرَّبْعُ عافٍ ومُحْتَاجٌ إلى الحَجَرِ

(1) قال في "القاموس": الساجر: الموضع الذي يأتي عليه السيل فيملؤه.

(2)

في (ط): "حائره".

(3)

في (أ): "غابره".

(4)

1/ 431.

(5)

في (ط): "أيضًا".

ص: 1237

وقُلْ لِذي عَذَلٍ في عَبرةٍ سمَحَتْ:

"دَعْهَا سَمَاوِيَّةً تَجرِي على قَدَرِ"

وقُلْ لعيني الَّتي بالدَّمع قد نَزَحَتْ

يا عَيْنُ جُودي ولا تُبْقي ولا تَذَرِي

وابْكِي بِمَوْجٍ ومَا المِقيَاس يحصرهُ

قاضي القُضَاةِ أميرَ النَّاسِ في الأثَرِ

قاضي القضاة أمير (1) المؤمنين سُمِي

بِأَحْمَدَ بنِ عَلِي ذِي الرُّحْلَةِ الحَجَرِ

أكْرِمْ بِهَا مِدْحَةً مما حازَهَا أحَدٌ

في عَصرِنَا غَيْرُ نزرٍ قَلَّ في العُصُرِ

دَعِ الكِتَابَةَ واحْفَظَهَا وَسُقْ سَنَدًا

وخَلِّ عَنْكَ سوادَ الطِّرْسِ بالحِبِرِ

يا مَوْتُ ذَكرتَنِي مَوْتَ النَّبِيِّ بِهِ

الهَاشِميِّ المصطَفى المبعوثِ مِنْ مُضَرِ

ذكَّرتَنِي العُمَرَينِ الصَّاحِبَيْنِ أبَا

بكرٍ الصِّدِّيق وبالفاروق (2) مِنْ عمَرِ

يا خَنْسُ (3) ها أدْمُعي مع دَمْعك (4) ائْتَلَفَا

ثمَّ اختَلَفْنا بُكًا في الصَّخْرِ والحَجَرِ

يا خَنْسُ لو نَظَرَت عَينَاكِ لَمَّتَهُ

وما حَوَتْ مِنْ فَخار العِلْمِ والخَفَر (5)

يا خَنْسُ لو سَمِعَت أذْنَاكِ مَنْطِقَه

مِنْ ثغر مَبْسَمِهِ المَنْظُومِ بِالدُّررِ

يا خَنْسُ إنَّني عن عينٍ له نَظَرَتْ

لَيْسَ العَيَانُ -كما قد قيل- كالخَبَرِ

يا خَنْسُ قَدْ قُلْتِ في صخرٍ مراثيهَ

فَحوَّلَ الحزن بالإسناد للحجرِ

مُصِيبَةٌ عمَّتِ الدُّنيا بأجْمَعِها

رَمَى بِهَا زُحَلٌ بالقَوْسِ والوَتَرِ

بالبَحْرِ والنَّهرِ والبَحْرَيْنِ إذْ جمِعَا

أبْكيه مِنْ عَبْرَةٍ تَجْرِي بلا ضَجَرِ

إن ذكَّرَتنِي بِوَقْتٍ صَخْرِهَا غَسَقًا

أو ذَكَّرَتني بِوَقْتِ الصَّيْفِ في السَّحَرِ

فكُلَّ أوقَاتِيَ الغرَّاء مَسْبِلَةٌ

جاهًا وعِلْمًا وما يُزْدي مِنْ البِدَرِ

شبَّهتُه جَالِسًا في الدَّرْسِ في فِئَةٍ

همُ النُّجُومُ وَوَجْهُ الشَّيْخِ بالقَمَرِ

(1) في (ط): "أمين".

(2)

في (أ): "والفاروق".

(3)

يشير إلى الخنساء، صاحبة المراثي الكثيرة في رثاء أخيها صخر.

(4)

في (ب): "بدمعك".

(5)

هذا البيت لم يرد في (ب).

