المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

رربما سكن أيام النِّيل قريبًا مِنْ جامع البشيري، ويتوحه إليه - الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر - جـ ٣

[السخاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[إحسانه للغرباء]

- ‌[برُّه لأهل مكة والمدينة:]

- ‌[برُّه بشيوخه:]

- ‌[ستره:]

- ‌[صبره على الطلبة]

- ‌[عاريته للكتب]

- ‌[اهتمامه بطلبته]

- ‌[استجلاب الخواطر]

- ‌[تواضعه:]

- ‌[انبساطه:]

- ‌[رغبته في العلم:]

- ‌[أدبه مع العلماء:]

- ‌[تهجده:]

- ‌[صومه:]

- ‌[تلاوته للقرآن:]

- ‌[عيادته المرضى:]

- ‌[محبته للصالحين:]

- ‌[اتباعه للسنَّة:]

- ‌[خوفه مِن اللَّه:]

- ‌[جمعه بين العلم والعمل:]

- ‌[برنامجه اليومي:]

- ‌[أوصافه الخِلْقيَّة:]

- ‌الباب الثامنفي سَرْد جماعةٍ ممَّن أخذ عنه دراية أو رواية

- ‌ مرضه

- ‌[مَنْ عاد ابن حجر في مرضه]:

- ‌[جنازته]:

- ‌[المنامات التي رؤيت له]:

- ‌[وصيته]:

- ‌[زوجاته وبنوه وذريته]

- ‌[زوجته أنس خاتون]:

- ‌[ابنته زين خاتون]:

- ‌[ابنته فرحة]:

- ‌[ابنته غالية]:

- ‌[ابنته رابعة]:

- ‌[ابنته فاطمة]:

- ‌[سبط ابن حجر]:

- ‌[سُرِّيَّتُه خاص ترك]:

- ‌[ابنه محمد]:

- ‌[أبناء محمد ابن الحافظ ابن حجر]:

- ‌حوراء

- ‌جويرية

- ‌لطيفة

- ‌حسين

- ‌[علي]:

- ‌[ومن زوجاته]:

- ‌[زوجته ليلى الحلبية]:

- ‌[خدمُه]:

- ‌الباب العاشرفيما علمته من مراثي أُدباء العصر فيه مرتبًا لهم على حروف المعجم

- ‌[رثاء البقاعي لابن حجر]:

- ‌الخاتمة

- ‌[كتب السيرة النبوية]:

- ‌[مناقب الأئمة الأربعة]

- ‌[سيرة الملوك والسلاطين]

- ‌آخر الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر

- ‌فهرس المصادر والمراجع الواردة في الكتاب

الفصل: رربما سكن أيام النِّيل قريبًا مِنْ جامع البشيري، ويتوحه إليه

رربما سكن أيام النِّيل قريبًا مِنْ جامع البشيري، ويتوحه إليه الطلبة أيضًا هناك. وأسكَنَ الحلبيَّة في بعض الأوقات بجوار جامع سارُوجا.

وكانت أوقاتُه كلها مشحونة بالعبادة؛ إما بالعلم، أو الصَّلاة، أو التِّلاوة، أو الذكر، كما أسلفنا في أثناء الباب الثاني.

وقد رأيت الشَّيخ شمس الدين الصَّفِّي ضَبَط حين كان يسمع عليه ليلًا ما قرأ بهِ في العشاء في أسبوع، ففي يوم السبت: إذا زلزلت والعاديات، ويوم الأَحد: والشمس والليل، ويوم الإثنين: والضحى وألم نشرح، ومرة: الأعلى والماعون، ويوم الثلاثاء: والسماء والطارق ولئيلاف قريش، ويوم الأربعاء: التكوير والانفطار، ويوم الخميس ليلة الجمعة: مِنْ أول الكهف إلى "رشدًا""أفحسب الذين كفروا"، إلى آخر السورة.

وأمّا أنا، فسمعته يقرأ في الصبح مرَّةً بالقيامة والبلد، ومرة بالسَّجدة وهل أتى، وأخرى بالنَّبأ والنازعات، إلى غير ذلك.

