المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأمور التي تعين على الخشوع: - الخشوع في الصلاة - الصباغ

[محمد بن لطفي الصباغ]

الفصل: ‌الأمور التي تعين على الخشوع:

ومن ثمرات الخشوع حبّ الصلاة والمسارعة إليها.

‌الأمور التي تعين على الخشوع:

1 -

عليك -يا أخي- أن تجمع نفسك قبل الدخول في الصلاة؛ فلا تُحرم بالصلاة إلا بنفس مجتمعة، وفكر متدبِّر، وقلب حاضر.

واحذر أن تنتزع نفسك من مشاغلك وأعمالك، وتقبل على الصلاة مباشرة، دون أن تتهيأ لهذه الصلاة الربانية، ولهذا الوقوف بين يدي الله، ولهذه المناجاة العظيمة.

يا أخي. هل تسارع في مقابلة مسؤول كبير: ملك أو وزير دون أن تُعدَّ نفسك لهذه المقابلة؟

وعليك يا أخي أن تستحضر عظمة الله الذي تقف بين يديه؛ فهو سبحانه ملك الملوك وجبّار السماوات والأرض، هو الملك القدّوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبّر .. له ملك

ص: 44

السماوات والأرض وإليه -سبحانه- تُرجع الأمور .. وهو على كل شيء قدير .. عليك أن تستحضر معاني هذه الأسماء الحسنى، وتستحضر علمه الواسع؛ فهو لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم السرّ وأخفى .. وأن تستحضر أنك واقف بين يديه سبحانه تناجيه وتدعوه .. وتستحضر تقصيرك وتفريطك وضعفك وحاجتك إلى الله .. إن ذلك يعين على الخشوع والتذلل لله سبحانه.

ويحقق لك هذا الغرض حضورك المبكِّر صلاة الجماعة في المسجد، فإذا أُذن للصلاة فسارع إلى المسجد وكلما بكّرت في الحضور إلى المسجد -كما دعت إلى ذلك السنة المطهرة- أتحت لنفسك جوًّا روحيًّا يجمع شتاتها ويغمرك بالخشوع. تقرأ في هذا الوقت شيئاً من القرآن أو تذكر الله وتدعوه بالمأثور من الدعاء بعد ذلك

ص: 45

تحية المسجد والنافلة الراتبة، وتبقى في هذا الجوِّ الروحي حتى تقام الصلاة.

فالجلوس قبل الصلاة يدخل في (انتظار الصلاة بعد الصلاة) كما جاء في الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا يرفع به الدرجات؟ » .

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط. فذلكم الرباط. فذلكم الرباط» (1).

أما إذا صليت في البيت لسبب من الأسباب المشروعة -وهذا قائم بالنسبة إلى النساء- فلتجلس قليلاً قبل الصلاة تحاول أن تجمع نفسك، وتراجع ما ستقرؤه في الصلاة.

(1) الموطأ 1/ 161، وصحيح مسلم برقم 251، والترمذي برقم 51.

ص: 46

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة. والملائكة تقول: اللهم اغفر له. اللهم ارحمه. حتى ينصرف أو يُحدث» قيل: وما يحدث؟ قال: «يفسو أو يضرط» (1).

2 -

إن الخشوع مرتبط بمعنى الإحسان أعظم الارتباط، والإحسان من أعلى مراتب العبودية.

وهو كما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (2).

والخشوع يتحقق بإقبال العبد على الله بفكره وقلبه وجوارحه، وعندئذٍ سيقبل الله عليه بالمغفرة والقبول، كما جاء في الحديث القدسي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال:

(1) رواه مسلم برقم 233، وأبو داود برقم 271.

(2)

صحيح مسلم برقم 8.

ص: 47

إذا تقرب العبد إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة» رواه البخاري (1).

وكما جاء في حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت صرف وجهه عنه» رواه أبو داود والنّسائي (2)، وكما في الحديث القدسي الذي يقول فيه الرب تبارك وتعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين

» وسنذكره فيما بعد.