ص: 1238

وهُمْ طِبَاق وهُمْ يهدى السَّبيلُ بِهِمْ

مِنْ حَوْلِه أنْجُمٌ كالأنْجُمِ الزُّهُرِ

هُمُ الرِّجَالُ ولكن شَيْخهُمُ رَجُلٌ

رِجَالُهُ سَنَدٌ في مُسْنَدِ الخَبَرِ

سادَ الرِّجَالَ وكَمْ قَدْ سَادَ مِنْ رَجُلٍ

يَسُوقه بَعْدَ تَحْوِيلٍ مِنَ السَّطرِ

يُمْلِي الحَدِيثَ بِبَيْبَرسٍ حَوَى سَنَدًا

عالٍ إلى سَيِّدِ الكَوْنَينِ والبَشَرِ

تاللَّه لَوْ سَمِعَتْ حُذَّاقُ شِرْعَتِنَا

سَوْقَ الأسانِيدِ في إمْلائِهِ الجَهرِ

ولَوْ رَأوْا يده في فَرْعِ رَوْضَتِهِ

أو فسّرتْ آيةً في مُحْكَمِ السُّوْرِ

أو ما يُوَصِّلُة في الدين مُعْتَقدًا

أو رَتَّبَت سَنَدًا مِنْ "نُخبة الفكرِ"

أو أظْهَرَتْ حِكْمَةً للشَّافِعِى خَفَتْ

يَستخرِجُ الكُلَّ مِنْ خُرْمٍ مِنَ الإبَرِ

أثْنَوْا عليه ومَنْ أضْحَى يُخَالِفُه

بمنزلٍ دَحْضٍ كَقَشْعَمِ (1) الحجرِ

أَبْكِي عليه وَقَدْ شَالوا جنَازَتَه

ونَقَّطَت مُزْنَةٌ مِنْ نَسْمَةِ السَّحَرِ

أنْقَى مِنَ الثَّلْجِ إشْراقًا وريحَتُها

أذكَى مِنَ المِسْكِ والنّدِ الذَّكِي العَطِرِ

وبُشِّرَتْ بِرِضَا الرَّحْمنِ خَالِقِهِ

والحورُ قَدْ زُيِّنَتْ بالحُلي في السُّرَرِ

وعَدْتُه قاتلًا للقلب فيه عسى

وهل (2) يُفيدُ "عسى" مَعَ سابِقِ القَدَرِ

يا قلبُ قَدْ كُنْتَ تَخْشَى الموت ذا حَذَرٍ

ولَيْسَ ذو حَذَرٍ يُنْجِي مِنَ القَدَرِ

وأنت للعالمِ النَّقّاش منتسِبٌ

وكم مَعَانٍ خَفَتْ تأتيك في الصُّوَرِ

خِفْتَ المَنُونَ وما قَدْ كُنْتَ تحسَبُهُ

قَدْ جاءَ مُتتَقِشًا كالنَّقْشِ في الحَجَرِ

إنْ غابَ شَخْصُكُ يا مَوْلَايَ عَنْ نظري

وغَيَّبُوا وَجْهَكَ المَحْبُوبَ في القَبرِ

ففي أساريرك الحسناء مُشْرِقَة

سِبْطٌ مِنَ الحَسَنَيْن: الخُلْقِ والبِشرِ

يا مَنْ مَرَاحِمُه لِلخَلْقِ وَاسِعَةٌ

عَمَّت نَجِيًّا ومَنْ في دينِه الخَطَرِ

اجْعَلْ على مَتْنِ هذا القَبْرِ سابِغَةً

مِنْ لُؤلُؤٍ رَطْبٍ عَذْبٍ ذَكٍ عَطِرِ

(1) القشعم: الضخم.

(2)

في (أ): "وقد".

