المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الباب التاسع في ذكر‌ ‌ مرضه ووفاته وغسله وتكفينه، والصلاة عليه ومشهده - الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر - جـ ٣

[السخاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[إحسانه للغرباء]

- ‌[برُّه لأهل مكة والمدينة:]

- ‌[برُّه بشيوخه:]

- ‌[ستره:]

- ‌[صبره على الطلبة]

- ‌[عاريته للكتب]

- ‌[اهتمامه بطلبته]

- ‌[استجلاب الخواطر]

- ‌[تواضعه:]

- ‌[انبساطه:]

- ‌[رغبته في العلم:]

- ‌[أدبه مع العلماء:]

- ‌[تهجده:]

- ‌[صومه:]

- ‌[تلاوته للقرآن:]

- ‌[عيادته المرضى:]

- ‌[محبته للصالحين:]

- ‌[اتباعه للسنَّة:]

- ‌[خوفه مِن اللَّه:]

- ‌[جمعه بين العلم والعمل:]

- ‌[برنامجه اليومي:]

- ‌[أوصافه الخِلْقيَّة:]

- ‌الباب الثامنفي سَرْد جماعةٍ ممَّن أخذ عنه دراية أو رواية

- ‌ مرضه

- ‌[مَنْ عاد ابن حجر في مرضه]:

- ‌[جنازته]:

- ‌[المنامات التي رؤيت له]:

- ‌[وصيته]:

- ‌[زوجاته وبنوه وذريته]

- ‌[زوجته أنس خاتون]:

- ‌[ابنته زين خاتون]:

- ‌[ابنته فرحة]:

- ‌[ابنته غالية]:

- ‌[ابنته رابعة]:

- ‌[ابنته فاطمة]:

- ‌[سبط ابن حجر]:

- ‌[سُرِّيَّتُه خاص ترك]:

- ‌[ابنه محمد]:

- ‌[أبناء محمد ابن الحافظ ابن حجر]:

- ‌حوراء

- ‌جويرية

- ‌لطيفة

- ‌حسين

- ‌[علي]:

- ‌[ومن زوجاته]:

- ‌[زوجته ليلى الحلبية]:

- ‌[خدمُه]:

- ‌الباب العاشرفيما علمته من مراثي أُدباء العصر فيه مرتبًا لهم على حروف المعجم

- ‌[رثاء البقاعي لابن حجر]:

- ‌الخاتمة

- ‌[كتب السيرة النبوية]:

- ‌[مناقب الأئمة الأربعة]

- ‌[سيرة الملوك والسلاطين]

- ‌آخر الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر

- ‌فهرس المصادر والمراجع الواردة في الكتاب

الفصل: الباب التاسع في ذكر‌ ‌ مرضه ووفاته وغسله وتكفينه، والصلاة عليه ومشهده

الباب التاسع

في ذكر‌

‌ مرضه

ووفاته وغسله وتكفينه، والصلاة عليه ومشهده الجليل، وما قيل عن أهل الصلاح فيمن حضره مِنَ الأولياء وغيرهم، ومكان دفنه، وما تُلي عندَ قبره مِنَ الختمات، وما رُؤيَ له مِنَ المنامات، وما أوصى بفعله بعدَ موته، ونبذة مِنْ أحوال بنيه وبناته وأبنائهم، وكذا أحوال زوجاته وسراريه ومَنْ علمته مِنْ خَدَمِهِ، وغير ذلك.

[مرضه]:

أما مرضه رحمه الله، فكان ابتداؤه في ذي القعدة مِنْ سنة اثنين وخمسين وثماني مائة بعد أن بلغني -ممَّا لم أستحضره حين إثباته الآن- أنَّه قصَّ على جماعة مجلس الإملاء في ربيع الأول مِنَ السَّنة التي توفي فيها، أنَّه رأى في المنام بعض الرُّواة، وأظنه أبا مصعب، وأنَّه قدَّمَ إليه مائدة فيها عشرة أرغفة، العاشر منها مكسورٌ منه شيءٌ يسير، فأوَّلَهُ له بعضُ الحاضرين بعشرِ سنين تفاؤُلًا، فما كان إلَّا دون عشرة أشهر، ومات.