إن العبد لو استطاع أن يحقق هذا الذي ذكرنا لحصل له الخشوع تلقائيًّا.

3 -

وعليك يا أخي أن تستحضر تفاهة الدنيا، وأن البقاء فيها -مهما طال- إلى رحيل .. وهو

(1) صحيح البخاري برقم 7536.

(2)

أبو داود برقم 909، والنسائي 3/ 8.

ص: 48

مؤقت، وأن متاعها متاع الغرور .. وتستحضر أننا صائرون إلى الله ليوفّينا أعمالنا؛ جاء في الحديث القدسي:«يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسه» (1).

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للذي أوصاه: «إذا صلّيت فصلّ صلاة مودّع» رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي (2).

قال صلى الله عليه وسلم لابن عمر: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» ، وكان عبد الله يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر

(1) مسلم برقم 2577، والترمذي برقم 2495، وابن ماجة برقم 4257، وأحمد 5/ 160، و 177.

(2)

المستدرك 4/ 326 - 327، وأخرجه أحمد 5/ 412، وابن ماجة برقم 4171، عن أبي أيوب أن رجلاً جاء إلى النبي فقال: أوصني فقال

.

ص: 49

الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» رواه البخاري (1).

إن معرفة الدنيا على حقيقتها تساعد المرء على امتثال تلك الوصية وهي أن يصلي صلاة مودّع.

4 -

وعليك يا أخي ألا تتعجل في أداء الصلاة. إن ذلك سبب في إفساد صلاتك. ولقد صلّى رجلٌ أمام رسول الله فأساء صلاته، فقال له صلى الله عليه وسلم:«اجع فصلّ فإنك لم تصلِّ» (2).

أدِّ صلاتك -يا أخي- بأناة وتمهُّل وطمأنينة تامة، فغالباً ما تكون العجلة سبباً في ضياع معنى الخشوع؛ فقد روى أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجزئ صلاةٌ لا يقيم الرجل فيها صلبه

(1) صحيح البخاري برقم 6416.

(2)

البخاري برقم 793، ومسلم برقم 397، وأبو داود برقم 856.

ص: 50

في الركوع والسجود» (1). وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً» (2).

وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «نهاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أنقر في صلاتي نقر الديك، وأن ألتفت التفات الثعلب، وأن أقعي إقعاء القرد» (3).

قال ابن تيمية: [وإذا كان الخشوع في الصلاة واجباً، وهو متضمن للسكون والخشوع فمن نقر نقر الغراب لم يخشع في سجوده،

فمن لم يطمئن لم يسكن، ومن لم يسكن لم يخشع في

(1) ابن ماجة 870، وأبو داود 855، والنسائي 2/ 183، والترمذي برقم 265.

(2)

مسلم برقم 622.

(3)

رواه أحمد 2/ 265، والطيالسي، وابن أبي شيبة. قال الألباني: في «صفة صلاة النبي» صفحة 135: حسن.

ص: 51

ركوعه ولا سجوده، ومن لم يخشع كان آثماً عاصياً] (1).

وقال صلى الله عليه وسلم: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته» قالوا: يا رسول الله! وكيف يسرق من صلاته؟

قال: «لا يتمّ ركوعها وسجودها» (2).

5 -

والصلاة في أول الوقت أعون على الحصول على الخشوع؛ ذلك لأن المرء يكون في فسحة من الوقت، إن كان يريد أن يدخل الخلاء، أو أن يجمع نفسه، أو أن يختار المكان الملائم للصلاة الخاشعة.

أما إذا أخّرها إلى آخر الوقت لم يستطع أن يفعل ذلك كله .. بل يصلّيها بسرعة وهو بحال

(1) الفتاوى 22/ 558.

(2)

رواه ابن أبي شيبة، والطبراني، والحاكم 1/ 229 وصححه ووافقه الذهبي.

ص: 52

يبعد عنه الخشوع، وكذلك إذا أخّر أداءها إلى ما قبل موعد مهمّ، أو عمل أو أمر مستعجل يتحتم عليه فعله، فإنه سيؤديها بسرعة ولا يكاد يفقه منها شيئاً.