ص: 1239

والسَّامِعينَ ومَنْ يُعْزَى لِمَذهَبِهِمْ

يحدو على سُنَّةِ الهادي النَّبِي المُضَرِ

وقُلْ لِمَنْ سَمِعَ الأبْيَاتَ يَسْتُرُهَا

فاللَّهُ يَسْتُرُهُ في الوِرْدِ والصَّدَرِ

قَدَّمْتُها سِلْعَةً مُزجًا وناظِمُها

يَعُدُّها -خَجَلًا- مِنْ أعظَمِ الكِبَرِ

وأْذَنْ بِسُحْبِ صَلَاةٍ مِنْكَ ثمَّ رِضًا

على نبيِّ الهُدَى والبِشْرِ والبَشَرِ

وآلِهِ وجَمِيعِ الصَّحْبِ قاطِبَةً

بهم هُدِي أُمَمٌ في البَدْو والحَضَرِ (1)

ما غرَّدَتْ وُرْقُهُ في الأيْكِ آمِرَةً

بِزَوْرَةِ المُصْطَفَى والبَيتِ والحَجَرِ

ومنهم الفاضل التَّقي أبو الفضل عبد الرحيم ابن الشَّيخ محب الدين محمد بن محمد بن أحمد ابن الأوجاقي الشَّافعي، أحد مَنْ أخذ عنه، فأنشدني لنفسه لفظًا:

مَوْتُ الإِمَامِ شِهَاب الدِّين قَدْ جَزعَت

لَهُ العُلُومُ ومَا يُرْوَى مِنَ الأثَرِ

وقَالَ رَبْعُ عُلُومِ الشَّرْعِ مُكتَئِبًا

بِهِ دَرَسْت فما بلغوى (2) مِنْ أثَرِ

ومنهم الزين عبد الغني بن محمد بن عمر الأشْلِيمي نم الأزهري، فأنشدني لنفسه لفظًا:

إنَّ الحياةَ ذميمةٌ مِنْ بَعْدِ مَا

قُبِضَ الإمَامُ العَسْقَلاني الشَّافِعي

يا نَفْسُ طِيبي بالمَمَاتِ وحافِظي

أنْ تَلْحَقي هذا الإِمَامَ وتَابِعي

ومنهم الزَّين عبد اللطيف الطَّويلي الماضي في المادحين (3). . . (4).

ومنهم الشَّمس محمد بن علي بن أبي بكر العسقلاني ثم المحلِّي، نزيل القاهرة، عرف بابن دبُّوس، فأنشدني من لفظه لنفسه:

(1) هذا البيت لم يرد في (ط).

(2)

هنا الكلمة غير واضحة وكذا وردت في هامش (ب) بخط المصنِّف، وبيض لها في (ط).

(3)

1/ 472.

(4)

بياض في الأصول، ولم تذكر المرثية.

ص: 1240

بَكَتْ سَمَاءٌ وأرْضٌ

عَلَيْكَ يَا عَسْقلَانِي

لكِنَّنا نَتَسَلَّى

إذْ ما سِوَى اللَّه فاني

ومنهُم (1) الشمس محمد بن علي بن محمد البَهْرَمْسي، صهر الغمري، فأنشدني لفظًا قوله مقتفيًا للشَّيخ شهاب الدين الحجازي:

الجَفْنُ قَدْ حَاكى السَّحَابَ ونَاظَرَهْ

فاعْذُرْ إذا فَقَدَ المُتيَّمُ نَاظِرَهْ

لَوْ أَنَّ عاذِلَهُ رأى ما قَدْ رَأى

لَغَدَا لَهُ بَعْدَ المَلَامَةِ عاذِرَهْ

يا عاذِلي دَعْنِي فَلِي حُزنٌ عَلى

طُولِ المَدَى لَمْ يَلْقَ يَوْمًا آخِرَهْ

ذابَ الفُؤادُ وقد تقطَّعَ حسرةً

أسَفًا على قاضي القُضَاةِ النَّادِرَهْ

أعْنِي شهابَ الدَّين ذا الفَضْلِ الذي

عَنْ وصفِه أفْهَامُ مِثْلِي قاصِرَهْ

العسقلانيَّ الذي كانت إلى

أبوابِه تأتي الوُفُودُ مُهَاجِرهْ

يا عَيْنُ إنِّي ناظِمٌ مَرْثِيَّةً

فيه، فكُوني للمَدَامِعِ ناثِرَهْ

للَّه أيامًا به ولَيَاليًا

سَلَفَتْ وكانَت بالتَّواصُلِ زَاهِرَهْ

تاللَّه لم يَأتِ الزَّمَانُ بِمِثلِهِ

أبَدًا، ولم يَرَ مِثلَه مَنْ عَاصَرَهْ

شَهِدَتْ لَهُ كُلُّ العُقُولِ بأَنَّه

ما مِثْلِهُ، هُوَ دُرَّةٌ، هي فاخِرَهْ

دانَتْ لِفِطنَتِهِ العُلُومُ فلَمْ تَزَل

أبَدًا إلَيْهِ كلَّ وَقْتٍ سَائِرَهْ

يا أَيُّهَا الشُّعَرَاءُ هذا سوقُكُم

كانَتْ له تأتي التِّجارُ مُبَادِرَهْ

واليَوْمَ أَغْلِقَ بابَه فلأجْلِ ذا

أضْحَت تجارَتُكُم لديه (2) بائِرهْ

كم مِنْ حديثٍ قد رواه مسلسَلًا

ومُدَبَّجًا وله مَعَانٍ ظاهِرَهْ

وكذا غَرِيبًا مُسْنَدًا ومُصَحَّحًا

جملًا وأخبارًا غَدَت مُتَواتِرَهْ

(1) في هامش (ح) لها بخط المصنف: ثم بلغ الشَّيخ عز الدين بن فهد نفع اللَّه به قراءة علي في 28 والجماعة سماعًا، كتبه المؤلف.

(2)

في (ح): "لديكم".

ص: 1241

إنِّي لأعجِزُ أن أَعُدَّ فضائِلًا

فيه وأعجِزُ أنْ أعُدَّ مَآثِرَهْ

كم طالبٍ أقلامُه مِنْ بَعْدِهِ

جَفَّت ولم تُمْسِكَ يداه مَحَابِرَهْ

أسَفًا عليه نقول: يا نَفْسُ اصبِرِي

فتقُول: ما أنا عند (1) هذا صابِرَهْ

دَرَسَتْ دُرُوسُ العِلْمِ بعد وفاته

ومعاهدُ الإملاءِ أضْحَت داثرَهْ

أسَفِي على قاضي القُضاة مؤبَّدٌ

زَفَراتُ قَلْبِي كلَّ وَقْتٍ ثَائِرَهْ

أسَفي على شَيْخِ العُلُومِ ومَنْ غَدَتْ

أفكَارُ كُلِّ الخَلْقِ فيه حَائِرَهْ

أسفي على مَنْ كان بين صِحَابِهِ

كالبَدْرِ في وسط النُّجُوم الزَّاهرهْ

ولَقَدْ نَعى قبل المنِيَّةِ نَفْسَهُ

إذ كلُّ نَفْسٍ للمنِيَّةِ صائِرَهْ

لمَّا رأى أجَلَ الحياةِ قد انقَضَى

أضحى يشيرُ إلى الصِّحَابِ مُبَادِرَهْ

ويقولُ أبياتًا ولَيسَتْ نَظْمَه

لكن بلَفْظٍ منهُ أضْحَتْ فاخِرَهْ

وزَمَخْشريٌّ ناظمٌ أبياتها

هي أربعٌ معدودةٌ مُتَواتِرَهْ

كلُّ الورى مِنْ بعدِهِ اشتَغَلُوا بها

فاسمَعْ فأوَّلُها أقولُ مُذَاكَرَهْ

"قَرُبَ الرَّحِبل إلى دِيَارِ الآخِرَهْ

فاجْعَل إلهي خيرَ عُمري آخِرَهْ"

"وارْحَمْ مبِيتي في القُبُورِ وَوَحْدَتي

وارْحَم عِظَامي حِينَ تَبقى نَاخِرَهْ"