قلت: وقد ورد في تعيين النَّظائر التي كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقرِن بينها بالدُّخان والتكوير، وبالذَّاريات والطُّور، وبالنَّجم والرحمن، وباقتربت والحاقَّة، وبالواقعة ونون، وبسأل والنَّازعات، وبالمدَّثر والمزمِّل، وبلا أقسم وهل أتى، وبالمرسلات والنبأ، وبعبس والمطفِّفين.

وكان يُسدلُ يديه في القيام يسيرًا، ثم يجعلهما تحت صدره، وقال مرَّة: أنا أقرأ في ركعتين "مالك"، وفي ركعتين، "ملِك"، وكأنَّه يروم بذلك الجمع بين المذهبين.

[أوصافه الخِلْقيَّة:]

وأما شيء مِنْ أوصافه؛ فكان رحمه اللَّه تعالى ربعةً، أبيض اللَّونِ، منَّورَ الصُّورة، كثَّ اللحية، حَسَن الشَّيبة، مليح الشَّكل، صحيح السَّمعِ والبصر، ثابت الأسنان نقيَّها، صغير الفم، قويَّ البُنْيَةِ، عالي الهِمَّة، خفيف

ص: 1053

المشْيَةِ ولو عند إقباله على الملوك ونحوهم، وقيامهم له بمجرد وقوع بصرهم عليه، فإنه لا يزيد على المعتاد أيضًا، وربما نقم الأعداءُ عليه ذلك، ذا رشاقةٍ زائدةٍ، بحيث رأيتُه مرَّة توضأ مِنْ فِسقيَّةِ المنكوتمرية، فما رأيت أرشقَ منه في جلُوسه على الحجر واغترافه الماء، وصعدنا في خدمته قُبَيلَ وفاته لعيادة الشَّيخ يحيى العجيسي بالنَّاصرية، فصار يصعدُ درجتين درجتين، ويقول: إنَّ ذلك أروحُ له.

هذا مع سكون ووقار وأبهة وثبات، تاركًا لما لا يعنيه، طارحًا للتكلف، كثيرَ الصَّمت إلا لضرورة، شديد الحياء، لا يواجِه أحدًا بمكروهٍ، مع الصَّدع بالحقِّ، وقوَّة النفس فيه، فاشيًا للسَّلام [ما لم يكن تاليًا](1) خفيف الوضوء في تمام، سريع عقد النية، بل يعيب على مَنْ يتردَّد فيها، وكذا مَنْ يبالغ في إخراج الحروف بتقطيع الكلمة، ومَنْ يُكثِر صبَّ الماء في وضوئه، لا يتأنَّقُ في مأكله ومشربه، ولا في آنيته، بل مهما قدم له عياله مِنْ ذلك رضيَهُ، ولو كان صائمًا لا يختص عنهم بمزيدِ أمرٍ لنفسه، ويأكل العلقة منَ الطَّعام واليسير مِنَ الغذاء، لكنه كان يتقوَّى بالسكر، ويميل إلى قصب السُّكر ميلًا قويًا، ويكثر النقل، لا يزالُ بجانبه عُلبةٌ فيها شيءٌ كثير منه، بحيث يصعد إليها النَّمل وشبهه.

وسمعته يقول: أنا لا أشبع مِنْ أكل ألوان مختلفة، إنَّما أشبعُ مِنْ لون واحد. ونحو هذا قولُ بعض مَنْ أخذت عنه: إنَّما يشبع مِنْ ائتدم بالبطِّيخ والجبن بالمروءة.

وكذا كان لا يتأنَّقُ في الرفيع مِنَ الثِّياب، ومع ذلك فأموره كلها بهجةٌ نيِّرةٌ إلى الغاية، قصير الثياب، حسن العمة، ظريف العذبة. وبلغني أنَّه كان يُرخيها على كتفه قبل القضاء وبعد استقراره في مشيخة البيبرسية، ما رأيته لبس طيلسانًا قطُّ سوى مرَّةٍ واحدةٍ في مرض موته، فما رأيتُ أبهج منه فيه، وحكى لنا حينئذٍ حكايةً اقتضت منعه للُبسِهِ قدَّمناها في الباب الثاني (2).

(1) ما بين حاصرتين لم يرد في (ب)، وفي (ط):"قاليًا".

(2)

1/ 152.