6 -

وعلى المصلّي سواء كان بالمسجد أو في البيت أن يتخذ سُترة يقف وراءها أو أن يقترب من الجدار حتى لا يشغله شاغل ولا يمرّ بين يديه مارٌّ، فقد روى أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث سهل بن حثمة مرفوعاً:«إذا صلّى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته» (1).

وهذه الوصية مهمة ويتهاون بها كثير من الناس.

7 -

أحسن وضوءك -يا أخي- بحيث تغسل

(1) أبو داود برقم 695، والنسائي 2/ 62، وانظر كلام ابن حجر في الفتح 1/ 571 - 584.

ص: 53

كل عضو يجب غسله مستوعباًَ محلَّ الغسل، فويل للأعقاب من النار (1)، كما جاء في الحديث.

وقد يكون لذلك تأثير في الخشوع وحضور القلب. جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى بهم الصبح فقرأ الروم فيها فأوهم، فلما انصرف قال:«إنّه يلبِّس علينا القرآن أن أقواماً منكم يصلّون معنا لا يحسنون الوضوء؛ فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء» (2). قال ابن كثير: [ثم رواه أحمد من طريقين آخرين عن عبد الملك بن عمير، سمعت شبيباً أبا روح من ذوي الكلاع أنه صلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم

فذكره، فدلّ هذا على أن إكمال الطهارة يسهّل القيام في

(1) رواه البخاري برقم 165، ومسلم برقم 242، والترمذي برقم 41، وأبو داود برقم 97.

(2)

المسند 3/ 471، و 5/ 368.

ص: 54

العبادة، ويعين العبد على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها] (1).

قلت: وواضح من الحديث أن النقص في ذلك لا يؤثر في المصلّي فحسب بل يتعدّى تأثيره إلى الإمام إن كان ذلك المقصِّر يصلّي في جماعة.

8 -

احرص -يا أخي- على أداء السُّنن الرواتب؛ فأداء الرواتب القبلية يوقظ القلب ويهيئه للخشوع، وأداء الرواتب البعدية يمكّن المعاني الكريمة التي اكتسبها المصلّي. وثوابها عظيم جداً، وهو بيت في الجنة، روى مسلم في صحيحه أن أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلّى اثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة في يوم وليلة بُني له

(1) تفسير ابن كثير 2/ 390 عند تفسير الآية: 108 من سورة التوبة.

ص: 55

بهنّ ببيت في الجنة» (1)، قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واحرص يا أخي على أداء النافلتين الآتيتين بصورة خاصة، وهما: صلاة الضحة، وصلاة قيام الليل؛ لأن الفوارق الزمنية بين الصلوات قصيرة، فيما عدا الفارق الذي يقع بين العشاء والفجر، والفارق بين الفجر والظهر، فهاتان مدتان طويلتان نسبياً. والقلب الذي يتصل بالله في أوقات متقاربة مهيَّأ لاستحضار الخشوع أكثر من القلب الذي يمضي عليه وقت طويل دون صلاة، لا سيما في زمان كثرت فيه مشاغل الدنيا، وطغت شهواتها، وقويت أساليب الغواية .. إن أداة الرواتب والنوافل يسهِّل على المرء الوصول إلى الخشوع في الصلاة.

(1) صحيح مسلم برقم 728، ورواه أيضاً أبو داود والنسائي والترمذي وفيه زيادة: أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الغداة.

ص: 56

9 -

وعليك -يا أخي- أن تقلّل من حركاتك في أثناء الصلاة، بل لا تتحرك إلا لضرورة؛ فسكون الجوارح يعين على حضور القلب.

فلقد روى مسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بن سَمُرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس رافعوا أيديهم في الصلاة. فقال: «ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمْس؟ اسكنوا في الصلاة» (1).

قال ابن تيمية: [فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسكون في الصلاة (2)، وهذا يقتضي السكون فيها كلها، والسكون لا يكون إلا بالطمأنينة فمن لم يطمئن لم يسكن فيها. وأمره بالسكون

(1) مسلم برقم 430، وأبو داود برقم 100، والنسائي ج 3 ص 4، وأحمد 5/ 93.