"فأنا المُسَيكين الذي أيَّامُه

ولَّت بأوزَارٍ غَدَتْ مُتَواتِرَهْ"

"فلَأنْ رَحمتَ فأَنْتَ أكرمُ راحمٍ

فبِحَارُ جُودِكَ يا إلهي زَاخِرَهْ"

ها (2) آخِرُ الأبياتِ قد أوردْتُها

فيما نَظَمْت تَبَرُّكًا ومكاثرهْ

وأعودُ أذكرُ بعد ذلك حالَتي

وأبثُّ أحزاني بقَلبي حاضِرَهْ

وأقولُ: ماتَ أبو المكارم والنَّدى

مُلْقِي الدُّرُوسِ وذي (3) العلُّومِ البَاهِرَهْ

ما كان أحْسَنَ لفظَهُ ومحدِيثَهُ

ما كان قطٌّ يمَلُّهُ مَنْ عاشَرَهْ

(1) في (ط): "بعد".

(2)

في (ط): "هنا".

(3)

في (ط): "وذوي".

ص: 1242

لو أنَّه يُفْدى لَكُنْتُ له الفِدَى

وأودُّ لَوْ أنِّي سَدَدْتُ مَقَابِرَهْ

لهبٌ بِقَلبِي بعدَهُ لا يَنْطَفي

ودُمُوعُ عَيْنِي لم تَزَل مُتَقَاطِرَهْ

فاللَّه يَسْقي قَبْرَه مَاءَ الحَيَا

أبدًا ويُورِدُه سَحَابًا مَاطِرَهْ

ثُمَّ الصَّلاةُ على النَّبِيِّ وصحبِه

وعلى جميع التَّابعين أوامِرَهْ

ومنهم القيم محمد بن علي بن محمد الفالاتي، أنشدني مِنْ لفظه قولَه الذي ضمَّن فيه أسماء سور القرآن في رثاء صاحبُ التَّرجمة.

. . . . . . . (1)

ومنهُم الشَّيخ المحب محمد بن محمد بن محمد القطَّان، فأنشده مِنْ لفظه قوله:

يا دُرَّة فُقِدَت وكانت فاخِرَهْ

في بَدْءِ خَيْرٍ حُوِّلَت لآخِرَهْ

مِنْ كُلِّ عِلْمٍ جاز أكثَرَه، فَرِدْ

بَحْرَ الفَخَارِ تَصِلْ بِحَارًا زاخِرَهْ

سُفْن الرَّجا كانت (2) لطَابِ بِرِّه

مِنْ بعد أشجان بفضل ماخرهْ

تَعْنُوا الرُّؤوسُ (3) إلى وجُوهِ بَدِيعِهِ

وإذا عَصَتْهُ أتَتْ إليه داخِرَهْ

وهو المُكَرَّمُ والكَرِيمُ بنانُه

مَع علمِه لَوْ أُمِّ كعبًا فاخرهْ

ليلى بعامِرِها تشاغل قَلبها

ولِمَنْ سِوَاه بذي الدَّعاوي سَاخِرهْ

تَجْري عليه مُوَدِّعًا رُوحي ولَنْ

تَسْلُو ولو صارَتْ عِظَامًا نَاخِرَهْ

قد كان أوَّل شاغلٍ قلبي حوى

وبِمَوْته فالصَّبْرُ عَدَّى آخرَه

. . . . . . . . . . . . . .... . . . . . . . . . . . . . (4)

(1) بياض في الأصول. وقال المصنف في ترجمة الناظم مِنْ الضوء اللامع 8/ 212: وقد كتب عن شيخنا ومدحه، بل رثاه بقطحة ضمَّنها أسماء السور بديعة، سمعتها منه وما تيسرت كتابتها.

(2)

في (ب): "ما كانت"، خطأ.

(3)

في (ط): "الدروس".

(4)

بباض في الأصول مقدار ثلت صفحة.