ونحوه أنَّ الكمال المجذُوب حضر إلى منزل شيخنا مرَّة في يوم جمعة باكِرَ النَّهار، مع أنَّه لم تَجْرِ عادتُه بمجيئه إلى منزله. نعم، رأيتُه جلس بين يديه مع الجماعة في مجلس الإملاء بالكاملية، وكتب كما تقدم، فلما حضرَ جلس في الزكاة بين البابين، وأغلق باب الزَّلاقة، وطرد مَنْ كان هناك مِنَ الخدم ونحوهم، واتَّفق ظهورُ شيخنا لمن ينتظره للقراءة ببابه، وكنَّا ثلاثة: ابن حسَّان. وابن قمر وأنا ثالثهما، فصادف الكمال بالباب، فجلس بجانب باب

ص: 1185

السِّتارة، والكمال قريبٌ منه، واتفق مجيءُ سبط شيخنا، فوقف قريبًا مِنْ جدِّه، ثم طلب الكمال مِنْ شيخنا شيئًا، فأخرج له مِنْ جيبه -فيما أظنُّ- دينارًا، ثم قال له: وأيضًا، فأعطاه آخر، ثم طلب أيضًا، فأعطاه آخر، واستمر هكذا إلى أن استوفى، إما سبعة، فيما يغلب على الظنِّ، أو ستة، وأهابُ أن أجزِمَ بأنَّها مجموعُ ما كان في جيبه، فلما صارت بيده، أدارها في كفِّه، ثم دفعها للسِّبط، فاستمرت معه يسيرًا، ثم أخذها منه بعزمٍ وهو يصيح ويقول له: هو لا يسهُلُ عليه أن يعطيها، وأعادها لشيخِنا قائلًا له: خذها وقم عنا، وصار يكرِّرُ ذلك حتَّى تغيَّر لونُ شيخنا مِنْ صنيعه، وقام فدخل وانصرفنا. فلم يلبث رحمه اللَّه تعالى إلَّا يسيرًا بعد ذلك جدًا، ثم عزل، وأقام يسيرًا، ثم مات، فكانت حياتُه بعد هذه الواقعة عددَ القَدْرِ، إمَّا سبعة أو ستة كما تقدم. وبعد هذا المجلس صار شيخُنا يذكُر الكمالَ بالجميل، ويقول: كنتُ أعرفه بمصر على خيرٍ يحفظ "التَّنبيه" و"الألفية"، وربما أرسل إليه الكمال بعضَ مَنْ يروم منه شيئًا مِنَ الدُّنيا لوفاء دَينِه ونحو ذلك، فيقول شيخنا للشهاب بن يعقوب: صالح عنَّا قاصِدَ الشَّيخ. رحمهم اللَّه تعالى وإيانا.

ولمَّا مرض رحمه الله -كما أسلفنا- في ذي القعدة، حضر مجلسَ الإملاء في حادي عشره، ورجع إلى الحلبيَّة، فأقام عندها إلى أن تعشَّى، ثم رجع إلى منزله، فقدَّموا له العشاء، فما امتنع مِنَ الأكل مراعاةً لخاطر أهله، فثَقُل لملك عليه (بحيث تقيأ)(1) وتغيَّر مزاجُه، وأصبح يومَ الأربعاء ضعيفَ الحركة، فحضر الجماعة للتوجه في خدمته على العادة بجامع طولُون، فما استطع، واستمر مكتُومًا ولا يعلم به كثير أحدٍ، وهو يطلع إلى المدرسة للصَّلوات والإقراء على العادة، بل حضر مجلسَ الإملاء في يوم الثُّلاثاء خامس عشري الشَّهر المذكور، فأملى مجلسًا وهو متوعِّكٌ، ثم اشتدَّ به الوعك وتضرَّر بالكتمان كثيرًا، وخشي الأطباءُ أن يناولوه مسهلًا لأجل سنِّه، فأشير بلبن الحليب، فتناوله فلانت الطَّبيعة قليلًا، وأدى ذلك إلى نشاط يسيرٍ ونوع خِفَّةٍ، وصار مسرورًا بذلك، فيقول: خرج جُوَيْزات وبُنَيْدقاتُ ونحو ذلك.

(1) ما بين قوسين ساقط مِنْ (أ).