(2)

يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «اسكنوا في الصلاة» وقد أوردناه قبل قليل.

ص: 57

فيها موافق لما أمر الله تعالى به من الخشوع فيها] (1).

وروى البيهقي بإسناد صحيح عن مجاهد قال: كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود، وحدّث أنّ أبا بكر كان كذلك. قال: وكان يقال: ذاك الخشوع في الصلاة (2).

قال ابن تيمية: [ومنه حديث عمر رضي الله عنه حيث رأى رجلاً يعبث في صلاته، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه. أي لسكنت وخضعت](3).

والالتفات يتنافى مع السكون الذي يؤدّي إلى الخشوع، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا صلّيتم فلا تلتفتوا؛ فإنّ الله ينصب وجهه لوجه

(1) الفتاوى 22/ 561.

(2)

السنن الكبرى للبيهقي 2/ 280.

(3)

الفتاوى 22/ 554.

ص: 58

عبده في الصلاة ما لم يلتفت» (1). وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً بشأن الالتفات: «إنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» (2). وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت؛ فإذا صرف وجهه انصرف عنه» (3).

10 -

وعليك -يا أخي- أن تستبعد المشاغل كلّها في وقت الصلاة، فلتضبط أمورك بحيث لا يكون لك صارف عن الإقبال على الصلاة في وقتها المحدّد المعروف. كان أبو الدرداء يقول:(من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته قبل دخوله في الصلاة، ليدخل في الصلاة وقلبه فارغ)(4).

(1) رواه أحمد 4/ 130، والترمذي برقم 2863.

(2)

رواه البخاري برقم 751، وأحمد 6/ 106، وأبو داود 910، والنسائي 3/ 8، والترمذي 590، وابن خزيمة برقم 931، وابن حبان 6/ 64 وصححه.

(3)

رواه أحمد، وأبو داود 909، والنسائي 3/ 8.

(4)

الإحياء: للغزالي 1/ 178.

ص: 59

وعليك أن تستعدّ لها بأن تزيل الضرورة وتقضي من شأنك؛ فمدافعة الأخبثين تذهب بالخشوع.

ومما يساعد على الخشوع ألاّ يصلي المرء وهو مشغول بالطعام، لجوعه الشديد، أو أن يصلي بحضرة الطعام ونفسه متطلعة إليه.

عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان» (1).

وجاء في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: «إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء» (2).

11 -

وعليك -يا أخي- أن تلتزم بأحكام الصلاة وآدابها، وتمتنع عن محوراتها؛ فلا

(1) مسلم برقم 560، وأبو داود برقم 89.

(2)

البخاري برقم 5463، ومسلم برقم 557.

ص: 60

تسابق الإمام، ولا تنظر إلى السماء

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟ » فاشتد قوله في ذلك حتى قال: «لينتهُنَّ عن ذلك أو لتُخطفن أبصارهم» رواه البخاري وأبو داود (1). وعن جابر بن سَمُرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم» رواه مسلم وأبو داود (2)، فلا تفعل ذلك .. بل اجعل نظرك في موضع سجودك، كما جاء في وصف صلاته صلى الله عليه وسلم فقد روى البيهقي والحاكم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى طأطأ رأسه ورمى ببصره إلى الأرض (3). واجتنب تدوير بصرك في أنحاء

(1) البخاري برقم 750، وأبو داود 913.

(2)

مسلم برقم 428، وأبو داود برقم 912.

(3)

نقل ذلك الألباني في صفة صلاة النبي ص 80، وانظر «السنن الكبرى» للبيهقي 2/ 283.

ص: 61

المكان الذي تصلّي فيه. واجتنب متابعة من يدخل ومن يخرج ومن يمرّ بجانبك.

قال الحسن البصري: كان خشوعهم في قلوبهم، فغضّوا بذلك أبصارهم وخفضوا الجناح (1).