ص: 1243

ومنهم سبطُه الشَّيخ جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن شاهين الكركي، واعتمادي في ذلك على خطِّه ولفظه (1)، فمانه قال: قلتُ أرثي جدِّي شيخ الإسلام والحفَّاظ شهاب الملَّة والدين ابن حجر العسقلاني مِنَ الطَّويل:

شهابُ المعالي بينَما هُوَ طالِعُ

فعاجلنا (2) فيه القَضَا والقَوَارعُ

إلى اللَّه إنَّا راجِعُونَ وحَسْبُنا

ونِعْمَ الوكيل اللَّه فيما نُواقِعُ

فَقَدْ أورَثَ الآفاقَ حُزْنًا وذِلَّةً

وَأظلمت الأكْوانُ ثمَّ المَطَالِعُ

وأطْلَقَ دَمْعَ العَيْنِ تجري سحائِبًا

وأجْرَى عُيونَ السُّحْبِ فهي هَوَامعُ

وصيَّرَ طرفي لا يَمَلُّ مِنَ البُكا

وأحْرَقَ قلبًا بالجَوَانِحِ هالِعُ

وفرَّقَ جَمْعَ الشَّمْلِ مِنْ بعدِ أُلفَةٍ

وأَلَّفَ دُرَّ الدَّمع في الخدِّ لامِعُ

فوجْدي وصَبْري في الرَّثاء تبايَنا

فوجْدِيَ مَوْجُودٌ وصبريَ ضائِعُ

فصبرًا لما قَدْ كان في سابقِ القَضَا

فليسَ لمقدورِ المشِيئةِ دافِعُ

وطلَّقتُ نومي والتَّلذُّذَ والهَنَا

وألزَمْتُ نفسِي أنِّني لا أُراجِعُ

وصاحبتُ سُهدي والتَّأسُّفَ والأسى

فواصلتها لمَّا جَفَتْني المضاجِعُ

وإِنِّي غريبٌ لو أقمتُ بمنْزِلي

وإِنِّي وحيدٌ لا مُعِينَ أُرَاجِعُ

فَلَهْفِي على شيخِ الحديثِ وعصرِه

فَمَجْلِسُهُ للعِلْمِ والفَضْلِ جامِعُ

فَلَهْفِي على تلك المجالس بعدَه

لِفَقْدِ أُولي التَّحقيق قفرٌ بلاقِعُ

فَلَهْفِي على جدِّي وشَيخي وقُدْوَتي

وشيخِ شُيوخِ العصرِ إذ لا مُنَازعُ

فأوقاتُه مقسومةٌ في عِبَادَةٍ

وفضل لمحتاح ببرٍّ يُتَابِعُ

فقد كان ظنِّي أن يكونَ مُعاوِني

على كلِّ خيرٍ مثلَ مَا قيل مانِعُ

فعِنْدَ إلهي قد جَعَلْتُ وديعتي

كريم لديه لا تَخيبُ الودائِعُ

(1) في (أ): "حفظه ولفظه"، وفي (ب):"لفظه وخطه ولفظه".

(2)

في (أ): "فعالجنا"، تحريف.

ص: 1244

فرَحْبُ القَضَا قد ضَاقَ مِنْ بَعْدِ بُعده

عليَّ وفيه بَحْرُ فِكري وَاسِعُ

فيا مَوْتُ زُرْ، إنَّ الحياة ذَميمةٌ

فَمِنْ بَعْدِ هذا الحَبْرِ لا أب راجعُ

إمامُ الهُدى والعلمِ والحِلْم والتُّقَى

وحافظُ هذا الوَقْتِ للحَقِّ خاضِعُ

ففي النَّظمِ حَسَّانٌ، وفي الجودِ حاتمٌ

وفي العلم ليثٌ، وهو في الثَّبت (1) نافعُ

عفيفُ السَّجايا باسطُ اليَدِ بالنَّدا

جزيلُ العطايا ناسِكٌ مُتَواضِعُ

بِزُهْدٍ له قد كان يحكي ابن أدهم (2)