ص: 1054

وفي ظني أنَّه إنَّما تركه لعدم ورُود السُّنَّة به، بل في حديث ضعيف أورده الطبراني في ترجمة عبد الوارث مِنْ "الأوسط" عن أبي ذرٍّ، رفعه:"إذا اقترب الزَّمان، كثُر لُبْسُ الطَّيالِسَةِ". وفي "البخاري"(1) عن أبي عمران -هو الجَوْني- قال: نظر أنسٌ رضي الله عنه إلى النَّاس يومَ الجمعة، فرأى طيالِسَةً، فقال: كأنَّهم السَّاعة يهود خيبر، وفي لفظ لابن خُزيمة: أنَّ أنسًا رضي الله عنه قال: ما شبَّهتُ الناس اليوم في المسجد وكثرَةِ الطَّيالِسَة إلا بيهود خيبر.

وهذا ظاهرٌ أن يهود خيبر كانوا يكثرون مِنْ لُبْسِ الطيالسة، وأنَّ غيرهم مِنَ النَّاس الذين شاهدهم أنسٌ رضي الله عنه كانوا لا يُكثرون منها، فلما قدِمَ البصرة ورآهم يُكثرون مِنْ لُبسها، شبَّههم بيهود خيبر، لكن هذا لا يلزَم منه كراهيةُ لبسِ الطَّيالسة. على أنَّه قيل: المراد بالطَّيالسة: الأكسيةُ، وقيل: إنَّما أنكر اصفرار لونِها (2).

وصحَّ مِنْ طريق إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يتبعُ الدَّجَّال مِنْ يهودِ أصبهان سبعُون ألفًا عليهم الطَّيالسة"(3). وهو عند الطبراني في "الأوسط" مِنْ حديث ربيعة عن أنس بلفظ "عليهم السِّيجان"، وهو جمع ساجٍ، وهو الطَّيلسان.

قال ابن الحاج في "المدخل": فيكون ذلك تشبُّهًا بهم، وعن بعضهم أنَّه ريبةٌ بالليل ومذلَّةٌ بالنهار.

وقال بعضُ العلماء: إنه لا بأس بالطَّيلسان لمن يخرُج مِنْ حمَّام أو مَنْ يعرَقُ في بيتٍ أو خَلْوةٍ ثمَّ يُريدُ الخروج، ويخاف على نفسه مِنْ ضرر الهواء. وكأنه أخذه مِنْ قول مالك: إنَّه لا بأس بالتَّقنُّع مِنْ حرٍّ أو بردٍ.

قلت: وقد حكى ابن عبدِ البرِّ أنَّ أوَّل مَنْ لبِس الطَّيلسان بالمدينة

(1) برقم 4209.

(2)

مِنْ قوله: "وفي لفظ لابن خزيمة" إلى هنا، نقله المصنف بتصرف مِنْ كلام شيخه في "فتح الباري" 7/ 475 - 476.

(3)

أخرجه مسلم برقم 2944 في الفتن، باب في بقية مِنْ أحاديث الدجال.

ص: 1055

جُبَيْرُ بن مطعِم الصحابي، وصار شعارًا لقضاة الإِسلام وعلماء الأنام، حتَّى ذكر (1) التاج السبكي أنَّه قال لأبيه التَّقيِّ رحمهما اللَّه: أراك أيام المواكب السُّلطانية تَلبَسُ الطَّيلسان مواظبًا عليه، مع كونك تقعد للحكم بثياب ما تساوي عشرين درهمًا. فقال: إنَّ هذا صار شعار الشَّافعية، ولا أريدُ أن ينسى، وأنا فما أنا مخلَّدٌ، سيجيئ غيري ويلبسُه، فما أحدث عليه عادةً في تبطيله. انتهى.

وكيفيته -فيما صرَّح به بعض العلماء- أن يجعله على رأسه ويدير طَرَفَهُ على منكِبِه الأيسر، فيصير طرفُه الأول مرخَى على صدره مِنْ جهته اليسرى والطَّرف الآخر على منكبه الأيسر مِنْ وراءِ ظهره. قال: وما يُفْعَلُ الآن مِنْ إدارته حول العُنُق، فبدعة. كذا قال.