وقال محمد بن سيرين: كانوا يقولون: لا يجاوز بصره مصلاه، فإن كان قد اعتاد النظر فليغمض (2).

12 -

وعليك -يا أخي- لتحقق الخشوع في صلاتك ألا تشغل نفسك بأمر الدنيا في أثناء الصلاة، وأن تطرد الخواطر كلما وردت، وأن تستعيد بالله من الشيطان ووسوسته؛ فقد روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد ومالك والدارمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا نُودِيَ

(1) تفسير ابن كثير 3/ 238.

(2)

تفسير ابن كثير 3/ 238.

ص: 62

بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: اذْكُرْ كَذَا وَاذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ مِنْ قَبْل حَتَّى يَضِلَّ الرَّجُلُ أَنْ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى» (1).

وعن عبد الله بن عنمَة قال: رأيت عمّار بن ياسر دخل المسجد فصلّى فأخفّ الصلاة.

قال: فلما خرج قمت إليه فقلت: يا أبا اليقظان لقد خففت.

قال: فهل رأيتني انتقصتُ من حدودها شيئاً؟ قلت: لا.

قال: فإوني بادرت بها سهوة الشيطان، سمعت

(1) البخاري برقم 608، ومسلم برقم 389، وأبو داود برقم 516، والدارمي 1/ 273، وأحمد 2/ 313.

ص: 63

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا، تُسْعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبُعُهَا، سُدُسُهَا، خُمُسُهَا، رُبُعُهَا، ثُلُثُهَا نِصْفُهَا» (1).

إن الخشوع يحصل للعبد إذا فرَّع قلبه من الدنيا، واشتغل بالصلاة عمَّا عداها، فحينئذٍ تكون الصلاة راحة له وقرّة عين، كما قال صلى الله عليه وسلم:«حُبِّبَ إِلِيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ. وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (2).

ومن أجل ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستريح في الصلاة. وكان يقول: «يَا بِلَالُ أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ» أخرجه أحمد وأبو داود (3).

13 -

وعليك -يا أخي- أن تجتنب الصلاة في مكان فيه صور؛ فقد أخرج البخاري عن أنس

(1) رواه أحمد 4/ 321.

(2)

النسائي 7/ 61، وأحمد 3/ 128، والحاكم 2/ 160.

(3)

أحمد 5/ 364، وأبو داود برقم 4985.

ص: 64

-رضي الله عنه قال: كان قِرامٌ لعائشة سترت به جانب بيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا؛ فَإِنَّهُ لا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلاتِي» (1).

وعليك أن تجتنب الصلاة في ثوب له أعلام، كيلا يشغلك عن الصلاة وتدبّر ما تقرأ؛ فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال:«شَغَلَتْنِي أَعْلَامُ هَذِهِ. اذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّتِهِ، فإنها ألهتني عن صلاتي» (2).

هذا والذي لا بد أن نشير إليه في موضوع

(1) البخاري برقم 374 و 5959. والقرام: ستر فيه رقم ونقوش.

(2)

البخاري برقم 373 و 752، ومسلم برقم 556 والأنبجانية: كساء يتخذ من الصوف ولا علم له.

ص: 65

ثوب المصلّي أن الشرط الذي يجب أن يتوافر فيه هو ستره العورة وكونه طاهراً. هذا الشرط إن لم يتحقق لم تصح صلاته، ولكن الأكمل أن يأخذ المرء زينته عندما يريد أن يقف بين يدي الله؛ فيلبس ثوبه الواسع النظيف ويغطّي رأسه، ويقف في الصلاة بأحسن صورة، ويدع الترخص الجائز في ذلك للمناسبات والظروف المقتضية ذلك.

إن الثوب الضيف لا يعين المرء على استحضار المعاني الطيبة في الصلاة، والثوب الوسخ لا يليق بالمسلم أن يلبسه في الصلاة. وكذلك عليه أن يحرص على تغطية رأسه، استكمالاً للمظهر اللائق.