له وَرَعٌ بالصَّبْرِ للنَّفْسِ قامِعُ

فأيَّامه صَوْمٌ وفي اللَّيلِ هاجِدٌ

مطيلُ خُشوعٍ ساجِدُ الرَّأسِ راكِعُ

فمنهاجُه حاوٍ لِتَنْبيه غافلٍ

وبهجَتُه زانَتْ كما الرَّوْضُ يانِعُ (3)

وفتح لباربه حباهُ فوئِدًا

يُزيل التِبَاسًا، فهو للشَّكِ رافِعُ

وتقريبُه الأسما لتَهذِيب طالبٍ

وفي الجَرْحِ والتَّعديلِ كالسَّيفِ ساطِعُ

فإِنْ رُمْتَ إتقان الحديث بجمعه

فعَنْ حافِظ الإسلام تُرْوَى الشَّرائِعُ

. . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . (4)

وكتب صاحبُنا محدِّثُ الحجاز الحافظ نجم الدين عمر بن فهد الهاشمي المكي، أحد تلامذة صاحبُ الترجمة، لسبطه المذكور قبله، يعزِّيه فيه ما نصُّه، ومن خطِّه نقلتُ:

يقبِّل الأيادي العالية الجمالية اليوسفية، أحسن اللَّه عزاءها في فقد الأحباب، وأفرغَ عليها صبرًا، وأجزلَ لها الثَّواب، وجعلها مِنَ الذين يوفون (5) أجورهم بغير حساب، وينهي أَنَّهَا سُطِّرَتْ عن كبدٍ حَرَّى وفؤادٍ

(1) في (ط): "الليث"، تحريف.

(2)

في (أ): "ابن آدم"، تحريف. وابن أدهم: هو إبراهبم بن أدهم، الزاهد العابد المشهور.

(3)

في (أ): "نافع".

(4)

بياض في الأصول. وإلى هنا تتتهي نسخة (ح)، حيث فقد منها بقية الباب العاشر والخاتمة.

(5)

في (ط): "يؤتون".

ص: 1245

يَتنَفَّس الصُّعداء تَترى، وأجفانٍ قريحة، وعيون بالدَّمع غير شحيحة، لما دهم مِنْ هذا الخطبِ المدْلَهِمِّ، والحادث المُلِمِّ، مِنَ انتقال سيِّدنا وشيخنا، وشيخ الإسلام، خاتمة الحُفَّاظ، قاضي القضاة، شهاب الدين، إلى جوار ربِّ العالمين، نَوَّرَ اللَّه ضريحه، وجعل مِنْ الرَّحيق المختوم غَبُوقَه وصَبُوحهُ، آمين.

فلقد أوقرَ الأسماعَ، وأبكى النَّواظر، وأحزن القلوب والخواطر، وجدَّد الأحزان، وأوهن الأبدان، وأذكر قولَ مَنْ قال مِنْ فُحول الرِّجال.

كَأَنْ لَمْ يَمُت حيٌّ سِواهُ وَلَمْ تَقُمُ

على أحدٍ إِلَّا عَلَيْهِ النَّوائِحُ

واللَّه المستعان، وصبر جميل على مُصاب المسلمين، يا لَهُ مِنْ خطبٍ جليلٍ، فإِنَّا للَّه وإِنَّا إليه راجعون، ولا شكَّ أنَّا جميعًا إليه صائرون، وللَّه ما أخذَ وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مسمَّى، وفي اللَّه خَلَفٌ مِنْ كلِّ فائت وعوضٌ مِنْ كلِّ هالك، فباللَّه نَشِقُوا، وإِيَّاه فارجُوا، فإنَّ المُصابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوابِ، وعَزِّ نَفْسَك بما تُعَزِّي به غيرك، واستقبِح مِنْ فعلِك ما تستقبِحُه مِنْ فِعلِ غيرك، واعلم أنَّ أمَضَّ المُصَابِ فَقدُ سُرورٍ مَعْ حرمانِ أجرٍ فكيف إذا اجتمعا على اكتسابِ وِزرٍ، واللَّه يُحسِنُ للمخْدُوم العزاء، ويلهِمُه الصَّبر، ويضاعِفُ له الجزاءَ، ويثلج صدره ببرْدِ الرِّضا فيما قدَّر وقضى.