ص: 1186

ثم عاد الكتمانُ، وتزايد الألمُ بالمعدة، وصار يحسُّ بشيء ثقيل على معدته، بحيث كان يقول: هذه بقايا الغبن مِنْ سنة تسع وأربعين وتوابعها، وينشد قولَ الفرزدق:

قوارِضُ تأتيِني ويَحْتَقِرُونَها

وقَدْ يملأ القَطْرُ (1) الإنَاءَ فيفعمُ

وقال سبطُه: إنه أنشده في مرضه هذا:

عمارة الجسم نَفَسْ

وهدُمُه إذا احتَبَسْ

ولم يترك رحمه الله جمعة، بل ولا جماعة. نعم، لم يستطع صلاة عيد الأضحى، وكان يوم الثلاثاء بعد أن سمعنا عليه "فضل عشر ذي الحجة" لابن أبي الدنيا (يوم عرفة)(2)، وهو آخر شيءٍ سمعناه، بل سُمِعَ عليه مطلقًا. وصلى الجمعة التي تليه، توجه وهو راكب والناس في خدمته، حتى صلينا معه الجمعة في الصف الأول برواق البسملة مِنْ جامع الحاكم، وطلع بعد فراغه مِنْ باب النَّصْر، فركب وهو بالطيلسان كما مضى، وسأله بعضُ العوامِّ وهو ظاهرٌ مِنَ الجامع الدُّعاءَ، فقال له بعزمٍ: غفر اللَّهُ لَك.

وتوجَّه إلى الحلبية، فاستعطف خاطرها في انقطاعه عنها، وحالَلَها واسترضاها.

وكان رحمه الله قد استشعر بالوفاة، بحيث كان إذا اخبر بالمنامات وشبهها مما يدلُّ على رجاء صحَّته وحصُول بُرئه، يقول: أمَّا أنا، فلا أرَاني إلَّا في تناقُصٍ، وما أظنُّ الأجلَ إلا قد قرُبَ، ثم ينشد:

ثاءُ الثَّلاثينَ قد أوهت قُوى بَدَني

فكيف حاليَ في ثاء الثمانينا

ويقول: اللهُمَّ حرمتني عافِيَتك، فلا تحرمني عفوك. انتهى.

وقد سأل الملكُ الكاملُ الشَّرفَ أبا المكارم محمد بن عبد اللَّه بن

(1) في (ب): "القطن".

(2)

ما بين قوسين ساقط مِنْ (ب).

ص: 1187

الحسن بن عين الدَّولة الصَّفراوي (عن سِنِّه)(1)، فارتجل:

يا سائلي عَنْ قُوى جِسْمي وما فَعَلَتْ

فيه السُّنُون ألا فاعلمه تبيينا (2)

ثاءُ الثَّلاثين أحسَنت الفُتُورَ (3) بها

فكيفَ حاليَ مع ثاء الثَّمانِينَا

بل سمعت شيخنا بعدَ وفاة مُستملي مجلسه الزَّين رضوان -وكانت في رجب سنة وفاته- يقول: هذه أمارةُ الرَّحيل، في محرَّم هذه السَّنة توفِّيَ مِنْ رؤوس المجلِس البرهانُ بن خضر، والشِّهابُ الرِّيشي، وفي صفرها الزَّينُ السَّندَبيسي، وفي شوال السَّنة الماضية المحبُّ البكري.

قلت: وكذا مات [مِنْ جماعته في شوال سنة وفاته الشهابُ الرَّدادي، وفي رمضانها](4) تغري برُمش الفقيه، ومن غير جماعته مِنَ الأعيان العمادُ إسماعيل بن شرف المقدسي في ربيع الآخر مِنْ سنة وفاته، وأبو الفتح ابن أبي الوفاء في شعبانها، ومن خيار المباشرين الصَّاحبُ كريمُ الدِّين ابن كاتب المناخاة، وجماعة ليسَ هذا محلُّهم.

ثم إنَّ نحو ما تمثَّل به شيخُنا قول الفُضيل بنُ عياض:

بلغت الثَّمانِينَ أو جزتُها

فماذا أومِّلُ أوْ أنْتَظِرْ

أتَتْ لي ثمانون (5) مِنْ مولدي

ودُونَ الثَّمانين لي مُعْتَبَرْ

عَلَتْني السُّنُونَ فَأبليْتَني

فَرَقَّ العِظَامُ وكَلَّ البَصَرْ

وقول القائل:

إنَّ الثَّمانين وبُلِّغتُها

قَدْ أحْوَجَتْ سَمْعي إلى تُرجُمانْ

(1) ما بين قوسين ساقط مِنْ (ب).

(2)

في (ب): يقينًا، تحريف.

(3)

في (ب): "القبور".