وعليك -يا أخي- أيضاً أن تجتنب الصلاة في مكان نهى الشرع عن الصلاة فيه: كالحمام، والمقبرة، ومبارك الإبل، فعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا

ص: 66

الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ» (1).

وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ» (2).

وعليك أن تجتنب الصلاة في مكان فيه تلفاز أو مذياع أو أداة من أدوات اللهو، أو فيه ناس عابثون يلهون ويضحكون، أو مكان مخوف يمكن أن يعرِّض الجالس فيه للخطر. بل عليك أن تختار المكان الطاهر البعيد عن الصوارف، المكان المناسب من كل النواحي التي تصفِّي الذهن وتعين على حضور القلب، وإذا استطعت أن تصلّي في المكان الدافئ في الشتاء والبارد في الصيف كان هذا حسناً.

14 -

واحرص -يا أخي- على أكل الحلال؛ فإن ذلك يرقِّق القلب، ويجلب الخشية، ويقرِّبك

(1) أبو داود برقم 492.

(2)

أبو داود برقم 492.

ص: 67

من ربك، ويجعلك مجاب الدعوة .. وكلّ ذلك يبلغك الخشوع في الصلاة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ. يَا رَبِّ. وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ » رواه مسلم وأحمد والترمذي والدارمي (1).

قال ابن رجب: [وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن

(1) رواه مسلم برقم 1015، وأحمد 2/ 328، والترمذي برقم 2989، والدارمي 2/ 300.

ص: 68

أكل الحرام يفسد العمل ويمنع قبوله؛ فإنه قال بعد تقريره: «إن الله لا يقبل إلا طيباً: إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}» .. والمراد بهذا أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال وبالعمل الصالح، فما دام الأكل حلالاً فالعمل الصالح مقبول»] (1) واعلم يا أخي أنك كلما حرصت على عمل الصالحات واجتناب المعاصي كان الخشوع أقرب.

15 -

واعمل على الازدياد من العلم الشرعي، ومعرفة الله ومحبته والخوف منه ورجاء رحمته ومغفرته، والثقة بما عنده ..

16 -

وحاذر من الرياء الذي بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الشرك الخفي؛ فالرياء محيط للعمل، وأخلصْ عملك لله، وانتبه إلى وساوس الشيطان

(1) جامع العلوم والحكم 1/ 260.

ص: 69

واحذر كيده ومكره؛ فإنه عدوّ مبين.

17 -

ومما يساعد على الخشوع التوبة إلى الله من الذنوب وتجديد التوبة مرة بعد مرة؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» رواه البخاري والترمذي (1).

وعن الأغرّ بن يسار المُزَني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ؛ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» رواه مسلم، وأبو داود (2).

فالتوبة تجبُّ ما قبلها، وتصفي القلب وتجعله شفّافاً رقيقاً، وتعين على الخشوع ولنضرب على ذلك مثلاً

لو خالف موظف رئيسه مخالفات عدّة .. ثم جاء يطلب ترقية أو مساعدة قبل أن

(1) البخاري برقم 6307، والترمذي برقم 3259.

(2)

مسلم برقم 2702، وأبو داود برقم 3259.

ص: 70

يعتذر عمّا سلف منه، لما استفاد شيئاً .. أما لو قدّم بين يدي طلبه الاعتذار والتوبة لكان هناك أمل في أن يستجاب طلبه وأن ينال الترقية والمساعدة.

وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيّد بالعصمة، والذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يتوب في اليوم هذه المرات .. فما بالنا نحن المقصّرين؟ !

18 -

ومما يساعد على الخشوع أن يستقلّ العبد عبادته ويعترف بالتقصير، ويتواضع لله، وأن يحذر من العجب بما يقوم به من طاعة، فالعجب قتّال.

إن بعض الشباب يستعظم معصية غيره، ولا يستعظم ما قدّم من الذنوب.

إنه عندئذٍ سيكون محروماً من الخشوع؛ لأن الإنسان مهما قدّم من الطاعة فهو قليل أمام النعم العظيمة التي أكرمه الله بها.