إنِّي مُعَزِّيك لا أنِّي على طَمَعٍ

مِنَ الخلُودِ ولكِنْ سُنَّةُ الدِّينِ

فما المعزِّي بِباقٍ بَعْدَ صاحِبِهِ

ولا المُعَزَّى وَلَوْ عاشَ إلى حينِ

غيره:

تَعَزَّ بِحُسنِ الصَّبْرِ عَنْ كُلِّ فائِتٍ

ففي الصَّبرِ مَسْلَاةُ الهُمُومِ اللَّوزِمِ

وليس يذودُ النَّفْسَ عَنْ شَهَواتِهَا

لعَمْرُكَ إلَّا كُلُّ ماضي العَزَائِمِ

العلومُ الكريمة محيطةٌ أْنَّ سهام الأقدار جاريةٌ، والدنيا كلُّها فانية، والناس زَرْعُ الموتِ، وعما قليل يُدركهم الفوت، وليتأسَّ المخدومُ في ذلك

ص: 1246

بقول اللَّه تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وقال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ عَظُمَت مصيبتُه، فليذكر مُصيبته بي، فإنها لتهونُ عليه". وقد قيل: إن اللَّه تعالى لم يخلُقْ شيئًا قطٌّ إِلَّا صغيرًا، ثم يكبر، إِلَّا المصيبة، فإنَّه خلقها كبيرةً ثم تصغُر.

قيل: دخل ابن عُتبة على المهديِّ يعزِّيه بالمنصُور، فقال له: آجَرَ اللَّه أمير المؤمنين فيمن مات، وبارك له فيما بقي مِنْ عمره مِنَ الأوقات، فلا مصيبةٌ أعظمَ مِنَ مصيبته، ولا عُقبى أفضل مِنْ خلافته، واحتَسِبْ أعظم الرَّزِيَّة.

والمخدُوم بعلمُ أنَّ الموتَ سِهامٌ يردُه سائرُ البشر، ومذاقُ سيطعمُه أهلُ اليدو والحضر، لا يسلَمُ منه ملِكٌ نافِذُ الأمر، ولا فقير خامِلُ القدر.

وما الدَّهْرُ إِلَّا هكذا فاصطَبِرْ لَهُ

رَزِيَّةُ مالٍ أو فِرَاقُ حَبِيبِ

وقد فَارَقَ النَّاسُ الأحبَّةَ قبلَنَا

وأعيى دواءُ الموتِ كلَّ طبيبِ

وغيره:

لعمرُكَ ما الرَّزِيَّة هَدْمُ دارٍ

ولا شاةٌ تَموت ولا بَعيرُ

ولكنَّ الرَّزيَّة مَوْتُ شَخصٍ

يَمُوتُ بِمَوْتِه علم كثيرُ

ولقد حَصَل على أهل الحرم الشَّريف مِنَ الأسف ما لا يُعَبَّرُ عنه، ولا يوصف، وابتهل الجميعُ إلى اللَّه تعالى في هذه المثساعر (1) العظيمة أن يجعل ما نقلَه إليه خيرًا ممَّا نقلَه عنه والرَّجاء قويٌّ أن يحصُل للمخدوم مِنْ خيري الدَّارين ما يُثلِجُ به الصَّدرَ، وتقرُّ به العينُ، واللَّه تعالى يجعلُ التَّعزية للمخدوم لا به، والخَلَفُ عليه لا منه، ولا يعصمُ الدَّهر المطروقَ بمثل هذا الرُّزء القاهح، إنَّه بالإجابة جدير، وعلى ما يشاءُ قدير، وعلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

(1) في (ب): "الساعة".

ص: 1247