(4)

ما بين حاصرتين لم يرد في (ب).

(5)

في (أ): "ثمانين"، خطأ.

ص: 1188

قلتُ: وقد أسندَ الخطيب في ترجمة أبي بكر محمد بن جعفر بن محمد بن فضالة الأدمي القارىء، صاحبُ الألحان، وأحسن النَّاس صوتًا بالقرآن، وأجهرهم به، مِنْ طريق عبد اللَّه بن إسماعيل بن إبراهيم الإمام، قال: رأيتُ أبا بكر الأدمي في النَّوم بعدَ موته بمُدَيْدَة، فقلت له: ما فعل اللَّه بك؟ فقال: أوقَفَني بين يديه، وقاسيت شدائد وأمورًا صعبةً، فقلت له: فتلك الليالي والمواقف والقرآن؟ فقال: ما كان شيءٌ أضَرَّ عليَّ منها، لأَنها كانت للدنيا. فقلت له: فإلى أيِّ شيءٍ انتهى أمرُك؟ قال: قال لي تعالى: إني آليتُ على نفسي أن لا أعذِّبَ أبناءَ الثَّمانين. انتهى.

وورد حديثٌ فيه بشارة لمن عُمِّرَ ثمانينَ، استوفى طرُقَه صاحبُ التَّرجمة في كتابه "الخصال المكفرة"، وساق عقبها للحُسين بن الضَّحَّاك قوله مِنْ أبيات:

أمَا في ثمانين وفيتُها

عذيرٌ وإنْ أنا لَم أعْتَذِرْ

وَقَدْ رَفَعَ اللَّه أقلَامَهُ

عَنِ ابنِ ثمانِينَ دونَ البَشَرْ

وإنِّي لِمنْ أُسَرَا الإله

في الأرض نَصب صُرُوفِ القَدَرْ

فإن يقضِ لي عملًا صالحًا

أُثَابُ وإنْ يَقضِ شرًا غَفَرْ

وقوله أيضًا:

أصبحتُ في أُسَرَاء اللَّه مُحْتَبَسًا

في الأرْضِ تحتَ قضاءِ اللَّه والقدر

إنَّ الثَّمانينَ إذ وفيتُ عِدَّتَّها

لم تُبْقِ باقيةً مِنِّي ولم تَذَر

انتهى.

وكان ابنُ عُيينة يُنشدُ:

سئمتُ تكاليفَ الحياة ومَن يَعِشْ

ثمانينَ عامًا لا أبا لَكَ يَسْأمِ

ولأبي الصَّلاح ابن عين الدَّولة الصَّفراوي (1):

(1) في هامش (ط) -وأظنه بخط الزبيدي شارح القاموس- ما نصه: لعل هذه القطعة =

ص: 1189

ثمانُونَ (1) مِنْ عمري تَقَضَّت فما الَّذي

أُؤمِّلُ مِنْ بَعدِ الثَّمانينَ مِنْ عُمْرِي

أطايِبُ أيَّامي مَضَيْنَ حميدةً

سِرَاعًا ولم أشْعُرْ بِهِنَّ وَلَم أدْرِ

كأنَّ شَبَابي والمشيب يرُوعُه

دحي ليلةٍ قد راعَها وضَحُ الفَجْرِ

ولبعضهم:

أفلَت مِنْ سَبُعِ السَّبْعين مُنهَزمًا

فَفُتُّهُ وتراخى الحَيْنُ بي حِينَا

وفي الثَّمانين تنِّينٌ يُشاوِرُني

مِنْ ذا يقاوم تِنِّينَ الثَّمانينا

وقَدْ أتَتْ حَيَّةُ التِّسْعِينَ تَلْسَعُني

ولسْتُ أقدِرُ أرْقِي سُمّ تِسْعِينَا

فأَسْألُ اللَّه تأمِينًا ومَغْفِرةً

ويرحَمُ اللَّه عبدًا قال آمِينَا

ولأسامة بن مرشد (2):

مَعَ الثَّمانين عاثَ الضَّعْفُ في جَسَدِي

وساءني ضعفُ رِجْلِي واضطرابُ يَدي

إذا كتبتُ فخطِّي خطُّ مضطربٍ

كخطِّ مُرْتَعِشِ الكَفَّينِ مُرْتَعِدِ

فاعْجَبْ لضَعْفِ يدي عَنْ حَمْلِها قَلَمًا

مِنْ بَعْدِ حَطْمِ القنَا في لَبَّةِ الأسَدِ

وإنْ مَشَيتُ وفي كفِّي العَصَا ثَقُلَتْ

رِجْلي كأنِّي أخُوضُ الوَحْلَ في الجَلَدِ

فَقُلْ لِمَنْ يَتَمَنَّى طُولَ مُدَّتِهِ

هذي عَواقِبُ طُولِ العُمْرِ والمُدَدِ

قلت: ولم يبلغ الحالُ -وللَّه الحمد- بصاحب التَّرجمة هذا، وإنَّما أوردتُها مع ما قبلها استطرادًا.