ولأبي الحسن علي بن جابر بن عليٍّ الهاشمي:

قومٌ لهم سيرةٌ سارت بجهلِهِمُ

قِد ارتَدَوا برداءِ الكِبْرِ والحُمُقِ

وخفَّت رؤوسهم أو خفَّ عَقلُهُمُ

لولا طيالِسَهم طارت مِنَ العُنُقِ

وكان شيخنا رحمه الله يقول: إن الطَّوق الذي يفعله المباشرون ونحوُهم نافعٌ جدًا. قال: ولو كان يُمكِنُني فعله، ما تخلَّفت عنه.

قلت: لا سيما وبعضهم فسَّرَّ قوله: "كلابسِ ثوبي زُورٍ" بمن يجعل في كُمِّه كمًّا آخر، يُوهِمُ أنَّ الثَّوبَ ثوبان، فإن الطَّوق نحوه.

لكن كان ربَّما جعل بَدَلهُ في بعض الأحيان منديلًا لطيفًا يديره على رقبته.

وكذا كان لا يتأنَّقُ في ألفاظه، بل يعيب على مَنْ يتقعَّرُ في كلامه. قال مرَّة لمن تكلم معه وأمعن في ذلك: تكلَّم معي بالكلام المتعارَفِ، ولا تُقَعِّر.

(1)"ذكر" ساقطة مِنْ (أ).

ص: 1056

وكذا كان الحسنُ بن أبي عباد (1) -وهو إمام النحو في قُطْرِ اليمن في زمنه- إذا تكلم بين العامة لا يتكلف الإعراب بحيثُ إذا سمعه مَنْ لا يعرِفه مِنَ الفُقهاء يقول: ما عَرَفَ هذا مِنَ النَّحو شيئًا، فعاتبه بعض أصحابه في ذلك، فقال:

لعمرك ما اللَّحْنُ مِنْ شيمتي

ولا أنا مِنْ خطأ ألْحَنُ

ولكن عَرَفْتُ لغاتَ الرِّجالِ (2)

فخاطبتُ كلًّا بما يُحْسِنُ

ولأبي الطَّاهر محمد بن محمد بن محمد بن بنات الأنباري الكاتب:

إن شِئْتَ أن تُصْبِحَ بين الورى

ما بين ممقوت ومُغْتَابِ

فكُنْ عَبُوسًا حين تلقاهُمْ

وخاطِبِ القَوْمَ بإعرابِ

قلت: والمتعاني ذلك في مخاطباته مِنْ أكثر مَنْ رأيناه يكثُر خطأه. وقد قال عمَّار بن عبد الجبار: سمعت أبا عصمة -يعني نوحَ بنَ يزيد الملقَّب بالجامع- يقول: ما أقبح اللَّحنَ مِنَ متَقَعِّرٍ. انتهى.

وكان رحمه الله ذا بصيرٍ جيِّدٍ في تفصيل الثياب ونحوها، خبيرًا بأمر دُنياه وآخرته، حتى كان قليلَ الرغبة في العمارة، بل وفي شراء العقار غالبًا، وربما لام ولده على المبالغة في إنشاء الأماكن، ويقول له: إن كان ولا بدَّ، فالشراء، فيعتذر له عَنْ عدم [وجدانه الثمن](3) دفعة واحدة.

وسمعته غيرَ مرَّة يقول: كلُّ مَنْ رأيناه مِنْ أعيان التُّجَّار وعظمائهم وكانوا يسَفِّهُون مَنْ يبني دارًا أو يشتري عقارًا، إلَّا أن يكون بثمنٍ بخس جدًا بالنِّسبة لما صرِف فيه، فإنَّ الدَّار التي تساوي ألفَ دينار تكرَى غالبًا بنحو الأربعين دينارًا، وإذا أديرَ هذا القدر في يد التَّاجر تزيد على أضعافِ ذلك،

(1) في (أ): "عياد" بالياء المثناة تحريف. وهو الحسن بن إسحاق، أبو محمد اليمني، وأبو عباد كنية أبيه. بغية الوعاة 1/ 500.

(2)

في "بغية الوعاة": ولكنني قد عرفت الأنام.

(3)

ما بين حاصرتين ساقط مِنْ (ب).

ص: 1057

وأرى أنَّ امتحان مَنْ يمتحن منهم بذلك سببُه عدمُ إخراج الزَّكاة.