ص: 71

19 -

ومما يساعد على الخشوع إدراك قيمة الصلاة .. وأنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ فقد جاء عن عبد الله بن عمر أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ بَيْتَ اللهِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» رواه البخاري ومسلم (1).

وعليه أن يتذكر حكم تاركها فعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ» (2) وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَ الكُفْرِ وَالإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» رواه الترمذي وابن ماجة (3).

(1) صحيح البخاري برقم 8، وصحيح مسلم برقم 16.

(2)

صحيح مسلم برقم 82.

(3)

الترمذي برقم 2618، وابن ماجة 1078.

ص: 72

وعن بُريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ؛ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» رواه الترمذي وابن ماجة (1).

ولذا ذهب الجمهور إلى أن تارك الصلاة يُقتل.

والصلاة من عرى الإسلام كما جاء في هذا الحديث الذي يُعَدُّ من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم لأنَّ ما ذكره قد تحقق. عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَتُنْتَقَضَنَّ عُرَى الإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتُقِضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ: الصلاة» (2).

وهي عمود الدين كما جاء في حديث معاذ

(1) الترمذي برقم 2621، وابن ماجة 1079.

(2)

مسند أحمد 5/ 251، وابن حبان 15/ 111، والطبراني في الكبير 8/ 116 برقم 7486، والحاكم 4/ 92، وانظر مجمع الزوائد للهيثمي 7/ 281.

ص: 73

ذاك الحديث الجميل الطويل. وفيه يقول صلى الله عليه وسلم: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ» رواه الترمذي (1).

20 -

ومما يساعد على الخشوع الإكثار من قراءة القرآن، وزيارة القبور للموعظة، والإكثار من ذكر الموت، ومحاسبة النفس، والاستعداد ليوم المعاد.

21 -

ومما يساعد على الخشوع التفكير في أعمال الصلاة وأقوالها وتدبُّر ذلك؛ فمن المعلوم أن الصلاة أقوال وأفعال مبدوءة بالتكبير مختومة بالتسليم، فمن الجدير بك أن تتدبر يا أخي الحكمة منها، وسأحاول الوقوف أمام كل فعل وقول، مستفيداً من كلام الإمام الغزالي الذي أجاد وأفاد رحمه الله تعالى.

1 -

فأول ما يفعله المصلّي أن يستقبل القبلة:

(1) الترمذي برقم 2616.

ص: 74

وهذا الاستقبال صرف للوجه عن سائر الجهات، والاتجاه إلى جهة بيت الله العتيق، وينبغي أن يرافق هذا الصرفَ صَرفُ القلب عن سائر الأمور إلى الله عز وجل، فلا ينصرف إلا لله.

ولا يليق بالمسلم أن يكون وجهه مصروفاً إلى الكعبة ويكون قلبه متعلقاً بالدنيا وشهواتها ومنافعها.

وأنا أعلم أن هذا مطلب غير يسير؛ لضعف الإنسان، وسيطرة ضرورات الحياة عليه، ولكن السعي إلى هذا المقصد مطلوب، وانظر معي إلى هذا الحديث الذي مرّ بنا آنفاً: عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ، مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ» (1).

(1) سبق تخريجه.

ص: 75

وجاء في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ» (1).

والالتفات يراد به هنا الالتفات المادي، فإذا كان هذا بالنسبة إلى التفات الوجه، فما قولك بالتفات القلب عن الله ومناجاته والاشتغال بشئون الدنيا وملذاتها .. إنه يرد من باب أولى.

2 -

ثم يُحرِم في الصلاة ويقول: الله أكبر.

إذا نطق لسانك بهذه الكلمة العظيمة فعليك أن تتدبر معناها وتحققه في نفسك وفكرك ثم في سلوكك.

لا شيء في الدنيا مهما كبر إلا والله جلّ ثناؤه أكبر منه .. فهذا الكون الضخم الفسيح، وهذا الفضاء الواسع، وهذه الآلات الجبارة،

(1) سبق تخريجه.

ص: 76

والمخترعات العظيمة .. إنها جميعاً من خلق الله وصنعه .. والله أكبر.