= أنشدها الثعالبي في "يتيمة الدهر" للمعز الفاطمي صاحبُ مصر، لكن أنشد:

ثلاثون مِنْ عمري مضين فما الذي

أؤمل مِنْ بعد الثلاثين مِنْ عمري

ومن تأمل في البيت الثالث، بل الثاني، عرف أن الصواب "ثلاثون". وأما أبو الصلاح فلا أعرفه، فإن كان ممن أخر عن صاحبُ "اليتيمة" -وهو الغالب على الظن- فقد ظهر أن الخطأ في نسبة القطعة إليه محقق.

(1)

في (ط): "ثمانين"، خطأ.

(2)

الأبيات في كتاب الاعتبار لأسامة ص 182، طبع دار الأصالة بالرياض.

ص: 1190

وتردَّد الأطباءُ لصاحب التَّرجمة، ولم يكن يرى استخدام أهل الذمة في ذلك، بل سمعتُه مرارًا يقول -وأظنه لغيره-: أيَأتَمِنُ المسلمونُ على أموالهم وأبدانهم أعداءهم؟ انتهى.

وصار هو ينظرُ في "القانون" وشبهَهُ مِنْ كتب الفنِّ، ويتكلَّم مَعَ أهله إذا حضروا عنده بأمتن كلام، حتى إنَّ ابن صَغِير -وهو مِنْ أفاضلهم- بلغني عنه أنَّه قال: وددت لو كنتُ لازمته في ذلك سنةً.

وكان مِنْ جملة مَنْ حضر إليه: أبو الفضل محمد بن محمد بن أبي القاسم بن محمد البجائي المغربي، الذي كان عاتبًا على الزَّمن وأهلِه، وانفرد بالطبع الذي قَلَّ مَنْ يشارِكُه فيه، وانكشفَ حالُه قبل مماته، لا سيَّما في أشرفِ بلادِ اللَّه، التي ذهب بعضُ الصحابة رضوانُ اللَّه عليهم إلى مضاعفة السَّيئات فيها كالحسنات، كما أخبرني به ثقاتُ أهلها، حتى مَنْ أخذَ عنه، كما بيَّنتُهُ في موضع غير هذا. وكان حضورُه عندَ صاحبُ التَّرجمة بعد أن تكرَّر على سمعه مِنَ الثَّناء عليه مِنْ بعض طلبته الذي تسلَّط على كتاب اللَّه بما قرَّره له على ما أخبر به أبو الفضل غير واحد ممَّن شافهني مِنْ قاعدة كُلِّيَّة -زعمَ- ينضبطُ بها المقصودُ، ممَّن عُرِفَ كلامه في السّخطِ والرِّضا، مبالغة زائدةً في وصفه، ممَّا كنتُ أستحيي مِنْ ذكره بين يديه، كقول القائل في حقِّه: لو اشتغلَ بحفظِ الرِّجال ونحوها مِنْ متعلِّقات الحديث ما كان بعد مُضِيِّ سنةٍ يلحق (1) في ذلك، فما كان إلَّا أن جلس ودار بينهما الكلام في شيءٍ مِنَ العلاج ونحوه، ظهر له أمرُه، وبيَّنَ ترجمتَه، لِمَنْ يثقُ به بعد مفارقته، ولا يقال: كيف عرف حاله مِنْ جلسة واحدة، لكون مثل ذلك لا يخفى على مثله.

وقد حقق لي أمرَه العلَّامةُ قاضي المذهب العز الحنبلي بما بسطتُه في مكان غير هذا، وكذا العلامة جمال الدين بن السَّابق الحموي، بل قال لي: إنَّه كان غلِطَ فيه في أول الأمر، ثم رجع إلى الصَّواب، وكشف حالَه حتى

(1) في (ب): "يلي".

ص: 1191