وسئل رحمه الله مرَّة: ماذا يكتب على حمله؛ ليتميز عن غيره على جاري العادة، فأجابه بديهة:(حم. عسق)، وأشار إلى أن حروفها مِنْ حروف اسمه ونَسَبِه.

وكان يحتال في المواطن التي تؤخَذ فيها المكس على الذَّهب -كإسكندرية- بأن يأمرَ بجعله في وعاءِ سَمْن أو عسل أو نحو ذلك قبل وضع شيء فيه، ثم يختِمُ عليه بما يكونُ حائلًا بينه وبين ما يُوضَعُ فيه، ثم يملؤه بما يكون مناسبًا للظَّرف، فلا يتفطَّن لذلك.

وكان رحمه الله قليل الدُّخُول إلى الحمام، وإذا دخل تَنَوَّر، ولا يُطيلُ المُكْثَ بها، ويكون في خلوة غاية ما يكون مِنَ التَّستُّر، بل يكونُ بالمِئزَر في حال اغتساله، وأظنه كان يغتسِلُ عند الحلبية في البيت.

وكان رحمه الله غالب الأوقات يجيئه الحلاق -وليس بمعيَّنٍ- إلى بيته، أو إلى المدرسة المحمودية. ودخل مرَّةً حمامًا بعيدة عن منزله، فجاءه البلانُ الذي في حمَّامه المعتاد، فتلطَّف في رَدِّه، وقال: أنتَ تختصُّ بحمامِكَ، وجماعةُ هذا المكان يختصُّون به، فلا تزاحمهم ولا يزاحموك.

وسمعته يحكي أنَّ الحلاق القليل الدُّرْبَة يُتعبِني مِنْ أجل أكثرة إدارته لرأسي، ولو دار هو، لكان أسهل.

وكان هو رحمه الله يتولى قصَّ شاربه وأظفاره ونحو ذلك بنفسه، وله بكلِّ هذا خبرةٌ.

وكان رحمه الله في الغالب هو الذي يتولَّى صبَّ الماء على نفسه في الوضوء، وكذا في حمل الإبريق إلى الطَّهارة، لا سيَّما في اللَّيل، مع أن عنده الكثير ممَّن يكفيه المؤنة في هذا كلِّه.

وكان رحمه الله يهيِّىء سَحُوره مِنَ العِشاء.

فهذه نُبذَةٌ ممّا شاهدته مِنْ أحواله، وعلمتُه كان شريفِ خصاله، وهي كما قيل:

أخفُّ على رُوحٍ وأطيب مِنْ نَدَى

وأقصرُ في سَمْعِ الجَلِيسِ وأطولَا

ص: 1058

تخالُ به بردًا عَلَيْكَ محبّرًا

فتحسَبُه عِقدًا لَدَيْكَ مُفَصَّلًا

وبالجملة، فما أعلمُ أنَّ عيني وقعت على أحسنَ مِنْ شمائله، ولا أضوأ منه، ولا أكثرَ هيبةً، ولا أحسنَ عِشْرَةً، ولا أرى واحدًا في النَّاس يُشبهُهُ، ولا أحاشي مِنَ الأقوام مِنْ أحد، واللِّسان والبنان قاصران عن بثِّ وصفِه الأسنى، وشمائلِه الحُسنى.

سَلْ عنه وانطق به وانظُر إليه تَجِدْ

مِلء المسامِعِ والأفَواهِ والمُقَلِ

حسنك لا تنقضِي عَجَائِبُهُ

فالبَحْرُ (1) حدِّث عنه بلا حَرَجِ

ولم يخلُف بعد مثله شرقًا ولا غربًا، وما أحقَّه بقولِ مَنْ سَبَقَ:

حَلَفَ الزَّمان ليأتِيَنَّ بمثلِه

حَنَثَتْ يمينُك يا زَمَانُ فَكَفِّرِ

وقولِ غيره:

عَقِمَ النِّسَاءُ فلا يَلدْنَ شَبيهَهُ

إنَّ الزَّمان بمِثْله لَعَقيمُ

لو طابَ مَوْلُودٌ لحيٍّ مثلِهِ

وَلَدَ النِّساء وما لهُنَّ قوابِلُ

وقولِ الآخر:

يا دهرُ رتَبَ العُلا مِنْ بَعْدِهِ (2)

بَيْعَ الهَوَانِ رَبِحْتَ أم لم ترَبْحِ

قَدِّمْ وأخِّرْ مِنْ أردتَ مِنَ الورَى

مات الَّذي قد كنت منه تَسْتَحي

وليس يعدُو النَّاظرُ في كتابي هذا أحد رجلين: إمَّا عارفٌ به ومخالطٌ له، فيقول: هذا مُقَصِّرٌ في مقالته، وربما يقول:

وما علَّمتني غير ما القلب عالمُه

(1) في (ح): "كالبحر".