والطغاة والظلمة والجبابرة .. كلهم عبيد من عبيد الله .. والله أكبر.

الله أكبر من كل ما يخيف الناس .. والله أكبر من كل قوة .. ومن كل هوى ..

إذا نطق بها لسانك فينبغي أن لا يكذبه قلبك، فإن كان في قلبك شيء هو أكبر من الله سبحانه فالله يشهد إنك لكاذب.

وإن كان هواك أغلب عليك من أمر الله عز وجل فأنت أطوع له منك لله تعالى .. فيوشك أن يكون قولك (الله أكبر) كلاماً باللسان المجرّد، وقد تخلّف القلب عن مساعدته. وهذا أمر عظيم.

عندما يتدبر المصلّي معنى هذا الذكر الذي يبدأ به صلاته ويردّده على رأس كل عمل من

ص: 77

أعمال الصلاة .. ويحقّقه في نفسه. عندئذٍ يخشع قلبه ويذلّ لله.

ويمنحه هذا الخشوع والتذلل التحرّر من كل ألوان العبودية لغير الله، ويمنحه قوة في مواجهة الباطل وفي الدعوة إلى الحق.

3 -

ثم تقف بعد ذلك وقد وضعت يداك اليمنى فوق اليسرى وقفة التذلل والخضوع، ترمي ببصرك إلى الأرض، وينبغي أن يرافق ذلك الموقف تذلل إلى الله وانكسار بين يديه، واستحضر أنه سبحانه مطلع عليك.

قال الإمام الغزالي: [واعمل أنك قائم بين يدي الله عز وجل .. فقم بين يديه قيامك بين يدي بعض ملوك الزمان إن كنت تعجز عن معرفة كنه جلاله. بل قدّر في دوام قيامك في صلاتك أنك ملحوظ ومرقوب بعين كالئة من رجل صالح من أهلك أو ممن ترغب في أن يعرفك بالصلاح؛ فإنه تهدأ عند ذلك أطرافك وتخشع جوارحك،

ص: 78

وتسكن جميع أجزائك خيفة أن ينسبك ذلك العاجز إلى قلة الخشوع.

وإذا أحسست من نفسك بالتماسك عند ملاحظة عبد مسكين فعاتب نفسك وقل لها: إنك تدّعين معرفة الله وحبَّه، أفلا تستحين من استجرائك عليه مع توقيرك عبداً من عباده؟ أو تخشين الناس ولا تخشينه وهو أحق أن يُخشى] (1).

4 -

فكّر في معنى الأذكار والأدعية واللآيات التي تقرؤها وتتلوها. وهذا الأمر من أهم الأمور التي تحصل لك الخشوع، واسأل عن معاني الأذكار والآيات التي يستغلق عليك فهمها.

وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها» (2).

(1) الإحياء 1/ 172.

(2)

كذا قال ابن تيمية في «الفتاوى» 22/ 603 و 612، وقال الحافظ العراقي 1/ 166 في «المغني» المطبوع بحاشية «الإحياء» [حديث:«ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها» لم أجده مرفوعاً. وروى محمد بن نصر المَرْوَزي في «كتاب الصلاة» له من رواية عثمان بن أبي دهرش مرسلاً: «لا يقبل الله من عبد عملاً حتى يشهد قلبه مع بدنه» ورواه أبو منصور الديلمي في المبارك «مسند الفردوس» من حديث أبي بن كعب. ولابن المبارك في «الزهد» موقوفاً على عمّار: «لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه» ] انتهى كلام العراقي.

ص: 79

وأخرج أبو داود عن عمّار بن ياسر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها» حتى قال: «إلا عشرها» (1).

إن تحريك اللسان بالذكار وبتلاوة القرآن مع الغفلة لا يحقق المقصود، فتحريك اللسان لا

(1) أبو داود برقم 796 وأحمد في «المسند» 4/ 321. وقال الألباني في «صفة صلاة النبي» ص 11: [صحيح رواه ابن المبارك في «الزهد» وأبو داود والنسائي بسند جيد].

ص: 80