(2)

في (ط): "الرياسة بعده"، وكتب تحتها:"في العلا ن"، إشارة إلى نسخة أخرى.

ص: 1059

وقد يخالِفُ رأيُه رأي في بعض ما أثبتُّه، لكونه لم يقِفْ على السَّبب الذي لأجله أوردته (1).

وإما جاهل به أو حاسد، فيقولُ: هذه مبالغة، بل ربما تكلف لردِّ بعضه، والأعمالُ بالنِّيَّات.

ولعمري قد فاتني مِمَّا لم أستحضِره حالة الكتابة أكثرُ ممَّا أثبتُّ، وكذا تعمدت تركَ أشياء لا يحتمِلُها مَنْ لم يرَه، وما أحقَّ المنكر يقول القائل:

نَظزوا بعينِ عَدَاوَةِ وَلَوَ أنَّها

عينُ الرِّضا لاسْتَحْسَنُوا ما اسْتَقْبَحُوا

يُولُونَني شرَرَ العُيونِ لأنَّني

غلَّسْتُ في طَلَبِ العُلا وتَصَبَّحُوا

وقولِ الآخر:

ولست براءٍ عَيْبَ في الوُدِّ كُلِّه

ولا بَعْضَ ما فيه إذا كنتَ راضيا

وعينُ الرِّضا عن كلِّ عيب كليلةٌ

كما أن عَيْنَ السُّخْطِ تبدي المساوِيَا

وقولِ بعضهم:

ورُبَّ عَيَّابٍ له مَنْظَرٌ

مشتمل الثَّوبِ على العَيْبِ

وأحلِفُ باللَّه: إنَّه لفَوْقَ ما وصفتُه، وإنِّي لناطقٌ بهذا، والظَّنُّ أني ما أنصفتُه، وأنَّ الغبيَّ سيظنُّ بي أمرًا ما تصوَّرتُه.

وما عليَّ إذا ما قلتُ مُعْتَقَدي

دَعِ الجَهُولَ يَظنُّ العَدْلَ عدُوانا

واللَّهِ واللَّهِ العظيمِ ومَنْ

أقامَهُ حُجَّة للَّه بُرهانا

إنَّ الذي قُلْتُ بعضٌ مِنْ مناقِبِه

ما زدتُ إلَّا لَعلِّي زدت نُقْصَانا

غيره:

إنِّي وانْ أوردتُ معنًى حازَهُ

عِلْمِي لَقَدْ خَلَّفْتُ فيه مَعَاني

(1) في (ب، ط): "أثبته".

ص: 1060

وأقول للمتَّقين ذوي الإنصاف، الذين دأبُهم لذوي الفضائل الاعتراف، مع التنويه بمحلّهم، والتَّواضع مع أقلِّهم، لا لمن ظنَّ بغباوته وجهله ارتفاعه بالوقيعة في نَقَلَةِ العلم وأهلِه:

جزى اللَّه خيرًا مَنْ تأمُّل صنعتي

وقابَلَ ما فيها مِنَ السَّهْوِ بالعَفْوِ

وأصلحَ ما أخطأتُ فيه بِفَضلِهِ

وفِطنَتِه، وأستَغفِرُ اللَّه مِنْ سَهْوِ

واللَّه المستعانُ، وعليه التُّكْلان، ونسألُه أن ينعِّمَه بالجِنان، في زُمْرَةِ سيِّدِ ولدِ عدنان، وأن يَعُمَّنا بالرَّحمة والغُفران، بمنِّه وكرمه (1).

(1) في هامش (ح) بخط المصنف: ثم بلغ الشَّيخ عبد العزيز بن فهد نفع اللَّه به قراءة علي في 25 والجماعة سماعًا.

ص: 1061